هيروكي
ساي، هي تلك الأميرة التي احتلت قلبي وعقلي، ها هي الآن معي وفي بيتي. ليلة زفافنا، كانت ساي مشرقة كوردة براقة، بكل حيويتها بكل نشاطها وبابتسامتها الساحرة. كانت تقفز هنا وهناك، تحيي الجميع وتتكلم مع المدعوين وتراقص الأطفال. عندما انتهى حفل الزفاف وانطلقنا سوية كانت ساي تمشي بخطوات هادئة جدا على عكس ما كانت عليه قبل قليل أثناء الحفل. شعرت بأنها تحاول الآن استيعاب بدئها لمرحلة جديدة في حياتها. كنت أحمل في صدري قلبا يخفق بسرعة لا نهائية. نظرت إليها، بدت مرتبكة بعض الشيء، ليست لأنها محرجة، أستطيع أن أفهم ما تشعر به الآن. ساي ستعيد تجربة الزواج مرة أخرى، هي لم تعد تمتلك تلك الثقة الكاملة بأن من يحبها سيبقى معها للأبد. أما قولي لها: «سأبقى معك وسأحبك للأبد» فلن يطمئنها، حتى لو كانت متأكدة من ذلك، فتجربتها السابقة ستلوح لها. كان علي أن أطمئنها وأعلمها أن مشاعري حقا لن تتغير تجاهها. تأملت ملامحها وهي ساكنة فمن النادر أن تكون كذلك، هي جميلة في كل حالاتها، تحيط بها هالة رائعة من الحيوية والتفاؤل والحب، لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أعبر عما أشعر به، كنت في حاجة لأن أفصح لها عما في قلبي علي أرتاح قليلا فأستطيع بعدها أن أطمئن تلك الحسناء، هي حسناء بأخلاقها، بسلوكها، بضحكتها، بسكونها وجنونها. يشع من وجهها نور لم أره من قبل، أهو صدقها؟ أهو حبها للآخرين؟ أم هي كذلك، خلقت جميلة مهما فعلت؟ ساي هي الآن لي ومعي وفي قلبي وفي روحي. لقد سمحت لقلبي أن يعبر إليها، كم أنا محظوظ بها! مشاعري تفوق الكلام. من أين سأبدأ؟ فجأة نطقت بحروف اسمها بكل حبي وبكل ما أحمل لها من مشاعر: ساي! أنت، كما أنت وكما ستكونين، وكما ستحبين أن تكوني. كما كنت، وكما ستتغيرين، وكما لن تتغيري، سأبقى بجانبك، داعما لك، فخورا بك. سأراك دائما وأبدا أجمل امرأة في الدنيا، أجملهن بروحك، بمشاعرك، أجملهن بملامحك، بطباعك، أجملهن بتفاصيلك، أجملهن حتى بأخطائك. ستغدو أحلامك أحلامي، وستكون كلماتك لحنا لحياتي. إن سئمت من طباعي أعلميني، وإن غضبت من تصرفاتي أخبريني، لكن كوني على يقين أني لا أقصد إزعاجك. إن شعرت بالحزن فشاركيني حملك، وإن أحسست بالملل فعبري عن ذلك. سعادتك هي أغلى ما أتطلع إليه، ابتسامتك لا تجعليها تفارق شفتيك، أما دموعك فلا أريد أن أراها. قوي أنا كنت قبل لقائك، لكن حين رأيتك، ورأيت فيك نصفي الذي لم أكن لأكتمل من غيره، بت أقوى وأجمل، بت أكثر اندفاعا وحماسا وحبا للحياة. أحتاجك، أحتاج وجودك بي ومعي.
كانت عيناها تلمعان بشدة حين كنت أحدثها، ربما لم أقل لها كلاما منمقا ككلام الشعراء، لكنني قلت كلاما رأيته وقع في فؤادها. - هيروكي، لا أحتاج أن تطمئنني، أنا مطمئنة بك، لست بحاجة لأن تبرهن لي عن مقدار حبك؛ فأنا التي حظيت بالرجل الأفضل، بحبه، وقلبه، وقوته، وجماله. أحتاجك، أحتاج أن تمد روحي وتدفعني كي أمضي قدما إلى الأمام وإلى الأمام فقط. لن أخذلك وأعلم أنك لن تخذلني. أنا هادئة اليوم لأني ممتنة، ممتنة لكل شيء ساعدني كي ألتقي بعالمي الذي اختصر لي عالمي. مليئة هي حياتي بوجوه وأحداث كثيرة، لكني ما رأيت لك شبيها في فصول عمري.
ساي
كم كان شعورا غريبا وجميلا، حين سألني هيروكي فيما إذا كنا سنقطن في منزله الخاص الحالي أم أنني أفضل أن يقوم بتغييره أو على الأقل تجديده، أجبته أن لا حاجة بأن يجدد شيئا، فكما اعتقدت ، منزله مصمم ومجهز بأحدث التكنولوجيا، ولم أستغرب حين زرته؛ فهيروكي يحب أن تظهر آثار النعمة عليه، فسياراته من أرقى طراز، واسعة، وأنيقة، ومجهزة بأحدث ما توصل له العلم ومتناسبة مع شكله ومظهره ومكانته في المجتمع. مكتبه والمركز الذي أسسه على النحو ذاته. حين حضرت للمرة الأولى من أجل مقابلة العمل معه، أذكر أني دهشت من رفاهية المكان وبالذات مكتبه الخاص. أنا لم أجلس في مكتب فاخر كهذا، ذي إطلالة متميزة كتلك التي رأيتها. حتى هو عندما رأيته لم أخمن أنه في الخمسين من عمره، بل في منتصف الأربعينات، ربما لأنه اعتاد على ترفيه نفسه ولأنه أيضا يفصل بين ضغوط عمله وحياته الخاصة، وضغوط حياته الخاصة عن مزاجه الشخصي. فتراه هادئا دائما، متفائلا ذا صدر رحب ومزاج جيد.
في الفترة الأولى بعد زواجنا وحين كنا نتنقل معا في البلدة، كان هيروكي يتقصد أن يمر على كافة الأماكن وأن يرانا جميع معارفه. يلقي السلام عليهم ويخبرهم قبل أن يسألوه «أعرفكم، الدكتورة ساي، زوجتي.» فيباركون لنا ويهنئونه. أما أنا فكنت أتأمله، كان سعيدا وفخورا بي جدا، شعرت بفرحته وكأن قلبه يتراقص، يمسك يدي بحنان ويقبض عليها برفق شديد، لاحظت أنه لم يكن يتركها أبدا ولا حتى ثانية واحدة، هو يشعر بقبضته وليس كما لو أنه ينساها، كانت مشاعره تصلني بكل تفاصيلها. أما حين يود الحديث معي يضمني إليه لأقترب منه أكثر ويحدثني بصوته الهادئ وبنبرته الجدية الساحرة. أجمل ما في هيروكي هو أنه لا يبدي استغرابه من تصرفاتي، لا يبدي لي أنه يرى شيئا غريبا ويتقبله لأنه يحبني. من غير شعور مني كنت أقارن ردة فعل هاك في كل مرة كنت أتصرف فيها بطياشة أو بحماس مبالغ به أو بعفوية غريبة، كان هاك يظهر تعابير بأنه مستغرب مما أفعله ومن ثم يبتسم، كمن يقول للآخر، تبدين غريبة لكني أحبك فلذا سأتقبل تلك الغرابة. ليس من حقي أن أقارن لكن عقلي الباطني كان يفعل ذلك رغما عني. لم ينظر لي هيروكي أبدا تلك النظرات ، بل على العكس، كان إن جلست هادئة قليلا يسألني فيما إذا كنت متعبة أو متضايقة من أمر ما. على أي حال، بعض الناس لا يستطيعون استيعاب كم هو متعب أن يكون الشخص متحمسا طيلة الوقت، لا يدركون كم هو مرهق وخارج عن نطاق الإرادة، أن تفرض عليك شخصيتك أن تكون مبتسما ومرحا أغلب الوقت، أن تظهر بمظهر الغبي بسبب أمر اندفعت إليه في لحظة حماس، ثم تشعر أنه لم يكن يستحق كل هذا الاندفاع، فتخمد وتكمد فجأة وتعاني من تغيرات دائمة في مزاجك. استطاع هيروكي أن يحتوي حماسي واندفاعي بحنان ورفق، لم يشعرني يوما أني أبدو غبية أو كلامي مبالغ فيه أو حماسي لا مبرر له.
أحد الأمور الأخرى التي لم أستطع إلا أن أقارنها أيضا هي كيف يكون الزواج في عمر الشباب مختلفا عن الزواج في عمر الأربعين والخمسين. فنحن كلانا الآن مستقران، بنينا ما بنيناه والآن لم نعد بحاجة لبذل مجهود إضافي لأقساط منزل أو دراسة مكثفة في مجال العمل أو التفكير من أين سأحصل على كذا؟ ومتى سأفعل كذا؟ فنحن وإن كنا مشغولين تماما في العمل لكن لدينا تحكم كامل بوقتنا ونستطيع في أي لحظة أن نأخذ إجازة أو نخفف وتيرة العمل. فأنا قد قمت بنقل عيادتي إلى البلدة التي نسكن فيها أنا وهيروكي، وسأتابع عملي فيها وفي المركز، لكن كل هذا من غير ضغوط متعبة أو مرهقة.
هيروكي
لم تعد الحياة كما كانت من ذي قبل، لم تعد الأيام تتكرر بتلك الرتابة السابقة. ساي هنا، تملؤني وتملأ عمري بكل ما هو جميل، جديد، ومتميز. حتى منزلي ملأته بتفاصيل كثيرة لم أكن أتخيل وجودها. مرت سنة ونصف ليست كالعسل بل هي أحلى، أستيقظ صباحا على صوتها العذب. كالوردة حسنائي، تزهر كل يوم بلون جديد. لكن الحياة ليست بوتيرة واحدة، ودوام الحال من المحال، أتى ذاك الأسبوع الغريب، حيث كانت ساي على غير عادتها، شاردة الذهن، كثيرة التفكير، قليلة الكلام، كما أنها لم تكن تضحك أبدا. لم أفهم ما الذي يساور ذهنها، لكنني لم أشأ أن أبدي استغرابي من ذلك. فضلت أن أتركها تعيش تفاصيل التغيرات النفسية التي تطرأ على أي امرأة، فأنا أعلم أن النساء لا يعشن حالتهن المزاجية بتواتر متساو، بل تتغير بشكل دائم، لكنني قلقت بعض الشيء عليها ولم أشأ أن أسألها الكثير من الأسئلة، عبرت قليلا عن ذلك ووجدتها لم تتجاوب معي، فقررت أن أعاود سؤالها مجددا عما يشغل بالها بعد يومين إن لم تتحسن حالتها المزاجية.
لكن قبل مضي هذين اليومين، تلقيت اتصالا بعد مغادرة ساي من المنزل إلى عيادتها، كانت المتصلة تتحدث بصوت خافت وبسرعة، لم أفهم منها إلا أن هاك قد عاود الاتصال مع ساي في الفترات الأخيرة! لم تشرح تلك المتصلة أكثر ولم أسألها، ولا حتى للحظة، لم يراودني شعور الشك بساي إطلاقا، لكن استطعت أن أفسر قلقها خلال الأيام الفائتة.
Unknown page