لم أستطع النوم جيدا تلك الليلة وأنا أحاول أن أنمق ما أود أن أقوله لها، من غير أن تشعر حيال فضولي بأي شيء. مشكلتي أنها خبيرة نفسية وعلي أن أكون أبرع منها في ذلك المجال. مرت ساعات الليل ثم طلعت الشمس أخيرا، توجهت إلى مكتبي لانتظار تلك المشاكسة التي باتت تزعجني حتى في عدم وجودها حولي. خطتي كانت بأن أخبرها أنها وبصفتها الطبيبة النفسية للمركز فعليها أن تكون بمزاج جيد لأنها ستؤثر على البقية. حينها سأجبرها على الاعتراف وأن تخبرني بالذي يزعجها. تبدو الخطة ساذجة جدا، لكن لا بد أن أجعلها تضعف فتخبرني لم هي حزينة. أود حقا أن أعلم لم هي حزينة، وأن أساعدها. طرقت ساي باب المكتب ودخلت، كانت تبدو أكثر إشراقا عن ذي قبل، وهي بحالة جيدة وبمزاج جيد جدا. فقد حيتني تحية عسكرية وهي تقول: صباح الخير سيدي. - أهلا دكتورة ساي تفضلي. - شكرا.
وجدت نفسي مع مزاجها الجيد في مشكلة، فلقد أفسدت الخطة بالكامل، كيف سأبدأ الحوار وما الذي علي قوله؟ فأنا من استدعاها. حاولت أن أختلق موضوعا متعلقا بالعمل أتحدث فيه، لكن تلك المرأة لم تكن لتقتنع أنني جلبتها منذ الصباح الباكر لأخبرها بمعلومات ثانوية عادة ما أرسلها عبر البريد الإلكتروني في نهاية كل أسبوع. ازداد الأمر سوءا أنها في مزاجها الاعتيادي، هذا يعني أنني لن أنتهي منها بسهولة، حين أنهيت كلامي معها وقلت لها: حسنا دكتورة ساي هذا كل ما في الأمر!
اقتربت مني، وحدقت في عيني وهي تقطب حاجبيها، شعرت بإحراج شديد، ثم قالت: بروفيسور هيروكي! هل تريد أن تقنعني أنك قد استدعيتني لتقول لي هذه الأمور فقط؟ - نعم! - كن معي صريحا، أشعر أن هناك شيئا آخر تود أن تقوله، هذا واضح تماما. كما أن هذا الشيء يبدو محرجا لذا حاولت التراجع عنه وبدأت بالحديث عن شيء آخر. بروفيسور هيروكي، إن كنت تفكر بالاستغناء عن خدماتي في المركز بسبب الضجة التي أحدثها هنا، فاعلم أنني أحب هذا المكان ولا أريد أن أتخلى عن عملي. أخبرني إن كانت لديك أي ملاحظات وسأكون عند حسن ظنك، لا تقلق. أما أن تفكر بإقصائي فلن أسمح بذلك مهما كلف الأمر.
ارتحت عندما اعتقدت ساي أن الأمر كذلك، فأجبتها: ملاحظات! نعم لدي الكثير منها، على أي حال لا تقلقي لن نستغني عنك. وبالمناسبة جلبت مجموعة كتب جديدة، لا تفوتيها. - بالطبع لا، عند العاشرة، لكن لدي طلب! - ما هو؟
نظرت إلي بخجل، شعرت أنها ستطلب أمرا محرجا جدا. - هل أستطيع أن أجلب معي القليل من الحلويات إلى المكتبة؟
تلك المرأة لا تفكر إلا بالطعام مع أنها رشيقة جدا. أومأت لها بالإيجاب، ثم خرجنا لتفقد العمل في الخارج. وأخيرا عادت ساي إلى حالتها الطبيعية، مع أنني ما زلت أود أن أعلم ما كان بها، وأن أشعر بأنني قريب منها. لا أفهم نفسي، لكنني بت مهتما لأمرها.
هيروكي
مرت عدة أسابيع صعبة من العمل الشاق في المركز، كان الفريق بأكمله يعمل بجد شديد. كنا نصل الليل مع النهار، إلى أن خفت وطأة العمل قليلا. حينها عدنا إلى نقاشاتنا الأسبوعية أنا وساي. فلقد أصبحنا أصدقاء، ووجدت أن النقاش معها ليس إزعاجا كما كنت أظن سابقا، بل كان يغني طريقة تفكيري جدا. كنت أستمتع بمناقشة المواضيع التاريخية والنفسية والعملية معها، فهي تمتلك معارف واسعة الطيف، أحببت نظرتها إلى الأمور، نظرتها ليست إيجابية فحسب، بل كانت ملهمة جدا. فهمت الآن طريقتها بالطب النفسي، وكيف أنها تداوي الناس بفهم أعماقهم وإعطائهم ما ينقصهم، لا بما يقوله الطب النفسي؛ لأن لكل شخص احتياجاته الخاصة حتى لو تماثلت الأعراض. حدثتني كثيرا عن أمور كنت غافلا عنها. أحسد ساي، لأنها تمتلك الشجاعة بأن تكون الطبيبة والعالمة والمرأة بطريقتها الخاصة. إنها لا تضع نفسها بأي قالب يفرضه عليها المجتمع؛ لذا فهي صادقة ومحبوبة، نعم محبوبة!
مع الأيام، بدأ قلبي يخفق عند سماع اسمها، دقاته تتسارع حين أراها، وأتعرق حين أتحدث معها. وكثيرا ما أنسى المكان وأتأملها حين نكون في قاعة واحدة. أنتظر الأيام التي تأتي بها بفارغ الصبر، وألاحقها حيث أكون متذرعا بألف سبب. وصل بي الحد أن قمت بالبحث عنها على شبكة الإنترنت، لأقرأ كل ما تقوم بتدوينه. كل ما يصدر منها لطيف وجميل، جميل كجمال عينيها، لم تعد رؤيتها عن بعد خلال تلك الدقائق أو الساعات القليلة كافية لي. تفكيري يدور حولها: متى ستأتي؟ ماذا تحب؟ ماذا ستقول؟ ماذا ستقرأ؟ متى ستضحك؟ أجلس في المكتبة تائه الفكر، حين لا تأتي أضيع، وأفقد صوابي في انتظارها، أما حين تأتي فأضيع في التفكير فيها. هل تفكر بي؟ أم أنا وحدي الذي لا أملك تركيزي منذ أن رأيتها؟
ليتني بقوتها! تلك الواثقة من نفسها تقتحم بضوضائها سكينتي وتتركني مذهولا على أنقاض مكتبتي. أدركت أن قلبي متعلق بها كثيرا، بل أدركت أن هذا ما يسميه البشر، حبا! وفقا لما تؤمن به من أفكار، على الإنسان أن يعبر عما يشعر، هذا يعني أنه علي أن أعلمها بما أشعر من غير تحفظات، أي أن أخبرها بمشاعري الحقيقية نحوها! لا أدري ماذا ستكون ردة فعلها. لكنني تعلمت منها أن أكون مبادرا وألا أخشى العواقب حين أومن بما أفعل.
Unknown page