هي هذا كله، وهي إلى هذا كله نموذج من نماذج اللفظ المختار المنتقى، والحوار الدقيق اللطيف، والمعاني الجيدة التي فكر فيها صاحبها فأحسن التفكير، ونسقها فأجاد التنسيق. وقد يستطيع هذا الفصل من فصول التمثيل الفرنسي أن يغتبط بعض الاغتباط، فهو غني بهاتين القصتين، وهو خير من فصول أخرى سبقته، ولم يظهر فيها كما رأيت في الشهر الماضي إلا لون من هذا القصص التمثيلي الفاتر الذي لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء.
ولأعرض عليك أشخاص هذه القصة كما تعودت أن أفعل بإزاء القصص الأخرى، فقد يكون هذا العرض أيسر سبيل إلى فهمها وتذوقها. ولكني حائر لا أدري بأي هؤلاء الأشخاص أبدأ، فالظاهر أن لهذه القصة بطلا ممتازا تدور حوله، ولكن أشخاصها جميعا أبطال ممتازون. وما أدري في حقيقة الأمر إلا أن لكل واحد منهم حياته القوية المؤثرة الممتازة؛ أأبدأ بهذا الشاب الذي تدور القصة كلها حوله والذي يظهر أنه البطل الممتاز فيها، والذي يظهر في الوقت نفسه أنه ضحية أبيه وأمه وعصره؟! ولم لا؟ فلا بد من أن نبدأ بواحد من هؤلاء الأبطال، فليكن هذا الشاب. •••
جان بليسيه شاب قد ناهز من عمره الثلاثين، جميل المنظر، قوي، عذب الخلق، حلو الحديث، رقيق القلب. ولكنه في الوقت نفسه بطل من أبطال الحرب الكبرى، أدركته ولما يكد يدع المدرسة، فيدخلها جنديا، ولكنه أبلى فأحسن البلاء، وتقلب في مراتب هذه الخدمة العسكرية العاملة وذاق آلامها ولذاتها جميعا، حتى انتهى به الأمر إلى أن أصبح ذا مرتبة عالية في فرقة الطيران. وقد أحسن البلاء في هذا اللون من ألوان الحرب، وجر عليه ذلك خطوبا وألوانا من الشرف، فرأى الموت وصافحه أو كاد، واضطر إلى المستشفى، وتحلى صدره بالأوسمة المختلفة. ثم انجلت عنه غمرة الحرب، فإذا هو يعود إلى حيث يقيم أبواه في أحد الأقاليم الفرنسية، ويعيشان عيشة ثروة ونعمة وعمل وهدوء. يعيشان في قصر فخم من قصور العصور الوسطى، اشترته الأسرة حين أثرت، ولكن هذا القصر وما حوله من الأرض الواسعة مهملان أو كالمهملين؛ لأن رئيس الأسرة منصرف عنهما إلى مهنة الطب التي يحبها ويكلف بها. فإذا عاد الشاب إلى أسرته، أسرعت ففكرت في أن تكل إليه تدبير هذه الثروة، على أن يكون ذلك عمله في حياته، وأسرعت فاختارت له فتاة حسناء لتكون زوجه. وظهر اطمئنان الفتى إلى هذا النوع من الحياة، فعني بالقصر والأرض، وشغف بالفتاة وشغفت به الفتاة أيضا، وأخذا يستقبلان الحياة في ابتسام وبهجة، لولا «سعادة اليوم» التي حدثتك عنها في أول الفصل، والتي ستظهر لهذا الفتى أن نشاطه وسروره وابتهاجه للعمل في هذه الحياة السليمة ليست طبيعية، وإنما هي علة يتعلل بها كارها، وإنما حياته الحقيقية في الحرب.
وهذا الشاب من أبوين مختلفين أشد الاختلاف في الطبقة والتربية، فأمه من أسرة شريفة بعيدة في الشرف، تحفظ نسبها في القرون الوسطى، وتذكر ما كان لأجدادها من بلاء في تاريخ فرنسا ومن مكانة في قصور ملوكها. وأم هذا الفتى قد ورثت عن أسرتها الشريفة هذه كل خلالها، فهي مترفة مهذبة رقيقة ممتازة، وقد أورثت هذه الخلال كلها ابنها الشاب.
أما أبوه فمن طبقة أخرى، من هذه الطبقة التي كانت مهضومة مظلومة قبل الثورة، والتي اكتسبت الحرية بعد الثورة، وجدت فأضافت إلى الحرية ثروة وقوة واستئثارا بالحكم. وفيها خلالها، فهي نشيطة عاملة صريحة شريفة الخلق، وفيها عيوبها أيضا فهي غليظة خشنة قليلة الحظ من التهذيب والرقة والامتياز، لا تتنزه عن صغائر تعافها الأرستقراطية. كان جد هذا الفتى يعمل في البريد، ولكنه جد حتى أثرى، وأحسن تربية ابنه حتى أصبح ابنه وزيرا في الإمبراطورية الثالثة، وترك هذا الوزير ابنا أحسن تربيته، فهو طبيب وهو أبو هذا الشاب.
وهذا الشاب متأثر - كما قلنا - بما ورث عن أمه، نافر أشد النفور من أخلاق أبيه، فهو لا يكاد يحتمل أباه منذ رجع من الحرب، وهو يألم لهذا ولكنه لا يجد إلى اتقائه سبيلا، وأبوه يألم له أيضا، ولكنه يروض نفسه على هذا الألم، وقد علمته الحياة أن يروض نفسه على الألم ؛ فقد نشأ كما رأيت ابنا لهذا الوزير، وأدركته حرب السبعين وما تبعها من الهزيمة، فتركت في نفسه ما تركت في نفس الفرنسيين جميعا من هذه الآثار المؤلمة التي يمثلها ضعف العزيمة والاستسلام ثم الطمع والشك. وكان أبوه ضخم الثروة، فزوجه من امرأته الشريفة الفقيرة، وجد هذا الرجل في مهنة الطب حتى أحبها علما وعملا، واتخذها سبيلا إلى البر بالفقراء والإحسان إلى البائسين. وهو شديد الإعجاب بأسرته وجدها ونشاطها، لا يكره مع ذلك أن يزدري الأشراف وخمولهم وكبرياءهم، ولكن الحياة كانت تدخر له ألما هو الذي جعله بطلا، كما أنه أسبغ البطولة على امرأته أيضا. وليس من الخير أن نتعجل فنكشف لك عن هذا الألم، فهو قوام الشطر الأول من القصة.
فلندع هذه الأسرة، ولنذكر الشخص الرابع من أشخاص القصة، وهو «جرين داجوزون» خطيبة جان. فهي فتاة جميلة فتانة ولكنها فقيرة، هي من أسرة نبيلة، ولكن أباها كان سيئ السيرة والخلق، وأمها كانت تعسة سيئة الحال. فأما أبوها فقد مات، وأما أمها فقد بقي لها من هذه الحياة السيئة ضرب من الاضطراب العقلي والخلقي، يمثله الغرور والشره والتكلف وما إلى هذه الأخلاق مما يجعل الإنسان موضع السخرية والإشفاق في وقت واحد. ولكن الفتاة لم تتأثر بشيء من هذا، وإنما نشأت نبيلة ذكية القلب جلدة قوية الإرادة، قادرة على المقاومة، ولكنها رقيقة محبة أيضا. ولم تكد تعرف هذا الفتى حتى أحبته حبا قويا عنيفا، ولكنه شريف ممتاز يشبه حب الفتى لها.
هؤلاء هم الأشخاص، لم أعرض عليك من أمرهم إلا ما يمكن أن يعرف قبل أن تحدث حوادث القصة، فتكشف من نفسياتهم عما كان مخبوءا. •••
فإذا كان الفصل الأول، فنحن في أعلى القصر في هذه الغرف التي تتخذ ملقى للأدوات العتيقة بعد أن يستغنى عنها ويزهد فيها، فتترك في هذه الغرف مهملة وديعة في أيدي الزمان يفنيها قليلا قليلا، وتهمل معها هذه الغرف، قد أغلقت أبوابها من دون هذا المتاع كما تغلق المقابر دون ما تودع من أجسام الموتى. وقد صعد جان إلى إحدى هذه الغرف، ففتح أبوابها ونوافذها للهواء والضوء، وأخذ يتفقد ما فيها من متاع في إعجاب وشغف. وما هي إلا أن أخذ ينسق من هذه الغرفة وما فيها مكانا يستقبل فيه خطيبته وأمها وأبويه لتناول الشاي. وكانت هذه الفكرة قد خطرت لخطيبته حين علمت بأن في أعلى القصر أدوات قديمة من متاع القرون الوسطى. فأقبل الفتى يهيئ لها هذه الغرفة، وهو يحاور في ذلك خادمه حوارا لذيذا خفيفا، فهو كلف بهذا المتاع القديم لأنه يمثل حياة آبائه، ولكن خادمه منصرف عن هذا المتاع لأنه عتيق قد عمل فيه الفناء، ولأنه يؤثر الجديد الذي لم ينله البلى. وانظر إلى الغرفة قد نسقت تنسيقا حسنا، وإلى طاقات الزهر قد وضعت في هذه الآنية القديمة. ثم انظر إلى الفتاة قد أقبلت، فما تكاد تنظر إلى هذه الأشياء حتى تفتن بها وتمضي في الإعجاب والثناء. وما كان أخلقها أن تمضي في ذلك إلى غير حد لولا أنها تحب صاحبها، وصاحبها يحبها، وخلوتهما ضيقة محدودة، فلا بد من أن يتحدثا في الحب، ولا بد من أن يتبادلا هذه القبل التي يفتن الخطيبان في انتهاز الفرص لها.
وهما يتحدثان في حبهما في خفة ورشاقة وجد أيضا، ونحن نحس أننا لسنا أمام حب فاتر أو نزق، وإنما هو الحب القوي الحاد الذي لا يكاد يدخل القلب حتى يملأه ويستأثر به ويندفع منه إلى جميع الملكات والعواطف والحواس فيخضعها لسلطانه. هذا الحب الذي كله ثقة وأمل ورغبة واحترام وطمأنينة. وهما في هذا الحديث وفي هذا الحب وإذا الأسرة قد أقبلت، فلا ألخص لك ما يدور من حوار حول المتاع ثم حول الشاي، فقد تستطيع أن تستغني عن هذا كله، وإنما ألاحظ أن الأب قد أقبل فرحا مبتهجا فتغنى مع الفتاة بعض أغاني الأقاليم. وكانت الفتاة بها مبتهجة وأمها كذلك وامرأته أيضا، إلا الفتى فقد غاظه ذلك وضاق به ذرعا، ولم يستطع أن يخفي ضيقه، بل عرض باللوم لأبيه، وقبل الشيخ هذا اللوم في ألم وغيظ وحزن وسخرية . وانقضى الشاي بين الضحك والحزن تتقيد به أم الفتى ما استطاعت.
Unknown page