في هذه المرة خافت حقا، وأحست أن الأستاذ سيفلت من يدها. وهي ثائرة، فقد كانت تقدر أنها ستنفق مع الأستاذ شطرا من الليل في خلوة لذيذة ينصرفان فيها إلى العمل، تقرأ هي المسودات ويصحح الأستاذ. وانظر إليها كيف أجلست الأستاذ في مجلس حسن، وجلست هي بين يديه في شيء من الظرف والدعابة. ولكن هذه هي الدوقة تنذر بمقدمها! ... لن يكون هذا، وهي تأمر الخادم بأن يسرع إلى التليفون، فينبئ الدوقة بأن الأستاذ مريض لا يستطيع أن يلقى أحدا، والأستاذ يعارض ويمانع، ولكنه مضطر إلى الإذعان.
على أن الخادم لا يلبث أن يعود ويعلن في أسف أن الدوقة وزوجها الشيخ قد خرجا من قصرهما وهما في الطريق. فانظر إلى ثورة المرأة وحدتها، وانظر إلى الأستاذ يهدئها ويتوسل إليها في ألا تسيء استقبال الدوقة. وهذه هي الدوقة تقبل مسرعة ومعها زوجها، فلا تكاد ترى الأستاذ حتى تتحدث معه بلسانين: لسان يسمعه الناس جميعا وفيه أحاديث عادية، ولسان آخر يسمعه الأستاذ وحده وفيه مودة وتعريض بمواعيده. و«فريدريك» تتحدث إلى الأستاذ بلسانين أيضا: لسان عادي يسمعه الناس، ولسان آخر فيه نذير وتحذير. وانظر إلى هاتين المرأتين تتقارضان جملا ظاهرها فيه الود والتحية وباطنها فيه البغض والعداء. وقد أقبل «بيير ريجو» زوج «فريدريك» فتنتهز الدوقة هذه الفرصة وتطلب إلى الأستاذ أن يرافقها إلى «البيانو» لتعلب هي ويغني هو، فهي تحب صوته الرخيم ولا سيما حين يغني القطعة الروسية.
ويحاول الأستاذ أن يعتذر لأن ابنته تلح عليه في الاعتذار من طرف خفي، ولكنه لا يفلح، فهو يذهب إذن إلى البيانو حيث يسمع غناؤه من بعد. وفي هذه اللحظة تخلو «فريدريك» إلى زوجها، فلا يكادان يتحدثان حتى نحس أن «فريدريك» مشغولة بأبيها وصاحبته، وأن زوجها يرى ذلك فيغتم له ويثور، ولكنه يكظم غمه وثورته، ويلح على امرأته في أن تتلطف بالدوقة ولا تظهر هذه الغيرة المنكرة. وامرأته منصرفة عنه، ماضية في الإعجاب بصوت أبيها والسخط على هذه المرأة، حتى يعود الأستاذ ومعه صاحبته، فتلتقفه ابنته التقافا، وتمضي الدوقة إلى بيير تتحدث إليه، وتنظر معه طائفة من الصور في دعابة وتلطف. و«فريدريك» منصرفة إلى أبيها تلومه وتداعبه، وتلاحظ في الوقت نفسه زوجها والدوقة، وتلفت أباها إلى هذه المرأة التي تداعب زوجها وتعبث بشعرها في وجهه، والأستاذ مضطرب بين ابنته وصاحبته.
ثم تنهض الدوقة للانصراف، ويخرج الأستاذ وابنته لتشييعها، ويخلو «بيير» إلى «كودريه»، فنفهم من حديثهما أنه ساخط على حميه شديد الغيرة منه، وأنه سيكون له معه شأن بعد حين. فإذا عاد الأستاذ وابنته تعجل «بيير» فعرض عليهما موضوع هذا الشأن الذي يريد أن يتحدث فيه، وهو أنه ضيق الذرع بباريس، وبمعاملها، وقد سنحت له فرصة تمكنه من العمل الجدي المنتج بعيدا عن باريس؛ ذلك أن غنية أمريكية هي «مسز ونتون» قد أنشأت في أحد الأقاليم مستشفى عظيما للسل، وفيه معامل حسنة النظام غنية بالأدوات، وقد عرض عليه أن يعمل في هذا المستشفى فقبل.
ونحن نفهم أن صاحبنا إنما يريد أن يترك باريس لا حبا في العلم طبعا، ولكن ليستأثر بامرأته بنوع خاص، فلا يكاد يعرض هذا الأمر حتى يثور الأستاذ ثورة عنيفة، ويعلن أن ابنته لن تترك باريس. وتمالئه ابنته في هذا، وتسلك لإقناع زوجها طرقا مختلفة، فيها اللين والشدة، وفيها الاستعطاف والإنذار فلا تفلح. ويوشك الأمر أن يفسد بين القوم لولا توسط الشيخ، ولولا أن «بيير» قد نهض للانصراف، فإذا خلا الشيخ إلى صهره حاول إقناعه وحمله على أن يدع ابنته تترك باريس فلا يوفق. وهنا حوار بديع بين الشيخ وصهره في الصلة بين الآباء والأبناء، وما يجب على الآباء من التضحية بأنفسهم لأنهم لا يملكون أبناءهم، ولا ينشئونهم للذة والمتاع، وإنما ينشئونهم لأنفسهم قبل كل شيء. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فقد مضت ساعات قليلة على ما كان في الفصل الأول. ونحن في بيت «بيير» في غرفة النوم، وقد أوت «فريدريك» إلى سريرها والخادم تحدثها فتنبئها بأن سيدها يعمل في مكتبه، وقد أمر فأعد له خادمه مضجعا في المكتب، فيقع هذا الحديث من نفس «فريدريك» موقعا تحس أنه مؤلم. وانظر إليها وقد صرفت الخادم ولكنها لا تستطيع النوم، فهي قلقة مضطربة تتسمع حركات زوجها في مكتبه. ولهذه اليقظة المضطربة من هذه الظلمة المدلهمة في نفسها أثر قوي، ولكن بابا يفتح ونورا يغمر الغرفة، وقد ظهر الزوج فتتكلف صاحبتنا النوم، وكأنها قد استيقظت فزعة. ولكن زوجها يعلم أنها لم تنم، وقد أقبل يعتذر إليها ويتلطف بها ويستغفر مما قدم، واطمأنت هي إلى ذلك، وصفا ما بين الزوجين الحبيبين وأطفئ من النور أكثره، ولم يبق منه إلا شيء ضئيل يلائم نجوى المحبين آخر الليل، وما يكون بينهما من عتاب واستعطاف ثم رضا واطمئنان. وهما في ذلك وهو يشكو غيرته من أبيها، وهي تدافعه في لطف ورقة. ولكن التليفون يدق فيحاول أن يمنعها من النهوض له فلا يوفق، وقد نهضت إلى التليفون فإذا أبوها قد عاد، وهو يسأل عنها ويلح عليها في ألا تسافر مع زوجها، وهي تجيبه بحديث متقطع يظهر فيه أنها مقسمة بين الرجلين، تحب زوجها وتريد أن ترضيه، وتحب أباها وتكره أن تفارقه، حتى إذا فرغ هذا الحديث بعد مشقة عادت إلى زوجها تريد أن ترضيه وتصل معه إلى اتفاق معقول. ولكن لم يبق إلى ذلك من سبيل، فقد دخل الأب بينهما فأفسد كل شيء. وكيف بهذا الرجل يدخل بين الزوجين حتى آخر الليل وحتى أوقات الصفو والرضا، وقد انتهت الثورة بصاحبنا إلى الظلم، فهو ينكر على امرأته أنها تحبه، وهو يسرف في ذلك، وهي تتلطف حينا وتشتد حينا، حتى يصل الأمر بهما إلى أقصاه. فهو يعرض عليها السفر، وهي تأبى، وهو يعلن أنه مسافر وحده، وهي تنذر. وهما في هذا وإذا الخادم يطرق الباب، يتحدث إلى سيده بأنه قد أعد له أمتعته، وبأن القطار سيسافر ساعة كذا. فإذا سمعت «فريدريك» هذا الحديث وفهمت أن زوجها كان قد أزمع السفر دون أن يظفر برضاها، وقع ذلك في نفسها موقعا أليما، فغلت في العناد والإصرار، وغلا هو أيضا في اللجاج، وافترقا متغاضبين وانسدل الستار، وإنا لنسمع زفرات هذه المحبة المعذبة بين حبها وكبريائها، بين أبيها وزوجها. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في بيت «جان لوي مارنييه» أول النهار، نرى «فريدريك» جالسة إلى مكتب في يدها ورق وقلم كأنها تحصي شيئا، وقد دخل عليها أخوها الشاب، وفهمنا من حديثهما أن هذا اليوم هو يوم الانتخاب في المجمع العلمي، وهي تحصي الأصوات التي قد يظفر بها أبوها والأصوات التي قد تخطئه. وهي تلاحظ لأخيها أن الأستاذ قد عاد متأخرا في الليلة الماضية وأنه متعب، وأنها قد أمرت الخادم ألا يوقظه إلا إذا تقدم النهار. ولكنها لا تكاد تفرغ من هذا الحديث حتى يدخل الأستاذ كأحسن ما كان قوة ونشاطا مستعدا للخروج، فتلقاه ابنته في دعابتها وفكاهتها، ويلقاها هو مثل ذلك. وانظر إليها تطلب إليه يومه وليلته تريد أن يفرغا من المهنئين بعد الانتخاب، وأن يفلتا إلى أحد المطاعم ثم إلى أحد الملاعب، وهو يجيبها في غموض: «سنرى ...»
ويبدأ فيعلن إليها أنه لن يتغدى معها، وينتحل لذلك المعاذير، وهي مغضبة في دعابة. ولكن جدها قد أقبل من مكان بعيد ليشهد يوم الانتخاب، فينفلت الأستاذ ويترك ابنته مع الشيخ. ولا تكاد المرأة تتحدث إلى جدها حتى يذكر «بيير»، ونرى من الحديث أنها تألم ولكنها تكظم ألمها، وهي غير موفقة في هذا الكتمان: أليست قد أحصت الأيام مذ سافر زوجها؟ أليست مغضبة لأنه لم يكتب إليهما كتابا واحدا وقد مضى على سفره نيف وثلاثون يوما؟! أليست كانت تنتظر أن تراه في باريس يوم الانتخاب؟! هي مغضبة واجدة، وكانت تحب أن ترى زوجها لتتفق معه على الطلاق، فليس إلى استمرار الزوجية من سبيل، وقد أنبأها المحامي أن قضية الطلاق لا تحتاج إلى أكثر من شهر إلا أن يقاوم زوجها، وما تظن أنه يقاوم. فإذا أراد الشيخ أن ينبئها بأنها ما زالت تحب زوجها، غضبت وزجرت جدها كأنها تشفق من هذا الحديث.
ولكن الخادم قد دخل ومعه بطاقة. تنظر فيها فإذا هي بطاقة «مسز ونتون»، ويقول الخادم إن هذه السيدة تلح في أن ترى مولاته، فتأذن لها وتخلو إليها. فتسألها هذه: ما بالها لم تجب إلى دعوتها وقد طلبت إليها الزيارة غير مرة؟ فتعلن إليها «فريدريك» دهشة أنها لم تتلق دعوة ولم تعلن بوجودها في باريس. فتسألها: ألم يخبرك الأستاذ بأني في باريس منذ حين، وأني أراه كل يوم وكل ليلة، وأني أكلفه دعوتك إلى زيارتي، وأني معتزمة أن أسافر معه إلى روما، وأن زوجي قد مات، وأن الأستاذ يريد أن يتخذني له زوجا، وأننا نفكر في أن نصلح بينك وبين زوجك؟! وتقع هذه الأنباء كلها من «فريدريك» موقع الصاعقة، ويظهر لهاتين المرأتين أن الرجل قد كذبهما وعبث بهما، فتتفقان فجأة على مقته والسخط عليه، وتنشأ بينهما فجأة مودة قوية مصدرها فيما يظهر تشابههما في الحب والإرادة والصراحة واستقامة الخلق. وهما في ذلك إذا الأستاذ قد عاد، فإذا رأى صاحبته أخذه الاضطراب ولم يحسن الحديث، ثم تتركه صاحبته لابنته، فيكون بينهما موقف عنيف مؤلم، يظهر فيه مقدار ما لحب النفس من التأثير في حياة الناس: هذا الرجل الذي كان يحب ابنته ويسرف في حبها حتى ليضحي بها في سبيل نفسه، وهذه المرأة التي كانت تحب أباها وتسرف في حبه حتى لتضحي بزوجها في سبيل هذا الحب، وقد وقفا الآن موقف الخصومة وجها لوجه؛ لأن امرأة أخرى قد دخلت بينهما فاستأثرت بقلب هذا الرجل. وهذه بنته تتهمه بالكذب والقسوة والأثرة والخداع، وهو يتهم ابنته بالعقوق والإثم.
وهي تعلن إليه أنه لن يتزوج من المرأة، وهو يعلن إليها أنها ستعود إلى زوجها، وسيقترن هو بهذه المرأة، كل ذلك في قوة وعنف مؤثرين حقا.
Unknown page