ليس هذا العنوان مشوقا ولا خلابا، وربما كان منفرا ثقيلا على السمع. ومع ذلك فلست أعرف عنوان قصة تمثيلية أشد من هذه القصة صدقا وأكثر منها تأثيرا في النفس، وأبرع منها في تصوير لون من ألوان الحياة القاتمة المحزنة التي نراها. فلا يحسن ظننا بالإنسان ولا فيما انتهى إليه من حضارة ورقي.
نعم! نحن بإزاء قصة جيدة ... وأنا أصفها بهذا الوصف من غير تحفظ ولا احتياط؛ لأنها خليقة به حقا. هي جيدة من كل وجه، جيدة في موضوعها؛ لأنه من هذه الموضوعات التي نشهدها في كل يوم وفي كل مكان على اختلاف ظروف الحياة وأجيال الناس، نشهده فننكره أشد الإنكار، ونحزن له أعمق الحزن، ونسخط عليه أشد السخط، حتى لقد أصبح ذلك شيئا شائعا مستقرا عنيت به الديانات ومذاهب الأخلاق. وأي الناس يجهل سخط الديانات والأخلاق وعرف أخيار الناس على هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى وينعمون بشقاء البائسين، ويستغلون ضعف الضعيف ليتخذوا منه لأنفسهم قوة وبأسا. القصة جيدة في معناها وأسلوبها أيضا، فأنا زعيم لك إن قرأتها ألا تجد فيها إسرافا ولا قصورا، ولا تجاوزا لحدود الفن ، ولا نبوا عن السهولة والسذاجة اللذين يلائمان طبع الطبقات الوسطى من الناس. أنا زعيم لك بأنك ستقرءها فلا تجد فيها عنفا ولا شدة، ولا عناية قليلة أو كثيرة بالتأثير في نفسك والاستثارة لعواطفك، ومع ذلك ستثور لأن القصة طبيعية بريئة من التكلف. ولست أعرف شيئا أبلغ في إثارة العاطفة والتأثير في النفس من الطبيعة الصادقة يمثلها الكاتب أو الشاعر تمثيلا صادقا. والقصة جيدة في لفظها، فقد تقرؤها على طولها دون أن تجد فيها لفظا غريبا، بل دون أن تحس فيها أن الكاتب قد تخير ألفاظه أو تأنق فيها، وإنما هو كلام يجري مجرى الطبع ويسير مسير الأحاديث العادية بين أوساط الناس، دون أن يكون فيه مع ذلك فساد أو ضعف أو اضطراب.
القصة كلها طبيعية، وهي طبيعية من أي نحو قصدت إليها. ومن هنا قلت - وما زلت أقول - إنك لن تستطيع أن تقاومها ولا أن تعصم نفسك من التأثر لها، وأحسب أنك لن تستطيع أن تقرأ الفصل الثالث والرابع منها محتفظا بهدوئك وسكونك ودموعك. نعم! أعترف بأني من أشد الناس مقاومة لبراعة الكتاب والشعراء والممثلين، وهذه المقاومة نفسها هي التي تمكنني من النقد وتيسر علي الحكم إذا قرأت قصة أو شهدتها. ولكني على شدة مقاومتي هذه احتجت أمس إلى أن آخذ نفسي بشيء من العنف وأنا أقرأ هذه القصة لأحتفظ بهذه الابتسامة التي تعودت أن أسمع معها كل أثر فني. ولست أريد أن أطيل في المقدمات، فلأهجم بك على القصة نفسها، وأنا واثق كل الثقة بأني لن أستطيع أن أؤثر في نفسك تأثير القصة نفسها؛ لأني لم أوفق مهما أبذل من جهد لأن أكون في هذا التلخيص من السذاجة والسهولة بحيث كان الكاتب نفسه حين وضع قصته.
ما أجدر هذه القصة أن تقرأ! وما أجدرها أن تترجم! وما أجدرها أن تعرض على الناس في ملاعب التمثيل العربي! ... فكأن الكاتب لم يضعها لفرنسا، وإنما وضعها لمصر. ولم لا نكون صادقين فنقول: إنه وضعها للعالم كله! وأي بلد يخلو من أولئك الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما فيأكلون في بطونهم نارا، ويستعدون لأن يصلوا يوم القيامة سعيرا. •••
نحن في باريس في بيت تظهر عليه آثار النعمة. قد رفع الستار، فإذا نحن نرى أسرة مجتمعة، لا نكاد نراها ونسمع لها حتى نشعر بأنها أسرة سعيدة مغتبطة، قد ألف الحب بين قلوبها، فاطمأنت إلى يومها وابتسمت لغدها. نرى شيخا قد استلقى يستريح بعد الغداء، وفي يده صحيفة ينظر فيها والنوم يغالبه، وهذا الشيخ هو «فينرون» زعيم الأسرة. ونرى امرأة ليست بالشابة، ولكنها ليست بالشيخة أيضا. ونرى فتاة قد جلست إلى البيانو، وهي «جوديت» أكبر شباب هذه الأسرة، وفتاة أخرى قد جلست قريبا من أبيها إلى بعض هذه الأعمال اليدوية التي يعنى بها النساء، وهي «ماري» الثانية من شباب هذه الأسرة. ونرى فتاة ثالثة لما تبلغ العشرين، قد جلست إلى مائدة تكتب، وهي «بلانش» الثالثة من شباب هذه الأسرة. ونسمع ذكر غلام سنراه بعد حين يسمى «جاستون»، وهو آخر أبناء هذه الأسرة. انظر إلى الفتاة مبتسمة تكتب، وليس يشك من رآها في أنها معنية بأمر ذي بال، وكيف لا؟! أليست تكتب أسماء الذين سيتناولون العشاء على مائدة أبيها مساء هذا اليوم، وتعنى بترتيبهم في مجالسهم ملاحظة في هذا الترتيب أقدارهم وأعمارهم؟! ثم أليست بطلة هذا العشاء، فهو إنما يقدم إلى الناس احتفالا بخطبتها وتمهيدا لقرانها، وقد نهضت أمها فأخذت تناقشها في أماكنهم، وتذكر كل واحدة منهم ثم تعقب بحكم له أو عليه. وقد أفاق الشيخ من غفوته، فسمع ابنته تذكر ساخطة اسم أحد المدعوين، وهو «تسييه»، فأظهر غضبا ولوما، وأنذر ابنته بأنها إن عادت إلى مثل هذا فسيحرمها حضور المائدة وسيلغي زواجها؛ ذلك أن هذا الرجل الذي تكرهه هذه الفتاة هو مصدر نعمته وشريكه في عمله، فيجب إكباره والوفاء له. والأسرة مختلفة دائما في هذا الموضوع اختلافا شديدا؛ فأما الشاب فيكره هذا الرجل كرها عنيفا؛ لأنه ثقيل النفس بغيض، غليظ الحديث، بخيل شديد الأثرة، وأما الشيخ فلا ينظر إلى شيء من هذا كله، وإنما ينظر إلى أن هذا كان مصدر ثروته، وما هو فيه من نعيم، وأما الأم فتتوسط بين الشيخ والشاب. ولهذا يتخذها الشيخ حكما كلما اختلف مع بناته في أمر هذا الرجل، يتخذها حكما في كل يوم؛ لأن هذا الخلاف يتجدد في كل يوم، وهي تعيد في كل يوم صيغة بعينها يحبها الشيخ، فهو يستعيدها، ويضحك منها الشاب، فهو يستعيدها أيضا. وهذه الصيغة تختصر تاريخ الأسرة التي كانت فقيرة معدمة، ولكنها شريفة عاملة، حتى لقي هذا الرجل الغني زعيمها، فطلب إليه أن يدير معملا له، فقبل، ووفق في عمله، فأصبح شريك رئيسه، وأخذ يكون لنفسه ولولده ثروة لا بأس بها. وإذن فهو مدين لشريكه بالثروة، ولكن شريكه مدين له بالنجح. وإذن فليس لأحد منهما على صاحبه فضل.
كل هذا يعرض عليك تاريخ الأسرة وما بين أعضائها من حب وألفة، وما تستقبل به الحياة من سعادة قوية وأمل مبتسم، ولا سيما بعد ما لقيت من ضيق وعناء. ولكن شيئين آخرين يجب أن تعلمهما؛ الأول: أن هذا الشيخ مريض تظهر عليه آثار علة خفية، وهو يجاهد هذه العلة ويريد أن يمضي في عمله وفي تكوين ثروة ضخمة لبنيه، فهو لا يكتفي بنصيبه من المعمل وإنما يشتري أرضا ويقيم عليها دورا، وكل هذا العمل يجهده ويضنيه، وأهله قلقون مشفقون. واسمع إلى ثانية بناته تلومه في رفق ولطف؛ لأنه لا يعنى بصحته، فلا يستريح، ولا يعرض نفسه على الطبيب.
الثاني أن صغرى هؤلاء الفتيات قد خطبت وتمت خطبتها، وهي سعيدة، وأمها راضية، ولكن الشيخ غير مطمئن لهذه الخطبة ولا مبتهج بهذا الزواج، وهو لا يميل إلى صهره الشاب ولا إلى أمه الأرملة الفقيرة، ولكنه لا يستطيع أن يعلل هذا النفور. وهو الآن يريد أن ينصرف إلى عمله، ولكنه يحب بناته، ويحب زوجه، ويحب حياة الأسرة هذه، فهو يتردد في الخروج، ويدعو ابنته إلى أن توقع له لحنا على البيانو فتفعل. وقد دخل الغلام، فإذا الشيخ يلقاه بهذه اللهجة التي امتاز بها الآباء الفرنسيون، لهجة التعنيف يملؤه العطف والحنان ، وإذا الرجل يمازح ابنه ويداعبه في حرية ورضا، وإذا هو يضع في جيبه النقود وإن كره الغلام، وإذا هو يبيح له أن يلهو كما يشاء على أن يكون شديد الاحتشام إذا دخل البيت حتى لا يظهر أخواته من سيرته على شيء، وإذا هو يعرض نفسه على ابنه ليكون مشيره وناصحه فيما يعترض له من الصعاب، وإذا هو بعد ذلك قد استحال إلى الجد فهو يعلن إلى ابنه أن أمد هذا اللهو سيكون قصيرا، وأنه سيستعين به في أعماله الكثيرة.
وانظر إلى هذا الشيخ قد جمع بنيه وامرأته، فقبلهن جميعا ثم مضى لعمله، وأخذت الأم تأمر بناته أن يتهيأن للعشاء، ويتخذن زينتهن لاستقبال المدعوين فخرجن، ولكنها تدعو صغرى بناتها فتزجرها في لطف وتنذرها في حنان لأنها تسرف بعض الإسراف في مداعبة خطيبها وتتجاوز حدود اللياقة، وأمها لا تسمح بهذا ولا ترضاه. ولا تكاد تخلو هذه الأم إلى نفسها حتى يستأذن عليها الخادم لزائرة فتأذن، وتدخل هذه الزائرة وهي «مدام دي سان جنيس» أم الخطيب، قد أقبلت ولما يأت ميعاد العشاء، وهي تعتذر ثم تأخذ في الحديث، فما أسرع ما نفهم نفسيتها، وما أسرع أن نبغضها ونسخط عليها، وما أسرع ما يزداد حبنا لهذه الأسرة الطاهرة الوادعة البريئة. ولا تكاد هذه الزائرة تتحدث حتى نشعر بأنها امرأة مادية غالية في الطمع لا تتردد في الطرق التي توصلها إلى الثروة، قد عرفت الناس فساء ظنها بهم واشتد ازدراؤها لهم، فهي تستغل نقائصهم لا أكثر ولا أقل. اسمع إليها تلوم صاحبة البيت لوما شديدا؛ لأنها لا تتقرب من شريك زوجها ولا تتلطف له، مع أن هذا الشريك متقدم في السن ضخم الثروة لا وارث له. أليس من الخير أن يتملق ويخدع لعله يوصي بثروته كلها أو بعضها لهذه الأسرة؟ أما صاحبة البيت فتظهر نفورا شديدا من هذا الطمع والخداع، ثم تقول لزائرتها: إنها لا تستطيع أن تسلك مثل هذه الطرق، ومع ذلك فأنت حرة في سلوكها بعد زواج ابنينا! لعل هذا الشيخ يختص الأسرة الجديدة بعطفه ومودته وميراثه.
وقد دخل الخادم فاستأذن لمعلم الموسيقى، فيدخل وتنصرف المرأتان، وتأتي كبرى الفتيات، فلا تكاد تتحدث إلى أستاذها حتى نعلم أنها موسيقية لها حظ من البراعة، فهي تضع الألحان الموسيقية، وقد وضعت لحنا تودع به أختها العروس، وحتى نحس أن أستاذها يعجب بها ويتملقها وكأنه يريد أن يداعبها. ولكن صاحبة البيت وزائرتها وسائر أعضاء الأسرة قد أقبلوا، وأخذ المدعوون يقبلون واحدا فواحدا حتى اكتمل عددهم، وهم يتحدثون في لهو ولعب وبهجة، ولكن الخادم قد دخل وهو يهمس في أذن سيدته، ثم يتبعه رجل آخر فدخل وطلب إلى السيدة أن تنحي بناتها فتفعل، وإذا هذا الرجل هو الطبيب قد أقبل يعلن إليها أن زوجها أصابته السكتة فمات، وهذه جثته تحمل ... •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في البيت نفسه، وقد مضى شهر أو نحو شهر على هذا الحادث، وكل شيء في هذا البيت يدل على الحزن والأسى. ونحن نرى صاحبة البيت لا تستطيع أن تكف دموعها، وهي تتحدث إلى زائرتها «مدام دي سان جنيس» فتشكو وتلح في البكاء، وهذه الزائرة تتكلف تعزيتها وتسليتها تكلفا، فهي لم تأت لهذا، وإنما أقبلت لشيء آخر؛ أقبلت لتعرف الحال المادية لهذه الأسرة بعد أن فقدت زعيمها، وهي تنصح لصاحبة البيت أن لا تثق بشريك زوجها ولا بمحاميه ولا بمهندسه. فترتاع المرأة لهذا كله، ولا تفهم مصدرا لهذه النصيحة الغريبة؛ ذلك لأنها امرأة طيبة القلب شريفة، ترى أن الناس جميعا مثلها أخيار أطهار. ولكن زائرتها لا تذهب هذا المذهب ولا ترى هذا الرأي، وهي تلح عليها في أن تكون سيئة الظن بالناس جميعا، وتذكر لها أنها إنما تلح عليها في هذا مخلصة ناصحة، فهي امرأة، ومن الحق عليها أن تعين امرأة مثلها. وهي لا تلتمس نفعا من هذا النصح، فقد يظهر أن زواج ابنيهما لن يتم، وذلك لأن هذا الزواج كان مشروطا بشروط مالية لم يصبح تحقيقها يسيرا، وهي لا تستطيع أن تعرض مستقبل ابنها للخطر والضيق. فلا ترى صاحبة البيت جوابا إلا أن تقول لها: كما تحبين.
Unknown page