السيل
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «موريس دونيه»
وأي السيلين أراد؟ ذلك الذي نحسه ونراه ونحبه ونخشاه؛ نحبه لأنه رائع مهيب يمثل ناحية من جمال الطبيعة الرائعة المهيبة، ونخشاه لأنه يعرضنا للخطر أحيانا حين يغشانا ولا ننتظره، وحين يدفعنا ولا نستطيع له مقاومة؟ أما هذا السيل الذي لا نحسه ولا نراه، بل لا نشعر به، وهو يغمرنا في كل وقت ويدفعنا في كل لحظة دفعا عنيفا لا رحمة فيه ولا إشفاق حتى تتم كلمة القضاء؟ أي السيلين أراد! أهذا السيل المادي الذي ينحط من شعاف الجبال فلا يذر شيئا أتى عليه إلا اكتسحه، ولكن العقل الإنساني يستطيع مع ذلك أن يدبره ويسخره لمنافعه؟ أم هذا السيل المعنوي الذي لا سبيل للعقل عليه، وربما لم يشعر به العقل ولم يفرض له وجودا إلا حين لا ينفع الشعور به ولا التفكير فيه؟ أأراد هذا السيل من الماء؟ أم أراد هذا السيل من قوانين الحياة التي لا مرد لها ولا منصرف عنها؟
أي السيلين أراد؟ فالقصة تمثل السيلين؛ فيها السيل المادي، عنيفا خطرا، ينحط من أعلى الجبل في قوة وعنف، فيراه الناس على اختلاف منازلهم من العلم والجهل، ومن الذكاء والغباء، ومن رقة الشعور وصفاقته، فيتأثرون له وينتفعون به على مقدار ما أوتوا من ذكاء وغباء، ومن علم وجهل، ومن رقة وكثافة. يراه العالم فيعلله ويسخره، ويراه الجاهل فيخافه ويخشاه، ويراه الشاعر فيعجب به ويتغنى بروعته، وفيها هذا السيل المعنوي الذي لا تراه العين ولا يدركه الحس، ولا يستطيع أن يسخره عالم ولا أن يخشاه جاهل، ولا أن يفر منه إنسان. فيها سيل الحياة وقوانينها الصارمة التي يخضع لها كل شيء دون أن تخضع لشيء. فيها هذان السيلان، وهو يريد هذين السيلين، يمثلهما وينتفع بهما، فلست أعرف قصة عنيفة كهذه القصة، ولست أعرف قصة محزنة كهذه القصة، ولست أعرف قصة موئسة كهذه القصة؛ فهي عنيفة، محزنة، موئسة؛ قد بلغت من العنف، والحزن، واليأس أقصاها. وهي لا تخلو من ابتسام، ولكنه ابتسام المغرور. وهي لا تخلو من ضحك الجاهل المخدوع. هي قصة موئسة، والشر كل الشر أنها قصة صادقة برئت البراءة كلها من الغلو والإسراف.
زعموا أن «لامرتين» دعا إليه الكاتب الفرنسي المشهور «فلوبير» عندما نشر قصته «مدام بوفاري»، فلامه لأنه أبكاه بهذه القصة، وكل إنسان يشعر ويفكر ويحسن الشعور والتفكير يستطيع أن يصنع مع كاتب هذه القصة التي نتحدث عنها اليوم ما صنعه «لامرتين» مع «فلوبير»، فيلومه لأنه أبكاه. وكذلك نحن، فطرنا ضعافا، نؤثر الغفلة والغرور والجهل والانخداع على أن نعلم بالحقائق كما هي، وننظر إليها مجردة في صورها الصحيحة الصادقة. نحن ضعاف نكره العلم ونخشاه؛ لأننا أضعف من أن نحتمله. ونؤثر الظلمة ونهواها؛ لأن أبصارنا أضعف من أن تثبت للضوء. ونحب أن نظل مخدوعين لأن ظهورنا على الحق يوئسنا ويثنينا عن العمل ويزهدنا في الحياة، وربما بغضها إلينا. ومن يدري! لعل الخير كل الخير في أن نكون جاهلين مخدوعين، فلولا الجهل والانخداع ما عمل الناس ولا أملوا ولا أحبوا. وأي شيء هي الحياة وما فيها من عظيم لولا العمل والأمل والحب! لعل الخير كل الخير في أن نجهل أنفسنا، وفي أن نجهل هذه القوانين التي تسيطر عليها، ولعل هؤلاء الفلاسفة والكتاب الذين يكرهون الناس على أن يفتحوا أعينهم وينظروا فيما حولهم، لعل هؤلاء الفلاسفة والكتاب مخطئون يسيئون إلى الإنسان أكثر مما يحسنون إليه. أيهما خير: العلم أم الجهل؟ مسألة ليس إلى حلها من سبيل. في العلم رقي الإنسان وشعوره بنفسه، ولكن فيه يأسا وضعفا وزهدا في الحياة، وفي الجهل انحطاط الإنسان واتصاله بغيره من هذه الكائنات التي لا تقدر نفسها ولا تعرف للوجود خطرا، ولكن فيه أملا وعملا وإقداما. أيهما خير؟ ...
في هذه القصة - كالقصة التي حدثتك عنها في الأسبوع الماضي - جهاد عنيف بين الأمومة والحب، وفيها جهاد آخر ليس أقل عنفا، ينشأ بين العقل والدين، وأنت تشهد هذا الجهاد فيعجبك ثم يسحرك، وإذا أنت مقسم بين هذين الطرفين اللذين يتجاهدان، وإذا أنت لا تدري إلى أيهما تميل، وإذا أنت مضطرب أشد الاضطراب، شاك أشد الشك؛ لأن الجهاد ليس متكلفا ولا مصطنعا، وليس من اليسير عليك أن تحكم فيه هادئا مطمئنا غير متأثر، وإنما الجهاد طبيعي يكون جزءا من فطرتك وحياتك، أو هو كل فطرتك وحياتك. فالإنسان بطبعه متأثر بعاطفة الأمومة والأبوة، هذه العاطفة التي تصله بمن قبله ومن بعده والتي تكون النوع، والإنسان بطبعه متأثر بعاطفة الحب، وكثيرا ما تصطدم هاتان العاطفتان، ثم الإنسان بطبعه متدين، والإنسان بطبعه عاقل، وكثيرا ما يصطدم العقل والدين، ولسنا نعني الآن بهذا الجهاد الذي يقع بين العقل والدين في المسائل النظرية، هذا الجهاد الذي يعني الفلاسفة وعلماء الدين؛ فليس لهذا الجهاد خطر يذكر إلى جانب جهاد آخر بين العقل والدين، يقوم في النفس الواحدة ويضطرها إلى طائفة من الآلام قد تنتهي بها إلى اليأس. هذا هو الجهاد الذي يعنى به الكاتب في هذه القصة، وأنا أحس أنك لم تفهمه كما ينبغي؛ لأني لم أوضحه كما ينبغي، فلتوضحه لك القصة نفسها؛ فلست أريد أن أطيل في شرحها ولا في تفسيرها، وإنما أريد أن تفسر لك القصة نفسها بنفسها، كما يقولون. •••
نحن في إقليم من أقاليم فرنسا الوسطى، في قصر من قصور الأقاليم فخم، كل شيء فيه يدل على الثروة والترف، ومن حوله أرض واسعة ليست بالمهملة ولا قليلة الإنتاج، وإنما يدل كل شيء على أنها خصبة، يستغلها صاحبها استغلالا قويا منتجا، ونحن نشهد في هذا القصر رجالا وامرتين قد انصرفوا عن مائدة العشاء وأقبلوا على سمرهم، فلنعرفهم؛ فقد خصص الكاتب الفصل الأول من قصته ليقدم إلينا هؤلاء الناس، وأولهم صاحب القصر «جوليان فرسان»، وهو شاب مستوي السن مكتمل القوى، شديد الذكاء، عظيم الحظ من النشاط. نشأ في باريس، وعاش عيشة شبانها الأغنياء، وتزوج فتاة هي «شارلوت»، جميلة خلابة حادة الذهن، ولكن حظها من التعليم قليل، بل نستطيع أن نقول إن حظها من التعليم سيئ؛ فلم تؤثر المدرسة في عقلها ولا في شعورها، وإنما علمتها طائفة من الأشياء يحتاج إليها أمثالها من الفتيان والفتيات اللاتي سيعشن عيشة الترف، وسيقضين الحياة في لهو ونعيم، يزرن ويستقبلن الزائرين، ويختلفن إلى المراقص وملاعب التمثيل، ويعنين بالزينة والحياة الظاهرة، أكثر مما يعنين بغيرهما من الأشياء.
تزوج «فرسان» هذه الفتاة، ولم يمض على زواجهما أشهر حتى مرض له عم كان يقيم في هذا القصر، فدعاه إليه فأقبل، وإذا عمه مشرف على الموت، فأوصاه ألا يبيع القصر والأرض ولا يؤجرهما، واستحلفه على ذلك، فحلف مشفقا على الشيخ المحتضر. فلما مات الشيخ انصرف الشاب إلى هذه الأرض يستغلها ويثمرها، وأقام في هذا القصر. وما هي إلا أن أحب حياته الجديدة ونشط لها وكلف بها، ثم كانت نتيجة عمله ونشاطه مشجعة له على هذه الحياة؛ فقد أثمرت أرضه ثمرا حسنا، وأخذت ثروته تنمو وتضخم. انصرف هو إلى هذه الحياة، ولكن امرأته لم تفهمها ولم تمل إليها، وعاشت في الأقاليم على نحو ما كانت تعيش في باريس، وهي متأثرة بكل ما يتأثر به أمثالها من المترفات في باريس: تحب اللذة واللهو ولا تؤثر عليهما شيئا آخر، تحب زوجها ولكن على أن يكون وسيلتها إلى هذه اللذة وهذا اللهو، لا تحب الواجب ولا تريد أن يذكر لها؛ لأنها لا تفهمه بل لا تعرفه، هي تكره مثلا أن تكون أما، وتكره أن يتحدث الناس إليها في ذلك؛ لأن الأمومة تصرفها عن اللذة وتعرضها لآلام شاقة خطرة، ولا ينبغي أن تذكر لها حاجة وطنها إلى النسل فهي لا تفهم ذلك، وماذا يعنيها أن يحتاج وطنها إلى النسل؟ وماذا يعنيها أن تنتصر الأمم الأخرى على أمتها في الجهاد الاقتصادي؟ فهي لا تفهم الجهاد الاقتصادي ولا نتائجه، على أن نتائج هذا الجهاد إن كانت شرا فلن تمسها؛ فهي غنية مطمئنة إلى ثروتها، ولن تخلو فرنسا من السكان اليوم ولا غدا، وإنما سيكون ذلك بعد زمن طويل؛ أي بعد أن تموت، وإذن فما يضرها أن تخلو فرنسا من السكان أو أن تكتظ بهم بعد أن تموت هي؟
ثم في القصر جاران لهذين الزوجين؛ هما «كميل لمبير» وامرأته «فلنتين»، ليسا أقل تناقضا واختلافا فيما بينهما من جاريهما اللذين وصفتهما لك؛ فأما الزوج فشاب ذكي ماهر في تثمير الثروة، ولكنه عملي، وعملي ليس غير، ليس له حظ من الشعور، ولا يفهم أن في الحياة مثلا عليا تطمح إليها النفوس الراقية، أو هو يفهم ذلك، ولكن مثله الأعلى ضيق محدود منحط، هو صورة لمطامعه المادية لا أكثر ولا أقل. لا تذكر له الحب؛ فهو لا يفهمه. ولا تذكر له الجمال؛ فهو لا يشعر به. أما المرأة فوسيلة إلى إحدى اثنتين: وسيلة إلى إرضاء الحاجة المادية ما دام الإنسان شابا غير مسئول، ثم وسيلة إلى تأسيس الأسرة يوم يصبح الإنسان رجلا مسئولا. وهو قد اتخذ المرأة وسيلة لهذين الغرضين.
كان طالبا يدرس في باريس، فاتخذ الخليلات والإخوان ليلهو ويلذ، واشتدت الصلة بينه وبين واحدة منهن، فكان لهما ولد من هذه الصلة، ثم فرغ من درسه ورجع إلى إقليمه؛ ليخلف أباه في العمل وليؤسس لنفسه أسرة، فترك صاحبته وابنها وكأنهما لم يوجدا، وماتت هذه المرأة موتا شنيعا في أحد المستشفيات، وتعرض ابنها للفقر والفاقة، وعلم أبوه ذلك فلم يحفل به ولم يلتفت إليه. ثم تزوج لا لأنه كان يحب خطيبته أو يعجب بجمالها؛ بل لأنها كانت غنية من جهة، ولأنه كان يريد الولد من جهة أخرى. وقد حملت إليه امرأته الثروة وأتته بصبيين ذكر وأنثى، فأدرك كل ما كان يريد، وانصرف عن زوجه الانصراف كله، وقدر أن واجبه إنما هو تثمير ثروته، وأن واجب امرأته إنما هو تربية هذين الصبيين، ولكن امرأته ركبت تركيبا آخر وفطرت فطرة أخرى؛ ففيها ذكاء وفهم، ولكن فيها قبل كل شيء شعورا قويا دقيقا وعواطف حادة متقدة، وهي تفهم الحياة على نحو آخر؛ فليست الحياة عندها تثمير الثروة، ولا تأسيس الأسرة كما يحددها القانون، وإنما الحياة عندها شيء أرقى من هذا؛ الحياة عندها حب وعطف وحنان ولذة، قوامها هذا الحب والعطف والحنان. لها في الحياة مثل أعلى يخالف كل المخالفة ما هي فيه من طعام وشراب ونوم وعناية بالأعمال اليومية. ليست الحياة مقصورة على الجسم وما يتصل به من الغرائز، وإنما هي تتناول القلب وما له من شعور وعاطفة. تريد أن تحب، وأن تجد من يحبها. وهي لا تكتفي بحب ابنيها؛ فإن الأمومة عاطفة شديدة التأثير في المرأة، ولكنها ليست حياة المرأة كلها إلا في أوقات خاصة يتعرض فيها الأبناء للخطر.
Unknown page