Sawt Acmaq
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Genres
من شأن اللغات المختلفة أن تشرح العالم بطرائق مختلفة وتجعل الناطقين بها يفكرون عن العالم تفكيرا مختلفا. تتمتع هذه الفكرة بجاذبية معينة، غير أن السؤال عن مدى تأثير اللغة على الفكر ونوع هذا التأثير هو سؤال إمبيريقي (تجريبي) لا يمكن أن يفصل فيه إلا البحث الإمبيريقي . وعلى الرغم من أن النسبية اللغوية قد تكون هي أكثر صور النسبية الوصفية رواجا فإن اقتناع الأشياع وحماسهم على كلا الجانبين (معها وضدها) يتجاوز البينة المتاحة تجاوزا بعيدا. ولعل السؤال المحوري في هذا الصدد هو: هل ثمة صيغ شائقة وجيهة تقع موقعا بين الصواب النافل المبتذل الغني عن القول (مثل: لم يكن لدى البابليين نظير للفظ «تليفون» ومن ثم فلم تكن لديهم أفكار عن التليفونات) وبين التطرف الطنان والبين الخطأ في الوقت نفسه (مثل: الناطقون بلغات مختلفة يرون العالم على نحو مختلف كل الاختلاف)؟
لم يكن سابير وتلميذه ورف هما أول من ألمح إلى سطوة اللغة وسلطانها على الفكر، فقد سبق أن ألمح إلى ذلك كثير من المفكرين منذ أقدم العصور، وكلنا يذكر على سبيل المثال «أوهام السوق»
idola fori
التي حذرنا منها فرنسيس بيكون بين ما حذر منه من أوهام العقل المتأصلة والتي ينبغي عليه أن يتخلص منها حتى تتسنى له الرؤية الصحيحة. وتتمثل أوهام السوق في الأغلاط التي يقع فيها العقل نتيجة للاستخدام السيئ للغة؛ «ذلك لأن الناس يتوهمون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ، على حين أن الألفاظ هي التي تعود فتتحكم في العقل وتؤثر فيه.»
24
وفي «فلسفة الروح» يقول هيجل: «إننا لا نفكر إلا داخل الكلمات، وأن كل رغبة في التفكير بدون كلمات هي محض محاولة خرقاء لا أصل لها ...» وفي «التفسير الكبير» يقول فخر الدين الرازي: «أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقية.» وفي «فينومينولوجيا الإدراك» (1945م) يقول ميرلوبونتي: «ليس الفكر باطنيا، ولا وجود له خارج العالم وبعيدا عن الكلمات.» تلك أمثلة للقائلين بأهمية اللغة في تشكيل الفكر، أما التاريخ الحقيقي لفرضية النسبية اللغوية فيبدأ في القرن الثامن عشر، فقد كانت النسبية اللغوية، شأنها شأن كثير من الدعاوى النسبية، موضع نقاش جاد في أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر في ألمانيا، وبخاصة في أعمال هامان وهردر وهمبولت.
ذهب هردر
Herder (1744-1803م) إلى أن كل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم ، بل إن كل أمة تخزن في لغتها تجاربها بما فيها من عناصر الصواب والخطأ فتنقلها اللغة إلى الأجيال الناشئة واللاحقة، فتصبح أخطاء الماضي من ضمن التراث الذي تنقله اللغة عبر الأجيال والذي يساهم في تحديد نظرة أصحابه إلى الكون. وحتى القيم المجردة التي يظن الإنسان أنها قيم إنسانية مطلقة أزلية لا يحدها المكان ولا الزمان إنما تكتسي، في حقيقة الأمر، طابعا محليا قوميا من خلال اللغة. اللغة إذن ليست مجرد أداة ولا مجرد مضمون، وإنما هي القالب الذي يسبغ على المعرفة صيغتها ووقعها. اللغة هي التي ترسم الحدود وتخط المحيط لكل معرفة بشرية، (من اكتمال القول أن ننوه إلى الدوافع القومية لآراء هردر، والتي تشي بها ظروف ألمانيا في القرن الثامن عشر).
أما فيلهلم فون همبولت
Wilhelm von Humboldt (1767-1835م) فكان يؤكد على أن اللغة ليست مهمتها مقصورة على توصيل المعلومات والأفكار بين فرد وآخر، وإنما هي التي تحدد تصورات العقل بحيث لا نستطيع إدراك العالم أو معرفته إلا عن طريق اللغة. كان همبولت أول أوروبي يجمع بين معرفة لغات عديدة وبين إلمام بالفلسفة، وقد وحد في حقيقة الأمر توحيدا تاما بين اللغة والفكر في الفرضية التي نطلق عليها الآن «نظرة العالم»
Unknown page