215

Sawt Acmaq

صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس

Genres

يرى دفيدسون أن الفروق بين اللغات ليست من الضخامة بحيث لا تستطيع التعبير عنها إلا باستخدام لغة فريدة؛ ولذا فهوي ذكرنا بأن توماس كون كان يستخدم لغة ما بعد الثورة العلمية كلما أراد الحديث عما كان يحدث فيما قبل الثورة العلمية. ويذهب دفيدسون إلى أنه لا معنى لأن نتحدث عن وجهات مختلفة من الرأي ما لم يكن هناك منظومة إحداثيات مشتركة لكي نمثل فيها هذه الوجهات من الرأي. ومتى كان هناك منظومة مشتركة يصبح التفاوت الضخم شيئا من قبيل التناقض.

وعندما نريد أن نقدم تأويلا للاعتقادات والاتجاهات التي نرى أنها موجودة في عبارات من يحاورنا فإن علينا أن نفترض إمكان ترجمة ما يقول إلى لغتنا، فإذا فشلنا في الوصول إلى ترجمة فلنا أن نستنتج عندئذ أن نسقه التصوري غريب عنا تماما. غير أننا في حقيقة الأمر لا نعيش في عوالم مختلفة، وإنما نعيش في عالم واحد ولا تفصلنا إلا الألفاظ. يرى دفيدسون أننا نفهم شيئا ما على أنه لغة إذا كان مرتبطا باللغة ومنظما لها، ويعود هذا التنظيم إلى الأنطولوجيا التي تتبطن هذه اللغة وتتيح لها أن تفرد الأشياء وتعينها. فإذا كان بإمكاننا أن نعقد «ارتباطا حمليا»

predicative correlation

بين لغتين مختلفتين يكون بإمكاننا أن نفترض مسبقا وجود أنطولوجيا مشتركة. ويذهب دفيدسون إلى أن التشابهات كبيرة بين الأنساق الممكنة لتنظيم الخبرة.

وعلينا في الوقت ذاته حين نشرع في فهم لغة أخرى أن نفترض أن المتحدث على صواب فيما يقول. يطلق على هذا المبدأ «مبدأ الإحسان»

115 (الحسنى)

principle of charity . علينا أن نسلم بأن محاورينا عقلانيون وأنهم منطقيون بالأساس ومتسقون ذاتيا فيما يقولونه، وأن لديهم اعتقادات، فإذا كان بوسعنا التوفيق بين مبدأ الإحسان وبين الشروط الصورية للنظرية، نكون قد فعلنا كل ما يلزمنا لضمان التواصل. وليس بإمكاننا أن نفعل أي شيء آخر، غير أننا لسنا بحاجة إلى أي شيء آخر.

لا شك أن مبدأ «اللامقايسة» يلفتنا إلى الصبغة الاجتماعية للمعرفة. ومن الحق أن أفراد كل جماعة يتشربون تقاليدها ونظمها من خلال «التعلم»

learning (وهو عملية اجتماعية بكل معنى الكلمة)، الأمر الذي يجعل المتغيرات الثقافية قائمة في أي موقف خاص مسبغة المعنى على السلوك ومضفية عليه ترابطا رمزيا. أما أن نقول بأن ما يكونه العالم يتوقف على العناصر الاجتماعية داخل تأويلاتنا فهو مجرد شطط ومغالاة وامتداد بالمعقول إلى حدود غير معقولة. ثمة فروق بين الجماعات في فهم العالم والتكيف معه، وثمة تحيزات تعود إلى التعلم وإلى الإثقاف وإلى اللغة التي تختزن التقاليد والقيم وصورة العالم. غير أن هذا شيء علينا أن نقدره ونحسب حسابه دون أن يؤيسنا ويوقعنا في ضرب انهزامي عدمي من النسبية.

إذا صحت الدعوى النسبية القابعة في مبدأ «اللامقايسة» لما كان بوسع الأنثروبولوجيين أن يطرحوا أي أسئلة أو يقترحوا أي أجوبة. ولكي تكون الأنثروبولوجيا ممكنة فلا بد لأهالي القبائل التي ندرسها أن يكونوا مشاركين لنا في تصوراتنا عن الحقيقة وفي الترابط والاتساق العقلي بين الاعتقادات. ورغم مصاعب التواصل فإن بإمكاننا أن نعرف أشياء كثيرة عن محاورينا. ورغم إدراكنا للدور الحاسم للترجمة في تحديد مدى صحة دعوى النسبية الثقافية، فإننا، مع اعترافنا باستحالة الترجمة الدقيقة وقبولنا لقيودها وحدودها، نلمس بأنفسنا أن التواصل ممكن. وتقدم لنا الممارسة العامة دليلا حيا على ذلك.

Unknown page