في عهده الزاهر، بدئ بزراعة القطن وقصب السكر؛ وهما الدرتان اللامعتان في تاج الزراعة المصرية، وبذلك خطت مصر خطوتها الأولى في سبيل الرقي والفلاح. وإن التاريخ لن ينسى مجهوداته الكبرى في سبيل تنشيط الصناعات، وما كان لمصانع الأقمشة الصوفية والحريرية، ومعامل الزجاج المنشأة في عهده من الأثر البين في تجديد حبل المواصلات بين مصر وأوروبا.
المدارس الحربية، ومعاهد الفنون والعلوم المؤسسة في عهده من طب، وهندسة، وإدارة من أكبر المظاهر الدالة على اهتمامه بتشجيع وسائل العلوم والفنون.
أراد أن يستفيد من فيضان النيل السنوي وألا يدع تلك المياه العذبة، وفيها إكسير الحياة لأرض مصر، تذهب هباء، فوجه همته العالية إلى تقسيمها على الأراضي بطرق فنية مما زاد الخير والنماء في محصول البلاد. ونظر بعد ذلك إلى النيل في أوقات الفيضان فألفاه جاريا على غير نظام، يغمر الأراضي والقرى المرتفعة ويتركها جزرا يتعذر الوصول إليها لإحاطة المياه بها من جميع جهاتها، فضلا عما يصيب الأهالي من الخوف والقلق خشية طغيانه، فأمر بإنشاء القناطر الخيرية عند مفترع النيل، وبذا خلص البلاد من أكبر الويلات والشرور.
كانت المماليك حين ذاك شعلة فتن ودسائس يخشى منهم على حكومته المشروعة، فدبر لهم تلك المكيدة التي قطعت دابرهم، فانتهت المشاحنات والمنازعات بانتهاء أمرهم وعاد الأمن إلى نصابه مرة أخرى. وبعد أن خلص البلاد من شر فتنهم أخذ يبذر بذور الائتلاف والاتحاد بين العناصر المختلفة في مصر، فجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم. ثم اهتم بعد ذلك بتحسين الحالة الاقتصادية ليوطد عرش ملكه على مهاد الراحة والطمأنينة.
وقد اهتم بترقية الجيش من الوجهة الفنية، فأحضر مهرة الأساتذة من أوروبا لتدريب أتباعه ومريديه الذين كان يرسلهم للصعيد بعد إتمام تعلمهم؛ حيث كانت مهمتهم تشكيل فرق جديدة من العساكر النظامية والمتطوعة. ولكي يأمن شر عساكره اللانظاميين فتح لهم أبواب الحرب في مجاهل السودان، وكان كلما قل عديدهم في القاهرة سد نقصهم من الفرق النظامية المتدربة بأسوان.
فكر بعد ذلك في إيجاد أسطول لمصر وتعزيز الحامية بفرق الهجانة، الأمر الذي كان له أحسن أثر في انتصاراته على الوهابيين الذين عاثوا في الأراضي المقدسة فسادا، واستفحل خطرهم لدرجة أنهم داسوا على حقوق المسلمين في الحرمين الشريفين، ووقفوا حجر عثرة في سبيل أدائهم فريضة الحج. فما كاد يصدر إليه الأمر السلطاني بتأديبهم حتى أخذ في إعداد الأخشاب اللازمة لعمل السفن في بولاق ومن ثم أمر بنقلها إلى السويس لبناء الأسطول الذي أقل العساكر المصرية إلى أرض الحجاز، وبذلك تمكن من التغلب على تلك الفرقة الظالمة.
كان رحمه الله متصفا بالشهامة والذكاء يضع الأشياء في مواضعها، ويقدر لكل أمر قدره، وكان مجلسه على الدوام حافلا بكبار أهل العلم ورجال الفضل والعرفان، وكان يستفيد من فضائلهم ويسترشد بهديهم في معضلات الأمور، فضلا عن المجهودات التي بذلها في سبيل تنوير أذهان الأمة بنور العلم.
وبفضل الشجيرات المتنوعة وبذور النباتات المختلفة التي تعب كثيرا في سبيل إحضارها وزرعها في أطراف المملكة أصبحت مصر جنات تجري من تحتها الأنهار.
لم يفته - رحمه الله - قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «ساعة من عالم متكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة سبعين عاما.»
Unknown page