نشب النزاع بين النوعين لا محالة، وفي عقل كل فرد من النوعين أيضا. وقد كان في أوج هذا النزاع، وفي الأزمة الروحانية التي استطعنا بسببها الوصول إلى هذه العقول في مرحلتنا الابتدائية، أن دخلنا هذا العالم لأول مرة. لم تكن السلالة السمكية قد استسلمت بعد بيولوجيا إلى موقعها الأدنى، غير أنها كانت تبدي من الناحية النفسية بالفعل علامات على التردي الذهني العميق. لقد هاجمها الإحباط وفتور العزيمة الشديدان، واللذان كثيرا ما يقوضان سلالاتنا البدائية حين تجد أنها تجاهد في فيضان الحضارة الأوروبية. بالرغم من ذلك، ولأن العلاقة بين السلالتين في النظام التكافلي كانت حميمية للغاية، أكثر بكثير من أقوى علاقة حميمية بين أي بشريين على الإطلاق، فقد تأثرت بشدة السلالة العنكبوتية بمحنة السلالة السمكية. أما في عقول أفراد السلالة السمكية، فكان انتصار شركائهم لفترة طويلة مصدرا لمشاعر مختلطة من الانزعاج والابتهاج. لقد كان أفراد كلا النوعين ممزقين بين دوافع متضاربة؛ فبينما كان يتوق كل كائن عنكبوتي إلى أن يشارك في الحياة الجديدة المليئة بالمغامرة، كان يتوق أيضا، بدافع من العاطفة المحضة والتشابك التكافلي، إلى مساعدة قرينه السمكي في أن ينال حظا مساويا من تلك الحياة. علاوة على ذلك، فقد كان جميع أفراد السلالة العنكبوتية مدركين لاعتمادهم الخفي على أقرانهم، وقد كان اعتمادهم هذا فيسيولوجيا ونفسيا معا. فقد كان أفراد السلالة السمكية هم الذين يساهمون في التكافل الذهني بالجزء الأكبر من القدرة على معرفة الذات والبصيرة المشتركة، والتأمل الذي كان ضروريا للغاية للحفاظ على التفاعل لطيفا وعاقلا. إن ذلك قد أصبح جليا للغاية من حقيقة أن صراعا داخليا قد نشب بالفعل بين أفراد السلالة العنكبوتية، وراحت كل جزيرة تنزع إلى التنافس مع الأخرى، بينما تتنافس إحدى المؤسسات الصناعية الكبيرة مع الأخرى.
لم أستطع أن أغفل عن ملاحظة أنه لو كان هذا الانقسام العميق في المصالح قد حدث على كوكبي، بين جنسينا مثلا، لكان الجنس صاحب الأفضلية قد سحق الآخر إلى الاستعباد بكل عزم وتصميم. وقد كاد أن يتحقق هذا «الانتصار» من جانب السلالة العنكبوتية بالفعل. تفككت المزيد والمزيد من العلاقات، وراح كل فرد يحاول إمداد نظامه من خلال العقاقير بالمواد الكيميائية التي يوفرها النظام التكافلي في المعتاد. بالرغم من ذلك، فلم يكن هناك من بديل للاعتمادية الذهنية، وتعرض الشركاء المنفصلون إلى اضطرابات ذهنية خطيرة سواء أكانت خفية أم ظاهرة. ومع ذلك، فقد نما عدد كبير من السكان تمكنوا من العيش بدون الاتصال التكافلي إلى حد ما. والآن اتخذ الصراع منحنى عنيفا إذ هاجم المتشددون من النوعين بعضهم بعضا، وأثاروا المتاعب بين المعتدلين، ثم سادت من بعد ذلك فترة من الحروب البائسة والمشوشة. في كلا الجانبين، كانت هناك أقلية صغيرة مكروهة تدعو إلى «التكافل الحديث» والذي يكون فيه كلا النوعين قادرا على المساهمة في الحياة المشتركة حتى في ظل الحضارة الآلية. وقد استشهد العديد من هؤلاء المصلحين في سبيل اعتقادهم.
كان النصر على المدى الطويل سيكون حليف السلالة العنكبوتية؛ إذ إنها كانت تتحكم في مصادر القوة. بالرغم من ذلك فسرعان ما بدا أن محاولة فصل الرابطة التكافلية ليست بالأمر الناجح كما بدا من قبل. فحتى في وقت الحرب، لم يستطع القادة منع التآخي المنتشر بين القوات المتخاصمة. كان أعضاء الشراكات التي انفرط عقدها يلتقون خلسة لينتزعوا بضع ساعات أو لحظات من رفقة بعضهم لبعض. وكان الأعضاء الأرامل أو الذين قد هجرهم رفاقهم من كلا النوعين يغامرون بخوف لكن بشغف للدخول إلى معسكرات العدو بحثا عن أقران جدد. وكانت جماعات بأكملها تستسلم للغرض نفسه. وقد عانت السلالة العنكبوتية من الأمراض العصبية أكثر مما عانت من أسلحة العدو. وعلاوة على ذلك، كانت الحروب الأهلية والثورات الاجتماعية على الجزر قد جعلت من تصنيع الذخائر أمرا شبه مستحيل.
الفرقة الأكثر حزما من السلالة العنكبوتية قد حاولت الآن إنهاء الصراع بتسميم المحيط؛ فتسممت الجزر بدورها بملايين الجثث المتحللة التي ارتفعت إلى سطح البحر وارتمت على الشواطئ. السم والطاعون وقبلهما الأمراض العصبية، قد أوقفت الحرب، ودمرت الحضارة، وكادت تفني كلا النوعين. ناطحات السحاب المهجورة التي اكتظت بها الجزر قد بدأت في الانهيار إلى أكوام من الحطام. أما المدن تحت المائية، فقد غزتها الأدغال تحت المائية وكذلك أنواع متعددة من كائنات شبيهة بالقروش تنتمي إلى السلالة السمكية والتي كانت ما تزال في المرحلة دون البشرية. وبدأ نسيج المعرفة الرقيق يتحلل إلى شذرات من الخرافة.
والآن قد حانت الفرصة أخيرا للدعاة إلى التكافل العصري. كانوا قد تمكنوا بصعوبة من الحفاظ على وجود سري لهم وعلى شراكاتهم الفردية في المناطق البعيدة غير المأهولة من الكوكب. والآن قد خرجوا بشجاعة لينشروا إنجيلهم بين التعساء الذين تبقوا من سكان العالم. انتشر التزاوج وإعادة التزاوج بين الأنواع انتشارا كاسحا. وأبقت الزراعة البدائية تحت المائية والصيد على حياة الشعوب المتشتتة بينما كان يجري إخلاء القليل من المدن المرجانية وإعادة بنائها، وهكذا قد جرى تجديد الأدوات اللازمة لإقامة حضارة بسيطة لكن واعدة. كانت تلك حضارة مؤقتة دون قوة آلية، غير أنها كانت تعد نفسها بمغامرات عظيمة في «العالم الأعلى» فور أن تكون قد أرست المبادئ الأساسية للتكافل المعدل.
بالنسبة إلينا، فقد بدا أن مصير ذلك المشروع هو الفشل؛ إذ كان من الجلي للغاية أن المستقبل للكائن الأرضي لا البحري، لكننا كنا مخطئين. لن أخوض في تفاصيل النضال البطولي الذي تمكنت السلالة من خلاله من إعادة صياغة طبيعتها التكافلية كي تلائم الحياة العملية التي كانت تكمن أمامها. كانت المرحلة الأولى هي إصلاح محطات الطاقة الموجودة على الجزر، والتنظيم المتقن لمجتمع مائي خالص مزود بالطاقة، لكن ما كان لعملية إعادة البناء هذه أن تجدي نفعا دون دراسة متأنية للعلاقات الجسدية والذهنية بين النوعين. كان لا بد من تعزيز التكافل حتى لا ينشأ هذا الصراع بين النوعين في المستقبل على الإطلاق. ومن خلال المعالجة الكيميائية في مرحلة الطفولة المبكرة، أصبح كل من النوعين أكثر اعتمادا على الآخر، وأصبحت الشراكة بينهما أكثر متانة. ومن خلال طقس نفسي محدد شبيه بالتنويم المغناطيسي المتبادل، يصبح الشركاء حديثو الاتحاد بعده في حالة تبادل ذهني سرمدية. وهذا الاتحاد بين النوعين، والذي كان كل فرد يعرفه في تجربة حميمية مباشرة، قد أصبح بمرور الوقت هو التجربة الأساسية في جميع مظاهر الثقافة والدين. فإله التكافل الذي كان يظهر في جميع الأساطير البدائية، قد نصب من جديد بصفته رمزا للطابع المزدوج للكون، وقد قيل إن هذه الازدواجية تتألف من الحكمة والإبداع متحدين في روح الحب الإلهية. وقد تأكد أن الهدف المنطقي الوحيد للحياة الاجتماعية هو خلق عالم من الشخصيات اليقظة الحساسة الذكية التي يتفهم بعضها البعض الآخر، وتتحد معا وراء الغاية المشتركة المتمثلة في استكشاف الكون وتنمية الإمكانات المتعددة للروح البشرية. وقد كان الصغار يساقون إلى اكتشاف هذا الهدف بأنفسهم على نحو غير محسوس.
وعلى نحو تدريجي وحذر للغاية، أعيدت جميع العمليات الصناعية والأبحاث العلمية التي كانت تنتمي إلى عصر سابق، غير أن ذلك قد حدث مع اختلاف عما سبق. لقد خضعت الصناعة للهدف الاجتماعي الواعي. أما العلم الذي كان مسخرا للصناعة من قبل، فقد أصبح رفيقا حرا للحكمة.
ومرة أخرى، تكدست الجزر بالمباني والعمال المتحمسين من السلالة العنكبوتية، لكن جميع المناطق المائية الضحلة الساحلية قد امتلأت بالكثير من المنازل السكنية حيث كان الشركاء التكافليون يستريحون ويجددون نشاطهم مع أقرانهم. وفي أعماق المحيطات، حولت المدن القديمة إلى مدارس وجامعات ومتاحف ومعابد وقصور للفن وللاستمتاع. هناك، كان الصغار من النوعين يكبرون معا. وهناك كان البالغون من النوعين يلتقون باستمرار من أجل الترويح والتحفيز. وهناك أيضا، بينما كان أفراد السلالة العنكبوتية منشغلين على الجزر، كان أفراد السلالة السمكية يقومون بعملهم في التعليم وإعادة تشكيل ثقافة العالم النظرية بأكملها؛ إذ أصبح من الجلي الآن أن طباعهم ومواهبهم في هذا المجال يمكن أن تساهم مساهمة ضرورية في الحياة المشتركة. وبهذا، كانت الأعمال المتعلقة بالأدب والفلسفة والتعليم غير العلمي تجرى بصفة أساسية في المحيط، بينما كانت الصناعة والبحث العلمي والفنون البلاستيكية هي الأكثر انتشارا على الجزر.
بالرغم من هذا الاتحاد الوثيق بين كل زوجين، كان من المحتمل أن يؤدي هذا التقسيم الغريب للعمل بمرور الوقت إلى تجديد الصراع لولا التوصل إلى اكتشافين جديدين. كان الأول هو تطوير التخاطر؛ فبعد عدة قرون من «عصر الحرب»، توصلوا إلى اكتشاف إمكانية تحقيق اتصال تخاطري كامل بين فردي كل زوج من الأزواج. وبمرور الوقت، توسع هذا الاتصال ليشمل السلالة المزدوجة بأكملها. كانت أولى نتائج هذا التغيير هي زيادة كبيرة في تسهيل التواصل بين الأفراد في جميع أنحاء العالم؛ ومن ثم زيادة كبيرة في الفهم المتبادل والاتحاد على الغاية الاجتماعية، لكن قبل فقدنا للتواصل مع هذه السلالة السريعة التقدم، وجدنا دليلا على وجود نتيجة أعمق كثيرا وأبعد أثرا للتخاطر العالمي؛ فقد علمنا أنه في بعض الأحيان، كان الاتصال التخاطري بين السلالة بأكملها يؤدي إلى حدوث ما يشبه يقظة متناثرة لعقل عالمي مشترك يشارك فيه جميع الأفراد.
أما الاكتشاف العظيم الثاني الذي توصلت إليه السلالة، فقد كان من نتائج الأبحاث المتعلقة بالوراثة. لم يتمكن أفراد السلالة العنكبوتية الذين كان عليهم أن يظلوا قادرين على العمل على اليابسة وعلى كوكب ضخم من تحقيق أي تحسن كبير في وزن الدماغ وتعقيده، أما أفراد السلالة السمكية الذين كانوا يتسمون بالضخامة بالفعل وكانت المياه ترفعهم، فلم يخضعوا لهذا القيد. وبعد فترة طويلة من التجارب التي كانت تبوء بالفشل الذريع في معظم الأحيان، جرى إنتاج سلالة «السمكيات الفائقة». وبمرور الوقت، أصبحت السلالة السمكية بأكملها تتألف من هذه الكائنات. وفي هذه الأثناء، فإن أفراد السلالة العنكبوتية الذين كانوا الآن يستكشفون كواكب أخرى في النظام الشمسي خاصتهم ويستعمرونها، لم يتطوروا وراثيا في جانب التعقيد العام للدماغ، بل تطورت لديهم تلك المراكز المحددة في الدماغ التي كانت تدعم الاتصال التخاطري؛ ومن ثم بالرغم من التركيب الدماغي الأبسط الخاص بهم، تمكنوا من الحفاظ على تواصل تخاطري كامل حتى مع أقرانهم كبيري الدماغ الذين يعيشون بعيدا للغاية عنهم في محيطات كوكبهم الأم. والآن، قد شكلت الأدمغة البسيطة والمعقدة نظاما واحدا، تكون فيه كل وحدة مهما كانت بساطة مساهمتها، حساسة للنظام الكلي.
Unknown page