كانت الحقيقة التي تجلت الآن لبفالتو ولي مربكة بلا شك. كان كل شيء يشير إلى حقيقة أنني سافرت باتجاه منبع نهر الزمن ورسوت بنفسي في تاريخ بالماضي السحيق حين كانت الغالبية العظمى من النجوم ما تزال صغيرة السن. ويمكن تفسير القرب الشديد بين العديد من المجرات في المعرفة الفلكية لدى البشر الآخرين من خلال نظرية «تمدد الكون». لقد كنت أعرف جيدا أن هذه النظرية الجذرية ليست سوى نظرية مبدئية وغير مرضية على الإطلاق، لكن هنا على الأقل يكمن دليل آخر واضح يقترح أنها لا بد أن تكون صحيحة من ناحية ما. في الحقب المبكرة، كانت المجرات متكدسة معا بالطبع. لم يكن هناك من شك أنني نقلت إلى عالم قد وصل إلى مرحلة البشرية قبل أن يخرج كوكبي الأصلي من رحم الشمس بفترة طويلة جدا.
ذكرني إدراكي الكامل لبعدي الزمني عن بيتي بحقيقة، أو احتمالية على الأقل، من الغريب أنني كنت قد نسيتها من فترة طويلة. من المحتمل أنني كنت ميتا. وقد كنت أتوق الآن بشدة إلى العودة إلى البيت. كان البيت في هذه الأثناء واضحا للغاية وقريبا للغاية، وبالرغم من أن المسافة إليه كانت ستحسب بالفراسخ النجمية ومليارات السنين، كان قريبا على الدوام. من المؤكد أنني إذا استيقظت فقط، فسوف أجد نفسي هناك على قمة تلنا مجددا، غير أنني لم أستيقظ. عبر عيني بفالتو، كنت أدرس خرائط النجوم وصفحات من نص غريب. حين نظر إلى أعلى، رأيت أمامنا، رسما هزليا لكائن بشري له وجه يشبه الضفدع، لم يكن يشبه الوجه إلا من بعيد، وصدر كصدر الحمام الهزاز، وكان عاريا إلا من زغب يميل لونه إلى الخضرة. ثمة سروال قصير حريري أحمر كان يغطي الساقين المغزليتين، واللتين كانتا مطوقتين بجورب حريري أخضر. هذا الكائن الذي لا تراه العين الأرضية إلا وحشا، كان في الأرض الأخرى امرأة شابة جميلة. أنا نفسي حين رأيتها عبر عيني بفالتو اللطيفتين، رأيت أنها جميلة بالفعل. بالنسبة إلى عقل قد تعود على الأرض الأخرى، كانت ملامحها وجميع إيماءاتها توحي بالذكاء والبديهة. من الجلي أنني إذا استطعت أن أشعر بالإعجاب تجاه امرأة مثلها، فلا بد أنني نفسي قد تغيرت.
سيكون من المضجر أن أذكر التجارب التي تمكنا من خلالها أن نتعلم ونتقن فن التحكم بالطيران في الفضاء ما بين النجوم. يكفي القول إننا قد تعلمنا بعد مغامرات عديدة أن نحلق من الكوكب متى أردنا، وأن نوجه مسارنا بالاستعانة بإرادتنا فحسب في كل حدب وصوب بين النجوم. بدا أننا حين نعمل معا نتمتع بالسهولة والدقة بدرجة أكبر كثيرا عما كان أي منا يتمتع بهما حين ينطلق في الفضاء بمفرده. بدا أن رفقة عقلينا تعزز من قوانا حتى في التنقل المكاني.
لقد كانت تجربة غريبة للغاية أن يجد المرء نفسه في أعماق الفضاء لا يحيط به سوى الظلام والنجوم، ويظل بالرغم من ذلك على تواصل شخصي حميم مع رفيق غير مرئي. بينما كانت مصابيح السماء البراقة تومض خلفنا، كان أحدنا يفكر للآخر بشأن خبراتنا أو نتناقش بشأن خططنا أو يشارك كل منا بذكرياته عن عالمه الأصلي. كنا نستخدم لغتي أحيانا ولغته في أحيان أخرى. وأحيانا لم نكن نحتاج إلى كلمات على الإطلاق، بل كنا فقط نتشارك تدفق الصور في عقلينا.
لا بد أن هذه الرياضة المتمثلة في الطيران بلا جسد هي الأكثر إثارة على الإطلاق من بين جميع الرياضات. صحيح أنها لم تكن تخلو من الخطر، لكننا سرعان ما اكتشفنا أن خطرها نفسي لا مادي. ففي حالتنا غير المادية، لم يكن التصادم بالأجسام السماوية يهم إلا قليلا. أحيانا في المراحل المبكرة من مغامرتنا، كنا نسقط عن غير قصد في أحد النجوم، ويكون داخله ساخنا بدرجة لا يمكن تصورها بالتأكيد، غير أننا لم نكن نختبر إلا السطوع.
أما الأخطار النفسية لهذه الرياضة، فقد كانت خطيرة؛ فسرعان ما اكتشفنا أن الإحباط والإرهاق الذهني والخوف، كلها من الأمور التي تقلل من قوانا المتعلقة بالحركة. لقد وجدنا أنفسنا غير مرة في الفضاء لا نستطيع حراكا كسفينة مهجورة في المحيط، وقد كان الخوف الذي أثاره فينا هذا المأزق كبيرا حتى إنه لم تكن هناك من إمكانية للتحرك إلى أن اختبرنا نطاق اليأس بأكمله، ثم عبرنا إلى اللامبالاة ومنها إلى الهدوء ورباطة الجأش.
كان ثمة خطر أشد من ذلك، غير أنه لم يحق بنا إلا مرة واحدة، وهو الخلاف العقلي. لقد حدث بيننا نزاع حاد بشأن الهدف من خططنا المستقبلية، ولم يفض بنا إلى عدم القدرة على الحركة فحسب، بل إلى اضطراب عقلي مروع. لقد أصبحت حواسنا مشوشة، وضللتنا الهلاوس. وتلاشت لدينا القدرة على التفكير المترابط. وبعد نوبة من الهذيان قد امتلأت بشعور غامر بالفناء الوشيك، وجدنا أنفسنا على الأرض الأخرى مجددا؛ بفالتو في جسده مستلقيا على سريره مثلما غادره، ومن جديد كنت أنا وعيا بلا جسد أحوم في مكان ما فوق سطح الكوكب. كان كلانا في حالة من الرعب الجنوني الذي قد استغرقنا وقتا طويلا للتعافي منها. ومرت شهور قبل أن نجدد شراكتنا ومغامرتنا.
عرفنا تفسير هذه الحادثة المؤلمة بعد ذلك بفترة طويلة. يبدو أننا قد بلغنا درجة عميقة من التوافق العقلي بحيث عندما نشأ النزاع كان الأمر يشبه بالانفصال في عقل واحد، أكثر مما يشبه الخلاف بين فردين منفصلين. ومن هنا، أتت العواقب الخطيرة للأمر.
حين زادت مهارتنا في الطيران بلا جسد، وجدنا متعة كبيرة في الانزلاق هنا وهناك بين النجوم. تذوقنا متع التزلج والطيران في الوقت ذاته. ومن أجل المرح فحسب، رحنا نقوم مرة تلو الأخرى بتتبع أشكال ضخمة على هيئة العدد ثمانية باللغة الإنجليزية حول الشريكين اللذين يشكلان «نجما مزدوجا». كنا نظل بلا حراك لفترات طويلة في بعض الأحيان لكي نشاهد عن قرب تزايد أحد النجوم المتغيرة ونقصانه. وكثيرا ما كنا ننغمس في عنقود مزدحم ونمر بين شموسه كسيارة تنساب بين أضواء المدينة. وكثيرا ما كنا نتقافز على أسطح متموجة خافتة اللمعان من الغاز، أو بين نتف ونتوءات خفيفة، أو ننغمس في الضباب لنجد أنفسنا في عالم من ضوء الفجر الخالي من أي معالم. أحيانا كانت قارات الغبار المظلمة تبتلعنا دون إنذار؛ فتحجب عنا الكون. وذات مرة، بينما كنا نجتاز منطقة مزدحمة في السماء، توهج أحد النجوم إلى لمعان فائق متحولا إلى «نجم مستعر». ولأنه كان محاطا على ما يبدو بسحابة من الغاز غير المضيء، فقد رأينا بالفعل دائرة الضوء المتسعة التي أشعت نتيجة لانفجار النجم. وإذ كنا نتحرك بالخارج بسرعة الضوء، فقد ظهر بفعل انعكاس الضوء من الغاز المحيط؛ بحيث بدا كبالون منتفخ من الضوء يخبو مع انتشاره.
لم تكن تلك سوى بضعة من مشاهد النجوم التي أبهجتنا بينما كنا نتزلج هنا وهناك بين جيران «الشمس الأخرى» بسلاسة وكأننا على جناحي طائر. كان ذلك خلال فترة تدربنا على مجال الطيران بين النجوم. وحين أصبحنا بارعين فيه، وصلنا لما هو أبعد من ذلك، وتعلمنا أن نسافر بسرعة كبيرة للغاية حتى إن النجوم الأمامية والخلفية قد تلونت مثلما كانت الحال في طيراني اللاإرادي في وقت سابق، ثم ساد الظلام بعد فترة قصيرة. ليس ذلك فحسب، بل إننا قد بلغنا أيضا تلك المرحلة من الرؤية الروحانية والتي اختبرتها أيضا في رحلتي السابقة، والتي يمكن التغلب من خلالها على تقلبات الضوء المادي.
Unknown page