أصحاب النزعة العسكرية أيضا كانوا يعارضون الاختراع الجديد بشدة؛ إذ إنهم رأوا في الإنتاج الرخيص الفعال للقاءات الجنسية الوهمية خطرا أشد من موانع الحمل، وهو أن إمدادات الجنود الذين يعدون طعاما للمدافع سوف تتضاءل.
ونظرا لأن البث في البلاد الأكثر احتراما كان يخضع لتحكم الجنود المتقاعدين أو الصالحين من رجال الكنيسة، فقد استخدم الجهاز الجديد في بادئ الأمر في الولايات التي تتسم بالنزعة التجارية وسوء السمعة بدرجة أكبر. ومن محطات البث في هذه الأماكن، كانت لقاءات «نجوم إذاعة الحب» المشهورين، وحتى لقاءات الأرستقراطيين المفلسين، تبث مع إعلانات الأدوية المسجلة ببراءة اختراع التي تباع دون وصفة طبية والقفازات المضادة للمذاق ونتائج اليانصيب والنكهات ومزيلات المذاق.
بعد فترة قصيرة، طبق مبدأ تحفيز الدماغ عن طريق موجات الراديو على نطاق أوسع؛ فأذيعت برامج الخبرات الأكثر إثارة أو خطورة في جميع البلاد، وكان يمكن التقاطها عن طريق أجهزة الاستقبال البسيطة التي كانت في متناول الجميع خلا العرق المنبوذ؛ ومن ثم فحتى العامل باليومية وعامل المصانع كان يستطيع الاستمتاع بملذات الولائم دون تحمل النفقات أو ما يليها من تخمة؛ ومباهج الرقص المتقن دون مشقة تعلم فن الرقص؛ وإثارة سباقات السيارات دون التعرض للخطر . في منزل شمالي محاط بالثلج، كان يستطيع التنعم بالشمس على الشواطئ الاستوائية ويمكن أن ينغمس في الألعاب الرياضية الشتوية في المناطق الاستوائية. سرعان ما اكتشفت الحكومات أن الاختراع الجديد قد منحها نوعا رخيصا وفعالا من السلطة يتحكمون به في رعاياهم. فأحوال العشوائيات يمكن أن تحتمل إذا كان هناك إمداد لا ينضب من الرفاهية الوهمية، والإصلاحات التي تبغضها السلطات يمكن أن تنحى جانبا إذا صورت على أنها معادية لنظام الإذاعة الوطني. الإضرابات وأعمال الشغب يمكن أن تفض في أغلب الأحوال بمجرد التهديد بإغلاق استوديوهات البث، أو من خلال غمر الأثير في لحظة حاسمة بنوع مبتكر من الحلاوة والعذوبة.
إن حقيقة أن «جناح اليسار» السياسي كان يعارض التوسع في تطوير الترفيه الإذاعي قد جعلت الحكومات والطبقات المالكة للأراضي أكثر استعدادا لقبوله. أما الشيوعيون - إذ أدت جدلية التاريخ على هذا الكوكب الشبيه بالأرض على نحو غريب إلى إنتاج جماعة جديرة بذلك الاسم - فقد أدانوا المشروع بشدة. لقد كان في رأيهم مخدرا رأسماليا قد أعد للحول دون منح الحكم الديكتاتوري والحتمي للطبقة العاملة بدلا من الحكومات.
وقد أتاحت المعارضة المتزايدة من جانب الشيوعيين الفرصة في رشوة معارضة أعدائهم الطبيعيين وهم رجال الدين والجنود. وقد جرى الاتفاق على أن تشغل الشعائر الدينية في المستقبل حصة أكبر من وقت البث، وأن تخصص قيمة العشر من رسوم الترخيص لصالح الكنائس. بالرغم من ذلك، فقد رفض رجال الدين عرض تجربة الاتحاد العفيف. وكتنازل إضافي، جرى الاتفاق على أن جميع الأفراد المتزوجين من أطقم العمل في هيئات البث، يجب أن يثبتوا، تحت طائلة الفصل من العمل، أنهم لم يقضوا ليلة واحدة بعيدا عن زوجاتهم (أو أزواجهم). وجرى الاتفاق أيضا على اقتلاع جميع هؤلاء الموظفين الحاصلين على درجة الليسانس والذين كان يشتبه في تعاطفهم مع تلك المبادئ السيئة السمعة مثل السلمية وحرية التعبير. وقد أرضي الجنود أيضا بإعانة من الدولة للأمومة، وفرض ضريبة على العزوبية، وبث منتظم للدعاية العسكرية.
خلال أيامي الأخيرة على الأرض الأخرى، ابتكر نظام يمكن للمرء من خلاله أن يتقاعد على السرير مدى الحياة ويقضي وقته بأكمله في استقبال البرامج الإذاعية، مع تعيين فريق من الأطباء من طرف هيئة البث يشرفون على تغذيته وكل وظائفه الجسدية، وعوضا عن التمرينات يتلقى خدمات التدليك بصفة دورية. كانت المشاركة في المشروع رفاهية باهظة الثمن في البداية، غير أن مبتكريه كانوا يأملون في أن يجعلوه متاحا للجميع في وقت غير بعيد، بل كان من المتوقع أيضا أن يصبح مشرفو الرعاية الطبية والخدمية غير ضروريين بمرور الوقت. وسوف يتم توفير نظام ضخم من الإنتاج الأوتوماتيكي للغذاء وتوزيعه غذاء سائلا في أنابيب تؤدي إلى أفواه المشاركين الراقدين، مع توفير نظام صرف صحي معقد. ويمكن استخدام التدليك الكهربائي حسب الرغبة من خلال الضغط على زر ما. وسيتم الاستغناء عن الإشراف الطبي ويحل محله نظام تعويض غددي أوتوماتيكي سيمكن حالة دم المريض من تنظيم نفسها أوتوماتيكيا من خلال سحب أي مواد كيميائية لازمة لتحقيق التوازن الفيسيولوجي الصحيح، من أنابيب العقاقير المشتركة.
حتى في حالة البث نفسه لن يكون العنصر البشري مطلوبا عما قريب؛ إذ ستكون الخبرات الممكنة بأكملها قد سجلت بالفعل من الأمثلة الحية الأكثر إبهارا. وسوف تبث هذه التجارب باستمرار في عدد كبير من البرامج البديلة.
ربما تظل هناك حاجة إلى وجود عدد قليل من الفنيين والمنظمين للإشراف على النظام، لكن عند توزيعهم بالشكل الملائم، لن ينطوي عمل أي فرد من أفراد طاقم عمل «الهيئة العالمية للبث» إلا على بضع ساعات من النشاط الممتع كل أسبوع.
وإذا دعت الحاجة إلى وجود أجيال مستقبلية، فسوف ينتج الأطفال عن طريق التوالد الخارجي. سيكون على «المدير العالمي للبث» أن يقدم مواصفات نفسية وفيسيولوجية ل «سلالة الاستماع» المثالية. وسيتلقى الأطفال المنتجون وفقا لهذا النمط التعليم عن طريق برامج إذاعية خاصة تعدهم لحياة البلوغ الإذاعية. إنهم لن يغادروا مهودهم أبدا إلا في مرورهم بالأحجام المختلفة من الأسرة وصولا إلى الأسرة ذات الحجم الكامل في مرحلة النضوج. في الجزء الأخير من الحياة، إذا لم تكن العلوم الطبية قد نجحت في التحايل على الكهولة والموت، فسوف يمكن للفرد على الأقل أن يضمن نهاية دون ألم من خلال الضغط على زر مناسب.
انتشر الحماس لهذا المشروع المذهل في جميع البلاد المتحضرة بسرعة، غير أن بعض القوى الرجعية كانت تعارضه بشدة. لقد أكدت فئة المتدينين التقليديين وكذلك فئة القوميين أصحاب النزعة العسكرية أن عظمة الإنسان في أن يكون نشطا. ورأى المتدينون أن الروح لا يمكن أن تكون مهيأة للحياة الأبدية إلا من خلال ضبط النفس واحتقار الجسد والصلاة المستمرة. وصرح القوميون من كل بلد أن أتباعهم قد منحوا أمانة مقدسة لحكم الأنواع الأدنى، وأن المناقب العسكرية فقط هي التي يمكن في كل الأحوال أن تضمن ذهاب الأرواح إلى «فالهالا».
Unknown page