لم يعد قادرا على تحمل كل ذلك الإزعاج البصري القادم من الخارج، والإزعاج السمعي الذي بلغ منتهاه بالداخل بهذين المراهقين اللذين لم يتوقفا عن المزاح المبتذل بصوت مرتفع، بينما هما يستمعان لأغان مثيرة للغثيان عبر هاتفيهما المحمولين في ذات الوقت، لم يبد على أهلهما أي مبالاة بما يسببه ولداهما من إزعاج لبقية المسافرين الذين لم تبد عليهم كذلك أي علامة عن الامتعاض، وكأنما هناك اتفاق ضمني غير معلن على حق الجميع في ممارسة الإزعاج. يمكن أن يفقد الناس في هذا البلد كل حق آخر، لكنهم لن يفرطوا قط في حق ممارسة القبح بكل حرية.
نهض من كرسيه وتناول سترته المعلقة بجوار النافذة، ثم ارتداها معدلا ربطة عنقه متوجها ناحية مؤخرة العربة. كان يحرص دوما على حجز كرسي مفرد بالدرجة الأولى حتى لا يكون بجواره كرسي آخر ربما يجلس عليه من يمكن أن يضايقه، وبما أنه بات مؤخرا يتضايق من غالبية البشر فقد أراد أن يتخلص من ذلك الاحتمال. سار ببطء حتى مؤخرة العربة متأرجحا عبر الممر الضيق الطويل بين صفوف المقاعد مع اهتزازات القطار السريع على القضبان، فتح باب العربة ليفاجئه الهواء الحار المشبع بدخان التبغ الكثيف والضوضاء المزعجة الناتجة عن صرير العجلات الثقيلة وارتطامها الرتيب بين فواصل القضبان الحديدية. كان ذلك الباب يفصل بين ركاب العربة الفاخرة وبين كل ذلك الأذى، لكن ماذا بوسعه أن يفعل إن كان أذى الركاب أنفسهم أشد؟ لم يكن يدخن ولم يكن يحتمل رائحة التبغ بهذه الكثافة، لكنه أراد قتل بعض الوقت والهروب من الملل والإزعاج بالداخل؛ فقرر أن يقضي بضع دقائق في تلك المساحة الشحيحة بين عربتين فاخرتين من قطار سريع يقطع المسافة بين المدينتين الأكبر في البلاد دون التوقف في أي محطات.
سعل مرتين من تأثير الانتقال من هواء العربة المكيف إلى هذه المساحة سيئة التهوية التي تكدس فيها دخان أنواع مختلفة من التبغ، حتى لم تعد الرؤية فيها يسيرة إلا بعد أن تتعود العين على تلك الغلالة الضبابية وتبدأ في تمييز الملامح، حتى الأصوات لم يكن من السهل تبينها وسط الضجيج الهادر للعجلات الثقيلة على القضبان الحديدية. كان الجميع هنا مثله؛ صامتين كأنما هم كذلك هاربون من ضجيج البشر في الداخل إلى ضجيج الآلات الحديدية هنا، لعلهم يفضلون إزعاج الجماد عن إزعاج البشر، أو لعلهم يختطفون فقط تلك الدقائق القليلة للحصول على جرعة من التبغ لعلها تعينهم على مقاومة كل ذلك الصخب.
بات في وسعه الآن التعرف على ملامح وجوه الموجودين بالمكان، وصارت رئتاه متعايشتين مع ذلك الهجوم الخاطف غير المعتاد من الدخان. كان بجوار الباب على الجانب الأيسر رجل أشيب محني الظهر يضيق وجهه بالتجاعيد العميقة، ويرتدي ثيابا قديمة الطراز يبدو أن جسده قد نحل كثيرا عما كان عليه في الزمن الذي اشتراها فيه. كان الرجل ذاهلا عن الدنيا محملقا في فراغ بعيد عبر النافذة، رافعا يده اليمنى بسيجارة بدا أنه قد نسيها؛ فقد كانت تكاد تسقط منها كتلة من الرماد التهمت أكثر من نصف السيجارة. وعلى الجدار المجاور له يستند بظهره شاب طويل القامة في بدلة رسمية يعبث بيد في هاتفه المحمول ويدخن سيجارة بالأخرى. أما على الجانب الأيمن المواجه للشمس فقد وقف رجل في مثل طوله مواجها للنافذة فلم يتبين وجهه، وإن كان قد بدا له مألوفا لسبب لم يعرفه. أغراه الفضول بالانتظار قليلا؛ لم يكن هناك كذلك ما يفعله بالداخل، وكانت الرحلة لم تزل في بدايتها.
انتبه الشاب الطويل إلى وجوده بعد أن رفع نظره لأول مرة عن شاشة هاتفه، ثم نظر نحوه في فضول؛ بعدها ابتسم في ود وهو يدس الهاتف في جيب سترته ثم يمد يده داخل الجيب الآخر مخرجا علبة سجائر أجنبية. فتح العلبة ووجهها ناحيته قائلا في نبرة مرحة: يبدو أنك نسيت سجائرك؛ تفضل واحدة.
ارتبك للحظة ثم أجاب وقد ابتسم بدوره في امتنان: لا لا، أشكرك على ذوقك. أنا لا أدخن.
أردف الشاب في إصرار: يا «برنس»، إذا لم تكن مدخنا فما الذي جاء بك إلى هذا المكان الضيق المعبق بالدخان؟ تناول سيجارة ولا تخجل!
أجاب في بعض الضجر وقد ساءه هذا الرفع غير المبرر للكلفة: شكرا، أنا فعلا لا أدخن.
كان الرجل الأشيب لم يزل مستغرقا في شروده وإن انتبه أخيرا لسيجارته فسحب منها نفسا شديد العمق ربما ليعوض ما فاته منها، أما الرجل المواجه للنافذة على الجانب الآخر فقد استدار بغتة وكأنما انتبه للصوت. كان قرص الشمس الآن في ظهره تاركا وجهه في ظلمة يصعب معها التحقق من ملامحه، لكنه لم يزل يجد فيه شيئا مألوفا كأنما قد التقاه من قبل في مكان ما. كان الآخر الذي لا تظهر ملامح وجهه جيدا قد وقف متسمرا في مكانه محدقا ناحيته؛ هنا بدا له كشخص يعرفه جيدا لا كأحد من التقى بهم لقاء عابرا. حاول التذكر، حاول ربط هذه الهيئة والملامح غير الواضحة بأي خيط في عقله لكنه لم يفلح، اقترب الرجل منه ببطء مبتعدا عن النافذة وعن ضوء الشمس الذي كان يحجب ملامحه فبدأ يظهر وجهه رويدا رويدا. كان يعرفه، يعرفه جيدا وهو واثق من ذلك، لكنه لا يدرك من هو. فجأة توقف الرجل الآخر الذي بدا هو الآخر بدوره مذهولا ومتأملا ملامحه. قال الرجل الآخر في صوت مرتجف وإن بدا له مألوفا كذلك: غير معقول! من أنت؟
أجاب وقد كاد الفضول يقتله: نحن ... نعرف بعضنا البعض بالتأكيد يا أستاذ، لكنني غير قادر على التذكر بالضبط.
Unknown page