المرء في كل يوم يرتجي غده
ودون ذلك مخبوء له القدر
القلب يأمل والآمال كاذبة
والنفس تلهو وفي الأيام معتبر
السهروردي المقتول
شاعر وفيلسوف صوفي (1155-1191م)
الفصل الأول
يوليو 2018م
تستمر أعمدة الكهرباء في التوالي بسرعة خاطفة عبر زجاج نافذة القطار، متطابقة كلها، متكررة لا نهائيا في إيقاع يثير الملل ويعرقل استغراقه في مراقبة مشهد الحقول المنبسطة في وداعة وخمول من شريط السكك الحديدية حتى تخوم البيوت الريفية البعيدة، لطالما سحرته هذه الأراضي الشاسعة التي لم تزل خضراء رغم أن كل ما حولها قد صار رماديا كالحا. لم تزل سخية خصيبة منذ قديم الأزل، قبل أن تكون هناك بيوت ريفية، وقبل أن تخترق القضبان الحديدية والقطارات الثقيلة صفحتها الهادئة، وقبل أن تشوه جمالها تلك الكتل الخرسانية القبيحة التي تناثرت داخلها في عشوائية وقحة كطفح جلدي لا شفاء منه. كانت تلك الأعمدة المتوالية اللعينة تفسد عليه متعة السكون في حضرة هذا الجمال، وكانت ثرثرة المسافرين وأصوات رنين هواتفهم الفجة تفسد يومه كله، وتثير أعصابه المثارة أصلا من قبل أن يستقل القطار الفاخر الجديد من محطة قطارات العاصمة الرئيسية بميدان رمسيس قاصدا الإسكندرية في مهمة عمل ثقيلة على قلبه. لقد أضحت كل مهام العمل ثقيلة على قلبه منذ زمن لم يعد يتذكر متى بدأ، لكنه يتذكر دائما أنه قد ضاق بهذا العمل، وأنه قد مل أيامه المتطابقة المتوالية في تكرار سقيم كتلك الأعمدة الغبية على جانب شريط السكك الحديدية.
أخرج هاتفه المحمول من جيبه وفتح غطاءه الجلدي الرمادي ثم أخذ يحرك إبهامه على الشاشة بحركة آلية متنقلا بين تطبيقات التواصل الاجتماعي المزعجة تلك. الكثير من التنبيهات كما هو المعتاد، زملاء عمل، عملاء قدامى، أقارب بعيدون، زملاء دراسة لا يكاد يتذكرهم، جميعهم يرفع الكلفة ويدس أنفه بمنتهى الأريحية في أدق تفاصيل حياته. لا يكاد يكتب خاطرة مرت برأسه أو ينشر صورة هنا أو هناك إلا وتنهال عليه التعليقات؛ هل اشتريت سيارة جديدة؟ لم تقل لي إنك مسافر إلى أوروبا. لماذا يرتدي ولدك سلسلة ذهبية؟ لا تجوز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم. لا تترحم على هذا الرجل الذي مات بالأمس؛ ألا تعرف أنه غير مسلم؟ أتعجبك مقالة هذا الإخواني حقا؟ لقد صدمت فيك يا رجل! هل أصبحت تؤيد العسكر الآن؟ ألا ترى إلى أين يذهب هذا الرجل بالبلاد؟ يكره اختراق خصوصيته بهذا الشكل الفج، ويكره المتطفلين ويكره المتطرفين، ولا يحب مناقشة قناعاته وتفاصيل حياته هكذا على الملأ؛ لأنه ببساطة لا يعبأ بما يعتقده الآخرون عنه. في كل مرة ينقر إصبعه على زر الإرسال في أي من تلك التطبيقات اللعينة كان يعرف جيدا أنه سيندم على ذلك. أغلق غطاء الهاتف وأعاده إلى جيبه وعاد إلى تأمل المشهد بالخارج، لم تزل الأعمدة اللعينة تتوالى بلا انقطاع.
Unknown page