كتاب الروضتين.
ابن خلكان.
Burckhardt, Travels in Syria and Holy Land, London, 1822, 10 .
الفصل الأول
فذلكة تاريخية
كان دخول مصر في حوزة الفاطميين أو العبيديين سنة 358ه. على يد القائد جوهر، فبادت بذلك دولة الإخشيد وخرجت مصر من حوزة الدولة العباسية؛ لأنها كانت في زمن الطولونيين والإخشيديين - مع استقلال هاتين الدولتين بالحكومة - تحت رعاية الخليفة العباسي في بغداد، فكان هو يثبتهم على الإمارة ويبعث إليهم بالخلع أو بكتاب التولية (الفرمان) على نحو ما كان يفعل السلطان العثماني بأمراء مصر، أما إدارة الحكومة الداخلية وسائر أعمالها فكان يجريها الأمير الطولوني أو الإخشيدي مستقلا دون مراجعة بغداد، وهو يشبه ما يعبر عنه كتاب هذا العصر بالاستقلال الإداري، على تفاوت في درجات ذلك الاستقلال.
فلما دخلت مصر في حوزة الفاطميين تغيرت حالها السياسية وأصبحت دولة مستقلة استقلالا تاما، لا تراجع أحدا ولا تعترف بسيادة أحد غير الخليفة الفاطمي المقيم بالقاهرة.
وهي أول مرة استقلت فيها مصر بالسيادة بعد الإسلام. وبقيت الخلافة العباسية في بغداد كما كانت، وظهرت الخلافة الأموية بالأندلس في بني مروان. فأصبحت المملكة الإسلامية يتنازعها ثلاثة خلفاء، كل منهم يجعل لنفسه الحق في الخلافة الحقيقية وينكرها على الآخرين. وكان النزاع على أشده بين خليفة بغداد وخليفة القاهرة. كما كان بينهما اختلاف في المذهب، فالخلافة العباسية سنية، بينما الفاطمية شيعية. وهو في أصله تنازع سياسي أدخلوا فيه الدين وسيلة لتأييد دعواهم.
والدولة الفاطمية أول دولة شيعية تسمي ملوكها بالخلفاء. وعاصرتها دولة أخرى شيعية في العراقين وفارس، وهي الدولة البويهية، لكن ملوكها لم يسموا أنفسهم خلفاء ولا ادعوا نسبا قرشيا يؤهلهم لذلك، بل حافظوا على الخلافة العباسية مع اعتقادهم أن أصحابها اغتصبوها من مستحقيها. وإنما استبقوها ليحكموا بها العامة، وأشار بعضهم على معز الدولة البويهي بعد قيام الدولة الفاطمية أن ينقل الخلافة إلى الفاطميين أو غيره من العلويين فاعترض عليه بعض خاصته قائلا: «ليس هذا برأي فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم لقتلوه مستحلين دمه. ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لقتلوك.» فرجع معز الدولة عن عزمه.
استقرت الخلافة الفاطمية بمصر، والخلفاء العباسيون في بغداد، وأتباعهم السنيون في أنحاء العالم ينكرون على الفاطميين صحة انتسابهم إلى فاطمة الزهراء وهم لا يبالون. وإنما كان يهمهم تأييد سلطانهم بالسيف والدهاء ولا سيما في أوائل دولتهم. فإن المعز لدين الله لما بنى له جوهر مدينة القاهرة ودعاه إليها خرج الناس للقائه، فاجتمع به أناس من الأشراف وفيهم عبد الله بن طباطبا المشهور، فتقدم إلى الخليفة المعز وقال له: «إلى من ينتسب مولانا؟» فقال له: «سنعقد مجلسا نجمعكم فيه ونسرد عليكم نسبنا.» ولما استقر المعز في القصر جمع الناس في مجلس عام، وجلس لهم وقال: «هل بقي من رؤسائكم أحد؟» قالوا: «لم يبق معتبر.» فسل سيفه وقال لهم: «هذا نسبي.» ونثر عليهم ذهبا كثيرا وقال: «هذا حبسي.» فقالوا جميعا: «سمعنا وأطعنا.»
Unknown page