فأسرعت سيدة الملك فوضعت كفها على فم ياقوتة تعجيلا في إسكاتها وقالت: «ومع ذلك فإن الحب يعزيني عن كل شيء. يكفي ما رأيته من اقتناعي بكلمة من عماد الدين لو قالها لنسيت كل شيء. ومع ذلك فإن أملي بأن أسمعها منه أنساني القصور والخلافة والنسب الشريف. أنساني كل شيء. ذلك هو الحب يا ياقوتة. ليس في الدنيا ألذ منه إذا كان متبادلا.»
فعادت ياقوتة إلى مسايرتها وقالت: «هذا ما قلته لك يا سيدتي، فاتكلي على الله واصبري فإن الفرج قريب.»
فأحبت سيدة الملك أن تختم الحديث بهذا الوعد، فهمت بالذهاب إلى الفراش وياقوتة تساعدها.
أما عماد الدين فإنه دخل السرداب مرغما ولم يكن يريد الرجوع هاربا من وجه قراقوش أو غيره. ولكنه فعل ذلك صيانة لكرامة سيدة الملك وفرارا من التأخير عن المهمة التي هو سائر فيها. مر في السرداب متحمسا والغلام يسير بين يديه حتى وصل إلى الطرف الآخر عند منظرة اللؤلؤة. فخرج وعاد الغلام إلى القصر. مشى عماد الدين بين الأشجار يطلب غرفته وإذا هو يسمع المؤذن يدعو الناس لصلاة الفجر فأجفل. ولم يكن يظن نفسه تأخر بهذا المقدار فأسرع إلى غرفته وأمر بإعداد جواده واستعد للسفر وهم بالخروج قبل طلوع النهار حسب وعده. وإذا بصلاح الدين يناديه من غرفته فأسرع ملبيا فرآه قاعدا في فراشه فأكب على يده يقبلها فقال له: «أنت مسافر يا عماد الدين؟» قال: «نعم يا سيدي، وقد أبطأت قليلا ولكن لا تطلع علي الشمس إلا خارج القاهرة كما قلت.» قال: «كنت أحب أن أراك قبل الآن وقد سألت عنك مرارا فلم يجدوك في حجرتك. أحببت أن أراك لعلي أثنيك عن عزمك وأنت سائر في مهمة يمكن الاستغناء عنها، وربما كنت أحوج إليك هنا مما في الخارج.»
قال: «إني طوع أمر مولاي، لكنني قد تأهبت للذهاب، فادع لي بالنجاح وإذا فزت فببركة سلطاني ومولاي. وإذا مت فإن روحي فداه.» قال ذلك ووقف ينتظر الأمر، فأجابه صلاح الدين: «سر يحرسك المولى، ولا أوصيك بالشجاعة فإنك شجاع، ولكنني لا أحب أن تلقي بنفسك إلى التهلكة فإنك عزيز علينا.»
فعاد وقبل يد صلاح الدين، وخرج فركب جواده وسار، ولم تمض دقائق حتى صار خارج القاهرة وهو عليم بالطرق ومسالكها. وحالما خلا بنفسه عادت إليه هواجسه بما لاقاه من الغرائب المدهشة في الليل الماضي. ولما أشرقت الشمس توهم أن ما مر به من ذلك حلم رآه في منامه؛ إذ استبعد وقوع ما لقيه من الحفاوة والتقرب من سيدة نساء مصر. لكنه ما لبث أن حبس جيبه فوجد العقد فيه، فتحقق أن ذلك حدث في اليقظة.
الفصل السادس
الهكاري وقراقوش
تركنا قراقوش بعد مفارقة سيدة الملك وقد استغرب ما سمعه. لكنه ما زال يتوقع أن يجد أحدا في القصر؛ لأن أبا الحسن أكد له وجود رجل غريب. فعاد إلى التفتيش في كل مكان فلم ير أحدا. فعاد إلى غرفته قرب باب القصر فرأى أبا الحسن في انتظاره على مثل الجمر. وكان ينتظر أن يراه قادما إليه ومعه عماد الدين يرسف في القيود، فلما رآه وحده صاح به: «أين الرجل؟» وكان قراقوش يحترم أبا الحسن؛ لما يعلم من نفوذه عند الخليفة، فأجابه بلطف قائلا: «لم أجد أحدا يا سيدي.»
قال: «يا للعجب! كيف لم تجده؟ أنا على يقين من دخوله هذا القصر، وأنت تعرفه.»
Unknown page