لما ذهبت سيدة الملك إلى غرفتها لقيتها هناك حاضنتها وأخذت في مساعدتها على نزع ثيابها استعدادا للرقاد، ولم تفاتحها بشيء من الحديث الذي جرى لها مع أخيها برغم شدة رغبتها في ذلك - والخدم من أكثر الناس ميلا إلى استطلاع الأسرار لفراغ رءوسهم من المشاغل المهمة مع اطلاعهم على مخبآت تجري في منازل أسيادهم، ووقوفهم أمامها وقوف المتفرج ينتقدون هذا ويحسنون عمل ذاك على ما توحيه أغراضهم أو مداركهم، فيلذ لهم التحدث فيما بينهم كل واحد عما يعلمه من أحوال مخدومه، ويندر فيهم من يحافظ على سر مولاه ويغار على سمعته، ويسعى في درء الشبهات عنه - وكانت حاضنة سيدة الملك من هذا النوع واسمها ياقوتة، وقد ربيت في دار الخلافة وسيدة الملك طفلة، فكانت لها عناية خاصة بها. فشبت سيدة الملك على الوثوق بها حتى جعلتها مستودع أسرارها فلم يكن يفوتها شيء مما يخالج ضميرها. وذلك طبيعي في مثل حال هذه المرأة من الحجاب في ذلك العصر، فإنها لا تختلط بالناس ولا تجد من تحادثه إلا الخدم. وكانت ياقوتة قد علمت منذ جاء الخليفة أنه يشكو انحرافا وتلصصت من وراء الستر لتتسمع ما يدور من الحديث على عادة أمثالها من حب الاطلاع ورغبة في خدمة سيدتها. ولم تتوقع أن يدور بين الخليفة وأخته ما دار. فلما جاءت سيدة الملك لنزع ثيابها كانت ترجو أن تسمع منها شيئا جديدا ولحظت فيها تغيرا يدل على قلقها واضطرابها.
فلما فرغت سيدة الملك من تبديل الثياب قعدت على سريرها وقد حلت شعرها الذهبي وأرسلته ضفيرة واحدة إلى ظهرها وتنفست الصعداء وأطرقت، ولحظت ياقوتة في عيني سيدتها ما يشبه الدمع فترامت على قدميها وأخذت تقبل ركبتيها وتقول: «ما بالك سيدتي، لماذا تبكين؟ وأظهرت أنها لم تكن مطلعة على شيء.
فرفعت سيدة الملك عينيها إليها وبان الدمع فيهما وتنهدت ثانية وقالت: «تسألينني يا ياقوتة عن سبب بكائي، وتستغربين حزني؟ ليس حزني غريبا، وإنما الغريب ألا أقضي يومي باكية نادبة!» قالت ذلك وغصت بريقها.
فشاركتها ياقوتة البكاء لكنها أظهرت التجلد وقالت: «ماذا يجري يا سيدتي هل جرى شيء جديد؟
قالت: «ألا يكفي ما جرى مما تعلمينه؟ أنت عاقلة لا يخفى عليك شيء وتعلمين حالنا مع هؤلاء الأكراد واستبدادهم في الدولة. وهذا أخي جاءني اليوم وقد أصابته الحمى من شدة الغيظ لما صارت إليه الخلافة، فكيف لا أبكي؟»
قالت: «لا بأس من البكاء ولكن لا فائدة، وإنما الفائدة بالصبر والحكمة حتى يقضي الله بما يشاء، فلكل أمر نهاية، وإنما ...»
فقطعت كلامها قائلة: «لا. لا. ليس لهذه الكارثة نهاية إلا بالموت، من ينقذنا من هؤلاء الأكراد وقد وضعوا أيديهم في كل شيء حتى دارنا هذه فإن عليها حارسا من رجالهم؟» وبلعت ريقها ومسحت دموعها وهي تستعد لاستئناف الحديث ثم قالت: «وهذا كله هين يا ياقوتة، كله هين سهل بالنظر إلى أمر آخر جاءنا به الجليس من عند أبي الحسن في هذا اليوم.»
فتطاولت ياقوتة بعنقها وقالت: «وما هو يا سيدتي؟»
قالت: «جاءنا بمهمة يزعم أنها تنجينا من هذا الضنك. ولكنها إذا صحت أوقعتنا فيما هو أشد وطأة وأصعب مراسا.»
قالت ياقوتة: «وهل أشد وطأة من هذه الحال يا سيدتي؟»
Unknown page