وكان أبو الحسن صفراوي المزاج لمفاويه، لا يبدو في سحنته شيء من التأثرات مهما يبلغ من تأثيرها في قلبه. أو لعل قلبه لا يتأثر إلا مما يريده، أو هو قادر على التظاهر بما يشاء من غضب أو فرح أو حزن بغير أن يكون ذلك ناتجا عن تأثر قلبي. فلما سمع قول الخليفة تنحنح وأظهر الاهتمام وقال: «لا أزال أقول اصبر. اتكل علي فإني باذل نفسي في سبيل هذا الأمر وهو يهمني كما يهمك. أليست الدولة دولتنا والشيعة شيعتنا، وفي حياتها حياتنا وفي موتها موتنا. ثق أني فاعل ما تريد، ولولا خوفي من أن أثقل عليك لذكرت لك التفاصيل. لكنك الآن في حاجة إلى الراحة فامض إلى فراشك إذا شئت. وسأقص الخبر على الشريف الجليس وهو يقصه على مولاي.»
قال الخليفة وهو يتململ من القشعريرة: «افعل. إني ذاهب إلى دار النساء.» قال ذلك ونهض فأعانه أبو الحسن على القيام، وأتى بعض الخصيان تعاونوا على حمله على محفة في دهليز يؤدي إلى دار النساء، فودعه أبو الحسن وقال: «أنا ذاهب بأمرك إلى الشريف الجليس أقص عليه ما يسرك ثم يلحق هو بك إلى دار النساء.»
فأشار الخليفة أن افعل. وكانت دار النساء قصرا قائما بنفسه لكنه يستطرق إلى قاعة الذهب بممر مسقوف لانتقال الخليفة إليه متى شاء. وللقصر باب خاص عليه الحرس من الخصيان، وكان رئيسهم من عهد غير بعيد خصيا يسمى مؤتمن الخلافة، فأتى عملا أغضب صلاح الدين فقتله وجعل مكانه الطواشي بهاء الدين قراقوش أحد رجاله المخلصين.
وحالما صار العاضد في تلك الدار أنزلوه من المحفة، فمشى وهو يتوكأ على بعض الغلمان وهم يظنونه يطلب الذهاب إلى حجرة إحدى نسائه. فإذا هو يشير إليهم أن يأخذوه إلى حجرة أخته سيدة الملك، وكانت عاقلة حازمة يرتاح العاضد لحديثها ويستأنس بآرائها. كأنه وهو في تلك الحال أحس بحاجته إلى رأيها.
ساروا به في رواق يؤدي إلى غرفتها وهي منفردة عن سائر غرف القصر، ولما بلغها نبأ قدومه خرجت لاستقباله، وأعانته على الدخول إلى غرفتها، فجلس على مقعد وهي تقول له: «ما بال أمير المؤمنين؟ ومم يشكو؟ روحي فداه.»
قال: «أشكو من برودة وقشعريرة. اصرفي الخدم، فإني أحب السكينة وألا يبقى في هذه الغرفة غيرنا.»
ففعلت. وكانت سيدة الملك جميلة الخلقة طويلة القامة صبوحة الوجه، ذهبية الشعر جذابة المنظر، إذا نظرت في وجهها شعرت بهيبة تنجلي في عينيها. وهي أكبر من أخيها الخليفة ببضع سنين؛ إذ إنها في الخامسة والعشرين من العمر.
فلما خلت به جلست بجانبه على السرير وطوقت عنقه بيدها وهي تقول: «مم يشكو أخي - حماه الله من كل أذى. إذا اعتل أمير المؤمنين اعتل الناس جميعا!»
فأسند رأسه إلى كتفها وتنفس الصعداء وهو يقول: «أشكو حسب الظاهر من حمى تنتابني، لكن العلة الحقيقية في هذا القلب.» وأشار إلى صدره. ثم أرخى يده من شدة الحمى فجستها فرأتها شديدة الحرارة فقالت: «هل أدعو لك الطبيب؟»
قال: «كلا. إن هذه الحمى ستنصرف الليلة، ولكن إذا كنت تعرفين طبيبا ينقذني من أولئك الأكراد فعلي به.»
Unknown page