قال «أكيوبو» موجها حديثه إلى «إيدوجو» والولدين الآخرين: إن الرجل دائما أكثر حساسية من أولاده.
كان من الواضح أنه قال ذلك لتهدئة «إيزولو»، رغم أنه لم يقل سوى الحقيقة، ثم استطرد: يعتقد أمثالكم أنهم أكثر حكمة من آبائهم، لكنكم نسيتم أن تلك الحكمة جاءت إليكم من آبائكم؛ ولهذا فمن الخطأ أن يحاول الولد مجادلة أبيه .. لماذا أتحدث هكذا إليكم؟ لأنني لست غريبا في كوخ والدكم ولست خائفا من قول الحقيقة، وأنا أعرف أن والدكم كثيرا ما توسل إلى «أوبيكا» أن يتنازل عن صداقته مع «أوفيدو»، لكن «أوبيكا» لم يهتم بتوسلاته .. لماذا؟ لأنكم جميعا، وكذلك الولد الصغير الذي هناك، تعتقدون أنكم على صواب، وأنكم تعرفون ما لا يعرفه أبوكم. إن أبنائي مثلكم تماما، لكنكم تنسون دائما أن المرأة التي تنتهي من إعداد الطعام قبل الأخرى فإنها تكسر مزيدا من الأطباق والأواني .. نحن الكبار لا نتحدث لأننا نرى بعض الأشياء التي لا تستطيعون أنتم رؤيتها. لقد تعلمنا من آبائنا أننا عندما نرى امرأة عجوزا تتوقف في رقصتها لكي تبدأ مرة ثانية وثالثة من نفس النقطة، فلا بد أن شيئا ما قد حدث منذ فترة طويلة قد أثر في حياتها .. عندما يعود «أوبيكا» أخبره يا «إيدوجو» بما قلت .. هل تسمعني؟
أومأ «إيدوجو» برأسه موافقا، وكان يتساءل بينه وبين نفسه عما إذا كان الرجل حقيقة لا يكذب على ابنه.
رفع «أكيوبو» أردافه، ودار بجسده حتى أصبح في مواجهة «إيزولو»، ثم قال: لقد تحدثت مع الأولاد، ولن أخاف من الحديث معك .. أعتقد أنك قاس جدا مع «أوبيكا» .. لقد باركك الناس جميعا كرئيس للكهنة، لكن الناس يختلفون؛ فهناك الطيبون والأشرار، الشجعان والجبناء، الأغنياء والفقراء، من يتقدمون بالنصائح الطيبة وأولئك الذين تملأ أفواههم أحاديث السكارى، ومن أجل هذا يا صديقي فمهما كانت النغمة التي تعزفها في الأرض فإن شخصا ما يستطيع دائما أن يرقص عليها .. أحييك.
الفصل العاشر
كان «توني كلارك» قد أمضى ما يقرب من شهر ونصف في «أوكبيري»، لكن كثيرا من أمتعته بما فيها الأواني الخزفية لم تصل إلا منذ أسبوعين فقط، قبل اليوم الذي قام فيه بجولة إلى الدغل؛ ولهذا لم يكن قادرا على تقديم الدعوة إلى كابتن «وينتربوتوم» لتناول الطعام في منزله.
شعر السيد «كلارك» باضطراب وقلق أثناء انتظاره لقدوم ضيفه؛ فقد كانت إحدى مشاكل العيش في مثل هذا المكان مع أربعة فقط من الأوروبيين؛ أن يكون ناجحا في استضافته لشخص مثل «وينتربوتوم»، خاصة وأن ثلاثة من الأوروبيين كانوا غير مسئولين .. لم يكن هذا لقاءه الأول مع «وينتربوتوم»؛ فقد تناولا الغداء معا منذ أيام قليلة، لكن «كلارك» لم يحسم معه وقتئذ كل الأشياء، كما أنه كان ضيفا بدون مسئولية تؤرقه. أما اليوم فهو المضيف، وعليه أن يدير النقاش بذكاء من خلال الطقوس الطويلة المملة للشراب والطعام والقهوة، وغالبا ما يمتد الشراب حتى منتصف الليل .. فكر في دعوة شخص ما وليكن «جون رايت»، الذي صار صديقا له أثناء جولته الأخيرة، لكنه تراجع وقال: لا، ليس من الصواب أن أفعل ذلك.
كان «كلارك» قد التقى ب «رايت» خارج «أوموارو»، وشاركه سقف القش الوحيد في الاستراحة ليلة واحدة أثناء جولته، ثم أمضى أسبوعين في النصف الآخر من الاستراحة التي كانت تتكون من حجرتين كبيرتين، كل منهما تحتوي على سرير يشبه أسرة المعسكرات وشبكة قديمة للناموس وطاولة خشبية وكرسي ودولاب. وكانت توجد بالخلف مظلة من القش يستخدمونها كمطبخ، وعلى بعد ثلاثين ياردة كان ثمة كوخ صغير به مقعد خشبي يستخدمونه كمرحاض ، ثم كوخ ثالث في نفس الاتجاه يأوي إليه الخدم والبوابون .. كانت الاستراحة محاطة بأوراق من الزرع غريبة لم ير «كلارك» مثلها في أي مكان آخر.
كان آخر شخص قد غادر المكان إلى الأدغال ومعه السريران، ومنذ ذلك الحين بدا المكان مهجورا وقذرا إلى أن أعادوا السريرين، لكنهم احتفظوا في الإدارة بمفتاح المبنى الرئيسي ومفتاح المرحاض، حتى إذا جاء أحد الأوروبيين في جولة وكان محتاجا للإقامة فعليه أن يأخذ المفتاح من البواب أو الخولي .. كان رئيس الكتبة القومي هو الذي يجيء بالمفتاح من مكتب الكابتن «وينتربوتوم»، وذات مرة نسي رئيس الكتبة أن يسلم المفتاح عندما كان ضابط البوليس السيد «واد» ذاهبا إلى «أوموارو»، فاضطر إلى السير ستة أو سبعة أميال في الليل لإحضار المفتاح، وكان من حسن حظه أن السيد «واد» لم ينزعج أبدا، وكان قد أرسل صبيانه من قبله لتنظيف المكان.
شعر «توني كلارك» أثناء تجواله حول الاستراحة والأراضي التابعة لها أن المسافة إلى مبنى الإدارة تقدر بمئات الأميال، وكان مستحيلا التصديق بأنها ليست سوى ستة أو سبعة أميال فقط، حتى الشمس كانت تبدو في اتجاهات مختلفة، ولا عجب في أن القوميين يعتبرون ستة أميال من المشي وكأنها سفر إلى بلد أجنبي.
Unknown page