لا حزن يحكمه، لا خوف يشغله
عن المكارم حال الحرب والباس
انظر إلى كسره الأصنام منفردا
بلا معين، فذاك اللين القاسي
وقد بناه على قصة إبراهيم وأنه جاد بنفسه للنار، إيثارا للحق، وعلى الجملة فقد أدخلها الصوفية في مذهبهم، وصبغوها بصبغتهم، وجعلوها مقاما من مقاماتهم، وملئت بها كتبهم، ونقلوها من المعنى الدنيوي إلى المعنى الديني كالزهد والإيثار وضبط النفس، وحملها على الحق مهما استتبع ذلك من المكاره. (3)
وجدنا الناس يستعملون الكلمة في نوع من الناس هم الشبان الأشداء الذين يتباهون بقوتهم. ثم يهددون الناس في أموالهم وفي أنفسهم، ومن هذا القبيل ما جاء في الرسالة القشيرية، ومن أن شقيق بن إبراهيم البلخي كان يتغنى ويعاشر الفتيان، وكان علي بن عيسى بن ماهان، أمير بلخ، وكان يحب كلاب الصيد، ففقد كلبا من كلابه. فسعى برجل أنه عنده فطلب الرجل فهرب. فدخل دار شقيق مستجيرا، فمضى شقيق إلى الأمير، وقال: خل سبيله، فإن الكلب عندي أرده إليكم إلى ثلاث أيام. فلما كان اليوم الثالث كان رجل من أصدقائه غائبا من بلخ رجع إليها، فوجد في الطريق كلبا عليه كلاب، فقال: أهديه إلى شقيق فإنه يشتغل بالتفتي، فنظر شقيق إليه فإذا هو كلب الأمير، فسر به وحمله إليه وتخلص من الضمان، فرزق الله الرجل الانتباه، وتاب مما كان فيه، وسلك طريق الزهد.
ومن ذلك ما جاء من أن أحمد بن خضرويه قال لامرأته: أريد أن أتخذ دعوة أدعو فيها عيارا شاطرا كان بلدهم رأس الفتيان. والعيارون الشطار هم فئة ينطبق عليهم ما ذكرنا من اعتزازهم بالقوة، واستخدامها في التهديد والسلب والنهب.
ثم كان هناك نوع رابع تستعمل فيه الكلمة، هو نوع من الفروسية المنظمة، فقد اشتهرت ألعاب الفروسية في العصر العباسي ونظمت، وكثر اللعب بالبندق والخروج به لرمي الصيد. فقد ذكر الأغاني في سبب موت الشاعر أبي العبر أنه خرج إلى الكوفة ليرمي بالبندق مع الرماة من أهلها، فسمعه بعضهم يقول قولا سيئا في علي فقتله. كما عنوا بلعب الكرة والصولجان وبالصيد والقنص، وقال الفخري: إن المعتصم كان ألهج الناس بالصيد، وبنى في أرض دجيل حائطا طوله فراسخ كثيرة. وكان إذا ضرب حلقة يضايقونها، ولا يزالون يحدون الصيد حتى يدخلوه وراء ذلك الحائط، فيصير بين الحائط وبين دجلة، فلا يكون للصيد مجال، فإذا انحدر في ذلك الموضع دخل هو وأقاربه وخواص حاشيته وتأنقوا في القتل، وتفرجوا، فقتلوا ما قتلوا، وأطلقوا الباقي. وكانوا يعدون هذه الأنواع من صيد ورمي ونحوهما من قبيل الفتوة.
بل ربما كانت تنعقد أواصر الفتوة بين جماعة لمناسبة من المناسبات كغربة أو نحو ذلك، فتشتد بينهم الصداقة، ويتعاونون على السراء والضراء، وإن لم تجمعهم جامعة من قبل، كالذي حكي أن رجلين من بني أسد خرجا إلى أصبهان فآخيا دهقانا بها، وتعاقدوا جميعا على أن يكونوا فتية صدق يضمن أحدهم للآخرين ما يحتاجون إليه، فمات أحد بني أسد في موضع يقال له راوند، فظل هو والدهقان ينادمان قبره؛ يشربان كأسين ويصبان على قبره كأسا ثم مات الدهقان، فكان الأسدي ينادم قبريهما، فيشرب قدحا ويصب على قبريهما قدحين، ويتغنى بهذه الأبيات:
خليلي هبا طالما قد رقدتما
Unknown page