شكر وتقدير
أبعاد
أدب
حافة وينلوك
حفر-عميقة
جذور حرة
وجه
بضع نساء
لعب أطفال
الحرش
سعادة مفرطة
شكر وتقدير
أبعاد
أدب
حافة وينلوك
حفر-عميقة
جذور حرة
وجه
بضع نساء
لعب أطفال
الحرش
سعادة مفرطة
سعادة مفرطة
سعادة مفرطة
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
غادة الحلواني
مراجعة
محمد إبراهيم الجندي
سارة عادل
إلى ديفيد كونلي
شكر وتقدير
اكتشفت صوفيا كوفالفسكي بينما كنت أبحث عن شيء آخر في الموسوعة البريطانية ذات يوم. أسر انتباهي ذلك المزيج بين الروائية وعالمة الرياضيات، وبدأت أقرأ كل شيء عنها استطعت أن أعثر عليه. كتاب واحد تملكني دون غيره؛ ولهذا يجب أن أسجل شكري وامتناني الكبيرين لمؤلفي «عصفور الدوري الصغير: لمحات من حياة صوفيا كوفالفسكي» (أوهايو يونيفيرستي برس، أثينس، أوهايو، 1883)؛ دون إتش كينيدي وزوجته نينا، اللذين ينحدران من عائلة صوفيا، وقد أمداني بكثير من النصوص المترجمة عن الروسية، التي ضمت أجزاء من مذكرات صوفيا، ورسائل وكتابات أخرى عديدة.
لقد قصرت القصة على الأيام التي سبقت وفاتها، مع الرجوع أحيانا لفترات من حياتها المبكرة، لكني أدعو أي شخص مهتم بأن يقرأ كتاب كينيدي الذي يقدم ثراء تاريخيا ورياضيا هائلا.
أليس مونرو
كلينتون، أونتاريو
كندا
يونيو 2009
أبعاد
اضطرت دوري أن تستقل ثلاث حافلات؛ واحدة إلى كينكاردين، حيث انتظرت المتجهة إلى لندن، ثم انتظرت مرة أخرى حافلة المدينة المتجهة إلى مركز التأهيل. بدأت الرحلة يوم الأحد في التاسعة صباحا؛ وبسبب فترات الانتظار بين مواعيد الحافلات، لم تقطع المائة ميل سفرا إلا مع حلول الساعة الثانية بعد الظهر. لم تكن تبالي بكل هذا الجلوس، سواء في الحافلات أم في المحطات؛ فعملها اليومي ليس من النوع الذي تؤديه وهي جالسة.
كانت عاملة تنظيف في نزل سبروس بلو. كانت تدعك الحمامات وتغير ملاءات الأسرة وترتبها وتكنس السجاد بالمكنسة الكهربائية وتلمع المرايا. أحبت عملها؛ شغل عقلها بقدر معين، وأنهكها بحيث كانت تستطيع النوم في الليل. نادرا ما واجهت فوضى؛ على الرغم من أن النساء اللواتي كن يعملن معها يمكن أن يحكين قصصا تجعل شعر رأسك يقف. كان هؤلاء النسوة أكبر منها سنا، واعتقدن جميعا، أنها يجب أن تحصل على عمل أفضل. قلن لها: إنه يجب عليها أن تتدرب على وظيفة مكتبية بينما لا تزال شابة صغيرة وتتمتع بمظهر مقبول. لكنها كانت راضية عما تفعله؛ فلم تكن ترغب في أن تضطر إلى التحدث مع الناس.
لم يعرف أحد ممن عمل معها ما حدث؛ أو لو كانوا يعلمون، فلم يكشفوا عنه. نشرت الجريدة صورتها؛ استخدمت الصورة التي التقطها هو لها هي والأطفال الثلاثة: المولود الجديد، ديميتري بين ذراعيها، وباربرا آن وساشا على الجانبين ينظران. كان شعرها طويلا ومموجا وبني اللون حينئذ، وطبيعيا في تجعيداته ولونه، كما كان يحبه، ووجهها خجولا وناعما؛ صورة عكست كيف أراد أن يراها أكثر مما عكستها هي فعلا.
منذ ذلك الحين، قصت شعرها قصيرا وصبغته بلون فاتح، وفقدت كثيرا من وزنها. استخدمت اسمها الثاني حاليا: فلور. كذلك كان العمل الذي وجدوه لها في بلدة بعيدة عن التي كانت تعيش فيها.
كانت هذه المرة الثالثة التي قامت فيها بالرحلة. رفض في المرتين الأوليين أن يراها. ولو فعل هذا مرة ثانية فربما تتخلى عن محاولاتها، وحتى لو رآها، فقد لا تأتي مرة أخرى لفترة من الزمن. لم تنو أن تسرف في حماسها، وفي الحقيقة، لم تكن تعرف حقا ماذا تنوي أن تفعل.
في الحافلة الأولى لم تعان كثيرا. استقلتها ونظرت إلى المشاهد الطبيعية فقط. كانت قد نشأت على الساحل، حيث كان هناك شيء ما يشبه الربيع، لكن هنا، يقفز الشتاء مباشرة تقريبا إلى الصيف. منذ شهر سقط الثلج، والآن الجو حار بما يكفي للخروج بملابس بلا أكمام. مساحات ساطعة من المياه تغطي الحقول، وتنهمر أشعة الشمس عبر فروع الشجر العارية.
في الحافلة الثانية، بدأت تشعر بالتوتر، ولم تستطع أن تمنع نفسها من محاولة تخمين أي من النساء اللواتي حولها تتجه إلى المكان نفسه. كن يسافرن وحدهن، وارتدين ملابسهن غالبا بقدر من العناية، ربما ليبدون كأنهن ذاهبات إلى الكنيسة. بدت النساء الأكبر عمرا منهن وكأنهن تنتمين إلى كنائس تقليدية متزمتة، حيث يجب عليهن ارتداء التنورات والجوارب ونوع من القبعات؛ في حين تنتمي الأصغر سنا على الأرجح إلى رعية أكثر حيوية تتقبل ارتداء البذل والوشائح البراقة والحلقان وتسريحات الشعر المرسل.
لم تكن دوري تلائم أيا من الفئتين؛ فخلال فترة عملها طيلة عام ونصف، لم تشتر لنفسها قطعة ثياب واحدة جديدة. ارتدت زي العمل الرسمي في ساعات عملها، وبنطلون الجينز في أي مكان آخر. أقلعت عن التزين لأنه لم يكن يسمح به، والآن، على الرغم من أنها تستطيع هذا، لم تتزين. لم يناسب شعرها القصير الأصفر بلون الذرة وجهها الهزيل الخالي من الزينة، لكن لم يكن هذا مهما.
في الحافلة الثالثة، جلست على مقعد يجاور النافذة، وحاولت أن تهدئ نفسها بأن تقرأ اللافتات: لافتات الإعلانات ولافتات الشوارع على السواء. استخدمت حيلة معينة كانت قد تعلمتها لتبقي ذهنها مشغولا. أخذت حروف أي كلمة تقع عليها عيناها، وحاولت أن ترى كم كلمة جديدة يمكن أن تستخرجها منها. «قهوة»، على سبيل المثال، يمكن أن تعطيك «هو» و«قوة» و«هوة»؛ وكلمة «متجر» يمكن أن تعطي «مرج» و«رجم» و«جرم» - مهلا - و«مر». كانت الكلمات وفيرة على الطريق خارج المدينة بينما يمرون بلوحات الإعلانات والمحال التجارية شديدة الضخامة، ومسابقات السحب على السيارات، حتى البالونات التي تطفو فوق الأسطح للإعلان عن التنزيلات. •••
لم تخبر دوري السيدة ساندس عن محاولتيها الأخيرتين، والأرجح أنها لن تخبرها عن هذه المرة أيضا. كانت السيدة ساندس، التي كانت دوري تراها فيما بعد ظهيرة أيام الإثنين، تتحدث عن التطلع للمستقبل، على الرغم من أنها كانت تقول دوما إن هذا سوف يستغرق بعض الوقت، وإنه لا يجب استعجال الأمور. قالت لدوري إنها تبلي بلاء حسنا، وإنها تستكشف تدريجيا مكامن قوتها.
قالت: «أعرف أن هذه الكلمات أصبحت مبتذلة حتى الموت، لكنها تظل صحيحة.»
احمر وجهها حين انتبهت لما قالته - «الموت» - لكنها لم تزد الأمر سوءا بالاعتذار.
حين كانت دوري في السادسة عشرة من عمرها - منذ سبع سنوات مضت - كانت تزور أمها في المستشفى كل يوم بعد انتهاء يومها الدراسي. كانت أمها تتعافى من عملية أجرتها في ظهرها، أخبرها الأطباء أنها عملية كبيرة لكن ليست خطيرة. كان لويد ممرضا. جمعهما، هو ووالدة دوري، أنهما خنفسا (هيبز) قديمان؛ على الرغم من أن لويد كان أصغر ببضع سنوات من والدتها، وحينما كان يتاح له الوقت، كان يأتي ليتحدث معها عن الحفلات الموسيقية والمظاهرات الاحتجاجية التي حضراها معا قبل أن يعرف أحدهما الآخر، والأشخاص البشعين الذين عرفاهم ورحلات المخدرات التي أفقدتهما الوعي، وأشياء من هذا القبيل.
كان لويد محبوبا بين المرضى بسبب مزحاته ومهارته الواثقة والقوية. كان قصيرا وقويا وممتلئ الجسم وعريض الكتفين وسلطويا بما يكفي لكي يظن في بعض الأحيان أنه طبيب (لم يكن هذا يسعده؛ فقد كان مقتنعا أن كثيرا من الأدوية مزيفة وأن كثيرا من الأطباء حمقى). كان لديه جلد حساس ضارب إلى الحمرة، وشعر فاتح اللون، وعينان جريئتان.
قبل دوري في المصعد، وقال لها إنها زهرة في صحراء، ثم ضحك من نفسه وقال: «يا لي من مبتذل!»
قالت متلطفة: «إنك شاعر ولكنك لا تعرف.»
ماتت أمها فجأة في إحدى الليالي بسبب انسداد دموي. كان لدى أم دوري صديقات كثيرات يمكن أن يتعهدن برعايتها - وأقامت مع واحدة منهن لفترة من الزمن - لكن كان لويد، الصديق الجديد، هو الذي تفضله دوري. مع حلول عيد ميلادها التالي كانت حاملا، ثم تزوجت. لم يتزوج لويد قط من قبل، على الرغم من أن لديه طفلين على الأقل، لم يكن متأكدا من مكانهما. لا بد أنهما قد كبرا في ذلك الوقت على أي حال. تغيرت فلسفته في الحياة مع تقدمه في العمر؛ حيث أصبح يؤمن بالزواج، والاستقرار، والإنجاب بلا تحديد للنسل. وعثر على شبه جزيرة سشلت التي عاش عليها مع دوري، والتي أصبحت زاخرة بالناس هذه الأيام؛ أصدقاء قدامى وأساليب حياة قديمة وأحباب قدامى. وسريعا ما انتقل هو ودوري عبر البلاد إلى مدينة اختاراها من اسم على الخريطة: مايلد ماي. حصل لويد على وظيفة في مصنع للآيس كريم، وزرعا حديقة. عرف لويد الكثير عن البستنة، مثلما عرف عن نجارة البيت وتشغيل مدفأة الخشب والحفاظ على سيارة قديمة في حالة جيدة.
ولد ساشا. •••
قالت السيدة ساندس: «طبيعي تماما».
تساءلت دوري: «حقا؟»
كانت دوري تجلس دائما على مقعد مستقيم الظهر أمام مكتب، وليس على الأريكة التي تزينها الورود وتغطيها الوسائد. نقلت السيدة ساندس مقعدها إلى جوار المكتب، بحيث تستطيعان التحدث بدون أي حاجز بينهما.
قالت: «توقعت إلى حد ما أن تفعلي هذا؛ أعتقد أن هذا ما كنت سأفعله لو كنت في مكانك.»
لم تكن السيدة ساندس لتقول هذا في البداية؛ فمنذ عام، كانت أكثر حذرا؛ إذ كانت تعلم أن دوري يمكن أن تغضب من فكرة أن أي إنسان، أي مخلوق، يمكن أن يكون في مكانها. الآن، تعرف أن دوري سوف تعتبرها مجرد وسيلة، بل وسيلة متواضعة، لمحاولة الفهم.
إن السيدة ساندس من نوع مختلف؛ لم تكن رشيقة ولا رفيعة ولا جميلة. ولم تكن كبيرة في السن كذلك. كانت تقريبا في عمر والدة دوري؛ على الرغم من أنها فيما يبدو لم تكن من الخنافس يوما. كان شعرها الرمادي قصيرا، ولديها شامة فوق إحدى عظمتي وجنتيها. وكانت ترتدي أحذية مستوية وبنطلونات فضفاضة وبلوزات مزينة بالورود؛ وحتى عندما تكون بلون وردي أو تركوازي لم تعكس اهتمامها حقا بما ترتديه؛ كما لو أن أحدهم قال لها إنها تحتاج إلى أن تتأنق، فذهبت في طاعة تشتري ما اعتقدت أنه يمكن أن يحقق هذا. أزال وقارها الكبير واللطيف والموضوعي أي مرح مفرط وأي قدر من الإهانة قد تعبر عنه تلك الملابس.
قالت دوري: «حسنا، لم أره في المرتين الأوليين إطلاقا. لم يرغب في الخروج.» - «لكنه خرج هذه المرة؟ خرج، أليس كذلك؟» - «بلى، خرج. بالكاد تعرفت عليه.» - «هل كبر في السن؟» - «أعتقد هذا، أعتقد أنه فقد بعضا من وزنه. وتلك الملابس، الزي الموحد، لم أره قط يرتدي شيئا كهذا.» - «هل بدا لك شخصا مختلفا؟» - «كلا.» ثم عضت دوري شفتها العليا وهي تحاول أن تفكر كيف كان الاختلاف. كان هادئا جدا. لم تره قط هكذا من قبل. لم يعرف حتى إنه سوف يجلس أمامها. كانت كلماتها الأولى له: «ألن تجلس؟» فقال: «هل هذا مناسب؟»
قالت: «بدا خاويا نوعا ما. تساءلت ماذا إذا كانوا يعطونه مخدرا؟» - «ربما شيئا ما ليظل مستقرا. لا أعرف. هل تبادلتما الحديث؟»
تساءلت دوري إذا كان يمكن أن تسميه هكذا. سألته بعض الأسئلة الغبية والعادية؛ كيف يشعر؟ (بخير.) هل يحصل على ما يكفي من الطعام؟ (يظن هذا.) هل هناك مكان يستطيع أن يمشي فيه إذا أراد؟ (نعم، تحت المراقبة. يعتقد أنه يمكن تسميته مكانا. ويعتقد أنه يمكن تسميته مشيا.)
قالت: «يجب أن تحصل على هواء نقي.»
قال: «هذا صحيح.»
سألته ما إذا كان قد كون أي صداقات. بالأسلوب الذي تسأل به أطفالك عن أحوالهم في المدرسة.
قالت السيدة ساندس - وهي تدفع علبة المناديل المفتوحة إلى الأمام: «نعم، نعم.» لم تحتج دوري إليها؛ فقد كانت عيناها جافتين. كان الاضطراب في أسفل بطنها، الجيشان.
انتظرت السيدة ساندس؛ فهي تملك ما يكفي من الخبرة لكي تتركها دون ضغوط.
وكما لو أنه اكتشف ما كانت على وشك أن تقوله، أخبرها لويد أن طبيبا نفسيا كان يزوره ويتحدث معه في أحيان كثيرة.
قال لويد: «أقول له إنه يضيع وقته. أنا أعرف بقدر ما يعرف هو.»
كانت تلك هي المرة الوحيدة التي بدا فيها على طبيعته بالنسبة لدوري.
ظل قلبها يدق طوال الزيارة. اعتقدت أنها يمكن أن تفقد الوعي أو تموت. كان النظر إليه يكلفها مجهودا كبيرا، وأن تراه عيناها رجلا رفيعا اشتعل شعره بالشيب، هيابا مع أنه بارد، ويتحرك حركة آلية وإن كانت مضطربة.
لم تقل أي شيء من هذا للسيدة ساندس؛ فقد تسأل السيدة ساندس، بمكر، ممن كانت خائفة. منه أم من نفسها؟
لكنها لم تكن خائفة. •••
حين بلغ ساشا عاما ونصفا، ولدت باربارا آن، وحين بلغت عامين، رزقا بديميتري. سميا ساشا معا، وبعد ذلك اتفقا على أنه هو من سيختار أسماء الأولاد وهي سوف تختار أسماء البنات.
كان ديميترى أول طفل لهما يصاب بالمغص. ظنت دوري أنه ربما لا يحصل على ما يكفي من الحليب أو أن لبنها لم يكن دسما بما يكفي، أو دسما أكثر مما ينبغي؟ لم يكن هذا صحيحا على أي حال. أحضر لويد سيدة من منظمة لا ليتش للتشجيع على الرضاعة الطبيعية وتكلمت معها. قالت لها السيدة: أيا كان ما تفعلينه، فلا بد أن تمتنعي عن إعطائه أي لبن صناعي مكمل؛ فهذا أول الغيث، وسرعان ما سيلفظ ثديك تماما.
لم تكن تعرف أن دوري كانت تطعمه بالفعل لبنا صناعيا مكملا. وقد بدا حقا أنه يفضله؛ كان يلفظ الثدي أكثر وأكثر. وفي خلال ثلاثة أشهر كان يتغذى كليا على زجاجات اللبن الصناعي، ثم لم تكن هناك طريقة لإخفاء الأمر عن لويد. قالت له إن حليبها جف، وإنها سوف تضطر إلى أن تبدأ بإطعامه حليبا خارجيا. عصر لويد ثديا بعد الآخر بتصميم جنوني ونجح في استخراج بضع قطرات من لبن هزيل. نعتها بالكاذبة؛ فتشاجرا. قال لها إنها عاهرة مثل أمها.
قال إن كل أولئك الخنافس كن عاهرات.
تصالحا سريعا. لكن حينما كان ديميتري يضطرب، حينما يصاب بالبرد، أو يخاف من أرنب ساشا، أو لا يزال يتعلق بالكراسي في العمر الذي كان أخوه وأخته قد بدآ في المشي بلا مساعدة، كان لويد يتذكر عجزها عن إرضاعه طبيعيا. •••
أول مرة ذهبت فيها دوري إلى مكتب السيدة ساندس، أعطتها إحدى النساء هناك كتيبا. كان على غلافه الأمامي صليب ذهبي وكلمات بلون ذهبي وحروف بنفسجية. «حين تفوق خسارتك الاحتمال ...» كان بداخله صورة للمسيح بألوان هادئة مع كلمات أخرى أصغر لم تقرأها دوري.
على مقعدها أمام المكتب، حيث لا تزال تقبض على الكتيب، بدأت دوري ترتجف. كان على السيدة ساندس أن تنتزعه من يدها.
قالت ساندس: «هل أعطاك أحد هذا؟»
قالت دوري - وهي تومئ برأسها تجاه الباب المغلق: «هي.» - «لا تريدينه؟»
قالت دوري: «لحظة سقوطك هي اللحظة التي يهاجمك فيها الجميع.» ثم أدركت أن والدتها قالت هذا حين جاءت بعض السيدات لزيارتها في المستشفى برسالة مشابهة. «يعتقدون أنك سوف تنهارين ثم يكون كل شيء على ما يرام.»
تنهدت السيدة ساندس.
قالت: «حسنا، الأمر ليس بهذه البساطة بالتأكيد.»
قالت دوري: «بل ليس حتى ممكنا.» - «ربما لم يكن ممكنا.»
لم يتحدثا عن لويد في تلك الأيام. لم تكن دوري تفكر فيه قط ما دام بوسعها تجنب ذلك؛ وعندما كانت تفكر فيه كانت تعتبره حادثة فظيعة من حوادث الطبيعة.
قالت - مشيرة إلى ما جاء في الكتيب: «حتى لو آمنت بهذه الأمور، سيكون هذا فقط من أجل ...» كانت تريد أن تقول إن هذا الإيمان القوي يمكن أن يكون مناسبا لأنها تستطيع حينئذ أن تتخيل لويد يحترق في الجحيم، أو شيء من هذا القبيل، لكنها كانت عاجزة عن الاستمرار في الكلام لأنه كان من الغباء جدا أن تتحدث عن الأمر. وبسبب المانع المألوف لديها، كان الأمر أشبه بمطرقة تضربها في بطنها. •••
اعتقد لويد أن أطفاله يجب أن يتلقوا تعليمهم في البيت. لم يكن هذا لدواع دينية - كعدم الإيمان بوجود الديناصورات، وإنسان الكهف، والقرود وكل هذه الأشياء - بل لأنه أرادهم أن يكونوا قريبين من والديهم وأن يتعرفوا على العالم بحرص وبالتدريج، عوضا عن أن يلقوا فيه مرة واحدة. قال: «أعتقد أنهم أطفالي؛ أعني أنهم أطفالنا وليسوا أطفال وزارة التعليم.»
لم تثق دوري أنها تستطيع التعامل مع هذا، لكن اتضح أن وزارة التعليم لديها إرشادات وخطط دروس يمكن أن تحصل عليها من المدرسة المحلية. كان ساشا ولدا ذكيا، علم نفسه فعليا القراءة، وكان الاثنان الآخران لا يزالان صغيرين في السن بعد على أن يتعلما هذا القدر. في الأمسيات والإجازات الأسبوعية، علم لويد ساشا الجغرافيا، والنظام الشمسي، والبيات الشتوي لدى الحيوانات، وكيف تعمل السيارة، بأن غطى كل موضوع بالإجابة على أسئلته عنه. وسرعان ما كان ساشا قد سبق خطط المدرسة التعليمية، لكن دوري كانت تلتزم بها على أية حال، وجعلت ساشا يكمل التمارين في الوقت المحدد التزاما بالقانون.
كان يسكن بالمقاطعة أم أخرى تقوم بالتدريس المنزلي. كان اسمها ماجي، وكان لديها شاحنة صغيرة. احتاج لويد سيارته ليذهب إلى عمله، ولم تتعلم دوري القيادة؛ لهذا كانت تسعد حين تعرض عليها ماجي أن توصلها إلى المدرسة مرة في الأسبوع لكي تقدم التمارين المحلولة وتحصل على الجديدة. بالطبع كانتا تصطحبان كل الأطفال معهما. كان لدى ماجي ولدان. عانى الأكبر من أنواع عديدة من الحساسية حتى إنها اضطرت أن تراقب كل ما يأكله مراقبة صارمة؛ وهذا هو السبب في أنها كانت تعلمه في البيت. ثم بدا أنها يمكن أن تبقي الأصغر في البيت كذلك. لقد أراد أن يبقى مع أخيه وكان يعاني من الربو على كل حال.
كم شعرت دوري بالامتنان حينئذ بمقارنتهما بأطفالها الأصحاء الثلاثة. قال لويد إن السبب هو أنها أنجبت كل أطفالها حين كانت لا تزال يافعة، بينما انتظرت ماجي حتى بلغت حافة سن اليأس. كان يبالغ في تقديره لعمر ماجي، لكن كان صحيحا أنها انتظرت. عملت بمهنة فني صناعة نظارات. كانت شريكة زوجها، ولم يبدآ في تكوين عائلة حتى تستطيع ترك المهنة، وكان لديهما بيت في الريف.
كان شعر ماجي خليطا من الأبيض والأسود، وقصيرا جدا. كانت طويلة، ذات صدر مستو غير بارز، مبتهجة وعنيدة. وكان لويد يدعوها «ليزي» (السحاقية)؛ من وراء ظهرها فقط بالطبع. كان يمازحها في التليفون لكن يهمس لدوري: «ليزي». لم يزعج هذا دوري فعليا؛ فهو قد نعت عديدا من النساء بهذا، لكنها خشيت أن ترى ماجي مزاحه ودا مبالغا فيه، أو تطفلا، أو على الأقل مضيعة للوقت. - «تريدين التحدث إلى السيدة العجوز؟ نعم، إنها هنا. تغسل على لوح الغسيل. نعم، أجعلها تعمل كالعبيد. هي قالت لك هذا؟» •••
اعتادت دوري وماجي أن تشتريا البقالة معا بعد أن تحضرا الأوراق من المدرسة، ثم في بعض الأحيان تحتسيان القهوة في تيم هورتونس وتأخذان الأطفال إلى حديقة ريفرسايد. تجلسان على أحد المقاعد الطويلة بينما يتسابق ساشا وأطفال ماجي حولهما أو يتدلون من آلة جديدة للتسلق، وباربرا آن تتأرجح وديميتري يلعب في ملعب الرمل؛ أو تجلسان في الحافلة الصغيرة إذا كان الجو باردا. تتحدثان معظم الوقت عن الأطفال وما تطبخان. لكن بطريقة ما، اكتشفت دوري كم ترحلت ماجي في أوروبا قبل أن تتلقى تدريبها في صناعة النظارات، واكتشفت ماجي كم كانت دوري صغيرة في السن حين تزوجت. وكذلك كيف حبلت بسهولة في البداية، وكيف لم يعد هذا سهلا بعد ذلك، وكيف جعل هذا لويد متشككا، بحيث فتش أدراجها بحثا عن حبوب منع الحمل؛ اعتقادا منه أنها تتناولها في الخفاء.
سألت ماجي: «وهل تأخذينها؟»
صدمت دوري. ثم قالت إنها لا تجرؤ على هذا. - «أقصد، أعتقد أنه أمر شنيع أن أتناول حبوبا دون أن أخبره. كانت مجرد مزحة منه حين بدأ يفتش عنها.»
قالت ماجي: «أوه!»
وذات مرة، سألتها ماجي: «هل كل شيء على ما يرام؟ أقصد زواجك؟ هل أنت سعيدة؟»
قالت دوري نعم، بدون تردد. بعد ذلك أصبحت حذرة فيما تقوله. رأت أنها اعتادت أشياء قد لا يفهمها الآخرون. كان للويد نظرته الخاصة إلى الأمور: هكذا كان فحسب. حتى حين قابلته أول مرة في المستشفى، كان هكذا. كانت رئيسة الممرضات من النوع المتكلف، لهذا سماها السيدة «بيتش أوت أوف هيل» (عاهرة من الجحيم)، بدلا من اسمها الذي كان «السيدة ميتشيل». كان ينطق الاسم سريعا جدا حتى إنك بالكاد تستطيع أن تلتقطه. كان يعتقد أنها تحابي المفضلين لديها، وأنه ليس واحدا منهم. والآن هناك شخص يمقته في مصنع الآيس كريم؛ شخص أسماه «لوي ماص القضيب». لم تعرف دوري اسم الرجل الحقيقي. لكن على الأقل برهن هذا أن من يثير حفيظته ليس النساء فقط.
كانت دوري متأكدة أن هؤلاء الناس ليسوا بهذا السوء الذي يظنه لويد، لكن لا طائل من معارضته. ربما يحتاج الرجال إلى أعداء فقط، كما يحتاجون إلى النكات. وفي بعض الأحيان كان لويد يحول الأعداء إلى نكات، تماما كما لو كان يضحك من نفسه. كان يسمح لها حتى أن تضحك معه، ما دامت ليست هي من بدأت الضحك.
أملت ألا يكون هذا سلوكه مع ماجي. في بعض الأوقات شعرت بالخوف حين رأت شيئا من هذا القبيل على وشك الحدوث. إذا منعها من الركوب مع ماجي إلى المدرسة والبقالة، فسوف يسبب لها هذا إزعاجا كبيرا. لكن الأسوأ هو إحساس الخزي. كان يجب عليها أن تلفق أكذوبة ما لتوضح الأمور. لكن ماجي قد تعرف؛ على الأقل قد تعرف أن دوري تكذب، وعلى الأرجح سوف تفسر هذا على أن دوري كانت في موقف أسوأ مما هي عليه فعليا. وماجي لديها نظرتها الثاقبة الخاصة للأمور.
لكن بعد ذلك، سألت دوري نفسها لماذا عليها أن تهتم بما تعتقده ماجي. كانت ماجي غريبة عنها، لم تكن حتى شخصا شعرت دوري بالراحة معه. كان لويد من قال هذا، وكان محقا. إن حقيقة الأمور بينهما، الرابطة بينهما، ليست شيئا يمكن أن يفهمه أي شخص آخر ولا يعني أحدا آخر. لو استطاعت دوري الحفاظ على إخلاصها، كل شيء سيكون على ما يرام. •••
ازداد الأمر سوءا بالتدريج؛ ما من منع مباشر، ولكن المزيد من النقد. خرج لويد بنظرية أن الحساسية التي يعاني منها أطفال ماجي والربو ربما نتيجة خطأ ماجي. قال إن الأم هي السبب عادة. لقد اعتاد أن يرى هذا في المستشفى طوال الوقت؛ الأم المسيطرة وعادة المتعلمة زيادة عن اللازم.
قالت دوري باندفاع: «يولد الأطفال أحيانا بمرض ما فحسب، لا تستطيع أن تقول إنها الأم كل مرة.» - «أوه! لم لا أستطيع؟» - «لا أعني (أنت). لا أعني أنك لا تستطيع، أعني، أليس من الممكن أن يولدوا بمرض ما؟» - «منذ متى أصبحت خبيرة في الطب؟» - «لم أقل إني خبيرة.» - «كلا، لم تقولي. ولست كذلك.»
من سيئ إلى أسوأ. أراد أن يعرف ما الذي كانتا تتحدثان عنه، هي وماجي. - «لا أعرف. لا شيء حقا.» - «هذا غريب. امرأتان في سيارة. أول مرة أسمع بهذا. امرأتان تتحدثان عن لا شيء. إنها عازمة على أن تفرقنا.» - «من؟ «ماجي»؟» - «خبرتي كبيرة مع هذا النوع من النساء.» - «أي نوع؟» - «نوعها.» - «لا تكن سخيفا.» - «احذري. لا تقولي عني سخيفا.» - «ولماذا تراها تريد أن تفعل هذا؟» - «كيف لي أن أعرف؟ هي فقط تريد أن تفعل هذا. انتظري. سوف ترين. سوف توصلك إلى هذا بالصياح والأنين والشكوى من وحشيتي، في أحد تلك الأيام البغيضة.» •••
وقد تحقق ما قاله في الحقيقة. على الأقل، سوف يبدو له الأمر كذلك. وجدت نفسها حوالي العاشرة مساء في إحدى الليالي في مطبخ ماجي، تحبس دموعها وتحتسي شايا بالأعشاب. حين طرقت الباب قال زوج ماجي: «من الآتي في تلك الساعة؟» وسمعته عبر الباب. لم يعرف من هي. وبينما كان يحدق بها بحاجبين مرفوعين وفم مزموم، قالت: «أنا آسفة جدا للإزعاج.» ثم جاءت ماجي.
مشت دوري الطريق كله في الظلام، في البداية على الطريق المفروش بالحصى الذي سكنت هي ولويد عنده، ثم على الطريق السريع. كانت تتجه إلى جانب الطريق مع كل مرة تمر فيها سيارة، وهذا أبطأها كثيرا. نظرت إلى السيارات التي مرت بها اعتقادا منها أن واحدة منها يمكن أن تكون سيارة لويد. لم تكن ترغب في أن يعثر عليها، ليس الآن، ليس قبل أن يشعر بالرعب حتى يفقد عقله. استطاعت في بعض الأحيان أن تصيبه بالرعب بجنونها، بأن تنتحب وتولول، بل وتضرب رأسها في الأرض، وهي تردد: «ليس صحيحا، ليس صحيحا، ليس صحيحا» مرة بعد مرة. أخيرا كان يتراجع. كان يقول: «حسن، حسن. سأصدقك. اهدئي يا عزيزتي. فكري في الأطفال. سوف أصدقك، حقا. فقط توقفي.»
لكنها هذه الليلة تمالكت نفسها في اللحظة التي كانت على وشك أن تبدأ فيها هذا الأداء. ارتدت معطفها وخرجت من الباب وهو يناديها: «لا تفعلي هذا. أحذرك.»
ذهب زوج ماجي إلى السرير، وهو لا يبدو سعيدا بالأمر، بينما ظلت دوري تقول: «أنا آسفة، آسفة جدا أن أزعجكم في هذه الساعة من الليل.»
قالت ماجي في نبرة عملية: «أوه! اسكتي. هل ترغبين في كأس نبيذ؟» - «أنا لا أشرب.» «إذن من الأفضل ألا تبدئي الآن. سوف أحضر لك بعض الشاي. إنه مهدئ جدا. بابونج مع التوت. لا يتعلق الأمر بالأطفال، أليس كذلك؟» - «بلى.»
أخذت ماجي معطفها ، وأعطتها ربطة من المناديل لتمسح عينيها وأنفها، وقالت: «لا تخبريني بأي شيء الآن. سوف تهدئين بسرعة.»
حتى حين هدأت جزئيا، لم ترغب دوري في أن تفشي الحقيقة كلها فتعرف ماجي أنها لب المشكلة. علاوة على هذا، لم ترغب في أن تضطر إلى شرح سلوكيات لويد. فمهما كانت درجة الإرهاق التي تعانيها معه، فلا يزال أقرب شخص لها في العالم، وشعرت أن كل شيء سوف ينهار إذا انتهى بها الحال إلى أن تخبر أي أحد عن طبيعته؛ إذا أصبحت غير وفية.
قالت إنها تجادلت معه بشأن أمر قديم، وإنها شعرت بالإرهاق والتعب، وكل ما رغبت فيه هو أن تخرج. لكنها سوف تتجاوز الأمر. سوف يتجاوزانه.
قالت ماجي: «يحدث هذا مع كل الأزواج في وقت من الأوقات.»
رن التليفون حينئذ وردت ماجي. - «نعم، إنها بخير. أرادت فقط أن تنفس عن ضيقها. حسن. حسنا إذن، سوف أوصلها إلى البيت في الصباح. لا توجد مشكلة. حسن. طاب مساؤك.»
قالت: «كان هو. أعتقد أنك سمعت.» - «كيف كان؟ هل كان طبيعيا؟»
ضحكت ماجي قائلة: «حسنا ... لا أعرفه حين يكون طبيعيا، كيف لي أن أعرف؟ لم يبد مخمورا.» - «هو لا يشرب كذلك. ليس لدينا قهوة حتى في البيت.» - «هل تريدين بعض الخبز المحمص؟» •••
في الصباح الباكر، أخذتها ماجي إلى البيت. لم يكن زوج ماجي قد ذهب إلى عمله بعد، وجلس مع الطفلين.
كانت ماجي مستعجلة في العودة، لهذا اكتفت بالقول: «مع السلامة. اتصلي بي إذا أردت التحدث» وهي تستدير بشاحنتها الصغيرة في الفناء.
كان صباحا باردا في بواكير الربيع؛ ولا يزال الجليد على الأرض، لكن لويد كان يجلس على الدرج بدون جاكيت. - «صباح الخير»؛ قالها بصوت مرتفع ونبرة مهذبة على نحو ساخر. وردت هي: «صباح الخير» بنبرة حاولت أن تتظاهر بها أنها لم تلاحظ سخريته.
لم يتنح جانبا لكي يترك لها مجالا لتصعد الدرج.
قال: «لا يمكنك الدخول.»
قررت أن تأخذ هذا باستخفاف.
قالت: «حتى لو قلت من فضلك؟ من فضلك.»
نظر إليها لكن لم يجبها. ضحك بشفتين مضمومتين.
قالت: «لويد! لويد!» - «من الأفضل ألا تدخلي.» - «لم أقل لها أي شيء يا لويد. أعتذر لأني غادرت. احتجت فقط متنفسا ... على ما أظن.» - «من الأفضل ألا تدخلي.» - «ما بك! أين الأطفال؟»
هز رأسه، كما يفعل حين تقول شيئا لا يحب أن يسمعه. شيء وقح نسبيا مثل «هراء». - «لويد! أين الأطفال؟»
تنحى قليلا جدا حتى تستطيع أن تمر إذا شاءت. ديميتري ساكن في سريره يرقد على جانبه. باربرا آن على الأرض بجانب سريرها، كما لو أنها وقعت أو سحبها أحدهم. ساشا ملقى إلى جانب باب المطبخ؛ إذ كان قد حاول الهرب. كان الوحيد الذي تحيط رقبته كدمات زرقاء. تكفلت الوسادة بالآخرين.
قال لويد: «حين اتصلت ليلة أمس؟ حين اتصلت، كان ما حدث قد حدث. هذا ما جنيته على نفسك.» •••
صدر الحكم أنه مجنون ولا يمكن محاكمته. كان مجنونا على نحو إجرامي؛ يجب أن يوضع في مؤسسة صحية آمنة.
ركضت دوري من المنزل، وتعثرت في الساحة وهي تلف معدتها بذراعيها بقوة كما لو أنها مشقوقة وتحاول أن تحتفظ بها بالداخل. كان هذا هو المشهد الذي رأته ماجي حين عادت. حدست شيئا ما، فاستدارت عائدة بشاحنتها الصغيرة على الطريق. كانت أول فكرة خطرت لها حين رأت المشهد أن زوج دوري ضربها أو ركلها في معدتها. لم تفهم أي شيء من ضجيج دوري. لكن لويد الذي كان لا يزال جالسا على الدرج، تنحى جانبا بتهذيب لها بدون أن ينطق بكلمة واحدة، ودخلت إلى المنزل ووجدت ما توقعت أن تجده. اتصلت بالشرطة.
ظلت دوري لفترة تحشو فمها بكل ما تستطيع الوصول إليه. بعد التراب والحشيش، حشت فمها بالفوط أو بملابسها. بدت وكأنها لا تحاول أن تكتم العويل فقط بل تكتم المشهد كله في رأسها. أصبحت تأخذ حقنة ما بانتظام لتهدئتها، وكان لها مفعول. في الحقيقة، أصبحت هادئة جدا، لكن لم تصب بالتبلد. كان يقال إنها في حالة مستقرة. حين خرجت من المستشفى، وجاءت بها موظفة الشئون الاجتماعية لهذا المكان الجديد، تولت السيدة ساندس الأمر ووجدت لها مكانا لتسكن فيه، ووجدت لها وظيفة، ورسخت عادة أن تتحدث إليها مرة في الأسبوع. أرادت ماجي أن تزورها، لكنها كانت الشخص الوحيد الذي لم تحتمل دوري رؤيته. قالت السيدة دوري إن هذا الشعور طبيعي؛ إنه تداعي الأفكار. قالت إن ماجي سوف تفهم.
قالت السيدة ساندس إن استمرار دوري في زيارة لويد هو أمر يعود إليها. قالت: «أنا لست هنا لكي أوافق أو أرفض. هل تشعرين بشعور جيد إذا رأيته؟ أم سيئ؟» - «لا أعرف.»
لم تستطع دوري أن تشرح أن من رأته ليس هو حقا. وكأنها كانت ترى شبحا تقريبا. كان شاحبا جدا. ملابس فضفاضة باهتة عليه، حذاء لا يصدر صوتا - ربما خف - في قدميه. تعتقد أن بعضا من شعره قد سقط. شعره الكثيف والمموج والعسلي. لم تبد كتفاه عريضتين، لم تر التجويف عند عظمة ترقوته حيث اعتادت أن تريح رأسها.
كان ما قاله بعد ذلك للشرطة - وذكرته الصحف - هو: «فعلت هذا لأجنبهم المعاناة.»
أي معاناة؟
قال: «معاناة أن يعرفوا أن أمهم تخلت عنهم.»
حفر هذا في عقل دوري، وربما حين قررت أن تحاول أن تراه، كان بدافع أن يتراجع عنه. أن تجعله يرى، ويعترف، كيف سارت الأمور حقا. - «قلت لي أن أتوقف عن معارضتك أو أخرج من البيت؛ لذا خرجت من المنزل.» «ذهبت إلى ماجي لليلة واحدة فقط. كانت لدي نية حقيقية أن أعود. لم أتخل عن أحد.»
كانت تتذكر بوضوح كيف بدأ الشجار. اشترت علبة اسباجتي بها انبعاج بسيط جدا. ولهذا كان عليها تخفيض في السعر، وأسعدها أن توفر بعض المال. اعتقدت أنها تقوم بعمل ذكي. لكنها لم تقل له هذا، ما إن بدأ يستجوبها عن العلبة. لسبب ما اعتقدت أنه من الأفضل أن تدعي أنها لم تلاحظ الانبعاج.
قال إن أي شخص سيراه بوضوح. كان يمكن أن نتسمم كلنا. ماذا دهاها؟ أم أن هذا ما كانت تفكر فيه؟ هل كانت تخطط لتجربته على الأطفال أم عليه؟
قالت له ألا يكون مجنونا.
قال إنه ليس هو المجنون. من يشتري سما لعائلته غير امرأة مجنونة؟
كان الأطفال يشاهدون هذا عند مدخل غرفة المعيشة. كانت هذه آخر مرة رأتهم بها أحياء.
إذن هل هذا ما كانت تفكر به؛ أن تجبره على أن يرى من المجنون في النهاية؟ •••
حين أدركت ما تفكر به، كان يجب أن تترك الحافلة. كان يمكن أن تغادرها حتى عند البوابات، مع النساء الأخريات اللواتي نزلن. كان يمكن أن تعبر الطريق وتنتظر الحافلة العائدة إلى المدينة. بعض الناس فعل هذا على الأرجح. كانوا ينوون القيام بالزيارة ثم قرروا ألا يفعلوا هذا. يفعل الناس هذا طول الوقت على الأرجح.
لكن ربما كان من الأفضل أنها استمرت، ورأته غريبا جدا وضائعا. شخص لا يستحق اللوم على أي شيء. ليس شخصا أصلا. كان أشبه بشخصية في حلم.
كانت تراودها بعض الأحلام. في أحد أحلامها، هربت من المنزل بعد أن وجدتهم، وبدأ لويد يضحك بطريقته القديمة العفوية، ثم سمعت ساشا يضحك خلفها، وبدا لها - على نحو رائع - أنهم جميعا يمزحون معا. ••• - «سألتني هل تشعرك رؤيته بشعور جيد أم سيئ؟ سألتني هذا السؤال آخر مرة، أليس كذلك؟»
قالت السيدة ساندس: «بلى، سألتك.» - «كان يجب أن أفكر في هذا.» - «نعم.» - «لقد حسمت أمري. إن رؤيته تشعرني بالسوء؛ لذا لن أذهب ثانية.»
كان صعبا أن تعرف ما الذي تفكر به السيدة ساندس، لكن الإيماءة التي أعطتها بدا أنها تعبر عن شيء من الرضا أو الموافقة.
لهذا حين قررت دوري أن تذهب مرة ثانية، في النهاية، اعتقدت أنه من الأفضل ألا تذكر هذا. وبما أنه من الصعب ألا تقول كل ما يحدث معها؛ حيث كان قليلا جدا في معظم الوقت، اتصلت وألغت موعدها. قالت إنها سوف تأخذ إجازة. كان الصيف على الأبواب، والإجازات مسألة اعتيادية. قالت: سأذهب مع صديقة. ••• - «لا ترتدين الجاكيت الذي كنت ترتدينه الأسبوع الماضي.» - «لم يكن هذا في الأسبوع الماضي.» - «حقا؟» - «كان منذ ثلاثة أسابيع. الجو حار الآن. هذا أخف، لكني لا أحتاجه حقا. لا أحتاج إلى جاكيت على الإطلاق .»
سأل عن رحلتها، عن الحافلات التي تستقلها من مايل ماي.
أخبرته أنها لم تعد تعيش هناك. أخبرته أين تعيش وعن الحافلات الثلاث. - «هذه رحلة طويلة وشاقة عليك. هل تحبين العيش في مكان أكبر؟» - «من الأسهل الحصول على وظيفة هناك.» - «إذن أنت تعملين؟»
كانت قد أخبرته المرة الماضية أين تعيش، وعن الحافلات، وأين تعمل.
قالت: «أنظف الغرف في نزل صغير. أخبرتك من قبل.» - «نعم، نعم، نسيت. معذرة. هل تفكرين في العودة إلى الدراسة؟ مدرسة ليلية؟»
قالت إنها فكرت لكن ليس بالجدية الكافية أبدا لتقوم بخطوة ما. قالت إن التنظيف لا يزعجها.
ثم بدا وكأنما لا يجدان شيئا آخر يتحدثان عنه.
تنهد قائلا: «آسف، معذرة. أعتقد أني لست معتادا على المحادثات.» - «إذن، ماذا تفعل طوال الوقت؟» - «أعتقد أني أقرأ كثيرا. نوع من التأمل. على نحو ما.» - «أوه!» - «أقدر مجيئك لزيارتي. إنها تعني لي الكثير. لكن لا تعتقدي أنك يجب أن تواظبي على ذلك. أعني، تعالي فقط حين تريدين. إذا جد شيء أو حين ترغبين؛ ما أحاول قوله هو أن حقيقة أنك استطعت المجيء، أنك جئت ولو مرة واحدة، هي مكافأة لي. هل تفهمين ما أعني؟»
قالت إنها تعتقد أنها تفهم.
قال إنه لا يريد أن يتدخل في حياتها.
قالت: «إنك لا تفعل.»
قال: «هل هذا ما كنت ستقولينه؟ ظننت أنك ستقولين شيئا آخر.»
وفي الحقيقة، لقد كادت تقول: أي حياة؟
قالت: «لا، لا شيء آخر.» - «هذا جيد.» •••
بعد ثلاثة أسابيع أخرى، تلقت مكالمة هاتفية. كانت السيدة ساندس بنفسها، وليست واحدة من النساء في المكتب.
قالت السيدة ساندس: «أوه دوري، اعتقدت أنك لم ترجعي بعد من إجازتك. إذن فقد عدت؟»
قالت دوري - وهي تحاول أن تفكر أين يمكن أن تكون قضت إجازتها: «نعم.» - «لكنك لم تحددي موعدا آخر؟» - «لا ليس بعد.» - «لا بأس. كنت أطمئن فحسب؛ هل أنت بخير؟» - «أنا على ما يرام.» - «حسنا، تعرفين مكاني إذا احتجت إلي. إذا أردت فقط أن تتحدثي في أي وقت.» - «نعم.» - «اعتن بنفسك إذن.»
لم تذكر لويد، لم تسأل ما إذا كانت مستمرة في زيارته. نعم، بالطبع؛ فقد قالت دوري إنها لن تستمر في زيارته. لكن السيدة ساندس كانت بارعة عادة في الإحساس بما يحدث. وبارعة جدا كذلك في الإحجام، حين تفهم أن سؤالها لن يفيد. لم تكن دوري تعرف ماذا كانت ستقول لو سألت؛ هل كانت ستخلف وعدها وتكذب أم ستقول الحقيقة. لقد عادت في الحقيقة في الأحد التالي مباشرة بعد أن أخبرها تقريبا أنه لا يهم سواء ذهبت لزيارته أم لم تذهب.
كان مصابا بالبرد. لا يعرف كيف أصيب به.
قال إنه ربما كان مصابا به في المرة السابقة التي رآها فيها، ولهذا كان شكسا جدا. «شكس»، إنها تكاد لا تعرف أحدا يستخدم كلمة كهذه في الوقت الحالي، وبدت الكلمة غريبة عليها. لكنه طالما كان لديه عادة استخدام هذه الكلمات، وبالطبع لم تصدمها تلك الكلمات في الماضي كما الآن.
سألها: «هل أبدو لك شخصا مختلفا؟»
قالت بحذر: «حسنا، تبدو مختلفا. وماذا عني؟ هل أبدو مختلفة؟»
قال بحزن: «تبدين جميلة.»
شيء ما رق بداخلها. لكنها قاومته.
سألها: «هل تشعرين أنك مختلفة؟ هل تشعرين أنك شخص مختلف؟»
قالت إنها لا تعرف. «هل تشعر أنت بذلك؟»
قال: «تماما.» •••
في نهاية الأسبوع تسلمت ظرفا كبيرا في عملها. كان موجها لعنايتها. احتوى عدة أوراق مكتوبة على الوجهين. لم تتصور في البداية أن الظرف منه؛ فقد اعتقدت أنه غير مسموح للسجناء بكتابة الرسائل. لكنه، بالطبع، نوع مختلف من المساجين. لم يكن مجرما؛ كان مجنونا على نحو إجرامي.
لم يحتو الورق تاريخا، ولا حتى عبارة «عزيزتي دوري». بدأ فقط بالحديث إليها بأسلوب رأت أنه نوع من الدعوة الدينية:
يفتش الناس عن الحل. كل عقلهم (من البحث). أشياء كثيرة تصطدم بهم وتؤذيهم. يمكن أن نرى على وجوههم كل كدماتهم وآلامهم. هم يعانون. يتدافعون. عليهم أن يتسوقوا ويذهبوا إلى المغسلة ويقصوا شعرهم ويكسبوا لقمة العيش أو يذهبوا للحصول على شيكات الرعاية الاجتماعية. على الفقراء أن يفعلوا هذا وعلى الأغنياء أن يجتهدوا في إيجاد سبل لإنفاق أموالهم. هذا يصح أيضا. عليهم أن يشيدوا المنازل بحنفيات ذهبية من أجل مياههم الحارة والباردة. سياراتهم الأودي وفرشات أسنانهم السحرية وكل البدع الممكنة ثم أجهزة الإنذار لحمايتهم من الذبح، وكلهم لا يتمتع بأي سلام داخلي، لا الفقير ولا الغني. كنت سوف أكتب كلمة بدلا من أخرى في العبارة السابقة. ترى لماذا؟ ليس لدي أي جيران هنا. وقد تجاوز الناس هنا قدرا كبيرا من الارتباك. إنهم يعرفون ما يمتلكونه وسوف يمتلكونه دائما، وليس عليهم أن يشتروا أو يطبخوا طعامهم، أو حتى أن يختاروه. لقد استبعدت الاختيارات.
كل ما نستطيع جميعنا الحصول عليه هنا هو ما نستطيع استخراجه من عقولنا.
في البداية، كان كل ما في عقلي قد تشوش. كانت هناك عاصفة أبدية، كنت أخبط رأسي بالحائط أملا في التخلص منها، منهيا حياتي ومعاناتي. ثم وزعوا العقاب. رشوني بخرطوم المياه وربطوني وحقنوا أدوية في عروقي. لا أشكو كذلك لأني تعلمت أن لا جدوى من هذا. ولا الأمر يختلف فيما يسمى العالم الحقيقي، حيث يشرب الناس ويستمرون ويرتكبون الجرائم لمحو أفكارهم المؤلمة. وغالبا ينسحبون ويسجنون لكن ليس طويلا بما يكفي لكي يخرجوا من الجانب الآخر. وما هذا الجانب الآخر؟ إنه إما جنون كامل أو سلام كامل.
السلام. لقد وصلت إلى السلام، ولا زلت عاقلا. أتصور أنك قد تظنين - بينما تقرئين هذه الكلمات - أني سوف أقول شيئا ما عن الرب المسيح أو بوذا، كما لو أن الحال انتهى بي إلى اهتداء ديني. لا، إني لا أغلق عيني وأرتفع بأي قوة عليا. في الحقيقة لا أعرف ما المقصود بأي من هذا. ما أفعله هو أن أعرف نفسي. «اعرف نفسك» هو نوع من الوصايا النابعة من مصدر ما، على الأرجح من الكتاب المقدس؛ لذا فإني تابع للمسيحية، على الأقل في هذا الجانب. كذلك: «كن صادقا مع نفسك»؛ ولقد بحثت عنها أيضا في الكتاب المقدس. إنها عبارة لا تحدد جانب النفس - الشرير أم الطيب - الذي يجب أن تكون صادقا معه؛ لذا ليس المقصود منها أن تكون مرشدا للأخلاق. كذلك لا تتعلق عبارة «اعرف نفسك» بالأخلاق كما نعرفها بالسلوك. لكن السلوك ليس ما يشغلني حقا لأني قد حكم علي حكما صحيحا تماما بأني شخص لا يمكن الوثوق في حكمه على الكيفية التي يجب أن يتصرف بها، وهذا هو سبب وجودي هنا في المقام الأول.
عودة إلى جزء المعرفة من عبارة «اعرف نفسك»، بوسعي أن أقول بوعي تام إني أعرف نفسي، وأعرف أسوأ ما أنا قادر على فعله وأعرف أني فعلته. حكم علي العالم وحشا، ولا خلاف على هذا، على الرغم من أني قد أقول بشكل عارض إن الناس الذين يلقون القنابل كالمطر ويحرقون المدن أو يجوعون مئات الآلاف من البشر أو يقتلونهم لا يعتبرهم العالم عموما وحوشا، بل تنهمر عليهم الميداليات والتكريم، في حين يعتبر الأفعال الموجهة إلى أعداد صغيرة صادمة وشريرة. لم أقصد من هذا التبرير، بل هو محض ملاحظة.
ما أعرفه في نفسي هو شري. هذا هو سر راحتي. أعني أني أعرف أسوأ ما في. ربما أسوأ من أسوأ ما لدى آخرين، لكن في الحقيقة ليس علي أن أفكر في هذا أو أقلق منه. لا مبررات. أنا في سلام. هل أنا وحش؟ يقول العالم هذا، وإذا كان يقول هذا فأنا أوافق، لكنني أقول حينئذ، لا يمثل العالم لي أي معنى. أنا نفسي، ولا خيار لدي لأكون أي نفس أخرى. يمكن أن أقول إني كنت مجنونا حينذاك لكن ما فائدة هذا؟ مجنون، عاقل، أنا هو أنا. لم أستطع تغيير أنا حينذاك ولا أستطيع تغييرها الآن.
دوري، لو أنك واصلت القراءة حتى هذه المرحلة، لدي شيء خاص أريد أن أخبرك إياه، لكن لا يمكن أن أكتبه هنا. لو فكرت يوما أن تعودي إلى هنا، ربما حينئذ أستطيع أن أخبرك عنه. لا تتصوري أني بلا قلب. ليست المسألة أني لن أغير شيئا أنا قادر على تغييره، بل أنا لا أستطيع. لو كنت أستطيع لغيرت الأشياء؛ لكني لا أستطيع.
سوف أرسل هذا إلى مكان عملك الذي أتذكره واسم البلدة؛ لذا فإن عقلي يعمل جيدا في بعض النواحي.
تصورت أنهما سوف يناقشان هذه الرسالة في لقائهما التالي وقرأتها عدة مرات، لكن لم يخطر لها أي شيء لتقوله عنها. إن ما أرادت أن تتحدث عنه فعليا هو ما قال إنه من المستحيل كتابته. لكن عندما رأته مرة ثانية، تصرف كأنه لم يكتب لها تلك الرسالة مطلقا. بحثت عن موضوع وأخبرته عن مغن شعبي كان مشهورا في حينه أقام في النزل ذلك الأسبوع. ولدهشتها كان يعرف عن الحياة المهنية للمغني أكثر منها. اتضح أن لديه تليفزيونا، أو على الأقل يتاح له مشاهدته، وأنه شاهد بعض العروض والأخبار بانتظام. أعطاهما هذا مجالا أكبر قليلا ليتحدثا حتى لم تستطع أن تتمالك نفسها. - «ما الأمر الذي لم تستطع أن تخبرني إياه إلا شخصيا؟»
قال إنه كان يتمنى لو أنها لم تسأل. لم يعرف ما إذا كانا مستعدين لمناقشته.
حينها خشيت أن يكون شيئا لا تستطيع التعامل معه فعلا، شيئا لا تستطيع احتماله؛ مثل أنه لا يزال يحبها، فكلمة «حب» كلمة لم تعد تحتمل أن تسمعها.
قالت: «حسنا، ربما لسنا مستعدين.»
ثم قالت: «ومع ذلك، من الأفضل أن تخبرني. لو غادرت وصدمتني سيارة، فلن أعرف أبدا، ولن تتاح لك الفرصة أبدا، فرصة أخرى لتخبرني.»
قال: «هذا صحيح.» - «ما الأمر إذن؟» - «المرة القادمة، المرة القادمة. في بعض الأحيان، لا أستطيع أن أتحدث أكثر. أرغب في الحديث، لكن يجف الكلام داخلي.»
ظللت أفكر بك يا دوري منذ أن غادرت وندمت لأني خذلتك. حين تجلسين أمامي، تموج بداخلي مشاعر أكثر مما أبدي ربما. ليس من حقي أن أظهر مشاعري أمامك؛ لأنك أنت تملكين هذا الحق ومع ذلك تسيطرين على مشاعرك دائما؛ لذا سوف أتراجع عما قلته من قبل لأني توصلت إلى أني أستطيع أن أكتبه أفضل من أن أقوله.
والآن من أين أبدأ.
الجنة موجودة.
هذه طريقة للبدء، لكنها ليست صحيحة؛ لأني لم أومن بالجنة والجحيم وما إلى ذلك. في رأيي أن هذا كومة من الكراكيب؛ لذا لا بد أنه يبدو لك غريبا جدا أن أثير موضوعا كهذا الآن.
سأقول ما أريد قوله فحسب إذن: لقد رأيت الأطفال.
رأيتهم وتحدثت معهم.
ترى ما الذي تفكرين فيه الآن؟ تفكرين في أني مختل فعلا؛ أو أنه حلم، وهو لا يستطيع أن يميز الحلم والواقع، لا يعرف الفرق بين الحلم واليقظة. لكني أريد أن أخبرك أني أعرف الفرق، وما أعرفه هو أنهم موجودون. أقول موجودون، ليس بمعنى أنهم أحياء، لأن أحياء تعني أنهم موجودون في بعدنا الخاص، ولا أقول إنهم فيه. في الحقيقة أعتقد أنهم ليسوا فيه. لكنهم موجودون، ولا بد أن هناك بعدا آخر أو ربما أبعادا لا حصر لها، لكن ما أعرفه هو أني عبرت للبعد الذي هم فيه. ربما توصلت إلى هذا لأني اعتمدت على نفسي كثيرا جدا وفكرت وفكرت في هذا الذي اضطررت للتفكير فيه؛ لذا، فبعد هذه المعاناة والعزلة، توجد رحمة سماوية رأت الوسيلة التي تكافئني بها؛ أنا الشخص عينه الذي يرى العالم بطريقته في التفكير أني أقل من يستحقها.
حسنا، لو كنت واصلت القراءة إلى هذا الحد ولم تمزقي الرسالة، فلا بد أنك ترغبين في أن تعرفي شيئا ما. كيف حالهم مثلا.
إنهم بخير. سعداء وأذكياء حقا. لا يبدو أنهم يحملون ذكرى أي شيء سيئ. ربما أكبر عمرا بقليل، لكن من الصعب تحديد هذا. يبدو أنهم يفهمون على مستويات مختلفة. نعم، يمكن أن تلاحظي أن ديميتري تعلم الكلام الذي لم يكن قادرا عليه. هم في غرفة أستطيع التعرف عليها جزئيا. إنها مثل منزلنا لكنها أكثر وسعا ولطيفة. سألتهم من يرعاهم فضحكوا من سؤالي وقالوا شيئا من قبيل أنهم قادرون على رعاية أنفسهم. أعتقد أن ساشا هو من قال هذا. يتحدثون في بعض الأحيان منفردين، أو على الأقل أستطيع تمييز أصواتهم، لكن هويتهم واضحة جدا، وأعلن أنهم مبتهجون.
من فضلك لا تستنتجي أني مجنون. هذا هو ما خشيته وجعلني لا أريد أن أخبرك بالأمر. كنت مجنونا في وقت من الأوقات، لكن صدقيني لقد أسقطت كل جنوني القديم مثل الدب الذي يطرح فراءه القديم، أو لعلي أقول الثعبان الذي يسلخ جلده. أعرف أني لو لم أكن فعلت هذا لما كانت ستتاح لي هذه القدرة على التواصل ثانية مع ساشا وباربرا آن وديميتري. أتمنى أن تنالي هذه الفرصة كذلك؛ لأنها لو كانت مسألة استحقاق، فأنت أحق مني كثيرا بذلك. ربما كان من الأصعب عليك أن تنالي هذه الفرصة لأنك أكثر اتصالا بالعالم مني بكثير، لكن على الأقل يمكنني أن أمنحك هذه المعلومة - الحقيقة - وإذ أخبرك أني رأيتهم، أتمنى أن يبهج هذا قلبك.
تساءلت دوري ما الذي يمكن أن تقوله السيدة ساندس أو تفكر فيه إذا قرأت هذه الرسالة. ستكون حذرة طبعا. ستكون حذرة ألا تطلق حكما صريحا بالجنون، لكنها سوف توجه دوري، بحذر وبلطف، للتفكير في هذا الاتجاه.
أو ربما لا تفعل ذلك؛ ربما تزيل الارتباك فحسب حتى تواجه دوري ما سيبدو أنه استنتاجها الشخصي طوال الوقت. سيكون عليها أن تخلص عقلها من كل الهراء الخطير؛ حسب المصطلحات التي تستخدمها السيدة ساندس.
لهذا كانت دوري تتجنبها.
لم تعتقد دوري أنه مجنون. وما كتبه في تلك الأوراق بدا أنه يحمل أثرا من تبجحه القديم. لم ترد على رسالته. مرت أيام وأسابيع. لم تغير رأيها، لكنها ظلت متمسكة بما كتبه، وكأنه سر. ومن حين لآخر، حين تكون منهمكة في تلميع مرآة أو ترتيب ملاءة، كان يطغى عليها شعور ما. لمدة عامين تقريبا لم تبال بالأشياء التي تسعد الناس عامة، مثل طقس معتدل أو ورود مزدهرة أو رائحة مخبز ما. لا تزال تفتقد الحس العفوي بالسعادة، بالضبط، لكنها تتذكر كيف كان. لا يتعلق ذلك الشعور بالطقس أو الورود. لقد كانت فكرة أن الأطفال فيما أسماه بعدهم هي التي تسللت إليها بهذه الطريقة، ولأول مرة، أثارت لديها شعورا بالبهجة وليس بالألم.
في كل الأوقات منذ حدث ما حدث، كانت أي فكرة تخطر لها عن الأطفال بمثابة شيء يجب عليها أن تتخلص منه؛ تسحبه فورا مثلما تسحب سكينا في رقبتها. لم تستطع أن تفكر في أسمائهم، وإذا سمعت اسما يشبه اسما من أسمائهم كان عليها أن تسحبه أيضا. حتى أصوات الأطفال وصيحاتهم وضربات أقدامهم وهم يجرون من حمام سباحة النزل وإليه، كان يجب أن تبعد عنها بصفع باب ما قرب أذنيها. ما كان مختلفا الآن أن لديها ملاذا تستطيع اللجوء إليه ما إن تظهر هذه الأخطار في أي مكان حولها.
ومن الذي منحها إياه؟ ليست السيدة ساندس؛ هذا أكيد. ليس خلال كل تلك الساعات التي جلست فيها إلى المكتب مع علبة مناديل في متناول يدها.
منحها لويد هذا. ذلك الشخص الفظيع، الشخص المعزول والمجنون.
قد يكون مجنونا إن شئت أن تسميه كذلك. لكن أليس من المحتمل أن ما يقوله صادق؛ أنه وصل إلى الجانب الآخر؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن رؤى شخص ارتكب فعلته وقام بتلك الرحلة لا تعني شيئا؟
تسللت هذه الفكرة إلى ذهنها واستقرت.
ورافق تلك الفكرة فكرة أن لويد، من دون الناس جميعا، ربما هو الشخص الذي يجب أن تكون معه الآن. أي فائدة أخرى يمكن أن تكون لوجودها في هذا العالم - بدا لها أنها تقول هذا لشخص ما، السيدة ساندس على الأرجح - ما هدف وجودها إن لم يكن الإنصات إليه على الأقل؟
قالت للسيدة ساندس في ذهنها: لم أقل «أسامح». ما كنت لأقول هذا أبدا. لم أكن لأفعله أبدا.
ستقول لها، فكري فحسب. ألم يعزلني ما حدث مثلما عزله تماما عن العالم؟ لن يرغب أي شخص يعرف بالأمر أن أكون قريبة منه. كل ما أستطيع أن أفعله أن أذكر الناس بما لا يطيق أحد منهم تذكره.
لم يكن التنكر نافعا حقا. إن هالة المعاناة والعذاب التي تحيط بي لشيء مقزز. •••
هكذا وجدت نفسها تستقل الحافلة مرة أخرى متجهة إلى الطريق السريع. تذكرت تلك الليالي عقب موت أمها مباشرة، حين كانت تتسلل لتقابل لويد، بعد أن تكذب على صديقة أمها، المرأة التي كانت تقيم معها، بخصوص المكان الذي سوف تذهب إليه. تذكرت اسم الصديقة، اسم صديقة أمها، لوري .
من سوى لويد سوف يتذكر أسماء الأطفال، أو لون عيونهم. حين كانت تضطر السيدة ساندس إلى ذكرهم، لم تسمهم حتى أطفالا، بل «عائلتك»، حيث تضعهم في سلة واحدة معا.
لم تشعر بالذنب حين كانت تذهب للقاء لويد في تلك الأيام، بعد أن تكذب على لوري، بل شعرت بأن ذلك قدرها، بالإذعان فقط. لقد شعرت أنها لم توجد على الأرض إلا لتكون معه فقط وتحاول أن تفهمه.
حسنا، لم تعد تشعر بهذا الآن. لقد تغير شعورها.
كانت تجلس في المقعد الأمامي إلى جانب السائق. كان المشهد واضحا أمامها عبر الزجاج الأمامي؛ بذا كانت هي المسافر الوحيد في الحافلة، الشخص الوحيد بخلاف السائق، الذي رأى شاحنة تخرج من جانب الطريق بدون أن تبطئ من سرعتها؛ الشخص الوحيد الذي رآها تتأرجح عبر الطريق السريع الذي خلا من السيارات في صباح الأحد أمامهما وتقتحم الخندق على جانبه. بل ورأت شيئا أكثر غرابة: سائق الشاحنة يطير في الهواء بطريقة بدت خاطفة وبطيئة على السواء، سخيفة ورشيقة. ورأته يهبط على الحصى على حافة الرصيف.
لم يفهم بقية المسافرين لماذا فرمل السائق وعرضهم لتوقف مفاجئ غير مريح. وكل ما استطاعت أن تفكر به في البداية، كيف خرج من السيارة؟ الشاب أو الولد الذي لا بد أنه نام وهو يقود سيارته. كيف طار من الحافلة وانطلق في الهواء بهذه الرشاقة؟
رد السائق على المسافرين قائلا: «إنه رجل قطع الطريق أمامنا مباشرة.» كان يحاول أن يتحدث بصوت مرتفع وهادئ، لكن كان يشوب صوته مسحة دهشة؛ شيء من الرهبة. ثم أردف: «قطع الطريق واقتحم الخندق على جانبه. سوف نواصل ما إن نستطيع، وأثناء ذلك، لا تخرجوا من الحافلة من فضلكم.»
كما لو أنها لم تسمعه، أو كأنما تتمتع بحق خاص في أن تكون مفيدة، خرجت دوري من ورائه. ولم يوبخها.
قال - وهو يعبر الطريق: «أحمق لعين»، ولم يكن في صوته الآن إلا الغضب والحنق. «فتى أحمق لعين. هل تصدقين ما حدث؟»
كان الفتى يرقد على ظهره وقد تمددت ذراعاه وساقاه ، وكأنه شخص يؤدي دور ملاك في الثلج. الفرق أن ما كان حوله هو حصى وليس ثلجا. لم تكن عيناه مغلقتين تماما. كان صغير السن جدا؛ طفلا طالت قامته قبل حتى أن يبدأ حلاقة ذقنه، وربما لا يحمل رخصة قيادة.
كان السائق يتحدث عبر هاتفه. - «ميل أو أكثر جنوب بايفيلد، عند واحد وعشرين، الجانب الشرقي من الطريق.»
سالت قطرات من رغوة وردية من تحت رأس الفتى، بالقرب من أذنه. لم يبد دما إطلاقا، وإنما مثل المادة التي تنزعها عن ثمرات الفراولة حين تصنع مربى.
جلست دوري إلى جانبه؛ ووضعت يدا فوق صدره. كان ساكنا. مالت بأذنها بالقرب منه. شخص ما كوى قميصه حديثا؛ تفوح منه تلك الرائحة.
لا يوجد نفس.
لكن أصابعها الموضوعة على رقبته الناعمة عثرت على نبض.
تذكرت شيئا كان أحدهم قد قاله لها - كان لويد هو من قال لها هذا، في حال تعرض أحد الأطفال إلى حادث ولم يكن هو موجودا - اللسان. يمكن للسان أن يسد التنفس إذا سقط في المنطقة الخلفية من الحلق. وضعت أصابع إحدى يديها على جبين الفتى ووضعت أصبعين من يدها الأخرى تحت ذقنه. ضغطت الجبين لأسفل وضغطت على الذقن لأعلى لتسليك مجرى التنفس. إمالة خفيفة لكن حازمة.
لو ظل لا يتنفس، سيكون عليها أن تعطيه تنفسا صناعيا.
تقبض على فتحتي أنفه، وتأخذ نفسا عميقا، وتغلق فمه بشفتيها وتتنفس. نفسان وفحص، نفسان وفحص.
انبعث صوت رجل آخر؛ ليس للسائق. لا بد أن سائقا آخر توقف. قال: «هل تريدين هذه البطانية تحت رأسه؟» هزت رأسها نفيا بخفة؛ لقد تذكرت شيئا آخر عن عدم تحريك المصاب، حتى لا تؤذي العمود الفقري. أحاطت فمه. ضغطت على جلده الدافئ الغض، وتنفست، وانتظرت. ويبدو أن نداوة خفيفة لفحت وجهها.
قال السائق شيئا ما لكنها لم تستطع أن ترفع رأسها. ثم شعرت به بشكل مؤكد؛ إنه نفس الفتى. بسطت يدها على جلد صدره، وفي البداية لم تستطع أن تعرف ما إذا كان يرتفع ويهبط بسبب رجفتها.
نعم، نعم.
كان نفسا حقيقيا. كان مجرى الهواء مفتوحا. كان يتنفس وحده. كان يتنفس.
قالت للرجل الذي يحمل البطانية: «ضعها فوقه فحسب؛ لكي يظل دافئا.»
قال السائق وهو ينحني: «هل هو حي؟»
أومأت برأسها إيجابا. بحثت أناملها على النبض مرة ثانية. لم تواصل المادة الوردية الشنيعة تدفقها. ربما ليست شيئا خطيرا. ليست من مخه.
قال السائق: «لا أستطيع أن أؤخر الحافلة من أجلك ... لقد تأخرنا فعليا.»
قال السائق الآخر: «لا بأس. أستطيع تولي الأمر.»
أرادت أن تقول لهم: اصمتوا، اصمتوا. بدا لها أن الصمت ضروري؛ أن كل شيء في العالم خارج جسد الصبي يجب أن يركز، ويساعده على ألا يتشتت عن واجب التنفس.
أصبحت أنفاسه ضعيفة لكنها ثابتة الآن، صدره يعلو ويهبط في طاعة، فلتستمر في التنفس، استمر.
قال السائق: «هل سمعت ما قاله؟ هذا الرجل يقول إنه سوف يبقى ويرعاه. سيارة الإسعاف قادمة بأسرع ما يمكن.»
أجابته دوري: «اذهب أنت. سوف أركب في إحدى السيارات التي تمر على الطريق إلى البلدة معهم وألحق بك في طريق عودتك الليلة.»
كان عليه أن ينحني ليسمعها. تحدثت بنبرة ازدراء دون أن ترفع رأسها كما لو أنها الشخص الذي كان تنفسه عزيزا.
قال: «هل أنت متأكدة؟»
ردت بالإيجاب. - «ألا يجب أن تذهبي إلى لندن؟» - «كلا.»
أدب
1
كان أفضل ما في الشتاء أن تقود سيارتها إلى البيت بعد قضاء يومها في تدريس الموسيقى في مدارس روف ريفر. يكون الظلام قد حل فعليا، وربما تساقط الثلج في الشوارع البعيدة من المدينة، بينما الأمطار تضرب السيارة على الطريق الساحلي السريع. قادت جويس سيارتها إلى ما وراء حدود المدينة نحو الغابة، وعلى الرغم من أنها غابة حقيقية ذات أشجار صنوبرية من فصيلة تنوب دوجلاس وأشجار أرز حقيقية، فقد كان هناك أناس يعيشون على مسافة ربع ميل أو نحو ذلك. يملك البعض منهم حدائق لبيع البضائع، وقلة منهم لديهم بعض الخراف أو أحصنة للركوب. كذلك كان هناك مشاريع مثل مشروع جون؛ فهو يصلح الأثاث ويصنعه. وهناك أيضا إعلانات عن الخدمات على جانب الطريق، منها ما هو خاص بهذا الجزء من العالم تحديدا، مثل قراءة أوراق التاروت، والتدليك بالأعشاب، وحل الخلافات. عاش بعض الناس في مقطورات، وبنى آخرون بيوتهم الخاصة مدعمة بأسقف من قش وخلفيات خشبية، والبعض الآخر، مثل جون وجويس، كانا يجددان بيت مزرعة قديما.
كان هناك شيء واحد خاص أحبت جويس أن تراه في طريقها إلى البيت وحين تدخل إلى ملكيتهما الخاصة. في ذلك الوقت، استخدم العديد من الناس، حتى بعض الذين يسكنون في بيوت ذات سقف من القش، ما سمي أبواب الفناء؛ حتى إذا لم يكن لدى البعض منهم، مثل جون وجويس، فناء. كانت تترك في العادة بدون ستار، وكان شراعتا النور المستطيلتان تبدوان علامة على الراحة والأمان والتجديد أو وعدا به. لم تستطع جويس أن تعرف لماذا تعكس هذا أكثر مما تعكسه النوافذ العادية. ربما لم يكن الهدف من معظمها أن تطل على الخارج فحسب، بل أن تفتح مباشرة على عتمة الغابة، وأن تعرض ملاذ البيت ببساطة. ناس بالحجم الطبيعي يطبخون أو يشاهدون التليفزيون؛ مشاهد تفتنها، حتى مع علمها بأنه لا شيء مميز بالداخل.
كان ما رأته حين انعطفت إلى ممرها الموحل غير المرصوف مجموعة من تلك الأبواب التي وضعها جون، تؤطر حشا بيتهما المتوهج. السلم النقال، ورفوف المطبخ التي لم ينته من العمل عليها، والدرجات العارية، وخشب دافئ يتألق بنور المصباح الذي وضعه جون ليشع نورا أينما أراد، وأينما كان يعمل. يعمل طول اليوم في ورشته، وحين تبدأ العتمة، كان يرسل مساعدته إلى بيتها، ويبدأ العمل في المنزل؛ إذ يسمع سيارتها، يدير رأسه إلى اتجاه جويس للحظة فقط، محييا إياها. عادة تكون يداه مشغولتين جدا فلا يستطيع تحيتها بهما. وإذ تجلس هناك وقد اطفأت أضواء السيارة؛ وتلتقط البقالة أو البريد الذي يجب أن تأخذه إلى البيت، كانت جويس سعيدة بتلك الدفقة الأخيرة عبر الظلام والرياح والمطر البارد إلى الباب. شعرت أنها تطرح عنها عمل اليوم الذي كان مزعجا ومحيرا، ومليئا بتوزيع الموسيقى على المتجاوبين وغير المكترثين كذلك. كم هو أفضل أن تعمل مع الخشب ومع نفسك - لم تحسب المساعدة - عن أن تعمل مع طفل صغير لا يمكن التنبؤ بأفعاله.
لم تقل أيا من هذا لجون. كان يكره أن يسمع الناس يتحدثون عن أهمية، وروعة، وشرف التعامل مع الخشب. أي نزاهة في هذا العمل، وأي شرف؟!
إنه يراه هراء.
التقى جون وجويس في مدرسة ثانوية حضرية في مدينة صناعية في أونتاريو. حصلت جويس على ثاني أعلى معدل ذكاء في فصلهما، وحصل جون على الأعلى في المدرسة، وعلى الأرجح في المدينة. كان من المتوقع لها أن تصبح عازفة ماهرة على الكمان - هذا قبل أن تتخلى عنها من أجل التشيلو - وكان مقدرا له أن يصبح عالما من النوع المهيب الذي يستعصي وصف عمله في العالم العادي.
تركا الدراسة في العام الأول من الالتحاق بالكلية وهربا معا. حصلا على وظيفتين، وسافرا بالحافلة عبر القارة وعاشا عاما على ساحل أرجون، وتصالحا، عن بعد، مع عائلتيهما اللتين اعتبرتاهما نورا انتشر في العالم. كان قد فات الوقت الذي يمكن تسميتهما فيه بالخنافس، لكن هكذا نعتتاهما عائلتاهما. لم يريا نفسيهما كذلك قط؛ فهما لم يتعاطيا المخدرات، وارتديا ملابسهما بأسلوب متحفظ رغم رثاثة مظهرهما قليلا، وأثبت جون ذلك بأن حلق ذقنه وجعل جويس تقص شعرها. تعبا من وظيفتيهما اللتين تدران دخلا متدنيا للغاية بعد فترة قليلة واستدانا من عائلتيهما المحبطتين حتى يصبحا مؤهلين لتحقيق معيشة أفضل. تعلم جون النجارة وأشغال الخشب، وحصلت جويس على درجة علمية تؤهلها لتدريس الموسيقى في المدارس.
كانت الوظيفة التي حصلت عليها في روف ريفر. اشتريا هذا المنزل المتداعي بسعر بخس جدا، واستقرا في مرحلة جديدة من حياتهما. زرعا حديقة، وتعرفا على جيرانهما؛ الذين كان بعضهم لا يزالون خنافس حقيقيين، يزرعون كميات صغيرة من الحشيش في الدغل ويصنعون عقودا من الخرز وأكياس أعشاب طبيعية للبيع.
أحب الجيران جون. كان لا يزال نحيفا ولديه عينان لامعتان، مغرور لكنه مستعد أن يصغي. وفي ذلك الحين كان معظم الناس قد بدءوا التعود على أجهزة الكمبيوتر، التي كان يفهمها واستطاع شرح طريقة عملها بصبر. كانت جويس أقل شعبية؛ فقد رأوا أنها تضفي على منهجها في تدريس الموسيقى أسلوبا رسميا.
طبخ جويس وجون عشاءهما معا واحتسيا بعضا من نبيذهما البيتي (كانت طريقة جون في صنع النبيذ دقيقة وناجحة). تحدثت جويس عن إحباطات يومها ونوادره. لم يتحدث جون كثيرا؛ وكان أحد الأسباب هو انهماكه في الطبخ. لكن حين كانا يأكلان معا أخيرا، ربما كان يحكي لها عن زبون زاره، أو عن مساعدته إيدي. قد يضحكان على شيء ما قالته إيدي. لكن ليس باستخفاف؛ اعتقدت جويس في بعض الأحيان أن إيدي مثل حيوان منزلي أليف؛ أو مثل طفل. مع أنها لو كانت طفلة، طفلتهما، وكانت على حالها هذا، فربما أصابتهما حيرة وقلق بالغان يمنعهما من الضحك.
لماذا؟ أي حال؟ لم تكن غبية. قال جون إنها لم تكن عبقرية فيما يتعلق بأشغال الخشب، لكنها تتعلم وتتذكر ما تتعلمه. والأمر الهام أنها ليست ثرثارة. كان هذا أكثر ما خشيه حين ثارت مسألة تعيين مساعد. دشنت البلدة برنامجا حكوميا؛ كان سيتلقى مبلغا معينا لتعليم الشخص، وأيا كان هذا الشخص فالمبلغ يكفي لتغطية تكاليف معيشته أثناء تعلمه. لم يكن راغبا في ذلك في البداية، لكن جويس أقنعته. كانت مقتنعة أن عليهما التزاما نحو المجتمع.
ربما لم تكن إيدي تتحدث كثيرا، لكن حين كانت تتحدث، كان حديثها قويا.
قالت لهما في مقابلتها الأولى معهما: «لقد امتنعت عن تناول كل المخدرات والكحوليات. إني أنتمي إلى برنامج زمالة المدمنين المجهولين، وأنا مدمنة كحول أتماثل للشفاء. لا نقول أبدا إننا شفينا؛ لأننا لن نشفى أبدا. لا نشفى ما دمنا على قيد الحياة. لدي ابنة في التاسعة من عمرها وولدت بدون أب، لهذا هي مسئوليتي الكلية، وأنوي أن أربيها تربية جيدة. طموحي أن أتعلم أشغال الخشب حتى أستطيع أن أعول نفسي وابنتي.»
بينما كانت تلقي هذه الكلمة جلست تحدق بهما، واحدا بعد الآخر، عبر طاولة مطبخهما. كانت شابة قصيرة قوية، لم تبد كبيرة في السن بما يكفي أو مدمرة بما يكفي لأن تحمل سيرة من الفجور. كتفان عريضان، شعر غزير يغطي جبينها، ذيل حصان محكوم، لا احتمال أن تبتسم.
قالت: «وأمر آخر.» فكت أزرار بلوزتها ذات الكمين الطويلين. كانت ترتدي قميصا تحتانيا. كان ذراعاها وصدرها من أعلى وظهرها - حين استدارت - من الأعلى مليئة بالأوشام. بدا كأن جلدها كساء مزخرف، أو ربما كتاب مصور بالوجوه الشبقة والرقيقة على السواء، المحاطة بالتنانين، والحيتان والنيران، شديدة التعقيد أو ربما مروعة جدا لدرجة أنها تستعصي على الفهم.
أول شيء ستضطر إلى التساؤل عنه ما إذا كانت قد كست جسدها كله بهذه الأوشام.
قالت جويس بقدر ما تستطيع من حيادية: «مدهش.»
قالت إيدي: «حسنا، لا أعرف كم هو مدهش، لكنه كان سيكلفني ثروة لو كان علي أن أدفع مقابله. هذا ما كان يشغلني في وقت من الأوقات. إني أريكما إياه لأن بعض الناس قد تعترض على هذا. مثل: فرضا إذا شعرت بالحر في الورشة واضطررت أن أعمل مرتدية القميص التحتاني.»
قالت جويس: «ليس نحن» ونظرت إلى جون. هز كتفيه في لا مبالاة.
سألت جويس إيدي ما إذا كانت ترغب في احتساء فنجان من القهوة.
أجابتها إيدي: «كلا، شكرا.» كانت ترتدي بلوزتها مرة أخرى. وأردفت: «كثير من الناس في زمالة المدمنين المجهولين يبدون وكأنهم يحيون على القهوة. وما أقوله لهم هو: لماذا تغيرون عادة سيئة بأخرى؟»
قالت عنها جويس فيما بعد: «استثنائية. شعرت أني إذا قلت أي شيء فإنها يمكن أن تعطيني محاضرة. لم أجرؤ على الاستفسار عن الميلاد العذري لابنتها.»
قال جون: «إنها قوية. وهذا هو الأمر المهم. لقد ألقيت نظرة على ذراعيها.»
وحين يقول جون «قوي» فإنه يعني بالضبط ما تعنيه الكلمة. يعني أنها تستطيع أن تحمل لوح خشب.
يستمع جون إلى راديو سي بي سي أثناء عمله. الموسيقى، وكذلك الأخبار، والتعليقات، والمداخلات التليفونية. وفي بعض الأحيان، كان ينقل رأي إيدي فيما سمعاه.
إيدي لا تؤمن بنظرية التطور. (كان يذاع برنامج للمداخلات التليفونية اعترض فيه بعض الناس على ما كان يدرس في المدارس .) - ولم لا؟
قال جون: «حسنا، لأنه في بلاد الكتاب المقدس تلك.» ثم غير نبرته إلى صوت إيدي أحادي النبرة الصارم وأردف: «في بلاد الكتاب المقدس تلك لديهم الكثير من القرود، وتنزل القرود من الأشجار، وهكذا جاءت الفكرة لهؤلاء الناس بأن القرود تنزل من الأشجار وتتحول إلى بشر.»
قالت جويس: «لكن في المقام الأول ...» - «لا تبالي. لا تحاولي حتى المجادلة. ألا تعرفين القانون الأول بشأن الجدل مع إيدي؟ لا تبالي واسكتي.»
تعتقد إيدي كذلك أن شركات الأدوية الكبرى عرفت علاجا للسرطان، لكن عقدت صفقة مع الأطباء للتكتم على المعلومات بسبب الأموال التي يجنونها هم والأطباء.
حين كان الراديو يذيع لحن «قصيدة غنائية للفرح»، كانت تجبر جون على إغلاقه لأنها كريهة جدا مثل الموسيقى الجنائزية.
علاوة على ذلك، اعتقدت أنه يجب على جون وجويس - حسنا، جويس وحدها في واقع الأمر - ألا يتركا زجاجات النبيذ واضحة للعين على طاولة المطبخ.
قالت جويس: «هل هذا يخصها؟» - «واضح أنها تعتقد هذا.» - «متى يتاح لها أن تتفحص طاولة مطبخنا؟» - «عليها أن تمر عبره إلى الحمام. لا يمكن أن نتوقع منها أن تتبول في الأدغال.» - «حقيقة لا أفهم ما شأن ...» - «وفي بعض الأحيان، تدخله لتعد لنا بعض الشطائر.» - «إذن؟ هذا مطبخي. مطبخنا.» - «إنها تشعر بالتهديد من المشروبات المسكرة. لا تزال هشة. شيء لن نستطيع أنت وأنا فهمه.»
مهددة! مشروب مسكر! هشة!
ما هذه الكلمات التي يستخدمها جون؟
كان يجب أن تفهم، وفي تلك اللحظة، وإن كان هو نفسه أبعد ما يكون عن أن يدرك هذا. لقد كان يقع في الحب.
يقع. هذا يحتاج فترة زمنية ما؛ لتزل قدماه. لكن يمكن اعتبارها فترة زمنية وجيزة؛ الأمر يستغرق ثانية أو لحظة لتقع. في الوقت الحالي جون لا يحب إيدي. تك. الآن هو يحبها. من المستحيل إدراك أن هذا أمر مرجح أو محتمل، إلا إذا فكرت في لكمة مفاجئة بين العينين، أو سكون مفاجئ. إنها ضربة القدر التي تجعل الإنسان عاجزا؛ المزحة الشريرة التي تحول عينين صافيتين إلى حجرين مصمتين .
شرعت جويس تقنعه بأنه مخطئ. ليس لديه الخبرة الكافية بالنساء. لا خبرة إلا بها. اعتقدا دوما أن دخول تجارب مع شركاء متنوعين فعل طفولي؛ الخيانة الزوجية فوضوية ومدمرة. الآن تتساءل: هل كان يجب أن يدخل تجارب أكثر؟
لقد قضى شهور الشتاء المعتم منعزلا في ورشته، معرضا لإشعاع إيدي الواثق. كان يضاهي الإصابة بالمرض بسبب التهوية السيئة.
كانت إيدي تصيبه بالجنون، لو استمر يتعامل معها بجدية.
قال: «فكرت في هذا، ربما هذا ما فعلته فعليا.»
قالت جويس إن هذا كلام مراهق أحمق؛ إذ يتظاهر بأنه مذهول وعاجز.
قالت له: «ماذا تظن نفسك، فارسا من فرسان المائدة المستديرة؟ شخص ما أعطاك شربة سحرية؟»
ثم قالت إنها آسفة. قالت إن الشيء الوحيد الذي يمكن فعله هو أن يستخدماه على أنه درس مشترك. وادي الظلال. أن يعتبراه يوما محض خلل في مسار زواجهما.
قالت: «سوف نجتازه.»
نظر لها جون نظرة مختلفة، نظرة مليئة بالعطف.
قال: «ليس هناك «نحن».» •••
كيف يمكن أن يحدث هذا؟ طرحت جويس هذا السؤال على جون، وعلى نفسها؛ ومن ثم على آخرين. مساعدة نجار ثقيلة الحركة وثقيلة الظل، ترتدي سروالا واسعا وقمصانا صوفية وكنزة سميكة باهتة منقطة بنشارة الخشب طوال الشتاء. ذات عقل يتهادى متثاقلا من كليشيه أو حماقة إلى أخرى، ويزعم أن كل خطوة من الرحلة هي قانون الأرض. شخصية كهذه تحجب جويس ذات الساقين الطويلتين، والخصر الرشيق، والجدائل الحريرية الطويلة لشعر داكن، ظرفها، وموسيقاها، وثاني أعلى معدل ذكاء.
تقول جويس: «سوف أخبرك ما أظنه حدث.» هذا فيما بعد حين طالت الأيام واشتعلت باقات زنابق الماء. حين ذهبت لتدريس الموسيقى ترتدي نظارات داكنة لتخفي عينين تورمتا من البكاء والشراب، وبدلا من أن تتجه إلى البيت بعد انتهاء عملها اتجهت إلى حديقة ولنجدون حيث أملت أن يأتي جون باحثا عنها؛ خوفا من أن تنتحر (فعل هذا بالفعل، لكن مرة واحدة فقط).
قالت: «أعتقد أن السبب أنها كانت تنتمي للشوارع. تنقش المومسات الوشم على أجسادهن لأسباب تتعلق بالمهنة. والرجال يثيرهم هذا. لا أعني الوشم - حسنا، ذلك أيضا يثيرهم بالطبع - أعني حقيقة أنها للبيع. كل تلك السهولة والخبرة. والآن تائبة. إنها مريم المجدلية اللعينة لعصرنا هذا، هذه هي المسألة. وهو طفل كبير جنسيا. كل هذا يثير اشمئزازك.»
لديها صديقات الآن تستطيع التحدث معهن هكذا. كلهن لديهن قصصهن الخاصة. بعضهن عرفتهن من قبل، لكن ليس كمعرفتها بهن الآن. يتجمعن ويشربن ويضحكن حتى يبكين. يقلن إنهن عاجزات عن تصديق هذا. الرجال. ماذا يفعلون. أمر مقزز وأحمق. لا يمكن تصديق هذا!
لهذا هو واقع.
في وسط هذا الكلام تشعر جويس أنها على ما يرام. على ما يرام حقا. تقول إن لحظات تمر عليها فعليا تشعر أثناءها بالامتنان لجون؛ لأنها تشعر بحيوية أكبر الآن لم تشعر بها طوال حياتها. شعور شنيع لكنه رائع. بداية جديدة. الحقيقة العارية. الحياة العارية. •••
لكن حين تستيقظ في الثالثة أو الرابعة صباحا، تتساءل أين هي. ليست في منزلهما. إيدي في ذلك المنزل الآن. إيدي وطفلتها وجون. هذا ما فضلته جويس نفسها؛ إذ اعتقدت أنه ربما يعيد جون إلى رشده. انتقلت للمعيشة في شقة في المدينة تخص مدرسا في إجازة طويلة لمدة عام. استيقظت في الليل على الأضواء الوردية المرتعشة من يافطة مطعم عبر الشارع تومض عبر نافذتها، منيرة متعلقات المدرس الغريبة المكسيكية؛ أصص صبار، عينا قط متدليتان، بطانيات مقلمة بلون دم جاف. كل تلك البصيرة السكرانة، تلك النشوة، تخرج منها مثل القيء. وبخلاف هذا، لم تصبها أعراض السكر قط. تستطيع أن تغرق في بحيرات من الكحول، على ما يبدو، وتستيقظ جافة مثل ورقة كرتون، وكأنها لم تشرب شيئا.
حياتها ضاعت. كارثة عادية.
الحقيقة أنها كانت لا تزال سكرانة، مع أنها تشعر بأنها واعية جدا. كان خطرا أن تصل إلى سيارتها وتقودها إلى المنزل. ليس الخطر في أن تنزلق إلى الخندق على جانب الطريق؛ لأن قيادتها في تلك الأوقات تصبح بطيئة جدا ورزينة، بل إنها توقف السيارة في الفناء الخارجي أمام النوافذ المعتمة وتنادي بصوت مرتفع على جون قائلة إنه يجب أن يتوقفا عن هذا ببساطة.
يتوقفان عن هذا. هذا ليس صحيحا. أخبرها أن تذهب بعيدا.
تذكر حين نمنا في الحقل واستيقظنا والأبقار حولنا في كل مكان تمضغ طعامها، ولم ندرك أنها كانت موجودة الليلة السابقة. تذكر حين اغتسلنا في الجدول المثلج. كنا نجمع الفطر في جزيرة فانكوفر ونطير عائدين إلى أونتاريو ونبيعه لندفع ثمن الرحلة، حين كانت أمك مريضة واعتقدنا أنها تحتضر. وقلنا، يا لها من مزحة، نحن حتى لا نتعاطى المخدرات، هذا بر بوالدينا.
أشرقت الشمس وبدأت الألوان المكسيكية تعكس عليها بريقها الشنيع، وبعد فترة قصيرة نهضت واغتسلت ولطخت وجنتيها بالحمرة وشربت قهوة ثقيلة مثل الوحل، وارتدت بعضا من ملابسها الجديدة. اشترت قمصانا مهلهلة، وتنورات مهفهفة، وحلقانا مزينة بريش بلون قوس قزح. خرجت لتدرس الموسيقى في المدارس، مثل راقصة غجرية أو نادلة في بار. ضحكت على كل شيء وعبثت وتدللت مع الجميع. مع الرجل الذي أعد لها فطورها في المطعم الذي بالطابق الأرضي، والصبي الذي زود سيارتها بالغاز، والموظف الذي باع لها الطوابع في مكتب البريد. خطر لها أن جون قد يصل إليه كم هي جميلة ومغرية وسعيدة وتذهل كل الرجال. ما إن تخرج من الشقة حتى تصبح فوق خشبة المسرح وجون هو المتفرج الأساسي وإن كان على نحو غير مباشر. ومع ذلك، لم يأسر جون قط المظهر الاستعراضي أو السلوك العابث؛ لم يكن يعتقد قط أن هذا سر جاذبيتها. فحين كانا يرتحلان، تدبرا أمرهما في معظم الأحيان بملابس عادية. جوارب سميكة وبنطلونات جينز وقمصان غامقة، ومعاطف ثقيلة.
تغيير آخر.
حتى مع الأطفال الأصغر أو الأغبى الذين تعرفهم، أصبحت نبرتها مداعبة، مليئة بضحكة لعوب؛ شجاعتها لا تقاوم. كانت تجهز تلاميذها للاحتفال المزمع إقامته في نهاية السنة الدراسية. لم تتحمس في السابق لهذه الأمسية العامة؛ إذ شعرت أنه يتصادم مع تقدم هؤلاء الطلاب الذي يتمتعون بمهارة في العزف، فيجرهم إلى موقف ليسوا مستعدين له. لن يخلق كل هذا المجهود والتوتر إلا قيما مزيفة. لكن هذا العام كانت منخرطة بكل كيانها في التجهيز للعرض؛ البرنامج، الإضاءة، المقدمات، وبالطبع العرض الموسيقي. أعلنت أنه يجب أن يكون مسليا وممتعا. تسلية ومتعة للطلاب، وتسلية ومتعة للجمهور.
بالطبع كانت واثقة من حضور جون؛ فابنة إيدي واحدة من العازفين؛ لهذا يجب أن تحضر إيدي، وجون سوف يصاحب إيدي.
أول ظهور لجون وإيدي كزوجين أمام البلدة. إنه إعلان للزواج. لا يستطيعان تجنبه. هذه التحولات التي تماثل تحولهما ليست غير مسبوقة، خاصة بين الناس الذين يعيشون جنوب البلدة. لكنهما لم يكونا زوجين عاديين. وحقيقة أن الأوضاع الجديدة لم تكن مصحوبة بفضيحة لا تعني أنها لم تلفت الأنظار. تمر فترة زمنية ضرورية يهتم خلالها الناس بما حدث قبل أن تهدأ الأمور ثم يعتاد الناس الارتباط الجديد. وهو ما حدث، وسوف يشاهد الزوجان الجديدان في محل البقالة يتحدثان، أو على الأقل يحييان المنبوذين.
لكن لم يكن هذا الدور الذي رأت جويس نفسها تلعبه، يراقبها جون وإيدي - جون فقط في واقع الأمر هو ما يعنيها - في مساء الاحتفال الموسيقي.
ماذا رأت؟ الله يعلم. لم تفكر، في أي لحظة عاقلة، في إبهار جون إبهارا يصل إلى أن يعود إلى رشده حين تظهر لتحيي الجمهور عند نهاية العرض. لم تفكر أن قلبه قد يتحطم بسبب حماقته ما إن يراها سعيدة ومتألقة وتتولى مقاليد الأمور بدلا من النحيب والانتحار. لكنه شيء ليس بعيدا عن هذا؛ شيء لم تستطع تحديده لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها عن تمنيه.
كان أفضل حفل موسيقي أقيم. هذا ما قاله الجميع. قالوا إنه أكثر حيوية. أكثر مرحا، مع أنه أكثر كثافة. ارتدى الأطفال ملابس متناسقة مع الموسيقى التي عزفوها، وزينت وجوههم فلم تظهر عليها مشاعر الخوف أو الاستعطاف.
حين ظهرت جويس في النهاية، كانت تلبس تنورة حريرية سوداء تلمع لمعانا فضيا مع حركتها. ارتدت كذلك أساور فضية ولمع شعرها المنسدل. انطلقت بعض الصفارات مع التصفيق.
لم يكن جون وإيدي بين الجمهور.
2
يقيم جويس ومات حفلا في بيتهما في نورث فانكوفر من أجل الاحتفال بعيد ميلاد مات الخامس والستين. مات أستاذ في علم النفس العصبي، وهو عازف كمان هاو جيد أيضا. هكذا قابل جويس، التي أصبحت الآن عازفة تشيلو محترفة، وزوجته الثالثة.
تردد جويس باستمرار: «انظر إلى كل هؤلاء الناس هنا. إنها قصة حياة بالتأكيد.»
إنها امرأة نحيفة حماسية ذات شعر كثيف قصديري اللون وانحناءة خفيفة، ربما نتجت عن احتضانها لآلتها الموسيقية الكبيرة، أو من العادة التي اكتسبتها كمستمعة كيسة ومتحدثة لبقة.
حضر، بالطبع، زملاء مات من الكلية؛ الذين يعتبرهم أصدقاء حميمين. إنه رجل كريم لكنه صريح؛ لذا فمن المفهوم ألا يدخل كل زملائه ضمن تلك الفئة. حضرت زوجته الأولى، سالي، التي تصاحبها من ترعاها. أصيب مخ سالي بالتلف حين تعرضت لحادث سيارة في عمر التاسعة والعشرين؛ لذا، على الأرجح لا تعرف من هو مات، أو من هم أولادها الثلاثة الذين كبروا، أو أن هذا هو البيت الذي عاشت فيه عندما كانت زوجة شابة. لكن لم يصب بالتلف الجزء الخاص في مخها المسئول عن سلوكها اللطيف، ويبهجها أن تقابل الناس، حتى وإن كانت قابلتهم فعليا منذ خمس عشرة دقيقة مضت. المرأة التي ترعاها اسكتلندية صغيرة الحجم ومنظمة؛ وكثيرا ما توضح أنها لم تعتد الحفلات الصاخبة الكبيرة مثل هذه، وأنها لا تشرب أثناء ساعات عملها.
عاشت زوجة مات الثانية؛ دوريس، معه أقل من عام، على الرغم من أنها تزوجته لمدة ثلاث سنوات. إنها هنا مع عشيقتها الأصغر منها بكثير، لويز، وابنتهما الرضيعة التي حملتها لويز وولدتها منذ أشهر قليلة. ظلت دوريس صديقة لمات وصديقة مقربة من ابن مات وسالي الأصغر، تومي، الذي كان صغيرا جدا، فظل في رعايتها حين تزوجت والده. يحضر الحفل ابنا مات الكبيران مع أطفالهما ووالدتي أطفالهما، على الرغم من أن واحدة منهما لم تعد زوجة لذلك الأب. صاحبته شريكته الحالية وابنها الذي تشاجر مع واحد من أطفال العائلة على من يدفع الأرجوحة.
أحضر تومي معه لأول مرة حبيبه جاي الذي لم يقل أي شيء حتى الآن. قال تومي لجويس إن جاي ليس معتادا على العائلات.
قالت جويس: «أتفهم موقفه ؛ لقد مر علي وقت لم أكن كذلك أيضا.» ضحكت؛ وكانت بالكاد تستطيع أن تمسك نفسها عن الضحك بينما تشرح وضع الأعضاء الرسميين والنائين لما يسميه مات العشيرة. هي نفسها ليس لديها أطفال، على الرغم من أنه كان لديها زوج سابق؛ جون، الذي يعيش على الساحل في بلدة صناعية عانت من مشاكل عديدة. لقد دعته إلى الحفلة، لكنه لم يستطع الحضور؛ كان حفيد زوجته الثالثة يعمد في ذلك اليوم. دعت جويس بالطبع زوجته كذلك؛ اسمها تشارلن وتدير مخبزا. كتبت الرسالة الموجزة اللطيفة عن التعميد؛ مما دفع جويس إلى أن تقول لمات إنها لا تستطيع أن تصدق أن جون يمكن أن يصبح متدينا.
قالت - وهي تشرح كل هذا لأحد المدعوين: «كنت أتمنى لو أنهم جاءوا.» (دعي الجيران لكي لا يتذمروا من الضجيج.) وأردفت: «حينئذ كنت سأشارك بنصيبي في هذه التشابكات العائلية. كانت لديه زوجة ثانية، لكن لا فكرة لدي أين ذهبت، وأعتقد أنه لا يعرف كذلك.»
هناك كثير من الطعام الذي أعده مات وجويس وأحضره الناس، وكثير من النبيذ ومزيج فاكهة للأطفال، ومزيج كحولي حقيقي خلطه مات لهذه المناسبة؛ على شرف الأيام الخوالي، كما يقول، حين كان الناس يعرفون حقا كيف يشربون. يقول إنه كان سوف يعده في صفيحة قمامة بعد غسلها، كما كانوا يعدون الشراب حينذاك، لكن الآن، قد يشعر الجميع بالغثيان إذا شربوه. لم يقترب معظم الشباب منه على كل حال.
الأراضي فسيحة. هناك كروكيت لو أراد الناس اللعب، والأرجوحة التي يحتفظ بها مات منذ طفولته، وكانت محل نزاع. لم ير معظم الأطفال سوى أرجوحات الحدائق والألعاب البلاستيكية في الفناء. بالتأكيد مات هو آخر واحد في فانكوفر يحتفظ بأرجوحة يدوية ويعيش في المنزل الذي كبر فيه؛ منزل في شارع ويندسور فوق سهل جروس ماونتن الذي كان قديما على حافة الغابة. تتراكم في الوقت الحالي المنازل فوقه، ومعظمها قلاع بجراجات ضخمة. يقول مات، في أحد الأيام سوف يختفي هذا المكان. الضرائب مهولة. سوف يختفي ويحل محله زوجان من المنازل الشنيعة.
لا تستطيع جويس أن تفكر في حياتها مع مات في أي مكان آخر. دائما يحدث شيء ما هنا. ناس تأتي وتذهب وتترك أشياء ثم يسترجعونها فيما بعد (بما فيهم الأطفال). حفل الرباعي الوتري الذي يقيمه مات في المكتب في ظهيرة أيام الأحد؛ واجتماع «طائفة التوحيد» في مساء أيام الأحد؛ واجتماع استراتيجية «حزب الخضر» الذي يخطط له في المطبخ؛ ومجموعة القراءة التمثيلية التي تؤدي مشاهدها أمام المنزل بينما شخص ما يحكي تفاصيل دراما حياتية حقيقية في المطبخ (مطلوب حضور جويس في كلا الموقعين). يتناقش مات مع زميل له حول الاستراتيجية في غرفة المكتب التي أغلقا بابها عليهما.
كثيرا ما تقول إنهما، مات وهي، نادرا ما يكونان معا وحدهما إلا في السرير. - «وحينها يكون منغمسا في قراءة شيء مهم.»
بينما تقرأ هي شيئا غير مهم.
لا تبالي، إنه يحمل حبا وشغفا هائلين بالحياة الاجتماعية المختلفة وربما هي بحاجة لها. حتى في الكلية؛ حيث ينخرط في علاقات مع الطلاب والمساعدين وأعداء محتملين ومن يحطون من قدره؛ يبدو أنه يتحرك في زوبعة فوضوية. كان هذا مريحا لها في وقت من الأوقات. وربما يظل مريحا لو كان لديها وقت لتنظر إليه من الخارج، فربما تحسد نفسها، من الخارج، وربما يحسدها الناس، أو على الأقل يعجبون بها؛ إذ يعتقدون أنها تناسبه تماما، بكل أصدقائها وواجباتها ونشاطاتها، إلى جانب مهنتها بالطبع. لا يمكن أن تنظر إليها الآن وتتخيل أنها كانت وحيدة تماما حين جاءت أول مرة إلى فانكوفر؛ وحيدة إلى حد أنها وافقت على الخروج في موعد مع ولد يعمل في مغسلة، يصغرها بعقد. وعلاوة على ذلك تركها تنتظر ولم يأت.
تعبر الآن فوق الحشيش بشال فوق ذراعها من أجل السيدة فاولر؛ أم دوريس زوجة مات الثانية، والتي أعلنت عن ميولها السحاقية مؤخرا. لا تستطيع السيدة فاولر أن تجلس في الشمس، لكنها ترتجف في الظل. وتحمل جويس في اليد الثانية كوبا من عصير الليمون الطازج للسيدة جوان، مرافقة سالي. وجدت السيدة جوان كوكتيل فواكه الأطفال مسكرا جدا. لا تسمح لسالي بأن تحتسي أي شراب؛ فربما تسكبه فوق فستانها الجميل أو ترميه على أي شخص بدافع اللهو، يبدو أن سالي لا تنزعج من هذا الحرمان.
تمر جويس في رحلتها عبر المرج بمجموعة من الشباب يجلسون في دائرة، تومي وصديقه الجديد وأصدقاء آخرين رأتهم كثيرا في المنزل وآخرين تعتقد أنها لم ترهم قط من قبل.
تسمع تومي يقول: «لا، لست إيزادورا دونكان.»
يضحكون جميعا.
تدرك أنهم يلعبون تلك اللعبة الصعبة والنخبوية التي كانت شائعة منذ سنوات مضت. ماذا كان اسمها؟ تعتقد أن الاسم كان يبدأ بحرف «ب». تصورت أن الناس يعارضون النخبوية بشدة هذه الأيام لدرجة تمنعهم عن هذا النوع من التسلية.
قالت بصوت مرتفع: «بوكستهود.» - «تلعبون بوكستهود.»
قال تومي - وهو يضحك ليشجع الآخرين على الضحك: «لقد أصبت في حرف الباء على الأقل.»
ثم أردف: «انظروا، إنها زوجة أبي، ليست حمقاء تماما، لكنها موسيقية، ألم يكن بوكستهود موسيقيا؟»
تقول جويس بنبرة بها مسحة من الغضب: «بوكستهود مشى خمسين ميلا ليسمع باخ يعزف على الأورغان. نعم هو موسيقي.»
يقول تومي: «لقد أصبت.»
تنهض بنت من الدائرة، ويناديها تومي. - «أهلا كريستي. كريستي. ألن تلعبي ثانية؟» - «سأعود، سوف أختبئ فقط في الأحراش مع سجائري البغيضة.»
ترتدي الفتاة فستانا قصيرا أسود مزخرفا - يدفعك إلى التفكير في قطعة من الملابس الداخلية أو ملابس النوم - وجاكيت بسيطا قصيرا. لها شعر فاتح ناعم، ووجه شاحب مراوغ، وحاجبان غير مرئيين. نفرت جويس من الفتاة فورا. تعتقد أنها النوع من الفتيات الذي مهمته إزعاج الناس. إنها تتطفل - إذ تعتقد جويس أنها لا بد حضرت متطفلة - على حفل في بيت أناس لا تعرفهم، ومع ذلك تشعر بأن لها الحق في احتقارهم؛ بسبب بهجتهم البسيطة (السطحية؟) وحفاوتهم البرجوازية. (هل ما زال الناس يستخدمون كلمة «برجوازية» حتى الآن؟)
لا يتعلق الأمر بأن الضيفة لا تستطيع أن تدخن في أي مكان تريد؛ فلا توجد أي لافتات منمقة وضعت للتحذير من التدخين، ولا حتى داخل البيت. تشعر جويس أن قدرا كبيرا من بهجتها قد خفت.
تقول بحدة: «تومي! تومي! هل تسمح بأن تأخذ هذا الشال إلى الجدة فاولر؟ تشعر بالبرد على ما يبدو. وهذا العصير إلى السيدة جوان. تعرفها، أليس كذلك؟ السيدة التي ترعى والدتك.»
لا ضرر من تذكيره بعلاقات ومسئوليات معينة.
نهض تومي سريعا وبرشاقة واقفا على قدميه.
يقول - وهو يخلصها من الشال والكوب: «كنا نلعب بوتشيلي.» - «آسفة. لم أقصد أن أفسد عليك لعبتك.»
قال فتى تعرفه، اسمه جاستن: «لسنا ماهرين على أي حال، نحن لسنا أذكياء كما كنتم أنتم.»
تقول جويس: «كما كنا، عبارة في محلها.» للحظة شعرت بالحيرة بشأن ما ستفعله أو أين ستذهب بعد ذلك. •••
يغسلون الأطباق في المطبخ؛ جويس وتومي والصديق الجديد، جاي. انتهت الحفلة. غادر الناس مع أحضان وقبلات وصيحات ودية، يحمل البعض منهم أطباق طعام لم تجد جويس مكانا لها في الثلاجة. تخلصت من سلاطات ذابلة وفطائر بالكريمة وبيض مسلوق محشو. لم يأكلوا إلا قليلا من البيض المسلوق على كل. إنه موضة قديمة. كوليسترول كثير.
تقول جويس وهي ترمي طبقا عامرا في القمامة: «مؤسف جدا، استغرق إعداد ذلك البيض جهدا كبيرا. إنه يذكر الناس بوجبات الكنيسة.»
يقول جاي: «اعتادت جدتي إعداده.» كانت تلك أول كلمات يوجهها لجويس، ولاحظت أن تومي بدا عليه الامتنان. تشعر هي نفسها بالامتنان، على الرغم من أنه صنفها في فئة جدته.
يقول تومي: «أكلنا الكثير منه وكان شهيا.» اشتغل هو وجاي لمدة نصف ساعة على الأقل معها؛ إذ كانا يجمعان الأكواب والأطباق وأدوات المائدة التي تبعثرت في كل مكان من المرج والشرفة والبيت، حتى في أكثر الأماكن الغريبة مثل أصص الزهور وتحت وسائد الكنبة.
رص الأولاد - إذ تراهم جويس أولادا - غسالة الأطباق بمهارة أكبر مما كان يمكن لها في حالة الإرهاق التي تعاني منها، وجهزوا الماء الساخن بالصابون ومياه الشطف الباردة في الحوضين لتنظيف الأكواب.
قالت جويس: «يمكن أن نبقي الأكواب للدورة التالية لغسالة الأطباق.» لكن تومي قال لا. - «لولا أنك فقدت صوابك بسبب كل ما قمت به اليوم، ما كنت فكرت في وضعها في غسالة الأطباق.»
يغسل جاي، وتجفف جويس، ويرص تومي. لا يزال يتذكر أماكن الأشياء في هذا المنزل. مات، في الشرفة، منخرط في نقاش متقد مع رجل من القسم الذي يدرس به في الجامعة. يبدو أنه ليس سكران للغاية كما كانت الأحضان العديدة والتوديعات المطولة تدل منذ فترة وجيزة.
تقول جويس: «ربما أكون قد فقدت صوابي لكن يراودني الآن إحساس داخلي بأن ألقي كل هذا في القمامة وأشتري بلاستيك.»
يقول تومي: «متلازمة ما بعد الحفلة. نعرفها تماما.»
تقول جويس: «إذن من تلك الفتاة بالفستان الأسود ... تلك التي تركت اللعبة؟» - «كريستي؟ لا بد أنك تقصدين كريستي، كريستي أودل، إنها زوجة جاستن، لكنها تحمل اسمها الخاص. تعرفين جاستن، أليس كذلك؟» - «بالطبع أعرفه. فقط لم أعرف أنه متزوج.»
يقول تومي مشاكسا إياها: «آه، كم كبروا.»
ويضيف: «جاستن في الثلاثين، وهي أكبر على الأرجح.»
يقول جاي: «أكبر بالتأكيد.»
تقول جويس: «مظهرها يثير الاهتمام. حدثني عنها.» - «إنها كاتبة. لا بأس بها.»
يثير جاي الذي ينحني فوق الحوض ضجة لا تستطيع جويس تفسيرها.
يقول تومي: «تميل إلى التحفظ.» يتحدث إلى جاي: «هل أنا محق؟ هل ترى هذا أيضا؟»
يقول جاي بصراحة: «تظن نفسها بارعة موهوبة.»
يقول تومي: «حسنا، أول كتاب لها نشر توا. نسيت ما اسمه. عنوان كعناوين كتب مساعدة الذات. لا أعتقد أنه عنوان جيد. عندما تنشر أول كتاب لك، أظن أنك تظن نفسك بارعا لا نظير لك لفترة من الوقت.» •••
بينما كانت جويس تمر بمكتبة لبيع الكتب في لونسدال بعد عدة أيام، رأت وجه الفتاة على لوحة إعلانية. وها هو اسمها: كريستي أودل. ترتدي قبعة سوداء والجاكيت الأسود الصغير ذاته الذي ارتدته في الحفلة. جاكيت مضبوط وبسيط وقصير الرقبة. ومع ذلك لا يوجد ما تتباهى به. تحدق مباشرة إلى عدسة الكاميرا، بنظرتها الكئيبة والمجروحة الباردة المليئة بالإدانة.
أين رأتها جويس من قبل؟ في الحفلة بالطبع. لكن حتى في ذلك الحين، في خضم نفورها غير المبرر على الأرجح منها، شعرت أنها رأت ذلك الوجه من قبل.
طالبة؟ كان لديها العديد من الطلاب في زمنها.
تدخل إلى المحل وتشتري نسخة من الكتاب.
عنوان الكتاب «كيف يجب أن نعيش». سؤال لا يتبعه علامة استفهام. تقول المرأة التي باعته لها: «إذا أحضرته يوم الجمعة بعد الظهر بين الثانية والرابعة، ستكون المؤلفة هنا للتوقيع عليه.» - «فقط لا تنزعي الملصق الذهبي الصغير عنه، لكي يدل على أنك اشتريته من هنا.»
لم تفهم قط فكرة الاصطفاف لإلقاء نظرة سريعة على المؤلف ثم المغادرة باسم غريب مكتوب على كتابك؛ لهذا همهمت بأدب، همهمة لا تشير إلى إجابة واضحة.
إنها حتى لا تعرف إن كانت سوف تقرأ الكتاب أم لا.
تقرأ في الوقت الحالي سيرتين ذاتيتين جيدتين، واثقة من أنهما تلائمان ذائقتها أكثر من هذا.
كتاب «كيف يجب أن نعيش» هو مجموعة قصصية لا رواية. هذا في حد ذاته محبط. يبدو لها أن هذا يقلل قيمة الكتاب؛ إذ يجعل المؤلف يبدو وكأنه يتعلق بأهداب الأدب، وليس مستقرا في قلبه.
ومع ذلك، أخذت جويس الكتاب إلى سريرها في تلك الليلة، وفتحته على صفحة المحتويات. في منتصف القائمة جذب انتباهها عنوان معين. «كايندرتوتنليدر.»
إنها مجموعة أغنيات للمؤلف الموسيقي جوستاف مالر. موضوع مألوف لها. تفتح الكتاب على الصفحة المشار إليها شاعرة بالألفة. شخص ما - المؤلفة ذاتها على الأرجح - كان لديه الحس السليم لترجمة هذا العنوان. «أغاني عن موت الأطفال.»
أطلق مات صوتا متذمرا إلى جانبها.
أدركت أنه لا يعجبه ما يقرؤه ويريدها أن تسأله ما هو. لذا تسأله. - «يا إلهي! يا له من كاتب أحمق!»
تضع الكتاب على وجهه فوق صدرها وتصدر أصواتا لتبين أنها تصغي إليه. على الغلاف الخلفي للكتاب، توجد صورة المؤلفة نفسها، بدون القبعة هذه المرة. لا تزال عابسة ومتجهمة، لكن أقل تباهيا. وبينما مات يتحدث، تثني جويس ركبتيها لكي تستطيع أن تضع الكتاب عليهما وتقرأ الجمل القليلة من السيرة الذاتية على الغلاف.
ترعرعت كريستي أودل في روف ريفر، بلدة صغيرة على ساحل كولومبيا البريطانية. تخرجت في يو بي سي، برنامج الكتابة الإبداعية . تعيش في فانكوفر، كولومبيا البريطانية مع زوجها جاستن وقطها تايبريوس.
بعد أن شرح لها الحماقة في كتابه، يرفع مات عينيه عن كتابه لينظر إلى كتابها ويقول: «هذه هي الفتاة التي كانت في الحفلة.» - «نعم، اسمها كريستي أودل. إنها زوجة جاستن.» - «ألفت كتابا إذن؟ ما هو؟» - «أدب.» - «أوه!»
يتابع قراءته، لكن بعد لحظة يسألها بمسحة اعتذار: «هل هو جيد؟» - «لم أعرف بعد.»
تقرأ: «عاشت مع أمها في منزل بين الجبال والبحر ...»
ما إن قرأت هذه الكلمات، شعرت جويس بانزعاج شديد منعها عن مواصلة القراءة؛ أو مواصلة القراءة وزوجها إلى جانبها. تغلق الكتاب وتقول: «أعتقد أني سوف أنزل قليلا.» - «هل النور يزعجك؟ سوف أطفئه حالا.» - «لا، أعتقد أني أريد بعض الشاي. أراك بعد قليل.» - «سأكون نائما على الأرجح.» - «إذن تصبح على خير.» - «تصبحين على خير.»
تقبله وتأخذ الكتاب معها. •••
عاشت مع أمها في منزل بين الجبال والبحر. عاشت قبل ذلك مع السيدة نولاند التي تبنت الأطفال. تنوع عدد الأطفال في بيت السيدة نولاند، من حين إلى آخر، لكن كان هناك دائما عدد كبير. نام الصغار في سرير في وسط الغرفة بينما نام الكبار على سرائر متنقلة على جانبي السرير لكي لا يتدحرج الصغار ويسقطوا. يدق جرس ليوقظك في الصباح. تقف السيدة نولاند عند الباب تقرع الجرس. وعندما تقرعه في المرة الثانية، من المفترض أنك تكون قد تبولت واغتسلت وارتديت ملابسك وأصبحت مستعدا للفطور. كان من المفترض أن يساعد الكبار من هم أصغر منهم في ترتيب الأسرة. كان الصغار يبللون أسرتهم في بعض الأحيان لأنه يصعب عليهم الزحف إلى خارجه فوق الكبار في الوقت المناسب. اعتاد بعض الكبار أن يفتنوا عليهم، لكن البعض الآخر كان أكثر لطفا، فيقومون بسحب الملاءات من فوق السرير وينشرونها لتجف، وأحيانا، حين تعود إلى السرير في الليل، كنت تجده لم يجف تماما. كان هذا معظم ما تذكرته عن منزل السيدة نولاند.
ثم ذهبت للعيش مع والدتها، واعتادت والدتها أن تأخذها كل ليلة إلى اجتماع زمالة المدمنين المجهولين. اضطرت أن تأخذها لأنه لم يكن متوفرا لديها أي شخص تتركها في رعايته. كان في مقر الزمالة لعبة الليغو؛ علبة مكعبات يلعب بها الأطفال، لكنها لم تحب المكعبات كثيرا. بعد أن بدأت في تعلم العزف على الكمان في المدرسة، أصبحت تأخذ كمان الأطفال معها إلى اجتماعات زمالة المدمنين المجهولين. لم تستطع أن تعزف عليها هناك، لكن كان عليها أن تتمسك بها طوال الوقت لأنها تخص المدرسة. إذا ارتفع صوت الناس، ستستطيع أن تتدرب بصوت منخفض.
كانت المدرسة تعطي دروسا في العزف على الكمان. إذا لم ترغب في العزف على آلة موسيقية، تستطيع أن تعزف على آلة المثلث، لكن المعلمة فضلت أكثر العزف على آلة أصعب. كانت المعلمة امرأة طويلة ذات شعر بني مشطته في أغلب الأوقات كضفيرة طويلة على ظهرها. اختلفت رائحتها عن المدرسين الآخرين. كان بعضهم يضع عطرا، لكنها لم تفعل هذا قط. كانت تفوح منها رائحة خشب أو موقد أو أشجار. فيما بعد سوف تتصور الطفلة أنها كانت رائحة شجر أرز مقطع. بعد أن بدأت أمها في العمل لدى زوج المعلمة، فاحت منها رائحة مماثلة، لكن ليست مماثلة تماما. كان الاختلاف بينهما أن أمها تفوح منها رائحة الخشب، لكن المدرسة فاحت منها رائحة خشب بالموسيقى.
لم تكن الطفلة موهوبة، لكنها اجتهدت. لم تفعل ذلك لأنها أحبت الموسيقى، وإنما لحبها للمعلمة؛ وليس شيئا آخر. •••
تضع جويس الكتاب على مائدة المطبخ، وتنظر مرة ثانية إلى صورة المؤلفة. هل هناك أي شيء من إيدي في هذا الوجه؟ لا شيء. لا شيء في الشكل أو التعبير.
تنهض وتبحث عن البراندي، وتضع قليلا منه في الشاي. تبحث في ذهنها عن اسم طفلة إيدي. بالتأكيد ليس كريستي. لم تستطع أن تتذكر أي مرة أحضرتها إيدي إلى المنزل. في المدرسة، كان هناك العديد من الأطفال الذين يتعلمون العزف على الكمان.
لا يمكن أن الطفلة كانت خالية من المهارة تماما، وإلا وجهتها جويس لآلة أقل صعوبة من الكمان. لكنها قطعا لم تكن موهوبة - حسنا، لقد كان لديها حد معقول من المهارة وليس الموهبة - وإلا لكان اسمها قد علق في ذهنها.
وجه خاو من التعبيرات. لمحة من طفولة أنثوية. لكن جويس لاحظت شيئا ما في وجه الفتاة، المرأة، الناضجة.
أيمكن ألا تكون حضرت إلى المنزل حين كانت إيدي تساعد جون يوم السبت؟ أو حتى في تلك الأيام حين تأتي فجأة إيدي إلى البيت في زيارة ما، ليس لتعمل، بل لكي ترى كيف يسير العمل، وتقدم المساعدة لو احتاجها. تجلس لتشاهد ما كان يفعله جون، وتعترض أي حوار يجريه مع جويس في يوم إجازتها الثمين.
كريستين. بالطبع. كان هذا اسم الفتاة. تحول بسهولة إلى كريستي.
لا بد أن كريستين كانت شريكا بطريقة ما في التودد بينهما، ولا بد أن جون كان يمر بشقتها، تماما كما مرت إيدي بمنزلهما، وربما أخذت إيدي رأي الطفلة.
ما رأيك في جون؟
ما رأيك في منزل جون؟
ألن يكون لطيفا أن نذهب ونعيش في منزل جون؟
مامي وجون يحب أحدهما الآخر كثيرا، وحين يحب الناس بعضهم بعضا كثيرا يرغبون في العيش في المنزل نفسه. معلمة الموسيقى وجون لا يحب أحدهما الآخر بقدر حب مامي وجون، ولهذا أنت ومامي وجون سوف نعيش في منزل جون، ومعلمة الموسيقى سوف تعيش في شقة.
كل هذا خطأ؛ لا يمكن أن تقول إيدي هذا الهراء، أعطيها حقها.
تتصور جويس أنها تعرف المسار الذي سوف تسلكه القصة. أصاب الطفلة الاضطراب الكامل من اتفاقيات الناضجين وأوهامهم؛ إذ جرجرت هنا وهناك. لكن حين التقطت الكتاب مرة ثانية، وجدت أن القصة لم تذكر شيئا عن تغيير محل الإقامة.
يتمحور كل شيء حول حب الطفلة للمعلمة.
يوم الخميس، يوم درس الموسيقى، هو اليوم المشهود في الأسبوع، تعتمد سعادته أو تعاسته على نجاح عزف الطفلة أو فشلها وتعليق المعلمة على هذا العزف. كلاهما لا يحتمل تقريبا. يمكن أن تسيطر المعلمة على صوتها وأن تكسوه باللطف والمزاح لكي تغطي إرهاقه وخيبة أمله. الطفلة تعيسة، أو فجأة تكون المعلمة جزلة ومرحة. - «أحسنت، أحسنت. تفوقت اليوم فعلا.» والطفلة سعيدة جدا، وتصيبها تقلصات في معدتها.
ثم يأتي الخميس حين تكبو الطفلة في الفناء وتجرح ركبتها؛ وإذ تنظف المعلمة الجرح بقطعة قماش مبللة دافئة، يعلن صوتها الناعم فجأة عن أن هذا يحتاج إلى مكافأة، بينما تتناول إناء «الأذكياء» الذي تستخدمه لتشجيع الأطفال الصغار. - «ماذا تفضلين؟»
تنجح الطفلة في قول: «أي شيء.»
هل هذا بداية تغير ما؟ هل هو بسبب الربيع، واستعدادات الحفل الموسيقي؟
تشعر الطفلة أنها مميزة. سوف تصبح عازفة منفردة؛ هذا يعني أنها يجب أن تبقى بعد انتهاء الدوام الدراسي أيام الخميس لتتدرب، ومن ثم سوف تفوت وسيلة نقلها من البلدة في حافلة المدرسة إلى المنزل الذي تعيش فيه مع أمها الآن. سوف توصلها المعلمة. في الطريق تسألها ما إذا كانت تشعر بالتوتر تجاه الحفل الموسيقي. - نوعا ما.
تقول المعلمة: حسن إذن، يجب أن تدرب نفسها على التفكير في شيء جميل فعلا. مثل طير يطير في السماء، ما طيرها المفضل؟
تفضيلات مرة ثانية. لا تستطيع الطفلة التفكير، لا تستطيع تذكر طير واحد. ثم «الديك؟»
تضحك المعلمة. تقول: «حسن. حسن. فكري في الديك. قبل أن تبدئي العزف، فكري في الديك.»
ثم، ربما لكي تعوض عن ضحكتها؛ إذ تشعر بحرج الطفلة، تقترح أن تذهبا إلى حديقة ويلينجدون لتريا إن كان كشك الآيس كريم قد فتح بمناسبة حلول الصيف. - «هل يشعرون بالقلق إذا لم تحضري إلى المنزل مباشرة؟» - «يعرفون أني معك.»
كشك الآيس كريم مفتوح لكن الاختيارات محدودة. لم يحضروا النكهات الألذ بعد. تختار الطفلة الفراولة، وقد حرصت هذه المرة على الاستعداد للسؤال، في وسط غبطتها وانفعالها. تختار المعلمة مذاق الفانيليا، كما يفعل الكثير من الكبار، ومع أنها تمزح مع البائع، تخبره أن يسرع ويضع زبيب الرم وإلا فلن تحبه بعد الآن.
لعل هذا قد تزامن مع تغيير آخر، فعند سماع المعلمة تتحدث بهذا الأسلوب، بالنبرة اللعوب التي تتحدث بها البنات الكبيرات، تسترخي الطفلة. من الآن فصاعدا تكتسب مزيدا من السيطرة على عاطفتها المشبوبة نحو المعلمة، لكنها سعيدة تماما. اتجهتا بالسيارة إلى الميناء لتشاهدا القوارب الراسية، وتقول المعلمة إنها أرادت دائما أن تعيش في عوامة. ألن يكون ممتعا؟ تقول المعلمة، وبالطبع توافقها الطفلة. تختاران القارب الذي يمكن أن تختاراه للعيش. إنه صناعة يدوية، ومدهون بالأزرق الفاتح، مع صف من النوافذ الصغيرة عليها أصص نبات إبرة الراعي.
يؤدي هذا إلى حديث عن المنزل الذي تعيش فيه الطفلة الآن، والمنزل الذي اعتادت أن تعيش فيه المعلمة. وعلى نحو ما بعد هذا، في طريقهما، عادتا كثيرا إلى ذلك الموضوع. تقر الطفلة أنها تحب أن يكون لديها غرفة نومها الخاصة بها، لكنها لا تحب العتمة في الخارج. تعتقد في بعض الأحيان أنها تسمع صوت حيوانات برية خارج نافذتها.
أي حيوانات برية؟
دببة، أسود. تقول أمها إنها في الأدغال وتحذرها من الذهاب إلى هناك. - «هل تركضين وتذهبين إلى سرير أمك حين تسمعينها؟» - «يفترض ألا أفعل ذلك.» - «يا إلهي! لماذا؟» - «جون هناك.» - «ما رأي جون في الدببة والأسود؟» - «يعتقد أنها مجرد غزلان.» - «هل غضب من أمك بسبب ما قالته لك؟» - «لا.» - «أعتقد أنه لا يغضب أبدا.» - «جن جنونه إلى حد ما ذات مرة، حين سكبنا أنا وأمي كل نبيذه في الحوض.»
تقول المعلمة إنه من المثير للشفقة أن تخافي من الغابة طول الوقت. تقول: إن بها مسالك يمكن أن تمشي بها، ولن تزعجك الحيوانات البرية فيها، خاصة إذا أثرت ضجة، وعادة تفعلين. تعرف الطرق الآمنة وتعرف أسماء الزهور البرية التي تزهر في ذلك الوقت. البنفسج النابي. الأطرليون. الزهرة الثلاثية. البنفسج الأرجواني وزهرة الحوض (على شكل أنف الفيل)، وزنابق الشوكولاتة. - «أعتقد أن لها اسما صحيحا آخر لكني أحب أن أسميها زنابق الشوكولاتة. يبدو لذيذا. بالطبع لا علاقة لهذا بمذاقها وإنما بشكلها. تبدو مثل الشوكولاتة تماما بقطعة بنفسجية مثل التوت المسحوق. إنها نادرة لكن أعرف أين أجد بعضها.» •••
تترك جويس الكتاب ثانية. الآن، الآن، تفهم المتواري، تستطيع أن تشعر بالرعب القادم. الطفلة البريئة، والناضجة المريضة المخادعة، ذلك الإغواء. كان يجب أن تعلم. كل هذا رائج هذه الأيام، بل عمليا هو إلزامي. الغابة، زهور الربيع. هنا حيث تبذر الكاتبة كذبها القبيح في الناس، والموقف الذي أخذته من الحياة الحقيقية؛ لكونها أكسل من أن تبتكر، لكن ليس لحد أن يمنعها كسلها عن التشهير والتشنيع.
بالتأكيد بعض مما ورد حقيقي. إنها تتذكر الآن أشياء كانت قد نسيتها. توصيل كريستين إلى بيتها، بدون أن تفكر فيها أبدا باعتبارها كريستين، بل دائما طفلة إيدي. تتذكر كيف لم تكن تقود سيارتها إلى الفناء لكي تستدير عائدة، بل دائما تنزلها على جانب الطريق، ثم تقود نصف ميل آخر أو نحو ذلك لكي تصل إلى مكان تستدير منه. لا تتذكر أي شيء عن الآيس كريم. لكن كانت هناك عوامة راسية في الميناء بالضبط مثل تلك المذكورة. حتى الأزهار، والاستجواب الشنيع الماكر للطفلة؛ هذا قد يكون صحيحا.
يجب أن تواصل. ودت أن تسكب مزيدا من البراندي، لكن لديها تدريب في التاسعة صباحا. •••
لا شيء من هذا. ارتكبت خطأ آخر. أغفلت القصة الغابة وزنابق الشوكولاتة، ومرت مرورا عابرا على الحفلة الموسيقية. انتهت الدراسة توا. وفي صباح الأحد بعد الأسبوع الأخير، استيقظت الطفلة مبكرا. تسمع صوت المعلمة في الفناء، وتذهب إلى نافذتها. هناك المعلمة في سيارتها بنافذتها المفتوحة تتحدث إلى جون. مقطورة صغيرة تلتحق بالسيارة. جون حافي القدمين، عاري الصدر، لا يرتدي إلا بنطلون جينز. ينادي على أم الطفلة فتأتي إلى باب المطبخ وتمشي بضع خطوات في الفناء لكنها لا تصل إلى السيارة. ترتدي قميصا من قمصان جون، تستخدمه ثوبا للنوم. ترتدي دائما أكماما طويلة لكي تخفي وشومها.
يدور الحديث عن شيء في الشقة يعد جون بأخذه. ترمي المعلمة المفاتيح له. ثم يحثها هو وأم الطفلة أن تأخذ أشياء أخرى. لكن المعلمة تضحك ضحكة مقيتة وتقول: «كله لكما.» يقول جون بسرعة: «حسنا، إلى اللقاء.» وتردد المعلمة: «إلى اللقاء.» ولا تقول أم الطفلة أي شيء يمكن سماعه. تضحك المعلمة بالأسلوب ذاته الذي ضحكت به من قبل، ويوجهها جون لتدير السيارة والمقطورة في الفناء. في تلك الأثناء، تنزل الطفلة ركضا في بيجامتها، على الرغم من أنها تعرف أن المعلمة ليست في مزاج يسمح بالكلام معها.
تقول أم الطفلة: «لقد رحلت للتو، كان يجب أن تلحق المعدية.»
ينطلق نفير السيارة؛ فيرفع جون يدا واحدة. ثم يعبر الفناء ويقول لأم الطفلة: «انتهى الأمر.»
تسأل الطفلة ما إذا كانت المعلمة ستعود فيجيبها قائلا: «هذا مستبعد.»
ما يشغل نصف صفحة أخرى هو فهم الطفلة المتزايد لما كان يحدث. فأثناء تقدمها في السن، تتذكر أسئلة محددة، التقصي الذي بدا عفويا. المعلومات - التي لا قيمة لها في الحقيقة - عن جون (الذي لا تسميه جون) وأمها. متى يستيقظان في الصباح؟ ما الطعام الذي يحبان تناوله وهل يطبخان معا؟ إلى ماذا يستمعان في الراديو؟ (لا شيء؛ لقد اشتريا تليفزيون.)
ما الذي كانت تسعى إليه المعلمة؟ هل كانت تأمل في أن تسمع أخبارا سيئة؟ أم كانت تهفو فقط إلى أن تسمع أي شيء، إلى أن تظل على صلة بشخص ينام تحت السقف نفسه، يأكل من المائدة ذاتها، قريبا من هذين الاثنين يوميا؟
هذا ما لن تستطيع الطفلة معرفته أبدا. ما تستطيع أن تعرفه هو كيف أنها لم تكن ذات قيمة، كيف قوبل إعجابها وافتتانها بالمعلمة بالتلاعب، كم كانت طفلة صغيرة حمقاء؛ وهذا يملؤها مرارة بالتأكيد. مرارة وكبرياء. تعتقد أنها أصبحت شخصا لا يمكن خداعه مرة أخرى أبدا.
لكن يحدث شيء ما، وهنا النهاية المدهشة. تتغير ذات يوم مشاعرها نحو المعلمة وتجاه تلك الفترة الزمنية من طفولتها. لا تعرف كيف ومتى، لكنها تدرك أنها لا تفكر الآن في تلك الفترة على أنها كانت غشا. تفكر في الموسيقى التي تعلمت عزفها بمشقة (تخلت عنها طبعا قبل أن تبلغ حتى مرحلة المراهقة). فرحة آمالها، ومضات سعادتها، الأسماء الغريبة والمبهجة لزهور الغابة التي لم تتمكن من رؤيتها قط.
الحب. كانت سعيدة به. يبدو أن التدابير العاطفية في العالم تتميز ببخل عشوائي وظالم بالطبع، إذا نبعت سعادة عظيمة لشخص ما - وإن كانت مؤقتة وواهية - من تعاسة شخص آخر.
تفكر جويس قائلة لنفسها: عجبا، نعم، نعم. •••
تذهب في ظهيرة يوم الجمعة إلى مكتبة بيع الكتب. تحضر نسختها لتوقعها، إلى جانب صندوق صغير من محل بيع لوبون شوكولاتير. تقف في الصف. تندهش قليلا من عدد الناس الذين جاءوا. نساء من عمرها، ونساء أكبر سنا وأصغر، وعدد قليل من الرجال جميعهم أصغر سنا، البعض منهم بصحبة حبيباتهم.
تتعرف المرأة التي باعت لجويس الكتاب عليها.
تقول: «جميل أن أراك، هل قرأت المقال النقدي في جلوب؟ رائع.»
جويس مرتبكة، ترتعد قليلا في الحقيقة، تجد صعوبة في التحدث.
تمر المرأة بمحاذاة الصف، وتشرح أن الكتب التي بيعت في هذا المحل فقط هي التي يمكن توقعها هنا، وأنه غير مقبول توقيع كتاب مقتطفات أدبية يحوي واحدة من قصص كريستي أودل. تعتذر عن ذلك.
المرأة التي تقف أمام جويس طويلة وعريضة؛ لذا لا تستطيع أن تلقي نظرة على كريستي أودل حتى انحنت هذه المرأة إلى الأمام لتضع كتابها على مائدة التوقيع. حينئذ ترى امرأة شابة تختلف تماما عن فتاة الملصق الإعلاني وعن فتاة الحفلة. اختفى الجاكيت الأسود، والقبعة السوداء أيضا. ترتدي كريستي أودل جاكيت من القماش المقصب الحريري أحمر وردي، مع حبات ذهبية صغيرة مطرزة في طيته. وترتدي تحته قميصا ورديا رقيقا. يلمع شعرها لمعة ذهبية ويزين أذنيها حلق ذهبي، ويحيط رقبتها سلسلة ذهبية رفيعة مثل الشعرة. تلمع شفتاها مثل بتلات الوردة وجفناها مظللان بلون عنبري.
حسنا، من الذي يرغب في أن يشتري كتابا ألفه شخص متذمر أو فاشل؟
لم تفكر جويس فيما سوف تقوله؛ إذ توقعت أن يحضرها.
والآن، تتحدث البائعة مرة ثانية. - «هل فتحت كتابك على الصفحة التي ترغبين التوقيع بها؟»
كان يجب على جويس أن تضع صندوقها لكي تفعل هذا. تشعر فعليا بتشنج في حلقها.
تنظر كريستي إليها، تبتسم لها؛ ابتسامة مودة مصقولة، انفصال محترف. - «اسمك؟» - «جويس فحسب.»
يمر وقتها سريعا. - «هل ولدت في روف ريفر؟»
تقول كريستي أودل بامتعاض خفيف، أو، على الأقل، بعد أن تلاشت بهجتها: «كلا، عشت هناك فترة من الوقت. هل أكتب التاريخ؟»
تستعيد جويس علبتها. يبيعون في لوبون شوكولاتير زهور الشوكولاتة، لكن ليس الزنبق. ورود وتيوليب فقط؛ لهذا اشترت تيوليب، الذي لا يبعد عن البنفسج في شكله حقا، كلاهما بصيلي الشكل.
تقول بعجلة كبيرة - حتى إنها تبلع تقريبا الكلمة الطويلة: «أريد أن أشكرك على «كايندرتوتنليدر»، إنها تعني لي الكثير. أحضرت لك هدية.»
تأخذ البائعة العلبة وتقول: «إنها قصة رائعة، سوف آخذ هذه.»
تقول جويس ضاحكة: «إنها ليست قنبلة، إنها زنابق شوكولاتة، تيوليب في الحقيقة. ليس لديهم زنابق لهذا أحضرت تيوليب. أعتقد أنها أفضل ثاني اختيار.»
تلاحظ أن البائعة لا تبتسم الآن، بل تنظر لها بقسوة. تقول كريستي أودل: «أشكرك.»
لا يعكس وجه الفتاة لمحة تدل على أنها تعرفت عليها. لم تتعرف على جويس من سنوات روف ريفر الماضية أو من أسبوعين في الحفلة. لا تستطيع حتى أن تتأكد من أنها تعرفت على عنوان قصتها. يمكن أن تفكر أنه لا علاقة لها بها، كما لو أنها شيء ما تخلصت منه وتركته على الحشيش.
تجلس كريستي أودل هناك وتكتب اسمها كما لو أنه الشيء الوحيد الذي يمكن أن تكون مسئولة عنه في هذا العالم.
تقول البائعة - وهي لا تزال تنظر إلى العلبة التي زينتها الفتاة في محل الشوكولاتة بشريط أصفر مجعد: «من دواعي سروري أن تحدثت إليك.»
رفعت كريستي أودل عينيها لتحيي الشخص التالي في الصف، وأخيرا أدركت جويس أن عليها أن تتحرك، قبل أن تصبح هدف تسلية عامة مع علبتها، ويعلم الله، ربما هدفا للشرطة. •••
تشعر بالإنهاك بينما تمشي في شارع لونسدال، وتصعد التلة، لكنها تستعيد جأشها تدريجيا. قد تصبح قصة مضحكة يمكن أن تحكيها في يوم ما. لن يدهشها هذا.
حافة وينلوك
كان لأمي ابن عمة أعزب، اعتاد أن يزورنا في المزرعة مرة كل صيف. كان يحضر والدته معه، العمة نيل بوتس. كان اسمه إيرني بوتس. كان رجلا طويلا متأنقا ذا تعبير طيب، ووجه مربع كبير وشعر مجعد فاتح ينبت مباشرة من جبينه. كانت يداه وأظافرهما نظيفة نظافة الصابون، وردفاه مليئتين قليلا. كان الاسم الذي أطلقته عليه - حين لا يكون موجودا - إرنست ذا المؤخرة السمينة. كان لساني قذرا.
لكني كنت أعتقد أني لا أقصد أذى. لا أذى تقريبا. بعد أن ماتت العمة نيل بوتس، كف عن المجيء، لكنه كان يرسل بطاقات معايدة في أعياد الميلاد.
حين التحقت بالكلية في لندن - أي في لندن، أونتاريو - حيث كان يسكن، كرس عادة أن يدعوني على العشاء مساء الأحد كل أسبوعين. اعتقدت أنه يفعل هذا لأننا أقرباء؛ فما كان ليضطر للتفكير فيما إذا كنا مناسبين لقضاء الوقت معا أم لا. كان يأخذني دائما إلى المكان نفسه، مطعم اسمه أولد تشيلسيا، في الدور العلوي ويطل على شارع دونداس. كان ذا ستائر مخملية، ومفارش بيضاء، ومصابيح صغيرة مظللة بظل وردي على الموائد. يكلفه على الأرجح أكثر من قدرته، لكني لم أفكر في هذا، بما أني كنت أحمل تصور الفتاة الريفية بأن كل الرجال الذين يعيشون في المدن ويرتدون بذلة كاملة كل يوم، ويستعرضون أظافر نظيفة مثل أظافره، بلغوا مستوى من اليسر أصبح معه أمرا عاديا بالنسبة لهم أن يستمتعوا بهذا النوع من الترف.
كنت أختار أعجب الأطباق على قائمة الطعام، مثل دجاج «فول أو فنت» أو بط بالبرتقال، بينما كان يأكل دائما اللحم البقري المشوي. كانت تأتي التحلية إلى المائدة على عربة عشاء. كان هناك غالبا، كعكة جوز الهند؛ فطائر الكاسترد محلاة بالفراولة في غير موسمها؛ معجنات مغموسة في الشوكولاتة مليئة بالكريمة المخفوقة. كنت أستغرق وقتا طويلا لأقرر، مثل طفل ذي خمس سنوات أمام نكهات الآيس كريم، ثم كان علي أن أصوم يوم الإثنين لكي أعوض هذه التخمة.
كان إيرني أصغر من أن يكون والدي. أملت ألا يرانا أحد من الكلية ويعتقد أنه حبيبي. سأل عن مواد دراستي وأومأ بجدية حين قلت له أو ذكرته أني في بكالوريوس اللغة الإنجليزية والفلسفة الشرفي. لم يبد عدم اهتمامه بالمعلومة، مثلما فعل الناس في قريتي، بل قال لي إنه يكن احتراما عظيما للتعليم، ونادم على أنه لم يكن لديه الوسائل التي تساعده على مواصلة تعليمه بعد الثانوية. عوضا عن هذا حصل على وظيفة في الخطوط الجوية الكندية الوطنية، وظيفة بائع تذاكر. الآن ترقى إلى مشرف.
أحب القراءات الجادة، لكنها لم تكن بديلا عن التعليم الجامعي.
كنت متأكدة تماما أن فكرته عن القراءات الجادة هي سلسلة الكتب الموجزة التي تصدرها ريدرز دايجست، ولكي أبعده عن موضوع دراستي أخبرته عن غرفتي التي أعيش بها. في تلك الأيام، لم تكن الجامعة لديها مدينة جامعية؛ عاش جميعنا في شقق مشتركة أو شقق رخيصة أو بيوت الأخوية أو نوادي الفتيات. كانت غرفتي عبارة عن علية في بيت قديم، ذات مساحة أرضية ضخمة وسقف منخفض. لكن لأنها كانت تخص الخادمة السابقة، فلها حمامها المستقل بها. الطابق الثاني تحتله طالبتان أخريان حاصلتان على منحة تعليمية، كانتا في السنة النهائية من دراسة اللغات الحديثة. كان اسمهما كاي وبيفرلي. في الغرف عالية السقف السفلية المقسمة، كان يعيش طالب طب، نادرا ما يوجد في البيت، وزوجته بيث، التي توجد في البيت طول الوقت؛ لأن لديها طفلين صغيرين. كانت بيث مديرة المنزل وجامعة الإيجار، ودائما على خلاف مع الفتيات اللواتي يسكن الطابق الثاني، حول غسل ملابسهن في الحمام وتعليقها لتجف فيه. اضطر طالب الطب، حين يكون في المنزل، في بعض الأحيان، إلى استخدام ذلك الحمام بسبب حاجيات الطفل في حمام الطابق السفلي، وقالت بيث إنه لا يجب عليه أن يتكيف مع شرابات ترتطم بوجهه وحفنة من أغراض الزينة. أجابت كاي وبيفرلي بحسم أنه كان لديهما وعد بحمام خاص بهما حين انتقلتا للعيش هنا.
كان هذا هو نوع الأمور التي اخترت أن أحكيها لإيرني الذي احمر وجهه وقال: كان يجب عليهما أن تحصلا على هذا الوعد كتابة.
مثلت كاي وبيفرلي خيبة أمل لي. عملتا بكد في دراستهما في اللغات الحديثة، لكن لم يختلف حديثهما وانشغالاتهما عن تلك الفتيات اللاتي يعملن في البنوك أو المكاتب. كانتا تلفان شعرهما إلى الأعلى بالدبابيس وتلونان أظافرهما أيام السبت؛ لأنهما تلتقيان حبيبيهما في تلك الليلة. اضطرتا في أيام الأحد إلى دهن وجهيهما بمستحضر سائل طبي بسبب الالتهاب الذي كان يصيبهما من ذقني حبيبيهما بسبب التقبيل. لم أجد في واحد من حبيبيهما أي لمحة من الجاذبية، وتعجبت من أنهما تريانهما جذابين.
قالتا إنه خطر ببالهما فكرة مجنونة ذات مرة، أن تصبحا مترجمتين في الأمم المتحدة، لكن انتهيتا إلى أن تصبحا مدرستي ثانوي وتتزوجا لو حالفهما الحظ.
أعطيتا لي نصيحة لم أرغب في سماعها.
حصلت على عمل في كافيتريا الكلية، أدفع عربة أمامي أجمع فيها الأطباق المستعملة من الموائد وأمسحها حين تكون خالية، وأقدم الطعام على الرفوف ليلتقطه الطلاب.
قالتا إن هذا العمل ليس فكرة جيدة. - «لن يواعدك الشباب إذا رأوك في هذا العمل.»
قلت هذا لإيرني فقال: «وماذا قلت؟»
أخبرته أني قلت إني لن أرغب في مواعدة أي شخص يمكن أن يطلق هذا الحكم، فما المشكلة إذن؟
الآن عزفت على الوتر الصحيح. أشرق إيرني؛ وأخذ يرفع يديه في الهواء ويخفضهما.
قال: «صحيح جدا. هذا بالضبط الموقف الذي يجب أن تتبنيه. العمل الشريف. لا تستمعي أبدا لأي شخص يرغب في ثنيك عن عمل شريف. استمري وتجاهليهما. احتفظي بكبريائك، ومن لا يعجبه فليخرس.»
كلامه، استقامته، الاستحسان الذي أنار وجهه الضخم، الحماسة الحمقاء التي ظهرت في حركاته، كل هذه الأمور أثارت الشكوك الأولى داخلي، بداية ارتياب مشئوم بأن التحذير الذي شعرت به لم يكن من فراغ في النهاية. •••
كانت هناك ورقة صغيرة تحت عقب بابي، فيها أن بيث تريد التحدث إلي. خشيت أن يكون عن معطفي المعلق على الدرابزين ليجف، أو عن قدمي اللتين تثيران ضجة عالية على درجات السلم حين يكون زوجها بلاك نائما (أحيانا) أو الرضيعان نائمين (دائما) أثناء النهار.
انفتح الباب على مشهد من المأساة والفوضى؛ غسيل مبلل - حفاظات وأقمشة صوفية كريهة الرائحة - يتدلى من مشابك في السقف، زجاجات في وعاء التعقيم تقعقع وتصلصل على الموقد. كانت النوافذ مبخرة، وعلى الكراسي ملابس ندية أو ألعاب مكومة متسخة. كان الطفل الكبير يتعلق بدرجات قفص ألعابه ويصدر عواء، لائما إياها - حيث كانت بيث فيما يبدو قد أجلسته توا بداخله - وكان الأصغر على كرسي مرتفع، مع بعض من طعام مهروس بلون قرع العسل، المبعثر مثل الطفح الجلدي فوق فمه وذقنه.
ظهرت بيث وسط كل هذا بتعبير صارم من التعالي على وجهها الصغير الخالي من التعبير، كما لو أنها تقول لا يستطيع الكثيرون تحمل هذا الكابوس الرهيب مثلها، حتى لو أن العالم كان ضنينا في تقديرها.
قالت: «أتعرفين، حين انتقلت للعيش هنا ...» ثم رفعت صوتها لتغطي على صوت الطفل الكبير: «حين انتقلت للعيش هنا، ذكرت لك أن هناك مساحة كافية في العلية تستوعب اثنين؟»
كنت على وشك أن أقول لها: ليس فيما يخص ارتفاع السقف، لكنها تابعت مباشرة لتعلمني أن فتاة أخرى سوف تسكن معي. سوف تقيم من الثلاثاء إلى الجمعة. سوف تحضر بعض المواد الدراسية في الجامعة كطالبة مستمعة. - «سوف يحضر بلاك السرير المتنقل الليلة. لن تحتل كثيرا من الغرفة. لا أتصور أنها سوف تحضر ملابس كثيرة؛ فهي تعيش في البلدة. كانت لك وحدك لمدة ستة أسابيع، وسوف تظل لك خلال الإجازات الأسبوعية.»
لا كلام عن أي تخفيض للإيجار. •••
لم تحتل نينا الكثير من الغرفة فعليا. كانت صغيرة ومتأنية في حركاتها؛ لم تصدم رأسها قط في رافدات السقف كما كنت أفعل. أنفقت كثيرا من وقتها جالسة وهي تضع ساقا فوق ساق على أريكة النوم، وشعرها الأشقر الضارب للبني يسقط فوق وجهها، وكيمونو ياباني فوق ملابسها الداخلية البيضاء الطفولية. كان لديها ملابس جميلة؛ معطف من جلد الجمل، وسترات كشميرية، وتنورة ذات طيات من الطرطان بدبوس فضي كبير. بالضبط نوع الملابس التي يمكن أن تراها على غلاف مجلة بعنوان: «جهز آنستك الصغيرة لحياتها الجديدة في الجامعة». لكن لحظة عودتها من الجامعة، كانت تتخلص من ملابسها من أجل كيمونو. غالبا لا تكلف نفسها تعليق أي شيء. كانت هذه عادتي في التخلص من ملابس المدرسة، لكن في حالتي، لكي أحتفظ بكسرة المكواة في تنورتي، وأحافظ على نضارة معقولة في القميص أو السترة، كنت أعلق كل شيء بحرص. كنت أرتدي في المساء روب حمام صوفيا. كنت قد تناولت عشاء مبكرا في الجامعة بجزء من أجري، ويبدو أن نينا أكلت كذلك، على الرغم من أني لا أعرف أين. ربما كان عشاءها هو ما تأكله كل مساء؛ لوز وبرتقال ومئونة من قطع الشوكولاتة المغلفة في ورق ألمونيوم أحمر أو ذهبي أو بنفسجي.
سألتها كيف لا يصيبها البرد في ذلك الكيمونو الخفيف.
قالت: «كلا. كلا.» أمسكت بيدي ووضعتها على رقبتها، وأردفت: «أنا دافئة دوما.» وفي الحقيقة كانت دافئة بالفعل. كان جلدها يبدو دافئا على الرغم من أنها قالت إنها السمرة التي اكتسبتها والتي تتلاشى حاليا. ارتبط بهذا الدفء الجلدي رائحة معينة كانت كرائحة اللوز أو رائحة حريفة ليست منفرة لكنها ليست رائحة جسد يواظب على الاستحمام (ولم أكن أنا نفسي ذات رائحة نضرة طوال الوقت بسبب قاعدة بيث بالاستحمام مرة في الأسبوع. كان العديد من الناس في ذلك الوقت لا يستحمون إلا مرة في الأسبوع، وأتذكر وجود روائح بشرية أكثر حولنا، رغم بودرة التلك ومزيلات الروائح القوية).
غالبا كنت أقرأ كتابا ما حتى وقت متأخر من الليل. اعتقدت أنه من الأصعب أن أقرأ في وجود شخص آخر في الغرفة، لكن كان حضور نينا مريحا. كانت تقشر برتقالها وقطع الشوكولاتة، وتلعب سوليتير. حينما تضطر إلى بسط ذراعها لتحرك ورقة، كانت تثير في بعض الأحيان ضجة قليلة أو أنة أو نخرة كما لو أنها تشتكي من هذا التعديل الخفيف لوضع جسدها، لكنها كانت تستمتع به كذلك. ما عدا هذا كانت قانعة، وتتكور لتنام في النور في أي وقت تنعس فيه. ولأننا لم نشعر بإلحاح أو احتياج خاص للكلام، فسرعان ما بدأنا الحديث معا وحكينا عن حياتنا.
كانت نينا في الثانية والعشرين، وهذا ما حدث لها منذ كانت في الخامسة عشرة:
في البداية، حبلت (هكذا قالت) وتزوجت أب الطفل الذي لم يكن يكبرها في العمر كثيرا. حدث هذا في بلدة ما خارج شيكاجو. كان اسم البلدة لانفيل، والوظائف المتاحة بها في مخازن الحبوب أو إصلاح المعدات للأولاد، والعمل في المحلات للبنات فقط. كان طموح نينا أن تصبح مزينة شعر لكن كان يجب عليها أن تغادر وتتدرب على هذا. لم تكن لانفيل المكان الذي عاشت فيه طول الوقت، بل الذي عاشت فيه جدتها، وهي عاشت مع جدتها لأن أباها مات وتزوجت أمها مرة ثانية وطردها زوج أمها.
أنجبت طفلا ثانيا؛ ولدا آخر، وكان من المفترض أن يحصل زوجها على وظيفة وعد بها في بلدة ثانية، ولهذا غادر إلى هناك. كان سوف يرسل لها لكي تلتحق به، لكنه لم يفعل هذا قط. تركت كلا الطفلين مع جدتها واستقلت الحافلة إلى شيكاجو.
في الحافلة، قابلت فتاة اسمها مارسي كانت متجهة إلى شيكاجو مثلها. عرفت مارسي رجلا هناك امتلك مطعما وسوف يعطيهما عملا. لكن حين وصلتا إلى شيكاجو وعثرتا على مكان المطعم اتضح أنه لا يملكه، بل كان يعمل به فقط وترك العمل منذ وقت قصير. كان لدى الرجل الذي يملك المطعم غرفة علوية فارغة، وسمح لهما بالبقاء فيها مقابل أن تنظفا المكان كل ليلة. اضطرتا إلى استخدام حمام السيدات في المطعم لكن لم يكن من المفترض أن تقضيا وقتا كبيرا فيه أثناء النهار لأنه كان للزبائن. اضطرتا إلى غسل الملابس الضرورية لهما بعد موعد الإغلاق.
لم تجدا صعوبة في النوم على الإطلاق. اكتسبتا صداقة ساق - كان غريبا لكنه لطيف - يعمل في مكان في الناحية المقابلة من الشارع، وسمح لهما باحتساء بيرة الزنجبيل مجانا. قابلتا رجلا هناك دعاهما إلى حفلة، ومن هناك دعيتا إلى حفلات أخرى. وكان أن قابلت نينا خلال تلك الفترة السيد بورفيس، كان هو من أعطاها اسم نينا في الحقيقة. قبل ذلك كان اسمها جون. عاشت في بيت السيد بورفيس في شيكاجو.
كانت تنتظر التوقيت المناسب لتثير موضوع ولديها. كان في منزل السيد بورفيس مساحة كبيرة، ففكرت في أنهما يمكن أن يعيشا معها هناك. لكن حين ذكرت الموضوع للسيد بورفيس، أخبرها أنه يكره الأطفال. لم يرغب أن تحبل قط. لكنها حبلت بطريقة ما، وذهبت هي والسيد بورفيس إلى اليابان لتجري عملية إجهاض.
حتى اللحظة الأخيرة، تصورت أنها سوف تجريها، لكنها قررت بعد ذلك أنها لن تفعل، سوف تحتفظ به وتنجب الطفل.
قال لها: حسنا، سوف يدفع ثمن عودتها إلى شيكاجو، ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، هي وحدها.
كانت في ذلك الوقت تعرف إلى حد ما ماذا ستفعل، وذهبت إلى مكان حيث يعتنون بها فيه حتى ميلاد الطفل؛ ومن ثم يمكن أن تعرضه للتبني. ولد الطفل، وكانت فتاة، وأسمتها نينا جيما، وقررت أن تحتفظ بها.
عرفت فتاة أخرى، أنجبت طفلا في ذلك المكان واحتفظت به، واتفقت مع الفتاة أن تعيشا معا وتعملان بالتناوب وتربيان الطفلين. حصلتا على شقة يمكن أن تتحملا إيجارها، وحصلتا على وظيفتين، وكانت وظيفة نينا في حانة، وكان كل شيء على ما يرام. ثم ذهبت نينا إلى بيتها قبل بداية الاحتفال بأعياد الميلاد مباشرة، كان عمر جيما حينذاك ثمانية أشهر، ووجدت الأم الأخرى سكرانة تقريبا وتلهو مع رجل، والطفلة جيما، محمومة ومريضة جدا حتى إنها عاجزة عن البكاء.
دثرتها نينا، وطلبت سيارة أجرة وأخذتها إلى المستشفى. كانت حركة المرور مزدحمة بسبب احتفالات أعياد الميلاد، وحين وصلوا أخيرا، أخبروها أن هذا ليس المستشفى المناسب لسبب ما، وأرسلوها إلى مستشفى آخر، وفي الطريق إلى هناك، أصاب جيما نوبة تشنج وماتت.
أرادت أن تقيم لها جنازة حقيقية، لا أن تدفنها مع صعلوك طاعن في السن مات (هذا ما سمعت أنه يحدث مع جسد الطفل حين لا يكون معك مال)، لهذا ذهبت إلى السيد بورفيس. كان ألطف معها مما توقعت، ودفع ثمن التابوت وكل شيء وشاهد القبر باسم الطفلة، وبعد أن انتهى كل شيء أخذ نينا معه إلى البيت. ذهبا في رحلة طويلة إلى لندن وباريس وأماكن أخرى كثيرة لإبهاجها. حين عادا، أغلق البيت في شيكاجو وانتقل إلى هنا. لديه عقار خاص بالقرب من هنا، وفي الريف، يملك أحصنة سباق.
سألها إذا كانت ترغب في الدراسة، وقالت إنها تود ذلك. قال إنها يجب أن تحضر محاضرات بعض المواد الدراسية لترى ما الذي تحب أن تدرسه. قالت إنها تحب أن تعيش جزءا من الوقت كما يعيش الطلاب النظاميون، وتلبس مثلهم وتدرس مثلهم، وقال إنه يمكن تدبير هذا.
أشعرتني حياتها أني ساذجة.
سألتها عن الاسم الأول للسيد بورفيس؟
قالت: «آرثر». - «لماذا لا تناديه به؟» - «لن يبدو لي هذا طبيعيا.» •••
لم يكن من المفترض أن تخرج نينا ليلا، إلا إلى الكلية لحضور مناسبات معينة، مثل مسرحية أو حفل موسيقي أو محاضرة. كان من المفترض أن تتناول الغداء والعشاء في الكلية. رغم أني لا أعرف ما إذا كانت تفعل هذا أم لا كما قلت. كانت وجبة الإفطار عبارة عن نسكافيه وكعك محلى من اليوم السابق، أحضرته البيت من الكافيتريا. لم يحب السيد بورفيس هذا، لكنه قبله جزءا من محاكاة نينا لحياة طلاب الجامعة. ما دامت تأكل وجبة ساخنة مرة في اليوم وشطيرة وشوربة في وجبة أخرى، كان راضيا، وهذا ما كان يعتقد أنها تفعله. كانت تتفقد ما تقدمه الكافيتريا، بحيث تستطيع أن تخبره أنها تناولت النقانق أو شريحة لحم ساليسبري، والسلمون وشطيرة من سلاطة البيض. - «إذن كيف يمكن أن يعرف أنك خرجت؟»
نهضت نينا على قدميها، وهي تصدر ذلك الصوت الخاص بها الصغير الذي يعبر عن شكوى أو متعة ومشت بخفة إلى نافذة العلية.
قالت: «تعالي إلى هنا؛ وابقي خلف الستائر. أترين؟»
وقفت سيارة سوداء، ليس أمام البيت مباشرة، بل على بعد عدة بيوت قليلة. انعكست أضواء الشارع على شعر السائق الأبيض.
قالت نينا: «إنها السيدة وينر؛ سوف تظل هناك حتى منتصف الليل، أو حتى لما بعد ذلك، لا أعرف. إذا خرجت سوف تتبعني وتحوم حولي أينما ذهبت وتتبعني رجوعا.» - «ماذا لو نامت؟» - «ليست هي من تنام، ولو فعلت، وحاولت أنا فعل أي شيء، سوف تستيقظ بكل نشاط.» •••
لكي نعطي السيدة وينر بعض النشاط، كما قالت نينا، غادرنا البيت ذات مساء، واستقللنا حافلة إلى مكتبة المدينة. من نافذة الحافلة، شاهدنا السيارة السوداء الطويلة تبطئ وتتوانى مع كل توقف للحافلة، ثم تسرع وتبقى معنا. كان علينا أن نمشي بطول مربع سكني إلى المكتبة، وتجاوزتنا السيدة وينر ووقفت بعد المدخل الأمامي، وراقبتنا - كما كنا نعتقد - من مرآة الرؤية الخلفية.
أردت أن أعرف إذا كنت أستطيع استعارة نسخة من رواية «الحرف القرمزي»، التي كانت مطلوبة في مادة من موادي الدراسية. لم أستطع تحمل تكلفة شراء واحدة، وكل النسخ في مكتبة الكلية مستعارة. كما كان لدي فكرة أن أستعير كتابا لنينا؛ كتابا من النوع الذي يعرض مخططات مبسطة عن التاريخ.
اشترت نينا مراجع المواد الدراسية التي كانت تحضرها. اشترت كراسات وأقلاما - أفضل أقلام حبر في ذلك الوقت - بألوان متجانسة. الأحمر من أجل الحضارات الأمريكية في القرون الوسطى التي سبقت كولومبس، والأزرق للشعراء الرومانسيين، والأخضر للروائيين الإنجليز في العصر الفيكتوري والجورجي، والأصفر للحكايات الخيالية من بيرو إلى أندرسون. كانت تذهب إلى كل محاضرة، حيث تجلس في الصف الخلفي لأنها اعتقدت أنه المكان المناسب لها. كانت تتكلم كما لو أنها تستمتع بالمشي في مبنى الآداب مع حشد الطلاب الآخرين، وبالعثور على مقعدها وبفتح المقرر على الصفحة المحددة وبإخراج قلمها. لكن كراساتها ظلت خالية.
كانت المشكلة، كما رأيتها، هي أنها لا تملك نقاطا مرجعية تعتمد عليها؛ فهي لم تكن تعرف ماذا يعني العصر الفيكتوري أو الرومانسي أو قبل الكولومبي. زارت اليابان وباربادوس والعديد من البلاد الأوروبية، لكن لم تستطع تحديدها قط على الخريطة. لم تكن لتعرف ما إذا كانت الثورة الفرنسية اندلعت قبل أم بعد الحرب العالمية الأولى.
أتساءل من الذي اختار لها تلك المواد الدراسية. هل أحبت أسماءها؛ هل اعتقد السيد بورفيس أن بوسعها إتقانها، أم تراه اختارها سخرية، حتى تكتفي سريعا من حياة الطالبة؟
حين كنت أبحث عن الكتاب الذي أريده، وقع نظري على إيرني بوتس. كان يحمل كومة من الألغاز، جمعها من أجل صديق قديم من أصدقاء أمه. كان قد أخبرني أنه يفعل هذا دائما، كما يلعب دائما الشطرنج في صباح أيام السبت مع أحد أصدقاء والده الحميمين في دار وور فيترانس.
عرفته على نينا. أخبرته عن انتقالها للسكن معي ، لكن لم أذكر شيئا بالطبع عن حياتها السابقة أو حتى الحالية.
صافح يد نينا وقال إنه أسعده اللقاء بها، وسأل فجأة إذا كان يمكن أن يوصلنا إلى البيت.
كنت على وشك أن أقول له لا شكرا، سوف نستقل الحافلة، حين سألته نينا أين تقف سيارته.
قال: «في الخلف.» - «هل لها باب خلفي؟» - «نعم، نعم. إنها سيدان.»
قالت نينا بلطف: «لا، لم أقصد هذا. أقصد في المكتبة. في المبنى.»
قال إيرني بارتباك: «نعم، نعم، بها. آسف، اعتقدت أنك تقصدين السيارة. نعم، باب خلفي في المكتبة. أدخل من ذلك الطريق أنا نفسي. أنا آسف.» احمر وجهه، وكان سوف يستمر في الاعتذار لولا أنها قاطعته بضحكة لطيفة، بل مجاملة.
قالت: «حسنا إذن. نستطيع أن نخرج من الباب الخلفي. إذن اتفقنا. شكرا لك.»
أوصلنا إيرني إلى البيت بسيارته. سألنا إذا كنا نحب أن نمر على بيته، لاحتساء كوب من الشاي أو الشوكولاتة الساخنة.
قالت نينا: «معذرة، نحن مستعجلتان قليلا؛ لكن شكرا لسؤالك.»
قال: «أعتقد أن لديكما واجبات دراسية.»
قالت: «واجب، نعم، بالتأكيد.»
كنت أفكر أنه لم يدعني قط إلى بيته، مراعاة لآداب المجتمع. فتاة واحدة، لا. لكن فتاتان، لا بأس.
لم نر سيارة سوداء على جانب الطريق حين كنا نقول شكرا ونتبادل التمنيات بليلة سعيدة. لم نر سيارة حين نظرنا من نافذة العلية. بعد فترة قصيرة، رن الهاتف، وسمعتها تقول: «أوه لا، ذهبنا إلى المكتبة فقط وأخذنا كتابا وأتينا مباشرة إلى البيت في الحافلة. كانت هناك حافلة بمجرد خروجنا. أنا بخير تماما، طابت ليلتك.»
طلعت السلم تتمايل وتبتسم. - «السيدة وينر أخذت دشا ساخنا الليلة.»
ثم قفزت قفزة صغيرة وبدأت تدغدغني، كما تفعل في بعض الأحيان، دون أي إنذار، بعد أن اكتشفت أني حساسة للدغدغة على نحو استثنائي.
في أحد الأيام لم تنهض نينا من سريرها. قالت إن حلقها ملتهب، وحرارتها عالية. - «تحسسي جبيني.» - «أنت دائما دافئة بالنسبة لي.» - «اليوم أنا أكثر سخونة.»
كان يوم الجمعة. طلبت مني أن أتصل بالسيد بورفيس لكي أخبره أنها تريد أن تظل هنا في إجازة الأسبوع.
قالت: «سوف يسمح لي؛ لا يستطيع أن يتحمل أي شخص مريض معه. يصاب بالجنون.»
تساءل السيد بورفيس إذا كان عليه أن يرسل طبيبا. تنبأت نينا بهذا، وقالت لي أن أقول له إنها تحتاج إلى الراحة فقط، وإنها سوف تتصل به، أو أنا، إذا ساءت حالتها. قال لي: حسن إذن، أخبريها أن تهتم بنفسها، وشكرني على اتصالي، وعلى أني صديقة جيدة لنينا. ثم، بعد أن بدأنا في قول كلمات الوداع، سألني إن كنت أود أن أشاركه العشاء يوم السبت. قال إنه ممل أن يأكل وحده.
فكرت نينا في هذا أيضا. - «لو طلب أن تذهبي وتتناولي معه العشاء غدا ليلا، لم لا تذهبين؟ هناك دائما طعام جيد ليالي السبت، طعام مميز.»
كانت الكافيتريا مغلقة أيام السبت. أزعجني احتمال أن أقابل السيد بورفيس وأثار اهتمامي في الوقت نفسه.
قلت لها: «هل ينبغي أن أذهب حقا؟ إذا طلب؟»
لذا صعدت إلى الدور العلوي، بعد أن وافقت على تناول العشاء مع السيد بورفيس - لقد قال «نتناول العشاء» فعلا - وسألت نينا ماذا يجب أن أرتدي. - «لم القلق الآن؟ إنك لن تذهبي قبل مساء الغد.»
لم القلق فعلا؟ لدي فستان واحد جيد، من قماش الكريب، تركوازي اللون، اشتريته من مال منحتي الدراسية لكي ألبسه حين كنت ألقي خطاب الوداع في التمارين على حفل تخرج المدرسة الثانوية.
قالت نينا: «على أية حال، لا يهم، لن يلاحظ أبدا.» •••
جاءت السيدة وينر لتأخذني. لم يكن شعرها أبيض، بل أشقر فضيا، وهو لون بالنسبة لي يدل على قلب قاس، ومعاملات لا أخلاقية، ودرب وعر طويل عبر الأزقة الخلفية القذرة من الحياة. ومع ذلك، ضغطت على مقبض الباب الأمامي لأركب إلى جانبها؛ لأني اعتقدت أن هذا هو الفعل المهذب والديمقراطي الذي يجب أن أقوم به. سمحت لي بهذا؛ إذ كنت أقف إلى جانبها، ثم فتحت فجأة الباب الخلفي.
اعتقدت أن السيد بورفيس لا بد أنه يعيش في واحد من تلك الصروح المتينة التي يحيطها فدادين من الأعشاب والحقول الجرداء شمال المدينة. ربما ما جعلني أفكر هكذا هو أحصنة السباق. بدلا من هذا، تحركنا شرقا عبر شوارع تتسم بالرخاء، لكنها لم تكن فخمة، وبيوت قرميدية على الطراز التيودوري أضاءت مع دخول الليل، وأضواء عيد الميلاد تخفق من بين الشجيرات التي يكللها الثلج. انعطفنا إلى طريق صغير بين سياج عال، ووقفنا أمام بيت رأيت أنه حديث بسبب سقفه المستوي والحائط الطويل من النوافذ، وبدا أن مادة البناء من الأسمنت. لا أضواء عيد الميلاد هنا، لا أضواء من أي نوع.
لا علامة على السيد بورفيس كذلك. انحدرت السيارة إلى قبو تحت الأرض، وركبنا مصعدا دورا واحدا وخرجنا إلى قاعة منخفضة الإضاءة تحوي أثاث غرفة معيشة بكراس قاسية منجدة وموائد صغيرة مصقولة، ومرايا وسجاجيد صغيرة. قادتني السيدة وينر أمامها عبر واحد من الأبواب يفتح من هذه القاعة على غرفة خالية من النوافذ؛ تحتوي على مقعد طويل وخطافات على جميع الحيطان. كانت مثل غرفة المعاطف المدرسية باستثناء الخشب المصقول والسجاد على الأرض.
قالت السيدة وينر: «هنا تتركين ملابسك.»
خلعت حذائي الطويل، وحشوت قفازي في جيبي معطفي، وعلقت المعطف. ظلت السيدة وينر معي. افترضت أن هذا واجبها لكي تريني أي اتجاه أسلكه بعد ذلك. كان في جيبي مشط، وأردت أن أضبط شعري، لكن ليس وهي تراقبني. ولم أر مرآة. - «والآن بقية الملابس.»
نظرت إلي مباشرة لكي ترى إذا كنت فهمت، وحين بدا أني لا أفهم (على الرغم من أني فهمت إلى حد ما؛ فهمت لكن أملت أن أكون مخطئة) قالت: «لا تقلقي، لن تبردي. البيت مدفأ تدفئة جيدة.»
لم أتحرك بعد لكي أنفذ ما طلبته، وتحدثت إلي عرضا، كما لو كانت لا تهتم حتى باحتقاري. - «أرجو ألا تتصرفي بطفولية.»
كان يمكن أن آخذ معطفي عند تلك المرحلة، كان يمكن أن أطلب إرجاعي إلى بيتي، ولو رفضت هذا، كان يمكن أن أرجع بنفسي. كنت أتذكر الطريق الذي سلكناه رغم أن الجو بارد لا يحتمل المشي، قد يستغرق مني الطريق أقل من ساعة .
لا أعتقد أنهم أغلقوا الباب الخارجي أو سوف يبذلون أي مجهود لإرجاعي.
قالت السيدة وينر - إذ رأتني لم أقم بأي حركة بعد: «أوه، لا. هل تعتقدين أنك مختلفة عن بقية النساء؟ تعتقدين أني لم أر كل ما لديك قبل الآن؟»
كان احتقارها هو ما جعلني أبقى، جزئيا، بالإضافة إلى كبريائي.
جلست. خلعت حذائي. فككت شرابي وخلعته. وقفت وحللت فستاني ثم نزعت الفستان الذي ألقيت به خطاب الوداع بكلماته اللاتينية
Ave atque vale (تحية ووداع).
وإذ كنت لا أزال مرتدية قميصي التحتاني، أرجعت ذراعي إلى الخلف، فككت أربطة صدريتي، ثم على نحو ما سحبتها كلها على طول ذراعي وحررتها ثم أدرتها إلى الأمام فتخلصت منها في حركة واحدة، ثم جاء دور حزام أربطة جوربي، ثم سروالي. حين خلعتهما، كورتهما وخبأتهما تحت صدريتي. وضعت قدمي مرة ثانية في حذائي.
قالت السيدة وينر - وهي تتنهد: «بدون حذاء.» بدا وكأن القميص التحتاني رث جدا؛ حتى إنها لم تحتج إلى الإشارة إليه، لكن بعد أن خلعت حذائي مرة ثانية قالت: «عارية، هل تعرفين معنى الكلمة؟ عارية.»
سحبت القميص التحتاني إلى الأعلى وخلعته من فوق رأسي، وناولتني زجاجة سائل وقالت: «امسحي جسدك بهذا.»
يشبه رائحة نينا. مسحت أجزاء من ذراعي وكتفي، والأجزاء التي استطعت لمسها، بينما تقف السيدة وينر أمامي تنظر، ثم ذهبنا إلى القاعة، تفادت عيناي المرايا، وفتحت بابا آخر ودخلت إلى الغرفة التالية وحدي.
لم يخطر قط ببالي أن السيد بورفيس يمكن أن يكون منتظرا عاريا مثلي، ولم يكن كذلك. كان يرتدي سترة زرقاء غامقة وقميصا أبيض وربطة عنق عريضة العقدة (لم أكن أعرف أنها تسمى كذلك)، وسروالا رماديا. لم يكن أطول مني، وكان رفيعا وكبير السن، أصلع تقريبا، وتظهر التجاعيد على جبينه حين يبتسم.
لم يخطر ببالي أيضا أن العري يمكن أن يكون توطئة لاغتصاب أو أي طقس سوى تناول الطعام. (وحقا لم يكن هناك شيء كهذا، كما يبدو من روائح المشهيات والأطباق المغطاة الفضية على البوفيه). لماذا لم أفكر في هذا؟ لماذا لم أكن أكثر وعيا؟ بسبب تصوري عن الرجال كبار السن. اعتقدت أنهم ليسوا فقط عاجزين ومنهكين، بل أصبحوا أيضا وقورين - أو مكتئبين - بفعل التجارب والخبرات المتنوعة التي عاشوها وتدهورهم الجسدي كذلك، حتى لم يعد في داخلهم أي اهتمام بهذا. لم أكن غبية بالقدر الذي يجعلني أعتقد أن عريي لا يعني نوعا ما من الاستغلال الجنسي لجسدي، لكني اعتبرته جرأة أكثر منه تمهيدا لمزيد من الانتهاك، وكان قبولي لهذا سببه الكبرياء، كما قلت، وطيش مهزوز أكثر منه لأي سبب آخر.
لعلي أردت أن أقول: ها أنا ذا، في جلد جسدي الذي لا يخجلني أكثر من عري أسناني. بالطبع لم يكن هذا صحيحا، وفي الحقيقة بدأت أتعرق، على الرغم من أن ذلك لم يكن بسبب خشيتي من أن أتعرض لانتهاك ما.
صافحني السيد بورفيس، دون أي إشارة تدل على أنه يعي أني دون ملابس. قال إنه سعيد أن يقابل صديقة نينا. بالضبط كأني شخص ما أحضرته نينا إلى البيت من المدرسة.
وهو ما كان صحيحا على نحو ما.
قال إني أمثل إلهاما لنينا.
قال: «هي معجبة بك جدا. لا بد أنك جائعة الآن. فلنر ماذا جهزوا لنا؟»
رفع الأغطية. وشرع يضع لي الطعام. دجاج كورنول، التي اعتبرتها فراخا قزمة، وأرز بالزعفران والزبيب، خضراوات متنوعة مقطعة قطعا رفيعة متراصة ومحتفظة بلونها بصفاء أكبر من الخضراوات التي أطهوها عادة، طبق من المخلل الأخضر الرمادي، وطبق من طعام مجفف أحمر داكن.
قال السيد بورفيس عن المخلل والطعام المجفف: «لا تأكلي كثيرا من هذين؛ إنهما حارين على أن تبدئي بهما.»
أوصلني إلى المائدة، واستدار للبوفيه، ووضع لنفسه كميات قليلة، وجلس إلى المائدة.
كان هناك إبريق ماء وزجاجة نبيذ على المائدة. حصلت على الماء. قال إن تقديم النبيذ لي في بيته، سوف يحسب على الأرجح جريمة كبرى. أصبت بخيبة أمل صغيرة بما أنه لم يتح لي قط فرصة لشرب النبيذ. عبر إيرني دوما، حين كنا نذهب إلى أولد تشيلسيا، عن رضاه بأنه لا يقدم النبيذ أو الكحول يوم الأحد. لم يكن يرفض فقط أن يشرب يوم الأحد أو في أي يوم آخر، بل كان يكره أن يرى الآخرين يشربون أيضا.
قال السيد بورفيس: «تقول لي نينا إنك تدرسين الفلسفة الإنجليزية، لكني أعتقد أنها الإنجليزية والفلسفة. هل أنا محق؟ لأني متأكد أنه ليس هناك عدد وفير من الفلاسفة الإنجليز؟»
على الرغم من تحذيره، تناولت نقطة من المخلل الأخضر على لساني، وقد صعقتني إلى درجة لم تسمح لي بأن أجيبه. انتظرني بكياسة حتى أنتهي من تجرع المياه.
قلت حين أمكنني التحدث: «نبدأ باليونانيين. إنهم مادة شاملة.»
قال: «أوه نعم، اليونان. حسنا، بقدر ما درست اليونانيين، من المفضل لديك حتى الآن ... أوه! لا، لحظة. سوف تتقطع بسهولة أكبر هكذا.»
تبع هذا عرض من فصل اللحم وإزالته عن عظم دجاجة كورنول، بلطف ودون تفضل، كما لو أنها مزحة يمكن أن نتشاركها. - «من المفضل لديك؟»
قلت: «لم نصل إليه بعد، نحن ندرس ما قبل سقراط. لكن المفضل هو أفلاطون.» - «أفلاطون هو المفضل لديك. إذن أنت تسبقين في القراءة، لا تقفين حيث يفترض؟ أفلاطون، نعم، كان يمكن أن أخمن هذا. أنت تحبين الكهف؟» - «نعم.» - «بالطبع. نظرية الكهف. جميلة. أليس كذلك؟»
حين كنت أجلس، كان أكثر أعضاء جسدي عورة متواريا عن النظر. ولو كان ثدياي صغيرين ومتناسقين مثل ثديي نينا، بدلا من أن يكونا ممتلئين وكبيري الحلمتين وغليظين، كان يمكن أن أكون في غاية الارتياح تقريبا. حاولت أن أنظر إليه بينما أتحدث، لكن كنت أعاني رغما عن إرادتي من دفقات من حمرة الخجل. أعتقد، أنه حين حدث هذا لي، تغير صوته قليلا؛ إذ أصبح ناعما وراضيا ومهذبا، كما لو أنه قام بحركة ناجحة في لعبة ما. لكنه استمر في الحديث برشاقة ومتعة، يحكي لي عن رحلته إلى اليونان. دلفي، الأكروبوليس، الضوء الشهير الذي تعتقد أنه لا يمكن أن يكون حقيقيا ولكنك تجده حقيقيا، والهيكل العظمي لبيلوبونيز. - «ومن ثم إلى كريت؛ هل تعرفين الحضارة المينوية؟» - «نعم.» - «بالطبع تعرفين، بالطبع. وهل تعرفين كيف كانت ترتدي السيدات المينويات؟» - «نعم.»
نظرت إلى وجهه هذه المرة، إلى عينيه، كنت مصممة على ألا أرتبك، حتى حين شعرت بالحرارة في حلقي.
قال بشيء من الحزن: «جميلة جدا، تلك الأزياء. جميلة جدا. غريبة هي الأشياء المختلفة المختبئة في العصور المختلفة. والأشياء التي تعرضها.»
كانت التحلية كاسترد فانيليا والكريمة المخفوقة مع قطع من الكعك بالتوت البري. أكل بضع لقيمات منه فحسب. ولكن بعد أن أخفقت في أن أهدأ بالقدر الذي يجعلني أستمتع بالطبق الأول، صممت على ألا أفوت أي شيء غني وحلو، وأن أركز شهيتي وتركيزي على كل ملعقة.
سكب القهوة في فناجين صغيرة، وقال إننا سوف نشربها في المكتبة.
صدر عن مؤخرتي صوت يشبه الصفعة، حين كنت أحرر نفسي من التنجيد الأملس لكرسي غرفة العشاء. لكن تقريبا غطى عليه خشخشة فناجين القهوة على الصينية في قبضته المرتعشة الطاعنة في السن.
كنت أقرأ عن مكتبات البيوت في الكتب فحسب. كان مدخل هذه المكتبة عبر لوحة معلقة على حائط غرفة العشاء. تتأرجح اللوحة لتفتح دون صوت من لمسة بقدمه المرفوعة. اعتذر عن أنه سبقني، بما أنه اضطر إلى هذا لأنه يحمل القهوة. كان هذا مريحا بالنسبة لي. كنت أعتقد أن المؤخرة - ليست مؤخرتي فقط، بل مؤخرات الجميع - هي أكثر جزء بهيمي في الجسد.
حين جلست على المقعد الذي أشار إليه، ناولني قهوتي. لم يكن مريحا الجلوس هنا، في الخلاء، كما كان إلى مائدة غرفة العشاء. كان كرسي مائدة العشاء مغطى بحرير مقلم ناعم، لكن هذا الكرسي كان منجدا بقماش رقيق داكن، يخزني. بدأت أشعر بتهيج حميمي.
كان النور في هذه الغرفة أسطع مما كان في غرفة الطعام، وأثارت الكتب المصطفة على الحوائط انطباعا مزعجا ومؤنبا أكثر من مشهد غرفة الطعام بصورها ذات المشاهد الطبيعية واللوحات الماصة للإضاءة.
للحظة، بينما كنا ننتقل من غرفة إلى أخرى، خطرت لي فكرة قصة - قصة سمعت بها لكن قليلا من الناس هم من حالفهم حظ قراءتها - يتضح فيها أن الغرفة المشار إليها على أنها مكتبة هي غرفة نوم، بإضاءة ناعمة ووسائد وثيرة وكل أنواع الأغطية الناعمة. لم يكن لدي الوقت لأعرف ماذا كان يمكن أن أفعل في ظل هذه الظروف؛ لأن الغرفة التي كنا بها لم تكن إلا مكتبة ببساطة. مصابيح القراءة، الكتب على الرفوف، الرائحة المنعشة للقهوة. يسحب السيد بورفيس كتابا، يتصفح صفحاته، يجد ما يريد. - «سيكون لطفا منك أن تقرئي لي. عيناي تكونان مرهقتين في المساء. هل تعرفين هذا الكتاب؟» «غلام شروبشير.»
عرفته، بل في الحقيقة كنت أحفظ العديد من قصائده عن ظهر قلب.
قلت إني سأقرأ. - «وهل يمكن أن أطلب منك، هل يمكن أن أطلب منك من فضلك، ألا تضعي ساقا فوق ساق؟»
كانت يداي ترتعشان بينما آخذ الكتاب منه.
قالت: «نعم، نعم.»
اختار كرسيا أمام خزانة الكتب، في مواجهتي. - «الآن.» - «على حافة وينلوك، الغابة مضطربة.»
هدأتني الكلمات المألوفة والإيقاع. استحوذت علي. بدأت تدريجيا في الشعور أكثر بالراحة.
تكدس العاصفة الشتلات
تهب قاسية، سوف ترحل قريبا
اليوم الرومان ومتاعبهم
رماد تحت يوريكون.
أين يوريكون؟ من يعلم؟
إني لم أنس حقا أين كنت أو مع من كنت أو في أية حالة كنت أجلس. لكني شعرت أني بعيدة إلى حد ما وفي حالة فلسفية. خطرت لي فكرة أن الجميع في العالم عراة، بطريقة ما. السيد بورفيس عار، على الرغم من ملابسه. كنا جميعا مخلوقات حزينة، عارية، ماكرة. انحسر الخجل. ظللت أقلب الصفحات، أقرأ قصيدة بعد الأخرى؛ إذ أحببت صوتي، حتى قاطعني السيد بورفيس لدهشتي، وتقريبا لخيبة أملي - حيث كانت هناك سطور شهيرة قادمة - وقف وتنهد.
قال: «كفى. كفى. كان هذه جميلا جدا. شكرا لك. لكنتك الريفية مناسبة تماما. حان موعد نومي.»
تركت الكتاب. وضعه على الرف وأغلق الأبواب الزجاجية. كانت اللكنة الريفية التي تحدث عنها مسألة جديدة بالنسبة لي. - «وأخشى أنه حان وقت توصيلك إلى البيت.»
فتح بابا آخر على القاعة التي رأيتها منذ وقت طويل، في بداية المساء، ومررت أمامه، وأغلق الباب خلفي. لعلي قلت ليلة سعيدة، ربما حتى شكرته على العشاء وتحدث هو إلي بكلمات قليلة جافة (على الإطلاق ، شكرا على صحبتك، كان كرما منك، شكرا على قراءتك هوسمان) بصوت مرهق وطاعن ومرتعش وغير مبال. لم يلمسني.
غرفة الملابس المعتمة هي نفسها، وملابسي هي نفسها، والفستان التركوازي، وقميصي التحتاني، وجواربي. ظهرت السيدة وينر بينما كنت أربط جواربي. قالت لي شيئا واحدا فقط حين كنت مستعدة للرحيل. - «نسيت وشاحك.»
وفعلا كان هناك وشاح كنت قد نسجته في فصل الاقتصاد المنزلي، الشيء الوحيد الذي نسجته في حياتي. كنت على وشك تركه في هذا المكان. •••
بينما كنت أخرج من السيارة قالت السيدة وينر: «يرغب السيد بورفيس أن يتحدث إلى نينا قبل أن ينام. لو تكرمت بتذكيرها.» •••
لكن لم تكن نينا موجودة لتتلقى هذه الرسالة. كان سريرها مرتبا. اختفى معطفها وحذاؤها الطويل، وبعض من ملابسها الأخرى لا يزال معلقا في الخزانة.
رحلت كل من بيفرلي وكاي لبيتهما لقضاء الإجازة الأسبوعية؛ لهذا نزلت السلم راكضة لأرى إذا كان لدى بيث أي معلومات.
قالت بيث، التي لم أرها قط آسفة على أي شيء: «آسفة؛ لا أستطيع أن أتابع خروجكم ومجيئكم.»
ثم قالت حين كنت أستدير: «طلبت منك عدة مرات أن تصعدي دون ضجة. استطعت أن أنوم سالي-لو توا.»
لم أكن قد قررت ماذا يمكن أن أقول لنينا حين أصل إلى البيت. هل سوف أسألها إذا كان مطلوبا منها أن تكون عارية في ذلك البيت، لو أنها كانت على دراية تامة بالأمسية التي كانت تنتظرني؟ أم أني لن أقول الكثير، وأنتظر منها أن تسألني؟ وحتى حينذاك يمكن أن أقول ببراءة إني أكلت دجاج كورنول وأرزا أصفر، وكان جيدا جدا، وإني قرأت من كتاب «غلام شروبشير».
أستطيع أن أتركها تتساءل فقط.
بما أنها رحلت الآن، فلم يعد أي من هذا مهما. تحول تركيزي. اتصلت السيدة وينر بعد العاشرة مساء - منتهكة قانونا آخر من قوانين بيث - وحين قلت لها إن نينا لم تكن هنا قالت: «هل أنت متأكدة من هذا؟»
وكررت السؤال نفسه حين قلت لها إنه ليست لدي أي فكرة أين ذهبت نينا: «هل أنت متأكدة ؟»
طلبت منها ألا تتصل مرة أخرى حتى الصباح؛ بسبب قواعد بيث ونوم الأطفال، وقالت: «حسنا. لا أعرف. هذه مسألة خطيرة.»
حين استيقظت في الصباح، كانت السيارة واقفة في الجهة المقابلة من الشارع. ضربت وينر جرس البيت وأخبرت بيث أنها جاءت لكي تتفقد غرفة نينا، حتى بيث قمعتها السيدة وينر؛ فصعدت السلم دون توبيخ أو حرف تحذيري واحد. بعد أن فتشت كل الغرفة، فتشت الحمام والخزانة، بل هزت بطانيتين مطويتين في قاع الخزانة.
كنت لا أزال في بيجامتي، أكتب مقالا عن السير جاوين والفارس الأخضر وأشرب النسكافيه.
قالت السيدة وينر إنها اضطرت إلى الاتصال بالمستشفيات لترى إن كانت نينا قد حجزت في إحداها مريضة، وإن السيد بورفيس خرج بنفسه ليتفقد عدة أماكن أخرى يمكن أن تكون بها.
قالت: «إذا كنت تعرفين أي شيء فمن الأفضل أن تخبرينا؛ أي شيء على الإطلاق.»
ثم حين بدأت تنزل السلم، استدارت وقالت في صوت حمل نبرة أقل تهديدا: «هل هناك أي أحد في الكلية كانت على صداقة به؛ أي أحد تعرفينه؟»
قلت: «لا أعتقد.»
رأيت نينا مرتين فقط في الكلية، مرة كانت تعبر الممر السفلي في مبنى الآداب بعجلة بين محاضرتين، ومرة كانت في الكافيتريا. كانت وحيدة في المرتين. لم يكن أمرا غير معتاد أن تكون وحيدا خاصة حين تسرع من محاضرة لأخرى، لكنه كان غريبا قليلا أن تجلس وحدك في الكافيتريا مع كوب من القهوة حوالي الرابعة إلا الربع بعد الظهر حين يكون هذا المكان مهجورا. جلست بابتسامة على وجهها، كأنما تقول كم هي سعيدة ومميزة، أن تكون هنا، كم هي يقظة وجاهزة لتلبية متطلبات هذه الحياة، ما إن تفهم ما هي. •••
بدأ الثلج يتساقط فيما بعد الظهيرة. كان على السيارة التي تقف في الجهة المقابلة من الشارع أن ترحل لتفسح المجال لكاسحة الجليد. حين دخلت الحمام وسمعت خفقان ردائها الكيمونو على مشبكه، شعرت بما كنت أقمعه؛ بخوف حقيقي على نينا. تصورتها، تائهة تنتحب تحت شعرها المرسل، تتجول ضائعة في الثلج في ملابسها الداخلية بدلا من معطفها، على الرغم من أني أدرك أنها أخذت المعطف معها. •••
رن الهاتف بالضبط حين كنت على وشك المغادرة لمحاضرتي الأولى في صباح الإثنين.
قالت نينا بلهجة تحذير متعجلة لكن تشوبها نبرة انتصار: «هذه أنا. اسمعي. من فضلك، هل يمكن أن تقومي لي بخدمة من فضلك؟» - «أين أنت؟ إنهما يبحثان عنك.» - «من؟» - «السيد بورفيس، والسيدة وينر.» - «حسنا، لا يجب أن تخبريهما. لا تخبريهما أي شيء. أنا هنا.» - «أين؟» - «في بيت إرنست.» - «إرنست؟ إيرني؟» - «هش. هل سمعك أحد؟» - «لا.» - «اسمعي، هل يمكن، من فضلك، من فضلك، أن تستقلي الحافلة وتحضري لي بقية أغراضي؟ أحتاج الشامبو. أحتاج الكيمونو. أنا أرتدي رداء الحمام طوال الوقت في بيت إرنست. يجب أن تريني، أبدو مثل كلب بني أشعث عجوز. هل لا تزال السيارة بالخارج؟»
ذهبت ونظرت. - «نعم.» - «حسن إذن، يجب أن تستقلي الحافلة وتتوجهي بها إلى الجامعة كما تفعلين عادة، ثم استقلي الحافلة التي تذهب إلى وسط المدينة. تعرفين من أين تستقلينها، كامبل وهوو، ثم امشي إلى هنا. شارع كارلسيل، 363. تعرفينه، أليس كذلك؟» - «هل إيرني موجود؟» - «لا يا حمقاء. هو في عمله. يجب أن يعيلنا، أليس كذلك؟»
نحن؟ هل يجب على إيرني أن يعيل نينا وأنا؟
كلا، إيرني ونينا، إيرني ونينا.
قالت نينا: «أوه، من فضلك. ليس لدي غيرك.»
فعلت كما أرشدتني. ركبت حافلة الجامعة، ثم إلى وسط المدينة. نزلت عند كامبل وهوو ومشيت غربا إلى شارع كارلسيل. كانت العاصفة الثلجية انتهت، والسماء صافية، والنهار ساطع وبلا رياح وشديد البرودة. أوجع الضوء عيني، والثلج انسحق تحت قدمي.
ثم بعد نصف مربع سكني شمالا في شارع كارليسل وصلت إلى البيت الذي عاش فيه إيرني مع أمه وأبيه ثم مع أمه ثم وحده، والآن مع نينا. كيف يعقل هذا؟
بدا البيت هو نفس البيت تماما الذي رأيته حين أتيت مرة أو مرتين مع أمي. منزل من طابق واحد قرميدي بفناء أمامي صغير ونافذة مقنطرة ذات لوح من الزجاج الملون في غرفة المعيشة. كان ضيقا وأنيقا.
كانت نينا، كما وصفت نفسها، ملفوفة في رداء رجالي طويل من الصوف البني، تفوح منه رائحة إيرني الرجولية والبريئة من رغوة الحلاقة وصابون لايفبوي.
قبضت على يدي، اللتين كانتا متيبستين من البرد في قفازي. كانت تحمل كل واحدة منهما حزمة من أكياس التسوق.
قالت: «يداك متجمدتان، تعالي، سوف نضعهما في بعض الماء الدافئ.» - «ليستا متجمدتين، بل باردتين فحسب.»
لكنها واصلت وساعدتني على التخلص من الأشياء التي أحملها وأخذتني إلى المطبخ، وحضرت وعاء من الماء، وحينما بدأت الدماء تعود بألم إلى أصابعي أخبرتني كيف جاء إرنست (إيرني) إلى البيت ليلة السبت. كان معه مجلة بها كثير من الصور عن أطلال وقلاع وأشياء، أعتقد أنها قد تثير اهتمامي. أجبرت نفسها على مغادرة السرير والنزول؛ لأنه لا يستطيع بالطبع الصعود، وحين رأى كم هي مريضة، قال إنها يجب أن تأتي معه إلى بيته حتى يستطيع أن يرعاها. وهو ما فعله على أحسن وجه حتى شفي فعليا احتقان حلقها وخفت الحمى تماما. ثم قررا أن تظل هنا، سوف تبقى معه فقط ولن تعود أبدا إلى المكان الذي كانت فيه من قبل.
لم ترغب حتى في ذكر اسم السيد بورفيس. قالت: «لكن يجب أن يظل هذا سرا كبيرا. أنت الوحيدة التي تعرف؛ لأنك صديقتنا وأنت سبب لقائنا.»
كانت تحضر القهوة. قالت - بينما كانت تشير إلى خزانة مفتوحة: «انظري هنا. انظري أسلوبه في ترتيب الأشياء: الأكواب هنا؛ الفناجين وصحونها هنا؛ كل كوب له مشجبه، أليس مرتبا؟ البيت كله هكذا. أحبه.»
وكررت: «أنت سبب لقائنا، إذا أنجبنا طفلا وكان فتاة سنسميها باسمك.»
لففت يدي حول الكوب؛ إذ لا زلت أشعر بنبض بارد في أصابعي. كان هناك بنفسج أفريقي على عتبة النافذة التي تعلو حوض الغسيل. ترتيب أمه في الخزانات وزرع أمه. لعل السرخس لا يزال أمام نافذة غرفة المعيشة، والمفارش على مساند الكراسي. بدا ما قالته عنها وإيرني صفيقا وبغيضا تماما؛ خاصة حين أفكر في نصيب إيرني منه. - «هل ستتزوجان؟» - «حسنا.» - «قلت لو أنجبتما طفلا.»
قالت نينا، وهي تخفض رأسها بمكر: «حسنا، إنك لا تعرفين أبدا ما يمكن أن يحدث، لعلنا بدأنا هذا بالفعل بدون زواج.»
قلت: «مع إيرني؟ مع إيرني؟»
قالت: «حسن، ولم لا؟ إيرني لطيف. وعلى أي حال، أنا أناديه إرنست.» واحتضنت رداء الحمام الذي كانت تلبسه. - «ماذا عن السيد بورفيس؟» - «ماذا عنه؟» - «حسن، لو أنك تحملين طفلا فعلا، أيمكن أن يكون منه؟»
كل شيء تغير في نينا، تحول وجهها إلى وجه سافل ومقيت. قالت بازدراء: «منه! لماذا تتحدثين عنه؟ إنه عاجز عن هذا.»
قلت: «أوه!» وكنت سوف أسألها ماذا عن جيما، لكنها قاطعتني.
قالت: «لماذا تتحدثين عن الماضي؟ لا تثيري استيائي، كل هذا مات وانتهى. لا يعنيني ولا يعني إرنست. نحن معا الآن، نحب بعضنا الآن.»
حب. مع إيرني. إرنست. الآن.
قلت: «حسن.»
قالت: «أعتذر عن صراخي في وجهك، هل صرخت؟ أنا آسفة، أنت صديقتنا، وأحضرت أغراضي وأنا أقدر هذا. أنت ابنة عمة إرنست ونحن عائلة.»
تسللت ورائي وأقحمت أصابعها تحت إبطي وبدأت تدغدغني، بكسل في البداية، ثم بقوة وهي تقول: «أليس كذلك؟ أليس كذلك؟»
حاولت أن أحرر نفسي، لكن لم أستطع. أصابتني نوبات من الضحك والتويت وصرخت وتوسلت أن تتوقف، وهو ما فعلته، حين جعلتني عاجزة تماما، وانقطع نفس كل منا.
قالت: «أنت أكثر شخص حساس للدغدغة رأيته في حياتي.» •••
اضطررت أن أنتظر الحافلة طويلا، وأنا أحرك قدمي أثناء وقوفي على الرصيف. حين وصلت إلى الكلية كانت المحاضرة الثانية قد فاتتني، إلى جانب الأولى، وكنت متأخرة عن موعد عملي في الكافيتريا. ارتديت الزي القطني الأخضر في خزانة أدوات التنظيف، ودفعت كتلة شعري الأسود (أسوأ شعر يمكن أن يظهر في الطعام، كما حذرني المدير) تحت طاقية قطنية.
كان عملي أن أرص الشطائر والسلاطات على الرفوف قبل أن تفتح الأبواب للغذاء، لكن الآن اضطررت أن أفعل هذا مع صف متبرم من الأشخاص يشاهدني، وهذا جعلني أشعر أني خرقاء. في هذه اللحظة كنت محط الأنظار أكثر مما كنت حين كنت أدفع العربة أمامي بين الموائد لأجمع الأطباق القذرة. يركز الناس حينها على طعامهم وأحاديثهم، أما الآن، فكانوا ينظرون إلي فقط.
فكرت فيما قالته بيفيرلي وكاي عن إفساد فرصي؛ إذ أميز نفسي بطريقة خاطئة. بدا هذا صحيحا الآن.
بعد أن انتهيت من تنظيف موائد الكافيتريا، ارتديت ملابسي العادية وذهبت إلى مكتبة الكلية للعمل على مقالي. كانت فترة ما بعد الظهيرة في هذا اليوم خالية من المحاضرات.
كان هناك نفق تحت الأرض يقود إلى المكتبة من مبنى كلية الآداب، وعند مدخل هذا النفق، كان هناك ملصقات إعلانية عن الأفلام والمسرحيات والمطاعم والدراجات المستعملة والآلات الكاتبة، كذلك إشعارات بمواعيد المسرحيات والحفلات الموسيقية. أعلن قسم الدراسات الموسيقية عن تقديم حفل غنائي من قصائد شعراء الريف الإنجليزي في موعد فات الآن. رأيت هذا الإشعار من قبل، ولم أنظر إليه لأتذكر أسماء هريك وهوسمان وتنيسون. وبعد عدة خطوات في النفق بدأت السطور تهاجمني.
على حافة وينلوك، الغابة مضطربة.
لن أتذكر أبدا تلك السطور مرة أخرى دون أن أشعر بوخزات قماش التنجيد في مؤخرتي. العار الشائك اللزج. إنه الآن عار أكبر بكثير مما بدا حينها. لقد فعل شيئا بي في النهاية.
من بعيد، من المساء والصباح
وسماء هنالك باثنتي عشرة نفس
نسيج الحياة يغزلني
يهب هنا: ها أنا.
لا.
ما هذه التلال الزرقاء المحفورة في الذاكرة!
ما هذه القباب! ما هذه المزارع!
لا، أبدا.
أبيض في القمر، يجري الطريق الطويل
الذي يذهب بي بعيدا عن حبي.
لا، لا، لا.
سوف أتذكر دوما ما وافقت على أن أفعله. لم أجبر، لم أومر، ولم أغو حتى. وافقت على أن أفعله.
نينا تعرف، كانت مشغولة بإيرني هذا الصباح فلم تقل أي شيء، لكن سوف يأتي وقت سوف تضحك عليه، ليس بقسوة، لكن بالطريقة التي تضحك بها على كثير من الأشياء، وربما حتى تغيظني، وإغاظتها سوف يشوبها شيء مثل دغدغتها؛ شيء ملح، وفاحش.
نينا وإيرني. في حياتي منذ الآن فصاعدا. •••
كانت مكتبة الكلية مكانا جميلا عالي السقف، صممه أناس وبنوه ومولوه إيمانا منهم بأن هؤلاء الذين جلسوا إلى الطاولات الطويلة أمام الكتب المفتوحة - حتى المتسكعين والناعسين والممتعضين والعاجزين عن الفهم منهم - يجب أن تتوفر لهم مساحة أعلاهم، ولوحات من الخشب المصقول الداكن حولهم، ونوافذ عالية بلوحات من النصائح اللاتينية تنفتح على السماء. لقد استمتعوا بهذا المكان عدة سنوات قبل أن يشرعوا في التدريس أو العمل أو تربية الأطفال، والآن جاء دوري لأستمتع به أيضا. «سير جاوين والفارس الأخضر.»
كنت أكتب مقالة جيدة، ربما أحصل على امتياز. سوف أستمر في كتابة المقالات والحصول على الامتيازات؛ لأن هذا ما أستطيع فعله. سوف يستمر الناس الذين يمنحون المنح التعليمية، والذين يشيدون الجامعات والمكتبات في دفع النقود حتى أستطيع أن أفعل ذلك.
لكن ليس هذا هو المهم. هذا لن يحميك من الأذى. •••
لم تمكث نينا لدى إيرني حتى لأسبوع واحد؛ ففي يوم قريب، يرجع إلى البيت ويجد أنها اختفت، اختفى معطفها وحذاؤها الطويل، وملابسها الجميلة والكيمونو الذي أحضرته إليها، اختفى شعرها العسلي، وعاداتها في المداعبة، والدفء الزائد لجلدها وأناتها وهي تتحرك. كل شيء اختفى دون تفسير، بلا كلمة واحدة على ورقة ما، بلا كلمة واحدة.
ومع ذلك، لم يكن إيرني من النوع الذي يتقوقع وينتحب. قال هذا حين هاتفني ليطلعني على الأخبار ويتفقد جدولي لعشاء الأحد. صعدنا السلم لأولد تشيلسيا، وعلق قائلا إن هذا هو عشاؤنا الأخير قبل إجازات عيد الميلاد. ساعدني على خلع معطفي، وشممت رائحة نينا. هل لا تزال على جلده؟
لا، انكشف المصدر حين ناولني شيئا ما، شيئا مثل منديل كبير.
قال: «ضعيه فقط في جيب معطفك.»
ليس منديلا، كان القماش أكثر سمكا مع تضليع خفيف، قميص تحتاني.
قال: «لا أريده معي.» ومن صوته تعتقد أنه كان مجرد سروال دخلي لا يريده في البيت، بصرف النظر عن أنه كان لنينا ويحمل رائحة نينا.
طلب اللحم المشوي وقطعه ومضغه كالمعتاد بشهية مهذبة. أبلغته بأخبار بلدتي التي كانت كعادتها في مثل هذا الوقت من العام تملؤها جرافات الثلج والطرق المسدودة والخراب الذي يسببه الشتاء، وهو ما كان يميزنا.
بعد مضي قليل من الوقت قال إيرني: «ذهبت إلى بيته. لم يكن هناك أحد.» - «بيت من؟»
قال إنه بيت عمها. عرف بيته؛ لأنهما هو ونينا مرا أمامه مرة بعد حلول الظلام. قال إنه لم يعد فيه أحد الآن، لقد حزما أمتعتهما ورحلا. إنه خيارها في النهاية.
قال: «إنه امتياز خاص للمرأة. كما يقولون، حق المرأة أن تغير رأيها.»
عيناه، الآن وأنا أنظر إليهما، فيهما نظرة جافة جائعة، ويحيطهما السواد والتجاعيد. زم فمه ليسيطر على رعشته، ثم واصل بسيماء من يحاول أن يرى كل الجوانب؛ من يحاول أن يفهم.
قال: «لم تستطع أن تترك عمها الطاعن في السن، لم يطاوعها قلبها أن تتخلى عنه. قلت إنه يمكن أن يعيش معنا؛ لأني معتاد على العيش مع كبار السن، لكنها قالت إنها سوف تنفصل قريبا عنه. لكن أظن أن قلبها لم يطاوعها في النهاية.» - «من الأفضل ألا يتوقع المرء الكثير. أعتقد أن بعض الأشياء ليس مقدرا للإنسان أن يحظى بها.»
حين تجاوزت المعاطف في طريقي إلى المرحاض، أخرجت القميص من جيبي، حشرته مع الفوط المستعملة. •••
في ذلك اليوم، عجزت عن مواصلة العمل على مقال السير جاوين في المكتبة. مزقت صفحة من كراستي وأخذت قلمي وغادرت. في المساحة الخارجية أمام أبواب المكتبة كان هناك هاتف عمومي، وإلى جانبه دليل تليفونات معلق. تصفحت الدليل وكتبت رقمين على الورقة. لم يكونا رقمي هاتف، بل عنوانين.
1648 شارع هينفرين.
وكان العنوان الثاني، الذي كنت أريد فقط أن أتأكد من صحته؛ إذ رأيته حديثا وعلى أظرف بطاقات المعايدة، كان 363 كارليسل.
رجعت عبر النفق إلى مبنى الآداب، ودخلت إلى المحل الصغير الذي يواجه غرفة الاستراحة. كان لدي ما يكفي من الفكة في جيبي لأشتري ظرفا وطابعا بريديا. مزقت الجزء الذي يحمل عنوان شارع كارليسل ووضعته في الظرف. أغلقت الظرف، وكتبت فوقه الرقم الآخر الأطول مع اسم السيد بورفيس وعنوان شارع هينفرين. كل هذا بحروف كبيرة، ثم لعقت الطابع ولصقته. أعتقد أن ثمنه في تلك الأيام كان أربعة سنتات.
كان هناك خارج المحل مباشرة صندوق بريد. وضعت الظرف فيه، هناك في الممر السفلي الواسع من مبنى الآداب، والناس يمرون بي في طريقهم إلى قاعات الدراسة، وفي طريقهم للتدخين أو لعب البريدج في غرفة الاستراحة. في طريقهم إلى القيام بأفعال لم يعرفوا أنها بداخلهم.
حفر-عميقة
غلفت سالي البيض المحشو؛ وهو طعام كانت تكره أن تأخذه معها في النزهات لأنه يتسبب في فوضى. شطائر لحم الخنزير، سلاطة السلطعون، فطائر الليمون؛ مشكلة في تغليفها كذلك. شراب كول إيد بطعم الفواكه للأطفال، ونصف زجاجة شامبانيا «مام» لأليكس ولها. لن تحتسي إلا رشفة لأنها لا تزال في فترة الرضاعة. كانت قد اشترت أكواب بلاستيك للشمبانيا لهذه المناسبة، لكن حين رآها أليكس في يدها، أحضر الأكواب الحقيقية - وهي إحدى هدايا الزفاف - من الخزانة الصينية. اعترضت، لكنه أصر، وتحمل مسئوليتها بنفسه؛ إذ غلفها ورصها. «أبي سيد مهذب برجوازي حقا.» هذا ما سوف يقوله كنت لسالي بعد عدة سنوات حين يصبح مراهقا ويتفوق في جميع مواده الدراسية في المدرسة، مطعما عبارته بكلمة فرنسية. كان في غاية الثقة من أنه سيصبح عالما ما إلى حد أنه يستطيع أن يفعل ما يروقه بالإطناب بالفرنسية في أنحاء المنزل بلا محاسبة.
قالت سالي بآلية: «لا تهزأ بأبيك.»
قال: «لا أهزأ، معظم الجيولوجيين يبدون متسخين عادة، هذا هو السبب ليس إلا.» •••
كانت النزهة على شرف أول مقال ينشر لأليكس منفردا في «مجلة الجيومورفولوجي (علم تشكل الأرض)». كانوا يتجهون إلى أوسلر بلاف؛ لأن المقال يسهب في وصفها، ولأن سالي والأطفال لم يروها من قبل.
ساروا بالسيارة بضعة أميال على طريق ريفي وعر - بعد أن انعطفوا من طريق ريفي ممهد لكن غير مرصوف - وكان هناك مكان للسيارات، خال من السيارات في الوقت الحالي. كانت اللافتة مطلية بغير إتقان على لوح خشبي واحتاجت إلى ترميم: احذر، حفر-عميقة.
فكرت سالي: لماذا هذه الشرطة؟ لكن من يهتم؟
بدا المدخل إلى الغابة عاديا جدا ومطمئنا. أدركت سالي بالطبع أن تلك الغابات فوق جرف عال، وتوقعت مشهدا مرتفعا مخيفا في مكان ما . لكنها لم تتوقع أن تجد المنطقة المسيجة أمامهم مباشرة تقريبا.
فجوات وحفر عميقة حقا، بعضها بحجم الكفن، والآخر أكبر من ذلك، وكأنها غرف اقتطعت من الأحجار. تتلوى الممرات بينها وتنمو نباتات السرخس والطحالب على الجانبين. ومع ذلك لم ينم ما يكفي من النبات لكي يصنع غطاء من نوع ما فوق الحصى الذي بدا بعيدا جدا إلى الأسفل. مضى الطريق يتلوى بينها، فوق أرض قاسية أو رفوف من صخر ليس مستويا كليا.
جاء نداء الولدين؛ كنت وبيتر، تسعة وستة أعوام، وهما يجريان في الأمام: «أووييي.»
قال أليكس: «لا ركض متهور هنا؛ لا استعراضات غبية، هل تسمعان؟ هل تفهمان؟ أجيباني.»
أجابا أن نعم، وتقدم أليكس يحمل سلة الطعام بعد أن تصور على ما يبدو أنهما لا يحتاجان إلى مزيد من التحذيرات الأبوية. مشت سالي بخطوات متعثرة بسرعة أكبر من قدرتها، بحقيبة الحفاظات ووليدتها سافانا. لم تستطع أن تبطئ حتى يظهر ولداها أمام عينيها؛ إذ رأتهما يهرولان ويلقيان نظرات جانبية على الفجوات السوداء، وهما لا يزالان يصدران صيحات رعب مبالغا فيها لكن مكتومة. كانت تنادي عليهما بإنهاك ورعب ونوع مألوف من الغيظ المتسرب تدريجيا إليها.
لم يظهر المنظر العلوي إلا بعد أن مشيا عبر تلك الطرق القذرة والصخرية مسافة بدت لها نصف ميل، وكانت على الأرجح ربع ميل. ثم كان هناك توهج، وظهرت السماء فجأة، وتوقف زوجها في المقدمة. أطلق صيحة الوصول متباهيا، وصاح الولدان بانبهار حقيقي. وجدتهم سالي - بعد أن ظهرت من الغابة - يصطفون على جرف فوق مستوى رءوس الأشجار - فوق مستويات عديدة من رءوس الأشجار كما اتضح - مع حقول صيفية تنتشر إلى بعيد، تتلألأ بوميض أخضر وأصفر.
ما إن وضعت سالي رضيعتها على البطانية حتى بدأت سافانا تبكي.
قالت سالي: «جائعة.»
قال أليكس: «تصورت أنها تناولت طعامها في السيارة.» - «هذا ما حدث، لكنها جاعت مرة أخرى.»
أمسكت سافانا على جانب من جسدها لترضع، وبيدها الطليقة فكت سلة الطعام. لم يكن هذا بالطبع ما خطط له أليكس، لكنه تنهد تنهيدة مرحة، وأخرج كأسي الشمبانيا من تغليفهما في حقيبته، ووضعهما على جانبيهما على رقعة حشيش.
قال كنت: «أنا أيضا عطشان.» وحاكاه بيتر على الفور. - «وأنا أيضا.»
قال أليكس: «اسكت.»
قال كنت: «اسكت يا بيتر.»
قال أليكس لسالي: «ماذا أحضرت لهما ليشرباه؟» - «مشروب كول-إيد في الإبريق الأزرق، والأكواب البلاستيكية في منديل تحته.»
رأى أليكس، بالطبع، أن كنت بدأ هذا الهراء، ليس لأنه عطشان حقا؛ بل لأنه ينفعل انفعالا فظا تقريبا حين يرى ثدي سالي. اعتقد أن الوقت حان لكي تنتقل سافانا إلى الرضاعة الصناعية؛ كانت تبلغ ستة أشهر تقريبا. واعتقد أن سالي كانت غير مبالية تماما بشأن المسألة كلها؛ إذ تدور أحيانا في المطبخ تقوم ببعض الأعمال بيد واحدة بينما تلتقم الرضيعة ثديها. ويختلس كنت النظرات، ويشير بيتر إلى إبريقي لبن ماما.
قال أليكس إن هذا بسبب كنت. كنت مخادع ومتعب وله ذهن قذر.
قالت سالي: «حسنا، يجب أن أستمر في القيام بهذه الأشياء.» - «الرضاعة ليست من الأمور التي يجب أن تستمري في عملها. يمكن أن تحاولي غدا إرضاعها من زجاجة حليب.» - «قريبا. ليس غدا بالتحديد، لكن قريبا.»
لكن ها هي، لا تزال تجعل سافانا وإبريقي الحليب يهيمنان على النزهة.
سكب شراب الكول-إيد، ثم الشمبانيا. قرع سالي وأليكس كأسيهما وسافانا بينهما. تناولت سالي رشفتها وتمنت لو أنها تستطيع أن تتناول المزيد. تبتسم لأليكس لتنقل إليه هذه الأمنية، وربما أمنية أنه من الألطف لو كانا وحدهما. احتسى الشمبانيا من كأسه، وبدأ يستمتع بالنزهة، كما لو أن رشفتها الوحيدة وابتسامتها كافيتان لتهدئته. تخبره بأن الشطائر التي بها الخردل الذي يحبه، والتي بها الخردل الذي تحبه هي وبيتر، وشطائر كنت، الذي لا يحب الخردل على الإطلاق جاهزة.
أثناء هذا، نجح كنت في التسلل خلفها وشرب كأس الشمبانيا. لا بد أن بيتر رآه يفعل هذا، لكن لسبب ما لم يش به. تكتشف سالي ما حدث فيما بعد ولا يعلم أليكس عن هذا أبدا؛ لأنه ينسى سريعا أن كأسها كانت بها أي بقايا من الشمبانيا، ويكيسه نظيفا مع كأسه، بينما يحكي للولدين عن حجر الدولوميت. يستمعان، فيما يبدو، بينما يلتهمان الشطائر، ويتجاهلان البيض المحشو وسلاطة السلطعون والفطائر.
الدولوميت؛ يقول أليكس. هذا هو الجلمود الصخري السميك الذي يرونه. تحته طمي طيني تحول إلى صخر حبيبي ناعم جدا. تشق المياه طريقها عبر الدولوميت، وحين تصل إلى الطمي تستقر هناك؛ لا تستطيع اختراق الطبقات الرفيعة؛ الحبيبات الناعمة. لهذا يستمر التآكل - يعني تفتت الدولوميت - رجوعا إلى المصدر، ويصنع قناة، ويكون الجلمود مفاصل رأسية، هل تعرفون ماذا تعني رأسية؟
يقول كنت بتكاسل: «فوق وتحت.» - «مفاصل رأسية ضعيفة، تزداد وهنا، ثم تترك صدوعا خلفها، وبعد ملايين السنين تنفصل تماما وتسقط من فوق المنحدر.»
يقول كنت: «يجب أن أذهب.» - «تذهب إلى أين؟» - «أريد أن أتبول.» - «حسنا، اذهب.»
يقول بيتر: «أنا أيضا.»
تزم سالي فمها في وصية آلية بالحذر. ينظر أليكس إليها موافقا على تحذيرها. يتبادلان ابتسامة باهتة.
غلب النوم سافانا، تراخت شفتاها حول الحلمة. ومع خروج الولدين، يصبح من الأسهل فصلها عن ثديها. يمكن لسالي أن تجعلها تتجشأ وتضعها على البطانية بدون أن تقلق من انكشاف ثديها. لو أن أليكس يجد المنظر كريها - تعرف أنه يراه هكذا، يكره ربط الجنس بالرضاعة؛ تحول ثدي زوجته إلى ضرع - يمكنه أن ينظر بعيدا، وهو ما يفعله.
بينما تزرر قميصها تصل إليهما صرخة، ليست حادة لكن شاردة ومقتضبة، وأليكس هو من يقف على قدميه قبلها، يجري في الممر، ثم وصلت صرخة أعلى وأقرب. إنه بيتر. - «كنت سقط. كنت سقط.»
يصرخ والده: «أنا قادم.»
سوف تظل سالي تعتقد دائما أنها عرفت على الفور، قبل أن تسمع حتى صوت بيتر، عرفت ماذا حدث. لو أن حادثا وقع، فلن يقع لابنها ذي الست سنوات، الذي كان شجاعا لكن ليس مبدعا وليس محبا للاستعراض. سوف يقع لكنت. تستطيع أن ترى كيف بالضبط. يتبول في الحفرة، يقف على الحافة، يغيظ بيتر، ويغيظ نفسه.
كان حيا. كان يرقد بعيدا في الأسفل على الحصى في قاع الصدع الحجري، لكنه كان يحرك ذراعيه، يناضل لكي يدفع نفسه إلى الأعلى، يناضل بوهن شديد. إحدى ساقيه محبوسة تحته، والأخرى مثنية ثنية غريبة.
قالت لبيتر: «هل يمكن أن تحمل الطفلة؟ اذهب إلى مكاننا، وضعها على الأرض وارعها. هذا ابني المطيع، ابني القوي المطيع.»
كان أليكس يهبط إلى الحفرة، متعثرا، يطلب من كنت أن يظل ساكنا. كان النزول بأمان ممكنا؛ لكن إخراج كنت سيكون هو الجزء الصعب.
هل تهرع إلى السيارة وترى إذا كان بها حبل؟ تربط الحبل حول جذع شجرة. ربما تربطه حول جسد كنت، فتستطيع أن ترفعه إلى الأعلى حين يحمله أليكس.
لن تجد حبلا. لماذا يوجد بها حبل؟
وصل أليكس إليه. انحنى ورفعه. أطلق كنت صرخة ألم متضرعة. ألقاه أليكس فوق كتفه؛ إذ تتأرجح رأسه من جهة، والساقان العاجزتان من الجهة الأخرى. نهض، وتعثر بضع خطوات، وبينما كان لا يزال متمسكا بكنت، سقط على ركبتيه. قرر أن يزحف، وكان يشق طريقه - تفهم سالي هذا الآن - إلى الحصى الذي يملأ جزئيا نهاية الصدع. صرخ يعطيها بعض الأوامر بدون أن يرفع رأسه، وعلى الرغم من أنها لم تميز كلمة واحدة فقد فهمت. وقفت على ركبتيها - لماذا كانت على ركبتيها؟ - ودفعت بعض الفسائل إلى الحافة حيث يبعد الحصى عن السطح مسافة ثلاثة أقدام. كان أليكس يزحف حاملا كنت المتدلي فوق كتفه مثل غزال مصاب بطلق ناري.
نادت: «أنا هنا، أنا هنا.»
كان يجب أن يرفع الأب كنت، وتسحبه أمه إلى الجزء الصخري الصلب. كان ولدا نحيلا لم يصل بعد إلى أولى دفقات نموه، لكنه بدا ثقيلا مثل كيس أسمنت. لم تستطع ذراعا سالي أن تفعل هذا من المحاولة الأولى. غيرت وضعها؛ إذ جثمت بدلا من الاستلقاء على بطنها، وبكل ما في كتفيها وصدرها من قوة، وبدعم من أليكس، وبدفعه جسد كنت من الخلف رفعاه إلى الأعلى. وقعت سالي به بين ذراعيها ورأت عينيه مفتوحتين تدوران في محجريهما بينما يفقد الوعي مرة أخرى.
حين تسلق أليكس وخرج من الحفرة، التقطا الطفلين الآخرين وقادا السيارة إلى مستشفى كولينجوود. هناك اتضح أنه لم يصب بإصابة داخلية. الساقان كلتاهما كانتا مكسورتين، كسر منهما نظيف، كما وصفه الطبيب، أما الساق الأخرى فمحطمة.
قال الطبيب لسالي - التي دخلت مع كنت بينما يراقب أليكس الطفلين الآخرين: «يجب مراقبة الأطفال كل دقيقة هناك. ألم يضعوا أي علامات تحذيرية؟»
كان سيتحدث مع أليكس بأسلوب مختلف. هكذا هم الأولاد؛ إذا أدرت ظهرك لهم فسيعبثون في المكان الخطأ. «الصبيان صبيان.»
كان امتنانها - إلى الله الذي لم تكن تؤمن به، وإلى أليكس، الذي كانت تؤمن به - هائلا، فلم تشعر بغضب أو نقمة. •••
كان من الضروري بالنسبة إلى كنت أن يقضي نصف العام المقبل خارج المدرسة، مشدودا في البداية إلى سرير مستأجر بالمستشفى. كانت سالي تحضر واجباته المدرسية وتعيدها، وكان هو ينهيها في وقت وجيز، ثم شجعته على أن يتقدم بتأدية بعض المشاريع الإضافية، كان أحدها هو السفر والاكتشاف؛ اختر بلدك.
قال: «أريد أن أختار ما لن يختاره أحد.»
حينها قالت له سالي شيئا لم تقله قط لأي مخلوق. أخبرته كم كانت منجذبة إلى الجزر البعيدة، ليس إلى جزر هاواي أو الكناري أو جزر هيبريدز أو جزر اليونان، التي يرغب الجميع في زيارتها، بل إلى الجزر الصغيرة والغامضة التي لم يتحدث عنها أي أحد، والتي زارها القليل من الناس، إن كان هناك من زارها أصلا، جزيرة أسينشين، وجزر تريستان دا كونا، وجزر تشاتام، وجزيرة كريسماس، والجزيرة المهجورة، وجزر فارو. بدأت هي وكنت في جمع كل معلومة يمكن أن يعثرا عليها عن تلك الأماكن، دون أن يسمحا لأنفسهما باختلاق أي شيء. لم يخبرا أليكس قط بما كانا يفعلانه.
قالت سالي: «سوف يظن أننا فقدنا عقلنا.»
كانت ميزة الجزيرة المهجورة الرئيسة هي نوع قديم من الخضراوات؛ كرنب فريد. تخيلا طقوسا احتفالية له وأزياء ومواكب كرنب على شرفه.
قالت سالي لابنها إنها، قبل أن يولد، رأت في التليفزيون سكان تريستان دا كونا يهبطون في مطار هيثرو، بعد أن أخلوا الجزيرة بسبب زلزال عظيم أصابها. كم بدوا غرباء ولطفاء وعظماء، مثل بشر جاءوا من قرن آخر من الزمن. لا بد أنهم تكيفوا مع لندن، بطريقة أو أخرى، لكن بعد أن هدأ البركان أرادوا أن يعودوا إلى وطنهم.
حين عاد كنت إلى المدرسة، تغيرت الأشياء بالطبع، لكنه ظل أكبر من عمره، صبورا مع سافانا التي أضحت جسورة وعنيدة، ومع بيتر الذي يندفع دائما إلى المنزل كما لو كان إعصارا عاتيا. وكان مهذبا خاصة مع والده؛ إذ يحضر له الورق الذي أنقذه من سافانا مطويا بعناية، ويسحب له الكرسي في وقت تناول وجبة العشاء.
كان يقول أحيانا: «تكريما للرجل الذي أنقذ حياتي.» أو: «بطل البيت.»
كان يقول هذا بنبرة درامية إلى حد ما لكن ليست ساخرة على الأقل. ومع ذلك كان هذا يضغط على أعصاب أليكس، كان كنت يضغط على أعصابه حتى قبل أن تقع دراما الحفرة العميقة.
كان يقول له: «كف عن هذا.» ويشكو لسالي على انفراد.
تقول له: «إنه يقول إنك حتما تحبه؛ لأنك أنقذته.» - «يا إلهي! كنت سأنقذ أي شخص.» - «لا تقل هذا أمامه من فضلك.» •••
حين وصل كنت إلى المرحلة الثانوية، تحسنت الأمور مع أبيه. اختار أن يدرس العلوم. اختار أصعب علم، ليس علوم الأرض السهلة، وحتى هذا لم يثر أي معارضة لدى أليكس. كلما كان أصعب كان أفضل.
لكن بعد ستة أشهر في الكلية، اختفى كنت. قال الأشخاص الذين عرفوه قليلا - إذ لم يبد أن هناك أحدا يدعي أنه صديق مقرب - إنه تحدث عن الذهاب إلى الساحل الغربي. ثم وصلت رسالة، في الوقت الذي قرر فيه والداه الاتصال بالشرطة. كان يعمل في مخزن إطارات كندي في ضاحية شمال تورنتو. ذهب أليكس ليراه هناك؛ ليأمره بالرجوع إلى تعليمه. لكن كنت رفض، وقال إنه سعيد جدا بعمله الذي حصل عليه ويكسب كثيرا من المال، أو سوف يكسب مالا وفيرا قريبا، حين يترقى. ثم ذهبت سالي لتراه بدون أن تخبر أليكس، ووجدته مرحا وقد زاد وزنه عشرة أرطال. قال إنها البيرة. لديه أصدقاء الآن.
قالت لأليكس - حين اعترفت له بالزيارة: «إنها مرحلة. يريد أن يتذوق معنى الاستقلالية .» - رد أليكس: «يمكنه أن يشبع منها قدر ما يشاء؛ لم يعد أمره يعنيني.»
لم يخبرها كنت أين يعيش، لكن لم يكن هذا مهما؛ لأنها عندما قامت بزيارته مرة ثانية قيل لها إنه ترك العمل. شعرت بالحرج - اعتقدت أنها لمحت ابتسامة متكلفة على وجه الموظف الذي قال لها هذا - ولم تسأل أين ذهب كنت. ظنت أنه سوف يتصل بهم على أية حال ما إن يستقر من جديد. •••
فعل هذا بعد ثلاث سنوات. كانت رسالته مرسلة من نيدل، كاليفورنيا، لكنه أخبرهم ألا يكلفوا أنفسهم عناء تعقبه هناك؛ إذ كان يمر فقط بالمدينة. قال: مثل بلانش؛ وقال أليكس: من بلانش هذا بحق الجحيم؟
قالت سالي: «مجرد مزحة. لا تهتم.»
لم يقل كنت أين كان يعمل أو أين كان أو ما إذا كان لديه أصدقاء أم لا. لم يعتذر عن تركهم كل هذه الفترة بدون أن يمدهم بأي معلومات أو يسألهم عن أحوالهم، أو حال أخيه وأخته. بدلا من هذا كتب صفحات عن حياته الخاصة. ليس عن الجانب العملي من حياته، بل عما يجب أن يفعله، وما كان يفعله بها.
قال: «يبدو سخيفا جدا لي أنه ينتظر من الشخص أن يحبس نفسه في بذلة. أعني بذلة مهندس أو طبيب أو جيولوجي وينمو الجلد فوقها، فوق القماش، أقصد أنه لا يستطيع خلعها أبدا. حين تكون لدينا فرصة اكتشاف عالم الواقع الداخلي والخارجي كله، والعيش بأسلوب يشمل الروحي والمادي والمدى الكامل من الجمال والشناعة المتاحين للنوع البشري؛ فذاك هو الألم، وكذلك هو الفرح والاضطراب. قد يبدو لكم هذا الأسلوب في التعبير عن نفسي مبالغا لكني تعلمت أن أتخلى عن شيء واحد؛ هو التفاخر الفكري ...» •••
قال أليكس: «إنه يتعاطى المخدرات، يمكن معرفة هذا من على بعد أميال. المخدرات أفسدت مخه.»
في منتصف الليل قال: «الجنس.»
كانت سالي ترقد إلى جانبه مستيقظة تماما.
قالت: «ماذا عن الجنس؟» - «هو الذي يجعله يدخل الحالة التي يتحدث عنها؛ يصبح شيئا أو آخر حتى يستطيع أن يكسب عيشه، حتى يستطيع أن يدفع مقابل ممارسة جنسية ثابتة وتبعاتها. هذا ليس أحد الاعتبارات بالنسبة له.»
قالت سالي: «واو! رومانسي جدا.» - «إن التعامل مع الأساسيات ليس رومانسيا أبدا، كل ما أحاول قوله هو أنه ليس طبيعيا.»
كذلك كتب كنت في رسالته - أو ما أسماه أليكس هياجه - إنه أكثر حظا من معظم الناس؛ لأنه جرب ما يسميه تجربة الموت الوشيك، التي منحته وعيا إضافيا؛ ولهذا لا بد أن يظل دوما ممتنا لوالده الذي رفعه إلى العالم مرة ثانية، وإلى أمه التي تلقته بحب هناك.
يقول: «ربما ولدت مرة ثانية في تلك اللحظات.»
تذمر أليكس.
قال: «لا، ما كنت لأقول هذا.»
قالت سالي: «لا، إنك لا تعني هذا.» - «لا أعرف ما إذا كنت أعنيه أم لا.»
كانت الرسالة، التي وقعها مع الحب، آخر ما وصل إليهم منه. •••
التحق بيتر بكلية الطب وسافانا بكلية الحقوق.
أصبحت سالي مهتمة بالجيولوجيا، على نحو أدهشها هي نفسها. ذات مرة، في مزاج آمن بعد ممارسة الجنس، أخبرت أليكس عن الجزر؛ لكن لم تخبره عن تخيلها أن كنت يعيش الآن في واحدة منها. قالت إنها نسيت العديد من التفاصيل التي كانت تعرفها؛ ولهذا يجب أن تقرأ عن كل هذه الأماكن في الموسوعة التي كانت أول مكان حصلت منه على المعلومات عن تلك الجزر. قال أليكس إن كل شيء تود أن تعرفه يمكن أن تجده على الأرجح على شبكة الإنترنت. قالت بالتأكيد لا تعني معلومات غامضة، وأخرجها من السرير، ونزلا إلى الصالة، وفي لمحة عين كانت أمام عينيها تريستان دا كونا، لوحة خضراء في المحيط الأطلنطي الجنوبي، مع وفرة من البيانات. صدمت وابتعدت، وسألها أليكس - الذي شعر بالإحباط بالطبع - عن السبب.
قالت: «لا أعرف، أشعر الآن كأني فقدتها.»
قال إن هذا ليس جيدا، وأنها تحتاج إلى شيء حقيقي تفعله. كان قد تقاعد توا عن التدريس ويخطط لتأليف كتاب. كان بحاجة إلى مساعد؛ ولا يستطيع الآن أن يستعين بالطلاب الجامعيين كما كان يفعل حين كان في هيئة التدريس (لم تعرف إن كان هذا حقيقيا أم لا). ذكرته أنها لا تعرف أي شيء عن الصخور، وقال إن هذا ليس مهما؛ لأنه يستطيع أن يستخدمها في ضبط المقياس في الصور الفوتوغرافية.
هكذا أصبحت المساعدة الصغيرة التي ترتدي ملابس سوداء أو لامعة تتناقض مع شرائط صخور العصر السيلوري أو العصر الديفوني، أو مع الصخور الجرانيتية الصوانية التي كونها الضغط الشديد، وانطوت وتشوهت بسبب تصادم الصفائح التكتونية للقارة الأمريكية والمحيط الهادي لتكون القارة الحالية. تعلمت تدريجيا أن تستخدم عينيها وتطبق المعرفة الجديدة، إلى حد أنه أصبح بوسعها أن تقف في ضاحية خالية وتدرك أن تحت حذائها بعيدا في الأعماق توجد حفرة مليئة بحصى لن يراها أحد أبدا، ولم يرها أحد قط؛ لأنه لم تكن هناك عيون لتراها أثناء خلقها أو عبر تاريخها الطويل من التكون والامتلاء والاختفاء والضياع. أسبغ أليكس على هذه الأشياء شرف معرفته بها، على أفضل نحو يستطيع، وأعجبت به لذلك، على الرغم من أنها كانت تعلم ما يكفي لكي لا تفصح عن هذا. كانا صديقين جيدين في تلك السنوات الأخيرة، التي لم تعرف أنها سنواتهما الأخيرة، على الرغم من أنه ربما عرف ذلك. دخل المستشفى لإجراء عملية، وأخذ معه خرائطه وصوره، وفي اليوم الذي كان من المفترض أن يعود إلى المنزل مات. •••
حدث هذا في الصيف، وفي ذلك الخريف شب حريق مأساوي في تورنتو. جلست سالي أمام التليفزيون تشاهد الحريق لفترة من الوقت. حدث في حي عرفته، أو كانت تعرفه، في الأيام التي سكنه فيها الهيبز بأوراق التاروت والخرز والورود الصناعية بحجم ثمرة قرع العسل التي كانت تميزهم. وظلت تعرفه لفترة من الزمن بعدها، حين تحولت المطاعم النباتية إلى حانات ومطاعم غالية. أزيل مربع سكني من تلك البنايات التي تعود إلى القرن التاسع عشر، وكان المذيع يندبها، متحدثا عن الناس الذين عاشوا فوق المحلات في شقق قديمة الطراز، وعن الذين فقدوا بيوتهم الآن، ويسحبون إلى الشارع بعيدا عن الأذى.
فكرت سالي أن المذيع لم يذكر أصحاب تلك المباني، الذين أفلتوا على الأرجح بإهمالهم للتوصيلات الكهربائية التالفة ، وتركهم لجحافل الصراصير وبق الفراش التي لم يشتك منها الفقراء المضللون أو الخائفون.
تشعر في بعض الأحيان أن أليكس يتحدث في رأسها هذه الأيام، وهذا بالتأكيد ما كان يحدث. أطفأت التليفزيون الذي يبث الحريق.
لم يمر أكثر من عشر دقائق ودق جرس الهاتف. كانت سافانا. - «أمي. هل تشاهدين التليفزيون؟ هل رأيت؟» - «تقصدين الحريق؟ كنت أشاهده ثم أطفأت التليفزيون.» - «لا، هل رأيت - أنا أبحث عنه الآن - رأيته منذ أقل من خمس دقائق. أمي، إنه كنت. لا أستطيع أن أجده الآن، لكني رأيته.» - «هل هو مصاب؟ إني أشغله الآن. هل كان مصابا؟» - «كلا، كان يساعدهم. كان يحمل نقالة، فوقها جسد؛ لا أعرف إن كان ميتا أم مجروحا فقط. لكنه كان كنت، كان هو، كان حتى يعرج. هل تشاهدين الآن؟» - «نعم.» - «حسنا. سوف أهدأ. أراهن أنه عاد إلى المبنى.» - «لكن بالتأكيد لن يسمحوا ...» - «ربما كان طبيبا. تبا، الآن يقدمون نفس العجوز المسن الذي تحدثوا معه من قبل، تمتلك عائلته مشروعا تجاريا منذ مائة عام. فلننه المكالمة ونركز على الشاشة، بالتأكيد سوف يظهر مرة أخرى.»
لم يظهر، تكررت المشاهد.
هاتفتها سافانا مرة أخرى. - «سوف أفهم ما يحدث. أعرف شخصا يعمل في الأخبار. أستطيع أن أشاهد هذا المشهد ثانية، يجب أن نعرف.»
لم تعرف سافانا أخاها جيدا؛ فلم كل هذه الجلبة؟ هل موت أبيها جعلها تشعر بأنها تحتاج إلى عائلة؟ يجب أن تتزوج، قريبا؛ يجب أن تنجب أطفالا. لكنها تتميز بهذا الطابع العنيد حين تقرر شيئا ما؛ هل يمكن أن تعثر على كنت؟ أخبرها والدها حين كانت في العاشرة من عمرها أنها يجب أن تتمسك بالفكرة حتى النخاع، لا بد أن تصبح محامية، ومنذ ذلك الحين، تقول إن هذا ما سوف تفعله.
أصاب سالي الرجفة والحنين والإجهاد. •••
كان هو كنت، وفي أسبوع اكتشفت سافانا كل شيء عنه. لا، بل عرفت كل ما قصد أن يخبرها به. كان يعيش في تورنتو منذ سنوات، وكان يمر غالبا على المبنى الذي تعمل به ورآها مرتين في الشارع. ذات مرة كانا وجها لوجه عند تقاطع ما. بالطبع لم تكن لتتعرف عليه لأنه كان يرتدي معطفا من نوع ما.
سألتها سالي: «رداء هير كريشنا؟»
قالت: «يا أمي، كون المرء ناسكا لا يعني أنه يعبد كريشنا، على أية حال هو ليس كذلك الآن.» - «ماذا هو إذن؟» - «قال إنه يعيش في الحاضر، فقلت حسنا، ألا نعيش جميعا في الحاضر، فقال لا، وكان يقصد الحاضر الفعلي.»
سألها، أين هما الآن، فقالت سافانا: «تقصد هذه المزبلة؟» لأن المقهى الذي طلب منها أن تقابله فيه كان أشبه بالمزبلة.
قال: «أراه بشكل مختلف»؛ لكنه قال بعدها إنه لا يعترض على طريقة رؤيتها للمكان أو رؤية أي أحد له.
قالت سافانا بلهجة مازحة: «حسنا، هذا نضج منك.» ويبدو أنه ضحك.
قال إنه رأى نعي أليكس في الجريدة ويعتقد أنه كان جيدا جدا. اعتقد أن أليكس كان سيحب الإشارات الجيولوجية. تساءل حينها إن كان اسمه سوف يظهر ضمن العائلة، أم لا، واندهش قليلا عندما قرأ اسمه. تساءل ما إذا كان والدهم قد أخبرهم بالأسماء التي يرغب في وضعها قبل أن يموت؟
قالت سافانا لا، لم يكن يخطط للموت بهذه السرعة. كان قرار بقية العائلة التي اجتمعت ووضعت اسم كنت في النعي.
قال: «ليس أبي إذن من طلب.» - «لا، ليس هو.»
ثم سأل عن سالي.
شعرت سالي وكأن بالونا منتفخا في صدرها.
سألتها سالي: «ماذا قلت له؟» - «قلت إنك بخير، ربما مشوشة قليلا؛ لأنك أنت وأبي كنتما مقربين جدا، ولم يمر وقت كاف بعد لتتعودي الوحدة، ثم قال أن أخبرك أن بوسعك الذهاب لزيارته لو أردت هذا، وقلت إني سأسألك.»
لم تجب سالي. - «هل أنت معي يا أمي؟» - «هل قال متى أو أين؟» - «لا، من المفترض أن أقابله بعد أسبوع في المكان نفسه وأخبره. أعتقد أنه يستمتع نوعا ما بتولي الأمر. اعتقدت أنك سوف توافقين فورا.» - «بالطبع أوافق.» - «ألست قلقة من الذهاب وحدك؟» - «لا تكوني سخيفة، هل كان حقا الرجل الذي رأيته في الحريق؟» - «لم يقل نعم أو لا ، لكن معلوماتي أنه هو، إنه معروف جدا كما اتضح في أجزاء معينة من البلدة ومن ناس معينين.» •••
تلقت سالي رسالة ورقية قصيرة. هذا في حد ذاته كان فعلا خاصا؛ حيث إن معظم الناس الذين عرفتهم استخدموا البريد الإلكتروني أو التليفون. كانت سعيدة أنه لم يكن بالتليفون. لم تثق في رد فعلها حين تسمع صوته. تعلمها الرسالة القصيرة بأن عليها أن تترك سيارتها في موقف سيارات مترو الأنفاق عند نهاية الخط، وتستقل المترو إلى محطة محددة في الرسالة حيث يجب أن تنزل بها، وسوف يقابلها هناك.
توقعت أن تراه على الجانب الآخر من الباب الدوار، لكنه لم يكن هناك. ربما قصد أنه سوف يقابلها في الخارج. صعدت الدرجات وخرجت إلى ضوء الشمس وتوقفت، مع كل أنواع الناس المسرعين والمتدافعين الذين يمرون بها. شعرت بالجزع والحرج؛ الجزع بسبب غياب كنت الواضح، والحرج لأنها تشعر تماما بما يشعر به الناس الذين يعيشون في الجزء الذي تعيش فيه من البلدة، على الرغم من أنها لن تقول أبدا ما يقولون. كانوا سيقولون إنهم سيظنون أنهم في الكونغو أو الهند أو فيتنام. أي مكان إلا تورنتو. العمائم والسواري الهندية والقمصان الأفريقية غالبة، واستحسنت سالي حفيفها وألوانها البراقة. لكن لم يرتدها هؤلاء على أنها أزياء أجنبية. لم يصل هؤلاء توا إلى هنا؛ لقد مروا بمرحلة الانتقال. كانت تقف في طريقهم.
على درجات مبنى بنك قديم وراء مدخل المترو تماما، كان يجلس بعض الرجال أو يتسكعون أو ينامون. لم يعد بنكا بالطبع على الرغم من أن اسمه منقوش على الحجر. نظرت إلى الاسم أكثر مما نظرت إلى الرجال، الذين كان تراخيهم أو اتكاؤهم أو أوضاعهم الجسدية - التي تنم عن الإنهاك - تعكس تناقضا صارخا مع الغرض القديم من المبنى واندفاع الحشد الذي يخرج من المترو. - «أمي!»
اتجه نحوها ببطء واحد من الرجال، يعرج عرجا بسيطا في قدم واحدة، وأدركت أنه كنت وانتظرته.
كادت تهرب تقريبا قبل قليل، لكنها أدركت حينئذ أنه ليس كل الرجال قذرين أو يائسين، وأن البعض منهم نظروا إليها بدون تهديد أو احتقار، بل بنظرة لاهية ودودة حين تعرفوا إليها بوصفها والدة كنت.
لم يرتد معطفا، ارتدى بنطلونا رماديا كبيرا جدا عليه بحزام، وتي شيرت بدون طباعة عليه، وجاكيت رثا جدا. كان شعره قصيرا جدا حتى اختفت تموجاته تقريبا. كان رماديا تماما، بوجه يحمل ندوبا، وبعض الأسنان المفقودة، وجسد رفيع جدا جعله يبدو أكبر سنا.
لم يحتضنها - والحق أنها لم تتوقع منه أن يفعل - لكنه وضع يده برفق على ظهرها ليقودها إلى الاتجاه الذي من المفترض أن يسلكاه.
قالت - وهي تستنشق الهواء وتتذكر كيف بدأ في تدخين الغليون في الثانوية: «هل لا تزال تدخن بيبتك؟» - «غليون؟ لا، إنه دخان الحريق الذي تشمينه. لم نعد نلاحظه الآن، أخشى أنه سوف يشتد مع الاتجاه الذي نمشي فيه.» - «هل سنجتاز المكان الذي وقع فيه الحريق؟» - «كلا كلا، لا نستطيع، حتى لو أردنا؛ لقد أغلقوا الحي كله. هذا خطير جدا، لا بد من هدم بعض المباني، لا تقلقي فالوضع آمن هنا. نبعد حيا ونصف عن الفوضى.»
قالت - وقد انتبهت إلى ضمير الجمع: «المبنى الذي تسكن فيه؟» - «نوعا ما، نعم، سترين.»
تحدث بلطف وود، لكن بمجهود، كشخص يتحدث بلغة أجنبية. وكان ينحني قليلا؛ ليتأكد من أنها تسمعه. كان الجهد الخاص والمشقة في حديثه معها، كما لو أنه يقوم بترجمة دقيقة، بدا أمرا قصد أن تلاحظه.
الثمن.
بينما ينزلان من على الرصيف لمس ذراعها بخفة - ربما تعثر قليلا - وقال: «معذرة.» ظنت أنه ارتجف قليلا.
الإيدز. لماذا لم يخطر هذا على بالها من قبل قط؟
وعلى الرغم من أنها لم تتحدث بصوت مرتفع بالتأكيد، سمعته يقول: «كلا، أنا بصحة جيدة تماما في الوقت الحالي، لست مصابا بفيروس نقص المناعة البشرية أو أي شيء من هذا القبيل. أصبت بالملاريا منذ سنوات مضت، لكنها تحت السيطرة. ربما أكون تعبا قليلا في الوقت الحاضر، لكن لا شيء يقلق. ندخل هنا، نحن في هذا المبنى.» «نحن»، مرة ثانية!
قال: «لست صاحب قدرات روحية خاصة، لقد فهمت فحسب شيئا كانت سافانا تحاول أن تتبينه ورأيت أن أطمئنك. وصلنا.»
كان واحدا من تلك المنازل التي تفتح أبوابها على بعد خطوات قليلة من الرصيف.
قال - وهو يبقي الباب مفتوحا: «أنا عفيف في الواقع.»
كانت قطعة كرتون مثبتة بمسمار حيث يجب أن يكون هناك لوح زجاجي.
كانت الأرضية الخشبية عارية وتطقطق تحت ضغط القدمين. رائحة المكان معقدة ونفاذة. علقت رائحة دخان الشارع بالطبع لكنها كانت ممزوجة بروائح طهي قديم وقهوة محروقة وحمامات ومرض وعطن. - «ربما لم تكن كلمة «عفيف» صحيحة؛ فهي تعطي انطباعا بأن الأمر له علاقة بقوة الإرادة. أظن أنه كان حريا بي أن أقول «محايد». لا أرى هذا الأمر إنجازا، إنه ليس إنجازا.»
كان يقودها عبر السلالم نحو المطبخ. وهناك وقفت امرأة ضخمة تعطيهما ظهرها، تقلب طعاما ما على الموقد.
قال كنت: «أهلا مارني، هذه أمي. هل يمكن أن تحيي أمي؟»
لاحظت سالي تغيرا في صوته، استرخاء، وصدقا، واحتراما ربما، مختلفا عن اللطف المصطنع معها.
قالت: «مرحبا مارني»، واستدارت المرأة قليلا، بوجه دمية مضغوط في قطعة لحم لكن دون أن تركز عينيها.
قال كنت: «مارني هي الطاهية هذا الأسبوع، الرائحة طيبة يا مارني.»
وقال لأمه: «سوف نذهب ونجلس في مكاني المقدس، هيا بنا.» قادها نزولا درجتين وعبر قاعة طويلة. كان من الصعب الحركة هناك بسبب أكوام الصحف والملصقات والمجلات المربوطة ربطا محكما.
قال كنت: «يجب أن نخرج هذه الأشياء من هنا. قلت لستيف هذا الصباح، هناك خطر نشوب حريق. يا إلهي! كنت أقول هذا فحسب، ولكنني أصبحت الآن أعرف معنى نشوب الحريق.»
يا إلهي! كانت تتساءل منذ فترة إذا كان ينتمي إلى جماعة دينية سرية ما، لكن لو أنه كذلك، فلن يقول هذا بالتأكيد. أليس كذلك؟ بالطبع يمكن أن تكون جماعة دينية غير مسيحية.
كانت غرفته في الأسفل بعد عدة درجات أخرى؛ كانت في القبو في الحقيقة. كان بها سرير نقال ومكتب قديم الطراز معطوب بحفر وكرسيان طويلا الظهر يفتقدان رافدتيهما.
قال: «الكراسي آمنة تماما، كل أغراضنا تقريبا مجموعة من مكان ما، لكني رسمت علامة خطأ على الكراسي التي لا يمكن أن تجلسي عليها.»
جلست سالي مع شعور بالإنهاك.
قالت: «من أنت؟ ما عملك؟ هل هذا مأوى أو دار تأهيل أو شيء من هذا القبيل؟» - «لا، ليس كذلك على الإطلاق، نحن نستقبل أي أحد يأتي.» - «حتى أنا.»
قال دون أن يبتسم: «حتى أنت، لا أحد يعيلنا إلا أنفسنا. نعمل بإعادة تدوير الأشياء التي نجمعها، تلك الصحف، والزجاجات. نعمل قطعة هنا وهناك، ونتبادل استعطاف الناس.» - «تطلبون الإحسان؟»
أجاب: «نتسول.» - «في الشارع؟» - «وهل من مكان أفضل لهذا؟ في الشارع، ونذهب إلى بعض البارات، رغم أن هذا غير قانوني.» - «هل تفعل هذا أيضا؟» - «ما كنت لأستطيع أن أطلب منهم هذا إذا كنت لا أقوم به، هذه مسألة يجب أن أتجاوزها، كل واحد منا لديه شيء يتجاوزه، يمكن أن يكون عارا، أو قد يكون مفهوم «الملكية». حين يحصل أحدنا على ورقة بعشرة دولارات أو حتى دولار واحد، حينها تبرز فكرة الملكية الخاصة، لمن هذا؟ ها؟ هل هو لي أم لنا؟ إذا كانت إجابته هي: لي، يصرفها عادة على الفور، ونجده عائدا إلينا تفوح منه رائحة الخمر، ويقول لا أعرف ماذا دهاني اليوم، لم أستطع الحصول على كسرة خبز، ثم قد يشعر بالسوء فيما بعد ويعترف، أو لا يعترف، لا يهم. نراهم يختفون لأيام - لأسابيع - ثم يظهرون حين تصبح أمورهم بعد رحيلهم قاسية جدا. وفي بعض الأحيان ترينهم يعملون في الشارع لحسابهم الخاص، ولا يبدو عليهم أبدا أنهم تعرفوا عليك، لا يعودون أبدا، ولا بأس بهذا. يمكنك القول إنهم خريجونا؛ لو كنت تؤمنين بالنظام.» - «كنت ...» - «هنا، أنا جوناه.» - «جوناه؟» - «أنا اخترته، فكرت في اسم لازاروس لكني رأيت أنه متباه أكثر من اللازم. يمكن أن تناديني كنت إن أردت.» - «أريد أن أعرف ماذا حدث في حياتك، لا أعني تماما هؤلاء الناس ...» - «هؤلاء الناس هم حياتي.» - «عرفت أنك ستقول هذا.» - «جيد، متذاكية، لكن هذا ... هذا ما كنت أفعله منذ ... سبع سنوات؟ تسع سنوات. تسع سنوات.»
قالت بإصرار: «وقبل هذا؟» - «ما الذي أعرفه؟ قبل هذا؟ قبل هذا. أيام الإنسان مثل الحشيش، ها؟ تجز وتوضع في الفرن. أنصتي إلي، ما إن أقابلك مرة أخرى حتى أبدأ في الاستعراض: جزها وضعها في الفرن. أنا لا أهتم بهذا؛ إني أعيش يوما بيوم. لن تفهمي هذا؛ لست من عالمك، ولست من عالمي؛ هل تعرفين لماذا أردت أن أقابلك هنا اليوم؟» - «لا، لم أفكر في هذا. أعني، اعتقدت على نحو طبيعي أن الأوان ربما قد آن ...» - «طبيعي. حين علمت بموت أبي من الصحيفة، فكرت على نحو طبيعي، حسنا أين المال؟ فكرت أنك يمكن أن تخبريني.»
قالت سالي، بخيبة أمل صريحة لكن بسيطرة كبيرة على نفسها: «آل إلي، في الوقت الحالي، والبيت كذلك، إن كان الأمر يهمك.» - «اعتقدت أن هذا ما حدث على الأرجح، لا بأس.» - «وحين أموت، يصبح ملك بيتر وأولاده وسافانا.» - «جميل جدا.» - «لم يعرف إن كنت حيا أم ميتا ...» - «هل تعتقدين أني أسأل من أجل نفسي؟ هل تعتقدين أني غبي إلى حد أني أريد المال لنفسي؟ لكني ارتكبت خطأ التفكير في كيفية استخدامه. التفكير في مال العائلة، بالتأكيد، يمكن أن أستخدمه، هذا هو الإغراء. الآن أنا سعيد، سعيد أني لا أستطيع الحصول عليه.» - «أستطيع أن أسمح ...» - «مع ذلك، فالمسألة هي أن هذا المكان عليه حكم ...» - «يمكن أن أسمح لك بالاقتراض.» - «اقتراض؟ لا، نحن لا نقترض هنا، لا نطبق هذا النظام هنا. اعذريني، يجب أن أسيطر على حالتي المزاجية. هل أنت جائعة؟ هل ترغبين في بعض الحساء.» - «لا، شكرا.»
فكرت في الهرب حين ذهب. لو تستطيع أن تجد بابا خلفيا، طريقا لا يمر بالمطبخ، لكنها لا تستطيع أن تفعل هذا؛ فهذا يعني أنها لن تراه ثانية أبدا، وفناء بيت مثل هذا، بني ما قبل اختراع السيارات، لن يضم مخرجا للشارع.
ربما مر نصف ساعة قبل أن يعود. لم ترتد ساعتها؛ تصورت أن الساعة ربما لن تناسب الحياة التي يعيشها على الأرجح، وكانت على حق كما هو واضح، محقة في هذا على الأقل.
بدا مندهشا قليلا أو مرتبكا حين وجدها لا تزال هناك. - «آسف، كان يجب أن أنهي بعض الأعمال، ثم تحدثت مع مارني، تهدئني دائما.»
قالت سالي: «كتبت رسالة لنا؟ كانت آخر ما وصلنا منك.» - «أوه لا تذكريني.» - «لا، كانت رسالة جيدة، محاولة جيدة أن تشرح كيف تفكر.» - «من فضلك، لا تذكريني.» - «كنت تحاول أن تفهم حياتك ...» - «حياتي، حياتي، تطوري، كل ما أمكنني اكتشافه عن نفسي النتنة، الغاية من حياتي، حماقتي، روحانيتي، فكري، لا توجد أشياء داخلية يا سالي. لا تمانعين لو ناديتك سالي، أليس كذلك؟ هذا أسهل فحسب. هناك الخارجي فقط؛ ما تفعل في كل لحظة من حياتك، أصبحت سعيدا منذ أن أدركت هذا.» - «أنت؟ سعيد؟» - «بالتأكيد؛ تركت هذا الشيء الغبي: النفس. أفكر: كيف أساعد؟ وهذا هو كل التفكير الذي أسمح لنفسي به.» - «أن تعيش في الحاضر؟» - «لست أبالي إذا اعتقدت أني تافه، لا يهمني أن تسخري مني.» - «لست أفعل ...» - «لست أبالي. اسمعي، إذا كنت تعتقدين أني أريد مالك، حسنا، أنا أسعى وراء مالك، ووراءك أنت أيضا، ألا ترغبين في حياة أفضل؟ لا أقول إني أحبك، لا أستخدم لغة غبية؛ أو أني أريد أن أنقذك، تعرفين أن المرء لا يسعه إلا إنقاذ نفسه. إذن ما الهدف؟ عادة لا أحاول الوصول إلى غاية من حديثي مع الناس، عادة أحاول تجنب العلاقات الشخصية، أعني أني أتجنبها فعلا، أتجنبها فعلا.»
العلاقات.
قال: «لماذا تمنعين ابتسامتك؟ لأني قلت «العلاقات»؟ هذه كلمة تافهة؟ لا مشكلة لدي مع مفرداتي.»
قالت سالي: «كنت أفكر في قول المسيح لأمه: «ما لي ولك يا امرأة».»
كان التعبير الذي قفز على وجهه وحشيا تقريبا. - «ألا تتعبين يا سالي؟ ألا تتعبين من التذاكي؟ لا أستطيع الاستمرار في الكلام بهذا الأسلوب، أنا آسف، لدي أشياء يجب أن أنجزها.»
قالت سالي: «وأنا كذلك.» كانت تلك كذبة خالصة. ثم أردفت: «سوف نظل ...» - «لا تقولي هذا، لا تقولي: «سوف نظل على اتصال».»
قالت: «ربما سوف نظل على اتصال، هل هذا أفضل؟» •••
تتوه سالي ثم تجد الطريق، مبنى البنك مرة أخرى، فوج المتسكعين نفسه - أو لعله فوج جديد - عربة المترو، موقف السيارات، المفاتيح، الطريق السريع، المرور، ثم طريق سريع أصغر، غروب مبكر، لا ثلج بعد، الأشجار العارية، الحقول المعتمة.
تحب الريف في هذا الوقت من العام، هل يجب أن ترى نفسها عديمة القيمة الآن؟
تسعد القطة برؤيتها. هناك رسالتان من صديقين على تليفونها. تسخن قطعة اللازانيا. تشتري تلك الوجبات المنفصلة والمثلجة. طعام جيد، وليس غاليا حين تضع في اعتبارك أنه لا يتبقى منه فائض. تحتسي النبيذ خلال الدقائق السبع اللازمة لتسخين اللازانيا.
جوناه.
تنتفض غضبا، ما المفروض أن تفعله، تعود إلى المأوى وتفرك المفرش وتطبخ قطع الدجاج المرمية لأنها تجاوزت تاريخ صلاحيتها؟ أن تتذكر كل يوم أنها أقل قيمة من مارني أو أي مخلوق آخر مبتلى؟ كل ذلك لكي تحصل على امتياز أن تكون مفيدا في حياة اختارها شخص آخر: كنت.
إنه مريض، يفني نفسه، ربما كان يحتضر. لم يشكرها على الملاءات النظيفة والطعام الطازج الذي قدمته، كلا، يفضل أن يموت فوق ذلك السرير تحت البطانية ذات الثقب المحترق.
لكن شيك؛ يمكن أن تكتب له شيكا، بمبلغ معقول؛ ليس ضخما ولا قليلا. لن يساعد نفسه به بالطبع، لن يكف عن احتقارها بالطبع.
احتقار. لا، ليست هذه المسألة، لا مشاعر شخصية. •••
على كل حال، هناك إنجاز ما؛ لقد تمكنت من اجتياز اللقاء دون أن يتحول إلى كارثة كلية، لم يكن لقاء كارثيا تماما، أليس كذلك؟ فقد قالت «ربما سنظل على اتصال» ولم يصحح لها قولها.
جذور حرة
كان الناس يتصلون في البداية ليتأكدوا من أن نيتا ليست مكتئبة جدا، ليست وحيدة جدا، لا تأكل قليلا جدا أو تشرب كثيرا جدا (كانت شخصا مواظبا على احتساء النبيذ إلى حد أن العديد نسوا أنها ممنوعة تماما من الشرب الآن). كانت تصدهم، دون أن تبدو حزينة حزنا نبيلا أو مبتهجة بهجة غير طبيعية أو غائبة العقل أو مضطربة. قالت إنها لا تحتاج إلى بقالة، كانت تدبر حالها بما لديها. كان لديها ما يكفيها من الدواء وطوابع تكفي لرسائل الشكر.
اشتبه أصدقاؤها المقربون على الأرجح في الحقيقة أنها لم تكن تزعج نفسها بالأكل كثيرا، وتخلصت من أي رسالة تعاطف حدث أن تلقتها. لم تكتب حتى للناس البعيدين لتستحث تلك الرسائل، ولا حتى إلى زوجة ريتش السابقة في أريزونا أو لأخيه الذي يكاد يكون غريبا منفصلا في نوفا سكوشا، على الرغم من أنهما قد يفهمان أفضل من القريبين المتاحين لها السبب في أنها لم تقم جنازة.
صاح ريتش قائلا لها إنه سوف يذهب إلى القرية، إلى محل الأدوات المنزلية. في حوالي الساعة العاشرة صباحا؛ بدأ في دهان درابزين السطح الحديدي. كان يكشطه ليجهزه للدهان، وتشرذمت الكاشطة القديمة قطعا في يده.
لم يتح لها الوقت لتتساءل عن سر تأخره. مات منحنيا على علامة الطريق الجانبية التي تعلن عن تخفيض على سعر جزازة العشب أمام محل الأدوات المنزلية. لم يدخل حتى إلى المحل. كان في الحادية والثمانين من عمره وبصحة جيدة، بصرف النظر عن بعض الصمم في أذنه اليمنى. كان طبيبه قد فحصه فحصا شاملا من أسبوع فقط. كان يجب أن تعلم نيتا أن الفحص الشامل الحديث، والشهادة الصحية الخالية من الأمراض، يلوحان في رقم مدهش من قصص الموت المفاجئ التي تروى لها الآن. قالت: يهديك تفكيرك تقريبا إلى أنه يجب منع تلك الزيارات.
كان يجب أن تتكلم هكذا فقط مع صديقتيها المقربتين سليطتي اللسان، فيرجي وكارول؛ إنهما امرأتان قريبتان في العمر منها؛ اثنان وستون عاما. اعتبر من هم أصغر سنا هذا الكلام غير ملائم ومراوغ. في البداية كانوا يتجمعون على نيتا. لم يتحدثوا في الواقع عن الحزن، لكنها كانت تخشى أن يبدءوا في أية لحظة.
ما إن دخلت في الترتيبات حتى تساقط الجميع من حولها، بالطبع، إلا المجرب منهم والموثوق فيه. أرخص تابوت إلى الأرض على الفور، لا طقوس من أي نوع. قال الحانوتي إن هذا ربما كان مخالفا للقانون، لكن الحقائق واضحة أمام ريتش وأمامها. لقد حصلا على المعلومات منذ عام تقريبا حين أصبح تشخيصها نهائيا. - «كيف كان لي أن أعرف أنه سوف يسرق لحظتي؟»
لم يتوقع الناس مراسم جنازة تقليدية، لكنهم تطلعوا إلى حدث معاصر. الاحتفاء بالحياة، عزف موسيقاه المفضلة، تشبيك الأيدي، حكي القصص التي تمدح ريتش مع مس خفيف لغرائبه وعيوبه المغفورة.
الأشياء التي قال ريتش إنها تجعله يتقيأ.
هكذا تم التعامل مع الأمر فورا، وذاب الحماس والدفء الواسع حول نيتا، على الرغم من أن بعض الناس، كما تعتقد، لا يزالون يقولون إنهم يشعرون بالقلق عليها. لم تقل فيرجي وكارول هذا. قالتا إنها ستكون كلبة ملعونة أنانية لو أنها كانت تفكر في توقيف الماكينة، أسرع مما هو لازم. قالتا إنهما ستحضران لتنعشاها بالجراي جوس.
قالت إنها لا تفكر في هذا، على الرغم من منطقيته.
كان سرطانها خامدا في الوقت الحالي؛ أيا كان معنى هذا حقا فلا يعني أنه «يتراجع»، ليس للأبد على أية حال. كان كبدها هو المسرح الرئيس للعمليات، وما دامت تلتزم بمقدار قليل من الطعام، فهو لا يشتكي. يحبط أصدقاؤها حين تذكرهم فقط أنها لا تستطيع أن تشرب النبيذ أو الفودكا.
حسن من وضعها قليلا الإشعاع الذي أخذته الربيع الماضي. ها هو منتصف الصيف. تعتقد أنها لا تبدو مصفرة جدا الآن؛ لكن قد يعني هذا أنها تعودت عليه.
تنهض مبكرا في الصباح وتغتسل وتلبس أي شيء تطاله يدها، تغير ملابس النوم، وتستحم وتنظف أسنانها، وتمشط شعرها الذي طال بقدر معقول، رماديا حول وجهها وداكنا في الخلف، كما كان من قبل. تضع بعضا من أحمر الشفاه، وتظلل حاجبيها الخفيفين تماما الآن؛ وبدافع احترام طال مدى الحياة للخصر الصغير والردفين المعتدلين، تتفحص الإنجازات التي حققتها في هذا الاتجاه، على الرغم من أنها تعرف أن الكلمة المناسبة الآن لكل أعضائها يمكن أن تكون «هزيل».
تجلس على مقعدها الواسع المعتاد، مع أكوام من الكتب والمجلات المغلفة حولها، ترتشف بحرص من كوب من شاي أعشاب خفيف، بديل قهوتها الآن. في لحظة ما، اعتقدت أنها لا تستطيع أن تحيا بدون قهوة، لكن تبين لها أن ما تحتاج إليه هو الكوب الضخم الدافئ بين يديها الذي يساعدها على التفكير أو أي شيء تمارسه خلال توالي الساعات أو الأيام.
كان هذا بيت ريتش، اشتراه حين كان مع زوجته بيت. لم يكن الهدف منه سوى أن يكون مكانا لقضاء الإجازات الأسبوعية، ويغلق في الشتاء. غرفتا نوم صغيرتان، مطبخ خارجي ملحق، على بعد نصف ميل من القرية، لكن سرعان ما بدأ العمل فيه؛ فتعلم النجارة وبنى جناحا لغرفتي النوم والحمامين، وجناحا آخر لمكتبه، وحول البيت الأصلي إلى غرفة معيشة/غرفة طعام/مطبخ، مفتوحة كلها على بعضها. أثار اهتمام بيت ما يفعله؛ قالت إنها لم تفهم في البداية لماذا اشترى مقلب النفاية هذا، لكن طالما أثارت التحسينات العملية اهتمامها، فاشترت مئزر نجارة مشابه. احتاجت إلى شيء تنخرط فيه، بعد أن انتهت من كتاب الطهي الذي شغلها لسنوات ونشرته. لم ينجبا أطفالا.
وفي الوقت الذي كانت تحكي للناس كيف وجدت دورها في الحياة؛ إذ أصبحت صبي نجار، وكيف جعلهما هذا يصبحان أكثر قربا أحدهما من الآخر عن ذي قبل، كان ريتش يقع في غرام نيتا. كانت تعمل في مكتب التسجيل في الجامعة حيث كان يدرس أدب القرون الوسطى. كانت أول مرة مارسا فيها الحب وسط نشارة الخشب، فيما أصبحت فيما بعد الغرفة الرئيسة بسقفها المقوس. تركت نيتا وراءها نظارتها الشمسية؛ ليس عن عمد، على الرغم من أن بيت، التي لا تترك وراءها أي شيء مطلقا، لم تستطع أن تصدق هذا. حدثت الضجة المعتادة التالية لهذا، مصطنعة ومؤلمة، وانتهت بأن رحلت بيت إلى كاليفورنيا ثم إلى أريزونا، وباستقالة نيتا بناء على توصية من محل عملها، وضيع ريتش فرصة الفوز بمنصب عميد كلية الآداب. تقاعد مبكرا وباع منزله في المدينة. لم ترث نيتا مئزر مساعد النجار الخاص ببيت، لكن قرأت كتبها ببهجة وسط الفوضى، وأعدت عشاء بسيطا فوق صفيحة ساخنة، وقامت بنزهات استكشافية طويلة، وعادت بباقات مهلهلة من الزنبق المخطط والجزر البري، الذي خزنته في علب دهان فارغة. فيما بعد، بعد أن استقرا هي وريتش، أصبحت تشعر بالحرج حين تفكر كيف لعبت بيسر دور المرأة الأصغر، مخربة البيوت السعيدة، الفتاة البسيطة الطيعة والضحوكة والرشيقة. كانت في الحقيقة جادة، غريبة جسديا، امرأة واعية لذاتها - بالكاد فتاة - يمكنها أن تسرد كل ملكات إنجلترا، ليس فقط الملوك بل الملكات أيضا، وتعرف خلفيات حرب الثلاثين عاما، لكنها كانت تخجل من الرقص أمام الناس، ولم تكن على استعداد أن تتعلم - كما فعلت بيت - صعود سلم نقال قط.
يقع على أحد جانبي منزلهما صف من أشجار الأرز، وحاجز سكة حديد على الجانب الآخر. لم يزدحم المرور عند السكة الحديد كثيرا، وفي الوقت الحالي يمكن أن يمر قطاران فقط شهريا. كانت الأعشاب الضارة مزدهرة بين قضبان الحديد. مرة، حين كانت على شفا سن اليأس تحدت نيتا ريتش ليمارسا الحب هناك؛ ليس على قضبان السكة الحديد طبعا، بل فوق الشريط العشبي الضيق على جانبيها، وقد هبطا بجموح سعيدين بنفسيهما.
فكرت بعناية، كل صباح حين تجلس فوق مقعدها، في الأماكن التي لم يكن بها ريتش. لم يكن في الحمام الأصغر، حيث لا تزال أدوات حلاقته وحبوب الدواء للأمراض المزعجة لكن غير الخطيرة التي رفض أن يتخلص منها. ولم يكن في غرفة النوم التي رتبتها توا قبل أن تغادرها. لم يكن في الحمام الأكبر الذي كان يدخله فقط للاستحمام في البانيو، أو في المطبخ الذي أصبح مستقره الدائم تقريبا في السنة الأخيرة. ولم يكن طبعا في الخارج فوق السطح المكشوط جزئيا، يحدق فيها مازحا عبر النافذة؛ حيث كانت هي تقف في الأيام الأولى تتظاهر بأنها ترقص رقصة تعر.
أو في غرفة المكتب. كان هذا المكان من بين كل الأماكن الذي يدلل على غيابه بصرامة. في البداية، وجدت أنه من الضروري أن تذهب إلى الباب وتفتحه وتقف هناك، وتمسح بعينيها أكوام الورق والكمبيوتر المحتضر والملفات المتناثرة، والكتب المفتوحة على وجهها أو ظهرها والمحتشدة على الرفوف كذلك. يمكنها الآن أن تتدبر أمرها بتخيل الأشياء فقط.
قد تضطر أن تدخل في يوم ما. رأته اقتحاما . سوف تضطر إلى أن تقتحم ذهن زوجها الميت. هذا أمر لم تفكر فيه قط. كان ريتش بالنسبة لها قامة من المهارة والكفاءة؛ وجودا مفعما بالحيوية وصارما، طالما آمنت - بدون أي سبب عقلاني - بأنه سوف ينقذها، ثم أصبح هذا الإيمان في السنة الأخيرة إيمانا معقولا للغاية، بل يقينا في عقل كل منهما، كما اعتقدت.
سوف تبدأ بالقبو. كان قبوا حقا، وليس طابقا تحت الأرض. ألواح خشبية شكلت ممرات على الأرض القذرة، واعتلى النوافذ الصغيرة أنسجة عنكبوت قذرة. لم يحتو على أي شيء احتاجته في يوم من الأيام. علب دهان ريتش نصف الممتلئة، وألواح ذات أطوال مختلفة يمكن استعمالها ذات يوم، وأدوات يمكن أن تكون مفيدة أو يمكن التخلص منها. كانت قد فتحت الباب ونزلت الدرجات مرة واحدة فقط؛ لتتأكد أنه ليس هناك مصباح مشتعل، ولتطمئن على وجود مفاتيح الكهرباء، بملصقات توضح الجزء المسئول عن إنارته. حين صعدت أغلقت الباب بالمزلاج من ناحية المطبخ. اعتاد ريتش أن يضحك على هذه العادة، ويسألها ما الذي تظنه يمكن أن يدخل، عبر الحوائط الحجرية النوافذ التي لا يتسع حجمها لمرور جني صغير ليهددهما.
مع ذلك، فمن الأسهل أن تبدأ بالقبو؛ أسهل مائة مرة من أن تبدأ بغرفة المكتب.
رتبت السرير ورتبت فوضاها الصغيرة في المطبخ والحمام، لكن كان أعلى من قدرتها عموما أي دافع للقيام بكنس شامل أو بتنظيف البيت. تستطيع بالكاد أن تتخلص من دبوس ورق منبعج أو لعبة مغناطيسية فقدت جاذبيتها من تلك التي تلصق على باب الثلاجة، ناهيك عن العملات الأيرلندية التي اشترتها هي وريتش أثناء رحلة قاما بها منذ خمسة عشر عاما. يبدو أن كل شيء اكتسب وزنه الخاص به وغرابته.
اتصلت كارول أو فيرجي يوميا، عادة قرب مواعيد تناول الوجبات، حين لا بد أنه يخطر على بالهما أن وحشتها أقل احتمالا. قالت إنها على ما يرام، وسوف تخرج من ملجئها قريبا، وأنها احتاجت هذا الوقت، كانت تفكر وتقرأ فقط، وتأكل وتنام على نحو معقول.
كان هذا صحيحا باستثناء ما يخص القراءة. جلست في مقعدها محاطة بالكتب دون أن تفتح واحدا منها. كانت دائما قارئة نهمة - هذا أحد الأسباب التي جعلت ريتش يقول إنها المرأة المناسبة له، تستطيع أن تجلس وتقرأ وتدعه وشأنه - والآن لا تستطيع أن تواظب على قراءة ولو نصف صفحة.
لم تكن قارئة لمرة واحدة كذلك. قرأت «الإخوة كارامازوف»، «طاحونة على نهر فلوس»، «جناحا اليمامة»، «الجبل السحري»، مرارا وتكرارا. كانت تلتقط واحدا منها ظنا منها أنها سوف تقرأ قطعة معينة فقط؛ وتجد نفسها عاجزة عن التوقف حتى تهضمه كله مرة ثانية. تقرأ الأدب الحديث أيضا، الأدب دائما. كرهت أن تسمع كلمة «هروب» التي تستخدم في الحديث عن الأدب. ربما يمكن أن تجادل - ليس من باب اللهو فحسب - بأن الحياة الحقيقية هي الهروب وليس الأدب، لكن هذه كانت مسألة أهم من أن تتجادل بشأنها.
والآن، على نحو شديد الغرابة، اختفى كل هذا. ليس مع موت ريتش فقط، بل مع تقدم مرضها، ثم إنها فكرت أن التغيير كان مؤقتا، وأن السحر سوف يظهر مرة أخرى ما إن تتخلص من أدوية معينة والعلاج المنهك.
ليس الأمر كذلك فيما يبدو.
حاولت في بعض الأحيان أن تشرح السبب، لمحقق تخيلي. - «أصبحت مشغولة جدا.» - «هذا ما يقوله الجميع. في ماذا؟» - «مشغولة في التركيز.» - «التركيز في ماذا؟» - «أقصد في التفكير.» - «في ماذا؟» - «لا يهم.» •••
في صباح أحد الأيام، بعد أن جلست قليلا قررت أن اليوم حار جدا. يجب أن تنهض وتشغل المروحة، أو تستطيع، مع مزيد من الحكمة البيئية، أن تحاول فتح الأبواب الأمامية والخلفية وتدع النسيم، إذا كان موجودا، يندفع من مدخل الشباك وعبر البيت.
فتحت الباب الأمامي أولا، وقبل أن تسمح حتى بظهور نصف بوصة من نور الصباح، رأت شريطا غامقا يقطع الضوء.
كان هناك شاب واقف أمام مدخل الباب الذي كان مغلقا. قال: «لم أقصد إجفالك، كنت أبحث عن جرس الباب أو أي شيء، طرقت طرقا خفيفا على الإطار هنا، لكن أعتقد أنك لم تسمعيني.»
قالت: «آسفة.» - «من المفترض أن أفحص صندوق الصمامات الكهربائية الخاص بالمنزل، هلا أخبرتني عن مكانه.»
تنحت خطوة ليدخل. استغرقت لحظة لتتذكر.
قالت: «نعم، في القبو. سأشعل النور. سوف تراه.»
أغلق الباب خلفه وانحنى ليخلع حذاءه.
قالت: «لا داعي، إنها لا تمطر، أو شيء من هذا القبيل.» - «مع ذلك، فمن الأفضل أن أخلعه؛ إنها عادة لدي. قد أترك لك آثار تراب بدلا من وحل.»
ذهبت إلى المطبخ؛ إذ لن تستطيع أن تجلس مرة ثانية قبل أن يترك المنزل.
فتحت الباب له بينما يصعد درجات السلم.
قالت: «هل كل شيء بخير؟ هل وجدته؟» - «كل شيء على ما يرام.»
كانت تقوده إلى الباب الأمامي، ثم أدركت أنها لا تسمع خطوات وراءها. استدارت ورأته واقفا في المطبخ. - «لا يبدو أن لديك أي شيء تعدينه لي لآكله، أليس كذلك؟»
كان هناك تغير في صوته؛ بحة، وارتفعت حدته؛ مما جعلها تتذكر ممثلا كوميديا تليفزيونيا ينتحب انتحابا قرويا. رأت تحت ضوء النهار في المطبخ أنه ليس صغير السن جدا. حين فتحت الباب لم تر إلا جسدا نحيفا، وجها معتما في مواجهة وهج النهار. كان الجسد، كما تراه الآن، نحيفا بالتأكيد، لكنه هزيل أكثر منه صبيانيا، به تحدب بسيط. كان وجهه طويلا ولينا، ذا عينين زرقاوين زرقة فاتحة وجاحظتين. كانت له نظرة مرحة، لكنها ثابتة، كأنه عموما يفرض إرادته.
قال: «أنا مريض بالسكري. لا أعرف إن كنت تعرفين أي شخص مصاب بالسكري، لكن الواقع هو أن مريض السكري، حين يجوع، يجب أن يأكل، وإلا يتصرف الجسد كله بغرابة. كان يجب أن آكل قبل أن أحضر إلى هنا، لكني كنت متعجلا، هل تمانعين أن أجلس؟»
كان يجلس فعليا إلى مائدة المطبخ. - «هل لديك قهوة؟» - «لدي شاي، شاي بالأعشاب، إذا كنت تحبه.» - «بالتأكيد، بالتأكيد.»
عايرت الشاي في الكوب، وأشعلت الغلاية الكهربائية، وفتحت الثلاجة. - «ليس لدي طعام كثير. عندي بعض البيض. أحيانا أخفق بيضة وأضع عليها كاتشب، هل تحب هذا؟ لدي فطائر إنجليزية يمكن أن أحمصها.» - «إنجليزية، أيرلندية، يوكورية، لا أبالي.»
كسرت بضع بيضات في المقلاة، وفصلت صفارها ، وقلبتها بشوكة، ثم اقتطعت شريحة من الفطائر الإنجليزية الرقيقة ووضعتها في محمصة الخبز. أخرجت طبقا من الخزانة، ووضعته أمامه، ثم سكينا وشوكة من درج أدوات المائدة.
قال، بعد أن رفعه إلى الأعلى كأنه يرى وجهه فيه: «طبق جميل.» وبينما كانت تعطي انتباهها إلى البيض سمعته يتهشم على الأرض. - «الرحمة.» قالها بنبرة جديدة، حادة وبغيضة بالتأكيد، ثم أردف: «انظري ماذا فعلت.»
قالت، وقد أدركت الآن أنها تواجه مشكلة: «لا توجد مشكلة.» - «انزلق من بين أصابعي.»
أحضرت طبقا آخر، ووضعته على المنضدة حتى تضع فيه الفطائر المحمصة والبيض بالكاتشب.
في ذلك الوقت، انحنى ليجمع قطع الطبق الصيني المتحطم. رفع قطعة لها سن حاد. بينما كانت تضع أمامه وجبة الطعام على المائدة خدش ساعده بالسن الحاد بخفة. ظهرت قطرات صغيرة من الدم، متقطعة في البداية، ثم تواصلت في خط رفيع. - «لا تجزعي، إنها مزحة فقط. أعرف كيف أجعلها مزحة. لو أردتها جادة، لما احتجنا إلى الكاتشب، ها؟»
كانت بعض القطع من الطبق المحطم لا تزال على الأرض لم يلتقطها. استدارت بعيدا عنه، وقد فكرت في أن تحضر المكنسة، التي كانت في خزانة بالقرب من الباب الخلفي. أمسك ذراعها في لمحة بصر. - «اجلسي، اجلسي هنا بالضبط بينما آكل.» رفع الذراع الملوثة بالدماء ليريها إياها مرة ثانية، ثم صنع شطيرة من الفطيرة والبيض وأنهاه في قضمات قليلة. مضغ بفم مفتوح. غلى الماء في الغلاية؛ فقال: «كيس شاي في الكوب؟» - «نعم، إنه شاي سائب في الحقيقة.» - «لا تتحركي. لا أريدك أن تقتربي من الغلاية.»
سكب الماء المغلي في الكوب. - «شكله مثل القش، هل هذا كل ما لديك؟» - «آسفة. نعم.» - «لا تستمري في قول آسفة. إذا كان هذا ما لديك، فهو ما لديك. لم تتخيلي قط أني حضرت إلى هنا لأفحص صندوق الكهرباء فعلا، أليس كذلك؟»
قالت نيتا: «بلى، هذا ما اعتقدته.» - «لا تعتقدين هذا الآن، أليس كذلك؟» - «بلى، لا أعتقد هذا.» - «خائفة؟»
اختارت أن تعتبره سؤالا جديا وليس استهزائيا. - «لست أدري، أظنني جافلة أكثر مني خائفة . لست أدري.» - «شيء واحد. شيء واحد لا أريدك أن تخشيه. لن أغتصبك.» - «لم أظن أنك ستفعل.» - «لا يمكنك أن تثقي في هذا أبدا.» ارتشف رشفة من الشاي ورسم على وجهه تكشيرة، ثم أضاف: «لمجرد أنك سيدة عجوز. هناك كل الأنواع من البشر في الخارج، مستعدون لفعل هذا بأي شيء؛ رضع أو كلاب وقطط أو سيدات عجائز. رجال طاعنون في السن، ليسوا صعبي الإرضاء. حسنا، أنا صعب الإرضاء. لا يعنيني الجنس إلا على نحو طبيعي ومع سيدة لطيفة تعجبني وأعجبها؛ لذا اطمئني.»
قالت نيتا: «أنا مطمئنة، لكن شكرا لأنك أخبرتني.»
هز كتفه بلا اكتراث، لكنه بدا راضيا عن نفسه. - «هل هذه سيارتك التي أمام المنزل؟» - «سيارة زوجي.» - «زوجك؟ أين هو؟» - «لقد مات. أنا لا أقود السيارات. أنوي بيعها، لكني لم أفعل بعد.»
يا لها من حمقاء! يا لها من حمقاء لتخبره هذا! - «موديل 2004؟» - «أعتقد هذا. نعم.» - «لدقيقة اعتقدت أنك سوف تحاولين خداعي في موضوع الزوج هذا، لكن هذا ما كان ليفلح. أستطيع أن أعرف إن كانت المرأة وحيدة أم لا. أعرف ذلك من أول لحظة أدخل فيها إلى المنزل، اللحظة التي تفتح فيها الباب؛ إنها غريزة. إذن هل السيارة بحالة جيدة؟ هل تعرفين آخر يوم قادها فيه؟» - «17 من يونيو. اليوم الذي مات فيه.» - «هل فيها غاز؟» - «أعتقد هذا.» - «جميل لو أنه ملأها قبل ذلك مباشرة، هل لديك المفاتيح؟» - «ليست معي، لكن أعرف مكانها.»
قال: «لا بأس.» دفع كرسيه إلى الوراء ضاربا قطعة من حطام الطبق. نهض واقفا، وهز رأسه مندهشا، ثم جلس ثانية. - «أنا متعب؛ يجب أن أجلس دقيقة. اعتقدت أني سوف أتحسن بعد أن آكل. كنت ألفق مسألة السكري.»
دفعت كرسيها فقفز واقفا. - «ابقي مكانك؛ لست متعبا إلى درجة أني لا أستطيع أن أمسكك، لقد مشيت الليل كله فحسب.» - «كنت سأحضر لك المفاتيح فقط.» - «انتظري حتى أقول لك. مشيت على طول خط السكة الحديدية. لم أر أي قطار. مشيت كل الطريق إلى هنا ولم أر قطارا واحدا.» - «نادرا ما يمر قطار.» - «نعم، حسنا. مشيت في طريق جانبي تحوطه بلدات صغيرة عشوائية، ثم طلع النهار وكنت على ما يرام، وعبرت تقاطع الطريق جريا، ثم نظرت إلى هذا الاتجاه ورأيت المنزل والسيارة، وقلت لنفسي: هذا هو. يمكن أن آخذ سيارة العجوز، لكن كنت لا أزال محتفظا ببعض العقل.»
أدركت أنه أرادها أن تسأله ماذا فعل. كانت متأكدة كذلك أنه من الأفضل لها ألا تعرف كثيرا عنه.
ثم فكرت لأول مرة منذ أن دخل المنزل في سرطانها، فكرت كيف حررها، منع عنها الخطر. - «لماذا تبتسمين؟» - «لا أعرف، هل كنت أبتسم؟» - «أعتقد أنك تحبين الاستماع إلى القصص. تريدين مني أن أحكي لك قصة؟» - «ربما أفضل أن ترحل.» - «سوف أرحل، لكن سأحكي لك قصة أولا.»
وضع يده في جيبه الخلفي. قال: «انظري. أتودين أن تري صورة؟ انظري.»
كانت صورة لثلاثة أشخاص، التقطت لهم في غرفة معيشة مع ستائر بنقوش وردية مغلقة في الخلفية. رجل كبير في السن - ليس عجوزا جدا؛ ربما في الستينيات من عمره - وامرأة بنفس العمر يجلسان على أريكة. امرأة أصغر شديدة الضخامة كانت تجلس على كرسي متحرك مسحوب إلى طرف من طرفي الأريكة وإلى أمامها قليلا. كان العجوز سمينا وذا شعر رمادي، وعينين ضيقتين وفم منفرج قليلا، كما لو أنه يعاني من ضيق في الصدر، لكنه مع ذلك يضحك بقدر ما يستطيع. وكانت المرأة العجوز أصغر حجما جدا، ذات شعر أسود مصبوغ وأحمر شفاه، ترتدي ما كان يسمى قميصا فلاحيا، مع فيونكات حمراء عند المعصمين والرقبة. تبتسم بتصميم، بل بهياج ما، بشفاه ممطوطة فوق أسنان تالفة على الأرجح.
لكن من احتكر الصورة كانت المرأة الأصغر عمرا. بارزة وضخمة في فستانها الفضفاض اللامع، وبشعرها الداكن المصفف في صف من التمويجات الصغيرة على جبينها، وبوجنتيها المترهلتين إلى رقبتها. وعلى الرغم من كل هذه البروزات اللحمية، ارتسم على وجهها تعبير من الرضا والمكر. - «هذه أمي وهذا أبي، وهذه أختي مادلين، في الكرسي المتحرك.» - «مرحة منذ مولدها؛ فلا شيء - لا طبيب ولا أي أحد - يمكن أن يزعجها. وتأكل مثل الخنزير. كان بيننا ضغائن طوال الوقت. كانت تكبرني بخمس سنوات وبدأت تعذبني. ترمي علي أي شيء يمكن أن تصل إليه يداها، وتوقعني أرضا، وتحاول أن تمشي فوقي بكرسيها المتحرك اللعين. معذرة على قذارة ألفاظي.» - «لا بد أن هذا كان قاسيا عليك، وقاسيا على والديك.» - «هاه، استسلموا له وسلموا به. لقد ذهبوا إلى الكنيسة وقال لهم الواعظ إن تلك الفتاة هدية من الله، أخذاها إلى الكنيسة وعوت اللعينة مثل قطة ملعونة في الفناء الخلفي وقالوا أوه! تحاول أن تدندن، أوه! الرب يباركها، اللعينة. معذرة مرة أخرى.»
وأردف: «لهذا لم أزعج نفسي كثيرا بالارتباط بالبيت، رحلت وصنعت حياتي. قلت: حسنا، لن أبقى معلقا بهذا الهراء؛ لدي حياتي الخاصة. حصلت على عمل. أحصل دائما على عمل. لم أجلس يوما على مؤخرتي سكران بمال الحكومة، على عجيزتي، أقصد. لم أطلب من أبي فلسا قط. أنهض وأطلي سطحا في درجة حرارة تسعين، أو أنظف الأرض في مطعم قديم نتن، أو أعمل ميكانيكيا في ورشة محتالة عفنة. كنت أفعل ذلك، لكن لم أكن مستعدا دائما لتحمل مساوئهم؛ لذا لم أكن أتحمل طويلا. أولئك اللعينون يمنون دائما على من هم مثلي، ولم أتحمل هذا. أنا من بيت محترم عمل والدي حتى منعه المرض الشديد؛ عمل في الحافلات. لم أرب على تقبل الإهانة. مع ذلك، لا عليك. ما كان يقوله لي والداي دائما إن المنزل لك، إن المنزل مدفوع ثمنه كله، وهو في حالة جيدة وملكك. هذا ما قالاه لي. نعرف أنك عانيت هنا حين كنت صغيرا، ولولا ذلك لكنت حصلت على تعليم جيد؛ لهذا نريد أن نعوضك بالطريقة التي نستطيع تعويضك بها. ومنذ فترة قصيرة، تكلمت مع أبي في التليفون، وقال: طبعا أنت تفهم الاتفاق. قلت: أي اتفاق؟ فقال: إنه اتفاق إذا وقعت على الأوراق أنك سوف ترعى أختك طوال حياتها. قال: إنه بيتك فقط ما دام كان بيتها أيضا.» - «يا إلهي! لم أسمع هذا من قبل قط، لم أسمع أن هذا هو الاتفاق من قبل. اعتقدت دوما أن الاتفاق هو، عندما يموتان سوف تدخل إلى دار ما، ولن تعيش في بيتي.» - «لهذا قلت لأبي: لم أفهم هذا، وقال: لقد جهزنا كل شيء لك لتوقع، وإذا كنت لا تريد أن توقع فليس عليك هذا. خالتك ريني سوف تراقبك أيضا، فإذا متنا فسوف تراقب التزامك بالترتيبات.» - «آه، خالتي ريني، أخت أمي الصغرى وهي كلبة حقيرة.» - «قال: أيا كان، سوف تراقبك خالتك ريني، وفجأة، غيرت نبرتي. قلت: حسنا، أعتقد أن المسألة سوف تسوى بهذه الطريقة، وأعتقد أنها تسوية عادلة. حسنا، حسنا، هل تمانع أن أحضر ونتناول العشاء يوم الأحد القادم؟» - «قال: يمكنك المجيء بالتأكيد، سعيد أنك أصبحت تنظر للمسألة من المنظور الصحيح. أنت دائما مندفع متعجل، في سنك يجب أن تكون عاقلا.» - «قلت لنفسي: بل عليك أن تقول مضحكا.» - «لذا ذهبت إلى هناك، وطبخت أمي دجاجا. شممت رائحة طيبة حين دخلت إلى المنزل، ثم شممت رائحة مادلين؛ رائحتها الكريهة القديمة نفسها التي لا أعرف سببها، لكن حتى لو حممتها أمي كل يوم تظل الرائحة كما هي. لكنني تصرفت بلطف. قلت هذه مناسبة هامة، يجب أن ألتقط صورة لكم. قلت لهم لدي كاميرا رائعة جديدة فورية، وتستطيعون رؤية الصورة. في لمح البصر تستطيع أن ترى صورتك، ما رأيك في هذا؟ وأجلستهم جميعا في الغرفة الأمامية بالطريقة التي رأيتها. تقول أمي: أسرع، يجب أن أعود إلى مطبخي. قلت: في لمح البصر. التقطت الصورة إذن وقالت: هيا، لنر كيف نبدو، فقلت: انتظروا، اصبروا، لن تستغرق أكثر من دقيقة. وبينما كانوا ينتظرون ليروا كيف بدوا في الصورة أخرجت مسدسي الصغير اللطيف وبيج بانج بام، وقضيت عليهم، ثم التقطت صورة أخرى وذهبت إلى المطبخ وأكلت بعضا من الدجاج، ولم أنظر إليهم بعد ذلك. توقعت أن أجد خالتي ريني لكن أمي قالت إن لديها عملا ما في الكنيسة. كنت سوف أطلق عليها النار أيضا بالسهولة نفسها. انظري هنا. قبل وبعد.»
كان رأس الرجل العجوز مائلا للجانب، ورأس المرأة العجوز مائلا للوراء. اختفت تعبيرات وجهيهما. سقطت الأخت إلى الأمام فلم يظهر وجهها، وظهر فقط ركبتاها الضخمتان المغطاتان بالقماش الوردي، ورأسها الداكنة بتسريحة متقنة وقديمة الطراز.
وتابع قائلا: «كان يمكن أن أبقى هناك سعيدا بما فعلت لأسبوع كامل. شعرت باسترخاء شديد، لكني لم أبق بعد الظلام. حرصت على تنظيف نفسي تماما، وأكلت كل الدجاج، وعرفت أنه من الأفضل أن أترك المكان. كنت مستعدا لمجيء خالتي ريني، لكني كنت قد خرجت من المزاج الذي كنت فيه، وعرفت أني يجب أن أحفز نفسي لكي أقتلها. لم أشعر برغبة في هذا فحسب. ربما لأني كنت شبعانا؛ لقد كانت دجاجة كبيرة. أكلتها كلها عوضا عن أن أغلفها لآخذها معي لأني خفت أن تشم الكلاب رائحتها وتهيج حين أمشي في الطرق الخلفية كما قررت. اعتقدت أن هذه الدجاجة سوف تكفيني أسبوعا، ومع ذلك، انظري كم كنت جائعا عندما وصلت إلى هنا.»
نظر في أرجاء المطبخ، وقال: «لا أظن أن لديك شيئا يشرب هنا، أليس كذلك؟ كان الشاي بشعا.»
قالت: «ربما لدي بعض النبيذ، لا أعرف، لا أشرب الآن ...» - «هل أنت عضو بجمعية مدمني الكحوليات المجهولين؟» - «كلا، الكحول لا يناسبني فحسب.»
نهضت واكتشفت أن ساقيها ترتعشان. بالطبع.
قال: «عطلت خط التليفون قبل أن أدخل إلى هنا، ظننت أنك يجب أن تعرفي هذا فقط.»
هل يصبح متهاونا وأكثر هدوءا عندما يشرب أم أكثر دناءة وشراسة؟ كيف لها أن تعرف؟ وجدت النبيذ بدون أن تضطر إلى مغادرة المطبخ. اعتادت هي وريتش أن يحتسيا النبيذ الأحمر بكميات معقولة لأنه من المفترض أنه جيد للقلب، أو ضار لشيء آخر وليس جيدا للقلب. في وسط رعبها وارتباكها عجزت عن أن تفكر ماذا كان يسمى هذا!
كانت مرعوبة بالطبع، ولن تساعدها حقيقة أنها مريضة بالسرطان في اللحظة الحالية؛ إطلاقا. لم تستطع حقيقة أنها سوف تموت خلال سنة أن تخفف من فزع حقيقة أنها قد تموت الآن. - «مرحى، هذا نوع جيد. ليس لها غطاء دوار. هل لديك نازعة سدادات؟»
تحركت نحو أحد الأدراج، لكنه قفز ونحاها جانبا ؛ ليس بخشونة مفرطة. - «كلا، وجدته. ابقي بعيدا عن هذا الدرج. واو! توجد هنا أشياء جيدة كثيرة.»
وضع السكاكين على مقعد كرسيه حيث لا تستطيع أبدا الوصول إليها واستخدم نازعة السدادات. لم يفتها أن تفكر إلى أي مدى قد تكون الآلة التي في يده مؤذية، لكن لا احتمال ولو ضئيلا أنه يمكنها هي نفسها أن تستخدمها في أي وقت.
قالت: «سوف أنهض فقط لكي أحضر كئوسا.» لكنه رفض قائلا: «لا كئوس؛ عندك أكواب بلاستيك؟» - «كلا.» - «أكواب إذن. إني أراقبك.»
وضعت الكوبين الزجاجيين، وقالت: «قليل جدا لي.»
قال بنبرة عملية: «ولي؛ سوف أقود السيارة.» لكنه ملأ الكوب للحافة؛ وأضاف: «لا أريد أن يقحم شرطي رأسه داخل السيارة ليتفحصني.»
قالت: «جذور حرة.» - «ما معنى هذا؟»
أجابته: «قول عن النبيذ الأحمر. إما يدمرهم لأنهم أشرار، وإما يقويهم لأنهم أخيار، لا أتذكر.»
ارتشفت رشفة من النبيذ ولم تشعر بالغثيان كما توقعت. شرب وهو لا يزال واقفا. قالت: «احذر تلك السكاكين حين تجلس.» - «لا تبدئي العبث معي.»
جمع السكاكين ووضعها في الدرج مرة ثانية وجلس. - «تعتقدين أني أحمق؟ تعتقدين أني عصبي؟»
خاطرت مخاطرة كبيرة؛ فقالت: «أعتقد أنك لم تفعل شيئا مثل هذا من قبل.» - «طبعا. أتعتقدين أني سفاح؟ نعم ... قتلتهم لكني لست سفاحا.» - «هناك فارق.» - «بالتأكيد.» - «أعرف كيف يكون شعورك. أعرف ما تشعر به حين تتخلص من شخص جرحك.»
سأل: «حقا؟»
أجابت: «لقد فعلت الشيء نفسه الذي فعلته.»
قال - وهو يدفع مقعده إلى الخلف لكن دون أن ينهض: «مستحيل أن تكوني قد فعلت.»
قالت: «صدق أو لا تصدق؛ لكني فعلته.» - «لقد فعلته حقا إذن، كيف؟» - «السم.» - «ماذا تقولين؟ هل جعلتهم يشربون من هذا الشاي اللعين أم ماذا؟» - «ليس هم، بل هي. لا شيء في الشاي؛ من المفترض أنه يطيل العمر.» - «لا أريد أن يطول بي العمر لو أن هذا يعني أن أشرب شيئا بغيضا كهذا. يمكن أن يكتشفوا السم في الجسد حين يموت على كل حال.» - «لا أعتقد أن هذا ينطبق على سموم الخضراوات. على كل لن يخطر على بال أحد أن يتحرى الأمر. كانت واحدة من تلك الفتيات اللواتي أصبن بحمى روماتيزمية في طفولتها ولازمتها طويلا، لم تكن تستطيع أن تمارس الرياضة أو أي شيء، وكان عليها أن تجلس دائما وتستريح. ما كان موتها ليفاجئ أحدا.» - «ماذا فعلت لتقتليها؟» - «كانت الفتاة التي أحبها زوجي. كان سوف يتركني ليتزوجها. كان قد أخبرني بذلك. فعلت كل شيء من أجله. كنا نبني هذا البيت معا؛ كان كل شيء لي في الحياة. لم ننجب أطفالا لأنه لم يرغب في ذلك. تعلمت النجارة وكنت أخاف من تسلق السلالم النقالة لكني تعلمت. كان كل حياتي، ثم كان سيهجرني من أجل تلك الشكاءة عديمة الفائدة التي تعمل في مكتب التسجيل. كانت ستفوز بكل الحياة التي بنيناها معا، هل هذا عدل؟!» - «كيف يمكن للمرء أن يحصل على السم؟» - «لم أضطر لهذا؛ كان نابتا في الحديقة الخلفية، هنا. كانت هناك رقعة من نبات الراوند منذ سنوات مضت. تحتوي عروق أوراق الراوند على سم كاف تماما. ليس الثمرة. إننا نأكل الثمرة. الثمرة طيبة؛ لكن العروق الحمراء الصغيرة في أوراق الراوند الكبيرة سامة. عرفت هذا، لكن يجب أن أعترف أني لم أعرف بالضبط ماذا يجب أن أفعل ليكون فعالا، لهذا ما فعلته كان أقرب إلى التجربة. عوامل مختلفة ساعدتني؛ أولا، كان زوجي يحضر مؤتمرا في مينيابوليس. كان يمكن أن يصطحبها بالطبع، لكن حينها كانت الإجازات الصيفية، وهي موظفة صغيرة يجب عليها الحفاظ على سير العمل في المكتب. وشيء آخر أنها ربما لم تكن وحدها تماما، فربما كان هناك شخص آخر. وعلاوة على ذلك، ربما كانت ترتاب في أمري. اضطررت أن أفترض أنها لا تعرف أني عرفت، وأنها ما زالت تعتقد أني صديقة. كانت تأتي إلى البيت؛ كنا أصدقاء. اضطررت أن أعتمد على طبع زوجي الذي يؤجل كل شيء، بحيث يخبرني ليرى كيف سأتقبل الأمر لكن دون أن يخبرها بعد أنه أخبرني. قد تقول: لماذا تتخلصين منها إذن؟ ربما كان لا يزال زوجك يدرس الأمر.» «كلا، كان سوف يتمسك بها بطريقة ما. وحتى إن لم يفعل، فقد تسممت حياتنا بسببها. سممت حياتي؛ لهذا يجب أن أسمم حياتها.» «خبزت فطيرتين، واحدة بها العروق السامة والأخرى سليمة، بالطبع علمت السليمة، قدت سيارتي إلى الجامعة، وأحضرت كوبين من القهوة وذهبت إلى مكتبها. لم يكن هناك أحد غيرها. قلت لها إني حضرت إلى البلدة، وبينما كنت أمر بالجامعة رأيت ذلك المخبز الصغير الذي يمدحه زوجي دائما بسبب قهوته ومخبوزاته؛ لذا توقفت واشتريت زوجين من الفطائر والقهوة. كانت وحيدة تماما بعد أن غادر البقية لقضاء إجازاتهم، وأنا وحيدة تماما وقد ذهب زوجي إلى مينيابوليس. كانت لطيفة وممتنة. قالت إنها ضجرة جدا والكافيتريا مغلقة؛ لهذا تضطر إلى الذهاب إلى مبنى العلوم لشرب القهوة، وهناك يضعون في القهوة حمض الهيدروكلوريك، وضحكت. وهكذا أقمنا حفلنا الصغير.»
قال: «أكره الراوند. ما كان ليؤثر في.» - «لقد أثر فيها. اضطررت أن أخاطر بأن يسري مفعوله سريعا، قبل أن تدرك ما أصابها وتضطرب معدتها؛ لكن ليس بسرعة بالغة بحيث تربط ما حدث لها بوجودي. كان يجب أن أكون بعيدة وهذا ما فعلته. كان المبنى خاليا، وعلى حد علمي لم يرني أحد عند وصولي أو مغادرتي. بالطبع كنت أعرف أيضا بعض الطرق الخلفية.» - «تظنين نفسك ذكية. أفلت بدون دفع الثمن.» - «ولكنك أنت أيضا فعلت الشيء نفسه.» - «ما فعلته لم يكن مخادعا مثل ما فعلته أنت.» - «كان ضروريا لك.» - «بالطبع كان ضروريا.» - «وكان ما فعلته ضروريا لي؛ احتفظت بزواجي؛ أدرك في النهاية أنها لا تصلح له، كانت سوف تثقله بالأعباء بالتأكيد، كانت من ذلك النوع بالضبط، ما كانت لتزيده إلا هما، كان يدرك ذلك.» - «من الأفضل ألا تكوني قد وضعت شيئا من ذلك السم في البيض. سوف تندمين لو أنك فعلت.» - «بالطبع لم أفعل هذا. ما كنت لأرغب في هذا؛ هذا ليس عملا تفعله بانتظام. أنا لا أعرف شيئا فعليا عن السم، كانت صدفة أني عرفت تلك المعلومة الصغيرة.»
وقف بغتة حتى إنه أوقع الكرسي الذي كان يجلس عليه. لاحظت أنه لم يتبق إلا قليل من النبيذ في الزجاجة.
قال: «أحتاج المفاتيح للسيارة.»
عجزت عن التفكير للحظة.
كرر طلبه: «مفاتيح السيارة، أين وضعتها؟»
يمكن أن يحدث ما تخشاه، ما إن تعطيه المفاتيح حتى يمكن أن يقتلها، هل سيفيدها أن تخبره أنها تحتضر بسبب السرطان؟ يا للغباء! لن يفيدها ذلك مطلقا. الموت بالسرطان في المستقبل لن يمنعها من التحدث اليوم.
قالت: «لا أحد يعرف ما أخبرتك به، أنت الشخص الوحيد الذي أخبرته.»
لن يفيد كل هذا على الإطلاق. لم يلتقط عقله الأفضلية التي منحته إياها على الأرجح.
قال: «لا أحد يعرف بعد.» وحدثت هي نفسها: الحمد لله، إنه يفهم ما تقصده، إنه يدرك، هل يدرك؟
الحمد لله، ربما.
قالت: «المفاتيح في الإبريق الأزرق.» - «أين؟ أي إبريق أزرق لعين؟» - «عند نهاية المنضدة، انكسر غطاؤه؛ لهذا استخدمناه لنرمي به الأشياء ...» - «اسكتي، اسكتي وإلا سوف أسكتك إلى الأبد.» حاول أن يدخل يده في الإبريق لكنها لم تدخل. صاح: «اللعنة، اللعنة، اللعنة.» وقلب الإبريق رأسا على عقب، وضرب به المنضدة بعنف بحيث تبعثرت منه مفاتيح السيارة، ومفاتيح البيت، وعملات مختلفة، ورزمة كوبونات كندية قديمة، بالإضافة إلى قطع من الفخار الأزرق أيضا.
قالت بضعف: «المفاتيح المربوطة بخيط أحمر.»
بعثر الأشياء للحظة قبل أن يلتقط المفاتيح الصحيحة. - «إذن ماذا ستقولين عن السيارة؟ ستقولين إنك بعتها لشخص غريب، أليس كذلك؟»
لم تفهم فحوى رسالته للحظة، لكن ما إن فهمت حتى مادت بها الغرفة. قالت: «أشكرك»، لكن فمها كان جافا إلى حد أنها لم تدر إن كان صوتها قد خرج أم لا. لكن لا بد أنه خرج؛ لأنه أجابها قائلا: «لم يحن أوان شكري بعد.»
وأردف: «لدي ذاكرة قوية، ذاكرة قوية طويلة. اجعلي صورة ذلك الغريب بعيدة الشبه عني. لن تحبي فكرة أن يذهبوا إلى المدافن لإخراج جثة قتيلتك. تذكري جيدا: إذا تفوهت بكلمة فسأخبرهم بما لدي.»
ظلت تنظر إلى الأسفل، لا تتحرك ولا تتكلم، تنظر فقط إلى الفوضى المبعثرة على الأرض.
رحل. أغلق الباب. لا تزال ساكنة. أرادت أن توصد الباب لكنها لم تستطع أن تتحرك. سمعت صوت المحرك يدور، ثم يتوقف. ماذا الآن؟ كان مندفعا، عجولا، كل شيء يفعله على نحو خاطئ، ثم مرة ثانية، يدور، يدور. سمعت صوت الإطارات على الحصى. اتجهت بخطى متعثرة نحو الهاتف، ووجدت أنه قال الحقيقة؛ كان معطلا.
كان هناك إلى جانب الهاتف واحدة من حقائب الكتب العديدة. تحتوي هذه الحقيبة على الكتب القديمة، كتب لم تفتح لسنوات، كان بها كتاب «البرج الشامخ» لألبرت سبيير، كتب ريتش.
كان بها أيضا كتاب «احتفال بفاكهة وخضراوات شائعة: أطباق حميمية وأنيقة ومفاجآت طازجة» الذي قامت بجمعه وتجربة وصفاته بيت أندرهيل.
ما إن انتهيا من تجهيز المطبخ، حتى ارتكبت نيتا خطأ؛ إذ حاولت أن تطبخ مثل بيت لفترة من الزمن، لفترة قصيرة جدا؛ لأنه اتضح أن ريتش لم يرغب في أن يتذكر كل هذا الصخب، وهي نفسها لم تتمتع بالصبر الكافي لكل هذا التقطيع والتقشير. لكنها تعلمت بعض الأشياء التي فاجأتها؛ مثل الصفات السامة لبعض النباتات المعروفة وغير الضارة عامة.
يجب أن تكتب رسالة إلى بيت.
عزيزتي بيت، ريتش مات وأنا أنقذت حياتي بتقمص شخصيتك.
لماذا تهتم بيت بإنقاذ حياتها؟ هناك شخص واحد فقط يستحق أن يعرف حقا.
ريتش، ريتش. تعرف الآن حقا معنى افتقادها له، مثل خلو السماء من الهواء.
يجب أن تذهب إلى القرية؛ هناك مركز شرطة خلف تاونشيب هول.
يجب أن تحصل على هاتف جوال.
كانت مصدومة، وتعبة جدا؛ بالكاد تستطيع أن تحرك قدمها، عليها أن تستريح قبل أي شيء. •••
استيقظت على صوت طرقات على بابها الذي لا يزال غير موصد. كان رجل شرطة، ليس من القرية، بل من مكتب مرور المقاطعة، سألها إن كانت تعرف أين سيارتها.
نظرت إلى رقعة الحصى حيث كانت تقف السيارة.
قالت: «اختفت، كانت هنا.» - «ألم تعلمي أنها سرقت؟ متى رأيتها آخر مرة؟» - «الليلة الماضية.» - «كانت المفاتيح بها؟» - «أعتقد هذا.» - «يجب أن أخبرك أن السيارة تعرضت لحادث سيئ. ما من سيارات أخرى في الحادث الذي وقع على هذا الجانب من وولينشتين. تدحرج السائق بها إلى مجرى المياه ودمرها تماما. هذا ليس كل شيء، إنه مطلوب للعدالة بتهمة ارتكاب جريمة قتل ثلاثية. هذا آخر ما سمعناه على أية حال. جريمة قتل في ميتشيلستون؛ إنك محظوظة لأنك لم تريه.» - «هل أصيب؟» - «قتل على الفور، نال عقابه.»
ثم ألقى عليها محاضرة صارمة - بلطف - حول ترك المفاتيح في السيارة، وعيشها وحدها. قال لها إنها لا تعرف ما الذي يمكن أن يحدث هذه الأيام.
لا تعرف أبدا.
وجه
إني على قناعة بأن أبي لم ينظر إلي ويحدق بي ويراني سوى مرة واحدة فقط. بعد هذا، قبل بما رآه حقيقة مسلما بها.
في تلك الأيام، كانوا يمنعون الآباء من الدخول إلى وهج خشبة مسرح الولادة، أو إلى الغرفة التي تضم النساء وهن على وشك الولادة يكظمن صرخاتهن أو يتألمن بصوت عال، بل كان الآباء يرون الأمهات بعد أن يصبحن نظيفات وواعيات، يرقدن تحت الغطاء الباهت في الجناح، أو في الغرف الخاصة أو نصف الخاصة. كانت لأمي غرفة خاصة، تماما مثل وضعها الخاص فيما بعد في البلدة؛ ومثلما آلت إليه الأمور في الحقيقة كذلك.
لا أعرف ما إذا كان قبل أن يشاهد أبي أمي أم بعدها، وقف أمام نافذة الحضانة ليراني للمرة الأولى. أميل إلى الاعتقاد أنه كان بعد ذلك، ذاك حين سمعت خطواته خارج غرفتها وهو يتجاوز غرفتها، سمعت الغضب في خطواته لكنها لم تعرف ما سببه. في النهاية، لقد أنجبت له ولدا، وهو ما يريده كل الرجال فرضا.
أعرف ما قاله، أو ما قالت لي أنه قاله. - «يا له من قطعة سميكة من الكبد المفروم!»
ثم، «لا تفكري في إحضاره إلى المنزل.»
كان جانب واحد من وجهي عاديا، ولا يزال كذلك. وكان جسدي كله عاديا من أصابع قدمي إلى كتفي. وكان طولي واحدا وعشرين إنشا، ووزني ثمانية أرطال وخمس أونصات. رضيع ذكر متناسق الجسم، أبيض البشرة، رغم الحمرة التي شابتني بسبب رحلتي العادية التي قطعتها مؤخرا.
لم تكن وحمتي حمراء بل بنفسجية، وكانت داكنة في سنواتي الأولى وسنوات طفولتي؛ إذ بهتت إلى حد ما مع نموي، لكنها لم تتلاش تماما؛ إذ ظلت أول شيء تلاحظه في، مباشرة، أو تشعر بالصدمة حين تراها إذا أقبلت علي من الجانب الأيسر أو النظيف. تبدو كما لو أن شخصا ما ألقى علي عصير عنب أو دهن وجهي بلطخة كبيرة جدا لا تتحول إلى قطرات حتى تصل إلى رقبتي، مع أنها تحيط بأنفي تماما بعد أن تغمر إحدى جفني. «يبرز بياض تلك العين جميلا وصافيا.» كانت تلك واحدة من الجمل الحمقاء - وإن غفرتها - التي كانت تقولها أمي، آملة في أن أعجب بنفسي. لكن شيئا غريبا قد حدث؛ صدقتها تقريبا، في ظل الحماية التي كانت تحيطني بها.
بالطبع لم يستطع أبي أن يفعل أي شيء ليمنع جلبي إلى البيت. وبالطبع تسبب جلبي ووجودي في صدع شنيع بين أبي وأمي، مع أنه من الصعب علي أن أصدق أنه لم يكن بينهما دائما صدع من نوع ما، أو عدم تفاهم أو على الأقل خيبة أمل فاترة.
كان أبي ابنا لرجل غير متعلم امتلك مدبغة ثم مصنعا للقفازات. كان الرخاء يتراجع مع تقدم سنوات القرن العشرين، إلا أن المنزل الكبير ظل ملكا لهم، وكذلك بقي الطباخ والبستاني. التحق أبي بالكلية، وانضم إلى أخوية، وعاش ما كان يسمى العصر الذهبي، واشتغل في مجال التأمين حين تدهور حال مصنع القفازات. كان محبوبا في أنحاء بلدتنا كما كان في الكلية، لاعب جولف بارع، وبحار ممتاز (لم آت على ذكر أننا عشنا على منحدرات مطلة على بحيرة هورون، في البيت الفيكتوري الذي بناه جدي مواجها لغروب الشمس).
كانت ميزة أبي الأولى الحية البارزة في البيت هي قدرته على أن يكره وينفر. في الحقيقة كان هذان الفعلان يتزامنان معا في الغالب؛ ففي يومه، كان أبي يكره وينفر من طعام محدد، وطرازات معينة من السيارات وألوان محددة من الموسيقى، وأشكال محددة من آداب الحديث وأشكال معينة من الأزياء، ومسلسلات إذاعية محددة، ثم فيما بعد من الشخصيات التليفزيونية، إلى جانب تشكيلة الأعراق والطبقات التي كان من المعتاد كرهها والنفور منها (وإن لم يكن بالعمق الذي كان يكنه لها أبي على الأرجح). في الحقيقة لم تكن آراؤه تجادل خارج منزلنا، أو في بلدتنا أو مع رفاق الإبحار أو إخوته في الأخوية القديمة. أعتقد أن حميته هي التي كانت تسبب إزعاجا يمكن أن يصل إلى حد الإعجاب أيضا.
كان يقال عنه إنه يتحدث بصراحة ومباشرة ولا يجمل حديثه.
بالطبع أن يرزق بطفل مثلي كان إهانة اضطر إلى أن يواجهها كل مرة يفتح فيها باب غرفته. كان يتناول إفطاره وحده، ولم يكن يعود إلى المنزل لتناول وجبة الغذاء، فكانت أمي تتناول هذه الوجبات معي وجزءا من العشاء، والبقية منه معه. لكن أعتقد أنهما اختلفا حول هذا، فجلست معي خلال وجبتي، لكنها أكلت معه.
من الواضح أني لم أستطع المساهمة في زواج مريح.
لكن كيف التقيا؟ لم تلتحق بكلية، اضطرت إلى الاستدانة للالتحاق بمدرسة حيث كان المدرسون يتلقون تدريبا خلال اليوم الدراسي. كانت تخاف من الإبحار، خرقاء في الجولف، ولو كانت جميلة، كما قال لي بعض الناس (من الصعب أن تحكم على أمك من هذه الناحية) ما كان مظهرها ليعجب أبي؛ فقد كان يتحدث عن نساء محددات بأنهن مذهلات، أو - فيما بعد في حياته - دمى. لم تستخدم أمي ملمع شفاه، كانت صدرياتها محتشمة، وكانت تمشط شعرها في تاج محكم من الضفائر يبرز جبينها الأبيض العريض. لم تكن ملابسها تلتزم بأحدث صيحات الموضة؛ إذ كانت قبيحة وملكية نوعا؛ كانت من ذلك النوع من النساء الذي تتخيل أنه يرتدي ثوبا مرصعا باللؤلؤ الصغير مع أني لا أعتقد أنها فعلت هذا قط.
ما أحاول أن أقوله، على ما أعتقد، هو أني كنت على الأرجح ذريعة، أو لنقل نعمة؛ إذ أمددتهما بمادة جاهزة للشجار؛ مشكلة عويصة، أرجعتهما إلى اختلافاتهما الطبيعية؛ حيث كانا يشعران براحة أكبر في الحقيقة. خلال كل السنوات التي عشتها في البلدة لم أقابل شخصا مطلقا، ومن ثم يمكن أن نسلم بأنه كان هناك أزواج آخرون يعيشون حياتين منفصلتين في منزل واحد؛ رجال ونساء آخرون قبلوا بواقع أن بينهم اختلافات لا يمكن إصلاحها أبدا؛ كلمة أو فعلا لا يمكن غفرانه أبدا؛ حاجزا لا يمكن تجاوزه أبدا.
من الطبيعي في قصة من هذا النوع، أن أبي راح يدخن ويعاقر الخمر؛ مع أن كل أصدقائه مارسوا هذا أيضا، أيا كانت مواقفهم في الحياة. أصيب بسكتة دماغية وهو بعد في خمسينات عمره، ومات بعد شهور عديدة أمضاها في الفراش. ولم يكن أمرا مدهشا أن رعته أمي طوال تلك الفترة؛ إذ أبقته ماكثا في البيت. وفي المقابل، بدلا من أن يصبح رقيقا معها مقدرا ما تفعله من أجله، راح يكيل لها الشتائم القذرة، التي جعلها حظه العاثر مبهمة، ولم تكن أمي لتفهمها، لكنها بدت مرضية تماما بالنسبة إليه.
في الجنازة، قالت لي امرأة: «والدتك قديسة.» أتذكر شكل هذه المرأة جيدا جدا، مع أني لا أتذكر اسمها. شعر أبيض مجعد، وجنتان مزينتان بالحمرة، ملامح جميلة. كانت الكلمات التي همستها إلي شجية. كرهتها على الفور. تجهم وجهي. كنت في ذلك الوقت في عامي الثاني الجامعي. لم ألتحق أو لم أدع للالتحاق بأخوية أبي. رافقت أناسا كانوا يخططون لأن يصبحوا كتابا وممثلين، وكانوا حينها ظرفاء، مخلصين في إهدار الوقت، نقادا للمجتمع بوحشية، ملحدين جددا. لا أحترم الناس الذين يتصرفون مثل القديسين. وللصدق، لم يكن هذا ما كانت تستهدفه أمي، كانت بعيدة بما يكفي عن تلك التصورات الورعة؛ فلم تطلب مني قط في أي من زياراتي للمنزل، أن أذهب إلى غرفة والدي لأجرب كلمة تصالح معه، ولم أذهب قط. لم يكن لدينا تصور عن التصالح أو التبرك؛ لم تكن أمي حمقاء.
لقد كرست نفسها لي - لم يستخدم أي منا هذه الكلمة، لكني أعتقد أنها الكلمة الصحيحة - حتى التاسعة من عمري. علمتني بنفسها، ثم أرسلتني إلى المدرسة. يبدو هذا وصفة للتسبب في كارثة. صبي أمه المدلل ذو الوجه الأرجواني، رمي فجأة وسط الساخرين الهازئين والإهانات القاسية من الهمجيين الصغار. لكني لم أقض وقتا سيئا، ولا أعرف لماذا حتى يومنا هذا. كنت طويلا وقويا بالنسبة لسني، وربما نفعني هذا، مع أني أعتقد أن الجو في البيت، ذلك الطقس من المزاج العكر والشراسة والاشمئزاز - حتى ولو من أب لا أراه غالبا - ربما هو ما جعل أي مكان آخر معقولا، وشبه مقبول، وإن كان بنحو سلبي وليس إيجابيا. لم تكن المشكلة مع من يبذلون مجهودا في التعامل معي بلطف. كان لي اسم؛ جوز- العنب، إلا أن كل فرد تقريبا كان له لقب ما ينتقص من شأنه. كان هناك صبي تفوح من قدمه رائحة كريهة مميزة - لم يفلح معها على ما يبدو الاستحمام اليومي - استحق معها لقب «النتن». تأقلمت مع الوضع. كتبت لأمي رسائل كوميدية، وردت بالأسلوب نفسه إلى حد ما؛ إذ اتخذت نبرة لطيفة يشوبها شيء من السخرية الطفيفة عن الأحداث التي تدور في البلدة والكنيسة؛ أتذكرها حين وصفت خلافا حول الطريقة الصحيحة لتقطيع الشطائر من أجل وقت احتساء شاي السيدات؛ بل ونجحت حتى في أن تتحدث بحس فكاهي يخلو من المرارة عن أبي الذي كانت تشير إليه ب «نعمة الرب».
أرى أني قد جعلت من أبي وحش هذه القصة، ومن أمي البطلة المخلصة والحامية، وأعتقد أن هذا حقيقي. لكنهما ليسا الشخصيتين الوحيدتين في قصتي، ولم يكن المنزل هو البيئة الوحيدة التي عرفتها - فأنا هنا أتحدث عن الفترة التي سبقت التحاقي بالمدرسة - فما أصبحت أرى أنه الدراما العظيمة في حياتي حدث فعليا خارج المنزل.
دراما عظيمة. يحرجني أني كتبت هذا. أتساءل ما إذا كان التعبير يعطي انطباعا بالسخرية المبتذلة أو السخافة. لكني فكرت بعد ذلك، أليس من الطبيعي تماما أن أرى حياتي هكذا، وأتحدث عنها هكذا، ننظر بعين الاعتبار إلى الكيفية التي أكسب بها دخلي؟
أصبحت ممثلا، أيدهشك هذا؟ كنت أصاحب في الجامعة مجموعة تمارس نشاطا مسرحيا بالطبع، وأخرجت في عامي الأخير مسرحية، وابتكرت مادة للضحك عن الكيفية التي سأتدبر بها لعب دور على خشبة المسرح بإبقاء الجانب غير المشوه من وجهي موجها إلى الجمهور أن أسير إلى الخلف عبر خشبة المسرح عند الضرورة، لكن لم تكن هذه المناورات الجذرية ضرورية.
في ذلك الوقت، كانت الإذاعة الوطنية تذيع مسلسلات درامية بانتظام؛ فكان هناك برنامج يتميز بالجهد الواضح المبذول فيه يذاع في أمسيات الآحاد؛ وهناك المسلسلات المقتبسة عن أعمال أدبية. مسرحيات شكسبير وإبسن. كان صوتي طيعا طبيعيا، ومع قليل من التدريب تحسن. حصلت على وظيفة في الإذاعة الوطنية، أدوار صغيرة في البداية، لكن مع مجيء التليفزيون وتراجع نسب الاستماع إلى الإذاعة، كنت أخرج على الهواء كل أسبوع تقريبا، وأصبح اسمي معروفا لجمهور مخلص وإن لم يكن ضخما. وصلتنا خطابات تعترض على اللغة السيئة أو على ذكر زنا المحارم (فقد أخرجنا بعض المسرحيات اليونانية كذلك). لكن إجمالا، لم ينهمر علي من التوبيخ بالقدر الذي تخوفت أمي منه، حين كانت تجلس على كرسيها إلى جوار الراديو، في إخلاص وقلق مساء كل أحد.
ثم جاء دور التليفزيون، وقد انتهى عهد التمثيل - بالنسبة إلي بالتأكيد. لكن صوتي حفظ لي مكانا جيدا، واستطعت أن أحصل على وظيفة مذيع، في وينيبيج أولا، وفي تورنتو مرة أخرى ثانية. وعملت مذيعا لآخر عشرين عاما من حياتي المهنية في برنامج موسيقي يبث مختارات موسيقية، يذاع أيام الأسبوع بعد الظهيرة. لم أكن أنا من يختار الموسيقى - كما كان الناس يعتقدون في أغلب الأحيان - فمشاعري التقديرية للموسيقى محدودة. لكنني صنعت من نفسي شخصية إذاعية محبوبة، وغريبة الأطوار قليلا وراسخة. تلقى البرنامج العديد من الخطابات. وردت علينا الخطابات من دور المسنين ودور المكفوفين، ومن أشخاص يقودون سياراتهم لمسافات طويلة أو يقومون بأعمال رتيبة، ومن ربات بيوت يمكثن في المنزل وحدهن في منتصف النهار مع العجن والكي، ومن مزارعين في جرارات يحرثون أو يجرفون فدادين ممتدة، من جميع أرجاء البلد.
تدفق الثناء علي حين تقاعدت أخيرا، كتب الناس لي يقولون إنهم في شدة الحزن، وإنهم يشعرون كما لو أنهم فقدوا صديقا حميما أو فردا من العائلة. ما كانوا يقصدونه هو أني كنت أملأ وقتا محددا من يومهم على مدار خمسة أيام في الأسبوع. كنت أملأ وقتهم بشيء يعتمد عليه ومحبب إلى أنفسهم، لم يضطروا إلى قضاء وقتهم بلا هدف؛ ولهذا هم يشعرون بامتنان محرج لهم. وللمفاجأة، كنت أشاركهم هذه المشاعر الجياشة. كان علي أن أنتبه إلى صوتي لئلا يرتجف بينما أقرأ بعضا من خطاباتهم على الهواء.
ومع ذلك، تلاشت ذكرى البرنامج وذكراي سريعا، أبرمت تعاقدات جديدة، انقطعت تماما؛ إذ رفضت أن أترأس مزادات الحفلات الخيرية أو أن ألقي خطبا مفعمة بالحنين. ماتت أمي بعد أن عاشت عمرا مديدا، لكني لم أبع المنزل، أجرته فقط؛ ثم جهزته كي أبيعه، وأخطرت المستأجرين. نويت الإقامة فيه خلال الوقت الذي كان يستغرقه تجهيزه؛ خاصة الحديقة.
لم أكن وحيدا في تلك السنوات، فبعيدا عن جمهوري كان لي أصدقاء. وكانت لدي نساء أيضا. تتخصص، بالطبع، بعض النساء في هؤلاء الرجال الذين يحسبونهن في حاجة إلى رفع معنويات، يتلهفن إلى دعمك إظهارا لسخائهن. كنت محتاطا منهن. كانت المرأة الأقرب إلي في تلك السنوات تعمل موظفة استقبال في محطة القطار؛ كانت شخصية حساسة ولطيفة، وأما وحيدة لأربعة أطفال. كان هناك شعور بيننا بأننا سنعيش معا ما إن يتولى أصغر أطفالها مسئولية نفسه، لكن الصغرى كانت ابنة، تمكنت من إنجاب طفل بدون أن تفكر في مغادرة البيت قط، وبنحو ما تضاءل أملنا وتراجعت علاقتنا الغرامية، حافظنا على التواصل بيننا عن طريق الرسائل الإلكترونية بعد أن تقاعدت وعدت إلى الإقامة في منزلي القديم. دعوتها للمجيء لزيارتي؛ فما لبثت أن فاجأتني بخبر أنها ستتزوج وتنتقل للعيش في أيرلندا، ولفرط ذهولي وانحسار مشاعرها نحوي لم أستطع أن أسألها ما إذا كان البنت والرضيع سوف يذهبان معها أم لا. •••
إن الحديقة في حالة متردية، لكني أشعر براحة أكبر هناك أكثر مما أشعر في المنزل، الذي يبدو كما هو من الخارج لكنه تبدل جذريا من الداخل؛ فقد حولت أمي غرفة المعيشة الخلفية إلى غرفة نوم، وغرفة الخزين إلى حمام كامل، وفيما بعد خفض ارتفاع الأسقف، وركبت أبواب رخيصة، ولصق ورق حائط بأشكال هندسية صارخة الألوان؛ إكراما للمستأجرين. لم تجر على الحديقة هذه التغييرات؛ أهملتها إهمالا تاما. لا تزال النباتات المعمرة القديمة تشق طريقها بين الأعشاب الضارة؛ وتحد الأوراق الجافة الأكبر التي يفوق حجم كل منها المظلة حوض نبات الرواند المعمر من ستين أو سبعين عاما، ولا يزال هناك نصف دستة من أشجار التفاح، التي تحمل بعض الثمرات المدودة المتنوعة التي لا أتذكر اسمها. تبدو البقع التي طهرتها ضئيلة، لكن أكوام الأعشاب الضارة والأغصان المقطوعة التي جمعتها تكاد تبلغ الجبال طولا. يجب نقلها، علاوة على ذلك على نفقتي الخاصة، فالبلدة لم تعد تسمح باضطرام النار في الهواء.
اعتاد بستاني أن يرعى كل هذا، كان اسمه بيت. لا أتذكر اسم عائلته. كان يسحب ساقا وراءه، ويميل رأسه دائما إلى جانب واحد. لا أعرف إذا كان تعرض لحادث أم أصابته جلطة دماغية. كان يعمل ببطء لكن بجدية، وكان معتل المزاج دائما. كانت أمي تتحدث إليه بصوت ناعم يحمل احتراما، لكنها اقترحت عليه تغييرات محددة في أحواض الزهر لم يرها جديرة كثيرا، لكنها حصلت على ما أرادت. كان يكرهني لأني كنت أركب عجلتي الثلاثية باستمرار في أماكن لا يجب أن أسير عليها، وأصنع مخابئ تحت أشجار التفاح؛ ولأنه عرف على الأرجح أني كنت أسميه «بيت» الجبان، همسا. ولا أعرف من أين حصلت على هذا النعت، هل كان من إحدى قصص الرسوم الهزلية؟
خطر على بالي توا سبب آخر لكراهيته العدائية، ومن الغريب أني لم أفكر في هذا من قبل؛ فكلانا معتل؛ ضحيتان واضحتان لبلية جسدية. قد تعتقد أن مثل هؤلاء الناس يتضامنون معا، لكن الواقع أنهم لا يفعلون ذلك في الغالب، ربما يذكر الواحد منهم الآخر بشيء ينساه من فوره.
لكني لست متأكدا من هذا. لقد هيأت أمي الأمور بحيث أبدو معظم الوقت غير مدرك إطلاقا لحالتي، ادعت أنها تعلمني في المنزل بسبب مرض في شعبي الهوائية، وضرورة أن تحميني من هجمات الجراثيم التي تحدث خلال العامين الأولين من المدرسة. لا أعرف إذا كان صدقها أحد أم لا. وأما عدوانية أبي، فكانت تكتنف منزلنا بأكمله حتى إني لا أعتقد حقا أني شعرت بأني وحدي المقصود منها.
يجب أن أقول - وإن كنت أكرر نفسي - إني أعتقد أن أمي كانت محقة فيما فعلته. كان يمكن أن أقع أسيرا للتركيز على عيب واحد بارز في، والنخز والتحزب في سن مبكرة، وما كان لي من ملتجأ. إن الأمور مختلفة الآن، والخطر على طفل مبتلى مثلي كان يمكن أن يكون من النوع الانفعالي، المضطرب، المحفوف بشفقة استعراضية، وليس من النوع الاستهزائي والانعزالي، أو هكذا يبدو لي. لقد استقت الحياة في تلك السنوات كثيرا من حيويتها ومكرها وفلكلورها، وربما تكون أمي قد علمت ذلك، من الشر الخالص.
كان هناك على الأرض التي نملكها، حتى عقدين ماضيين - وربما أكثر - مبنى آخر. عرفته على أنه حظيرة صغيرة أو سقيفة خشبية ضخمة، يخزن فيها بيت البستاني أدواته، أو نضع بها أشياء مختلفة غير مستخدمة حتى نقرر ماذا نفعل بها. هدمت بعد أن حل محل بيتر زوجان شابان مفعمان بالحيوية، أحضرا عدتهما العصرية في شاحنتهما. لاحقا، بعد أن عملا في زراعة المحاصيل التي يحتاجها السوق، لم يعد لديهما الوقت الكافي، لكنهما استطاعا أن يمدانا بأطفالهما المراهقين لجز العشب، وكانت أمي قد فقدت الاهتمام بفعل أي شيء آخر.
قالت: «أنا لم أعد أهتم، من المدهش كم هو سهل ألا تهتم بالأشياء.»
رجوعا إلى المبنى - كم ألف وأدور حول هذا الموضوع - في وقت ما، قبل أن يصبح المكان سقيفة للتخزين، كان يسكنه أناس. سكنه الزوجان بيل؛ حيث كانت الزوجة تعمل طباخة ومدبرة منزل، والزوج يعمل بستانيا وسائقا لجدي. كان جدي يملك سيارة باكارد لم يتعلم قيادتها قط. كان عصر كل من الزوجين والباكارد قد زال مع مولدي، إلا أن المكان ظل يشار إليه على أنه كوخ الزوجين بيل.
ولسنوات قليلة من طفولتي، استأجرت امرأة كانت تدعى شارون ساتلز كوخ الزوجين بيل. عاشت فيه مع ابنتها نانسي. جاءت ساتلز إلى البلدة مع زوجها - وكان طبيبا - في بداية مزاولته المهنة، وفي غضون عام أو نحو ذلك، مات جراء إصابته بتسمم في الدم. ظلت في البلدة مع ابنتها؛ إذ لم يكن معها مال، ولم يكن لها أهل - كما كان يقال. لا بد أن المقصود من هذا أنه ليس لديها أهل يمكن أن يساعدوها أو يعرضوا عليها أن يحتضنوها. وفي وقت ما، حصلت على وظيفة في مكتب التأمين الذي يملكه أبي، وجاءت لتعيش في كوخ الزوجين بيل. لست متأكدا من الوقت الذي حدث فيه كل هذا. ليس لدي ذكريات عن انتقالهما للسكن في الكوخ أو عن خلوه منهما. دهن الكوخ حينذاك بلون وردي مغبر، ولطالما اعتقدت أن هذا من اختيار السيدة ساتلز، كما لو أنها لم تستطع السكن في بيت بلون آخر.
أسميتها السيدة ساتلز طبعا، لكني كنت أعلم اسمها الأول؛ حيث إني نادرا ما أدرك أي اسم امرأة راشدة أخرى. لم يكن اسم شارون اسما عاديا في تلك الأيام. وله صلة بترنيمة عرفتها من مدرسة الأحد، التي سمحت أمي لي بحضورها لأن بها مراقبة ولا تضم فترة استراحة. كنا نرتل ترانيم كانت كلماتها تعرض على شاشة، وأعتقد أن كلا منا قبل أن يتعلم حتى القراءة كون فكرة عن الشعر من شكله أمامنا:
إلى جانب جدول سيلوام الظليل
ما أحلى ما ينمو من زنبق
وتحت التل!
ما أعذب أريج وردة شارون الندية!
لا أعتقد أنه كانت هناك وردة فعلا في زاوية الشاشة لكني رأيت واحدة، رأيت زهرة وردية شاحبة، تحولت هالتها إلى اسم شارون.
لا أقصد أن أقول إني كنت واقعا في غرام شارون ساتلز، كنت مغرما - منذ كنت بالكاد أخطو خطواتي الانتقالية الأولى من مرحلة الرضاعة إلى مرحلة الطفولة - بفتاة شابة غلامية اسمها بيسي أخذتني في نزهة قصيرة في عربة الأطفال الخاصة بي، وراحت تؤرجحني بقوة على أرجوحات الحديقة، وصلت إلى القمة تقريبا. وفي وقت لاحق، وقعت في غرام صديقة من صديقات أمي، كان لمعطفها ياقة مخملية وكان لها صوت بدا لسبب ما مرتبطا بهذه الياقة. لكن شارون ساتلز لا تصلح للحب بهذه الطريقة؛ إذ لم تكن صاحبة صوت مخملي ولم تبال بأن أقضي وقتا ممتعا معها. كانت أطول وأرفع من أن تكون أما لأي أحد؛ لم تتمتع بأية منحنيات. كان شعرها بنيا فاتحا بأطراف ذهبية، وفي وقت الحرب العالمية الثانية كانت لا تزال تقصه قصيرا. كان أحمر الشفاه الذي تضعه لامعا وكثيفا مثل شفاه نجمات الأفلام اللواتي كنت أراهن على ملصقات الإعلانات وفي أرجاء المنزل، كانت عادة ما ترتدي الكيمونو - حسبما أعتقد كان منقوشا بطيور شاحبة، ربما كانت طيور اللقلاق. ذكرتني سيقانها بساقي ساتلز. كانت تقضي جزءا كبيرا من وقتها مستلقية على الأريكة، تدخن، وفي بعض الأحيان - لكي تسلينا أو تسلي نفسها - ترفس ساقيها عاليا، ساقا بعد الأخرى، لتطير خفها الريشي، وحينما لم تكن غاضبة منا، يكون صوتها أجش وساخطا؛ ليس عدائيا، لكنه لا يحمل نبرة الحكمة أو الرقة أو التوبيخ العميقة، وإيحاء الحزن الذي أتوقعه في صوت أم.
كانت تطلق علينا غبيين مغفلين. «اخرجا من هنا واتركاني أرتاح في سلام، أيها الغبيين المغفلين.»
تكون فعليا مستلقية على الأريكة ومنفضة السجائر على بطنها، بينما ندفع سيارات نانسي الصغيرة بسرعة عبر أرض الغرفة. أي قدر من السلام كانت تريد؟
كانت تأكل هي ونانسي طعاما غريبا في أوقات غير منتظمة، وحين كانت تذهب إلى المطبخ لكي تعد لنفسها وجبة سريعة، لم تكن تعود قط بكاكاو أو بسكويت جراهام لنا. من ناحية أخرى، لم تمنع قط نانسي من أن تغرف حساء الخضراوات - التي كانت دائما سميكة مثل البودنج - من علبته، أو أن تأخذ قطع كريسبي بملء يدها من العلبة مباشرة.
هل كانت شارون ساتل عشيقة أبي؟ هل كانت وظيفتها تلبي احتياجاتها، وهل كانت تدفع قيمة إيجار الكوخ الوردي، أم أجرته بالمجان؟
كانت أمي تتحدث عنها بطيبة، ولم تكن تزهد في ذكر المأساة التي حلت بها، بموت زوجها الشاب. أيا كانت الخادمة التي تعمل لدينا في ذلك الوقت، فقد اعتادت أن ترسلها إلى هناك بهدايا من التوت والبطاطا الجديدة أو البازلاء الطازجة من حديقتنا. أتذكر البسلة خاصة. أتذكر شارون ساتلز - ما زالت مستلقية على الأريكة - تقلب البازلاء في الهواء بسبابتها وتقول: «ماذا يفترض بي أن أفعل بهذه؟»
فقلت مساعدا إياها: «تطهينها فوق الموقد مع المياه.» - «فعلا؟»
بالنسبة إلى أبي، لم أره قط معها. كان يذهب إلى عمله متأخرا قليلا، وينتهي منه مبكرا؛ ليمارس نشاطاته الرياضية المتعددة. في بعض العطلات الأسبوعية؛ كانت شارون تستقل القطار إلى تورونتو، لكنها كانت تصطحب نانسي دائما معها، وتعود نانسي بجعبة مليئة بالمغامرات التي خاضتها، والعروض التي شاهدتها، مثل موكب بابا نويل.
ومرت أوقات بالتأكيد حين لم تكن أم نانسي في البيت، ولا ترتدي الكيمونو ومستلقية على الأريكة، ومن المفترض أنها أيضا - خلال تلك الأوقات - لم تكن تدخن أو تسترخي، بل تؤدي عملها اليومي في مكتب أبي، ذلك المكان الأسطوري الذي لم أره قط، ولم يكن مرحبا بي هناك بالتأكيد.
في مثل تلك الأوقات، حين تكون والدة نانسي في العمل، وتضطر نانسي إلى أن تظل في المنزل، كان هناك امرأة عصبية تدعى السيدة كود تجالس نانسي؛ حيث تستمع إلى المسلسلات الإذاعية، وكانت على استعداد لمطاردتنا إلى خارج المطبخ؛ حيث كانت هي نفسها تأكل أي شيء يقع في متناول يدها. لم يخطر ببالي قط أن أمي من الممكن أن تعرض تولي رعاية نانسي - بما أننا نقضي كامل وقتينا معا - أو أن تطلب من الخادمة أن تفعل هذا، لتوفر أجرة السيدة كود.
يبدو لي الآن أننا فعليا كنا نلعب معا طوال ساعات يقظتنا. وكان ذلك منذ كنت في سن الخامسة حتى الثامنة والنصف من عمري، وكانت نانسي تصغرني بنصف عام. كنا نلعب في الخارج أغلب الأحيان؛ لا بد أنها كانت أياما مطيرة، بسبب ذكرياتي عنا في كوخ نانسي حيث كنا نزعج والدة نانسي. كان علينا أن نبتعد عن حديقة الخضر، وأن نحاول ألا ندهس الزهور، لكننا كنا دائما ما نلهو عند أحواض التوت وتحت أشجار التفاح، وفي المنطقة البرية المهملة تماما وراء الكوخ، حيث بنينا مخابئنا وملاجئنا التي تحمينا من الغارات الجوية الألمانية.
كان هناك قاعدة تدريب عسكرية شمال بلدتنا، وكانت هناك طائرات حقيقية تحلق فوقنا باستمرار. تحطمت طائرة ذات مرة، لكن لإحباطنا، وقعت الطائرة - التي فقدت السيطرة - في البحيرة. وبسبب كل هذه الإشارات إلى الحرب، استطعنا أن نجعل من بيت عدوا محليا، بل نازيا، ومن آلة جز العشب دبابة. كنا نقذفه أحيانا بثمرات التفاح من شجرة التفاح الفاسدة التي تحمي معسكرنا. اشتكى ذات مرة لأمي وكلفنا هذا رحلة إلى الشاطئ.
كانت تأخذ نانسي في رحلات إلى الشاطئ. ليس إلى ذلك الشاطئ القريب الواقع أسفل المنحدر الذي يقوم عليه منزلنا مباشرة، ويتميز بأنبوب الانزلاق المقام عليه، بل إلى شاطئ أصغر عليك أن تركب للوصول إليه، ليس به سباحون مشاغبون. في الحقيقة، علمت كلينا السباحة. كانت نانسي أكثر إقداما واندفاعا مني، الأمر الذي أزعجني؛ لهذا سحبتها ذات مرة تحت موجة قادمة وجلست على رأسها. رفست وحبست أنفاسها وحاربت لتتحرر مني.
وقتها عنفتني أمي قائلة: «نانسي فتاة صغيرة، إنها فتاة صغيرة يجب عليك أن تعاملها كأختك الصغرى.»
وهذا ما كنت أفعله بالضبط. لم أكن أراها أضعف مني. نعم هي أصغر مني حجما، لكن كان هذا ميزة لها في بعض الأحيان، فحين كانت تتسلق الأشجار، كانت تتمكن من أن تتأرجح مثل قرد على فروعها التي لم تكن لتتحملني. وفي أحد شجاراتنا - لا أستطيع أن أتذكر أيا من أسباب شجاراتنا - عضت ذراعي التي كنت أقيدها بها، ولم تخرج منه أسنانها إلا بالدم. فصلنا عن بعضنا بعد ذلك الشجار أسبوعا بالكامل كما كان مفترضا، لكن حملقتنا من وراء الشبابيك سرعان ما تحولت إلى توق وتوسل، فرفع عنا الحظر.
كان مسموحا لنا باللعب في كل أنحاء أرضنا في فصل الشتاء، فكنا نبني قلاعا من الجليد مدعومة بعصي التدفئة الخشبية، ومجهزة بترسانة من الكرات الثلجية لرميها على أي شخص يقترب منها. قليلون هم من اقتربوا؛ فقد كان شارعا مسدودا. وهكذا كنا نضطر إلى بناء رجل جليد، حتى نجد من نضربه بكرات الثلج.
إذا حبستنا عاصفة كبرى، في منزلي، تشرف أمي على تحركاتنا، فكنا نضطر إلى أن نظل هادئين إذا كان أبي في المنزل راقدا بسبب صداع ألم به، فتقرأ لنا قصصا. أتذكر أنها كانت تروي لنا «أليس في بلاد العجائب». كنا ننزعج حين تشرب أليس الجرعة التي تجعلها تنمو جدا فتعلق في جحر الأرنب.
لعلك تتساءل عن الألعاب الجنسية. نعم، لعبناها أيضا. أتذكر اختباءنا، في يوم قائظ، داخل خيمة نصبت - ولا أدري سبب وجودها في ذلك المكان - خلف الكوخ. تسللنا إليها بهدف أن يكتشف أحدنا الآخر. كان قماش الخيمة يفوح برائحة مثيرة للغرائز لكنها رائحة صبيانية، مثل الملابس الداخلية التي خلعناها. أثارتنا دغدغات أحدنا الآخر في أماكن مختلفة، لكنها سرعان ما أشعرتنا بالسخط، وراح العرق يتصبب منا، وشعرنا بالانزعاج والخزي. حين خرجنا من هناك، شعرنا أننا أكثر تباعدا من المعتاد، وأن كلا منا متحفظ تحفظا غريبا من الآخر. لا أذكر إذا كان الأمر نفسه تكرر بنفس النتيجة أم لا، لكني لن أندهش إذا كان حدث.
لا أستطيع تذكر وجه نانسي بالوضوح الذي أتذكر به وجه أمها. أعتقد أن لوني بشرتها وشعرها كانا مماثلين للون بشرة أمها وشعرها، أو كان كذلك آنذاك؛ وشعر أشقر يتحول إلى البني طبيعي، لكنه يبهت بسبب الوقت الكثير الذي تقضيه تحت أشعة الشمس. وكان جلدها ورديا جدا، بل محمرا. نعم، أرى وجنتيها حمراوين، كما لو أنهما لونا بقلم تلوين أحمر؛ وكان ذلك أيضا بسبب الوقت الهائل الذي نقضيه في الخارج صيفا كذلك، وبسبب تلك الطاقة الساحقة.
لا أحتاج إلى ذكر أن كل الغرف في منزلي كانت ممنوعة علينا باستثناء التي خصصت لنا. لم نحلم أن نذهب إلى الطابق العلوي أو إلى القبو أو إلى غرفة المعيشة الأمامية أو إلى غرفة الطعام. لكن كان كل شيء مسموحا به في الكوخ، باستثناء المكان الذي كانت تحاول والدة نانسي أن تحصل فيه على بعض السلام أو حيث كانت تلتصق السيدة كود بالراديو. كان القبو مكانا مناسبا حينما نشعر بالإرهاق من الحرارة في أوقات بعد الظهيرة. لم يكن هناك درابزين عند حافة الدرج ، فكنا نستطيع أن نؤدي قفزات تتزايد جرأة مع الوقت على الأرض القاسية القذرة. وحين نمل هذا كنا نعتلي سريرا نقالا ونقفز فوقه علوا وهبوطا، بينما نجلد حصانا خياليا. حاولنا ذات مرة تدخين سيجارة سرقناها من علبة سجائر والدة نانسي (لم نجرؤ على أخذ أكثر من واحدة). وقد تعاملت نانسي مع السيجارة بنحو أفضل؛ إذ مارست التدخين أفضل مني.
كانت هناك خزانة خشبية قديمة في القبو، يعلوها بعض علب صفيح من دهان جاف تقريبا وعلب ورنيش وتشكيلة من فرش الطلاء المتيبسة، وعصي تقليب، وألواح خشبية مجرب عليها ألوان أو مسحت فيها الفرش لتنظيفها. بعض العلب كانت لا تزال مغلقة، لكنا فتحناها ببعض الصعوبة فاكتشفنا دهانا يمكن تقليبه حتى يبلغ قوامه درجة فعالة من الكثافة، ثم قضينا الوقت نحاول تليين الفرشاة بغمسها في الدهان ثم ضربها على ألواح خزانة الملابس الخشبية، لم نحصل على نتيجة رائعة بعد أن لوثنا المكان. ومع ذلك، اكتشفنا أن واحدة من علب الصفيح بها زيت تربينتين، الذي يعطي نتيجة أفضل. بدأنا حينها ندهن بشعر الفرشاة التي أصبحت صالحة للاستعمال. كنت أستطيع القراءة والتهجي إلى حد ما، بفضل أمي؛ وكذلك نانسي أيضا؛ لأنها أنهت السنة الدراسية الثانية.
قلت لنانسي: «لا تنظري حتى أنتهي.» ودفعتها بعيدا قليلا. فكرت في شيء أرسمه، لكنها على كل حال كانت مشغولة، تغمس فرشاتها في علبة دهان أحمر.
كتبت: كان هنا نازي.
قلت: «انظري الآن.»
كانت قد أدارت ظهرها لي، لكنها كانت تدهن نفسها بالفرشاة.
قالت: «أنا مشغولة.»
حين أدارت وجهها لي كان ملطخا كله بالطلاء الأحمر.
قالت: «الآن أنا أشبهك»؛ إذ دهنت وجهها بالفرشاة حتى رقبتها. «الآن أنا أشبهك.» كانت متحمسة، واعتقدت أنها تسخر مني، لكن صوتها كان متخما بالرضا، كما لو أن هذا ما كانت تهدف إليه كل حياتها.
الآن لا بد أن أحاول شرح ما حدث في الدقائق التالية.
أولا، كان رأيي أنها تبدو بشعة.
لم أكن أعتقد أن أي جزء من وجهي أحمر، وفي الحقيقة لم يكن؛ فالنصف الذي كان ملونا كان بلون وحمة التوت المعتاد، التي كما قلت بهتت إلى حد ما مع تقدمي في العمر.
لكن ليس هذا ما كنت أراه في عقلي. كنت أعتقد أن وحمتي ذات لون بني ناعم، مثل فروة فأر. لم ترتكب أمي أي شيء أحمق أو درامي من قبيل منع المرايا من المنزل، لكن المرايا يمكن أن تعلق على مستوى أعلى من طول طفل صغير، فلا يمكنه أن يرى نفسه فيها. كان هذا هو الحال مع مرآة الحمام على وجه التحديد. كانت المرآة الوحيدة التي كنت أرى فيها انعكاس صورتي بسهولة معلقة في البهو الأمامي، والتي كانت معتمة أثناء النهار ومضاءة بإضاءة خافتة في الليل. لا بد أن تصوري عن أن نصف وجهي كان ذا لون خفيف باهت - أشبه بظل بلون الفراء - قد جاء من انعكاس صورتي في هذه المرآة؟
كان هذا هو التصور الذي اعتدته، وهذا ما جعل طلاء نانسي لوجهها إهانة كبيرة، ومزحة خبيثة. دفعتها إلى الخزانة بكل ما تمكنت من قسوة وهربت منها، إلى الأعلى. أعتقد أني كنت أجري لأجد مرآة، أو حتى أجد شخصا يمكن أن يخبرني أنها كانت مخطئة. وما إن يثبت هذا، حتى أستطيع أن أغرز أسناني فيها بكراهية خالصة. أعاقبها. لم يكن لدي الوقت حينها لأعرف كيف.
ركضت عبر الكوخ - لم تكن أم نانسي في أي مكان بحثت فيه، رغم أنه كان يوم السبت - وصفقت الباب الخارجي. ركضت على الممشى المعبد بالحصى، ثم على الممر المبلط بين صفي نبات سيف الغراب المزدهر. رأيت أمي تنهض عن كرسيها الخوص حيث اعتادت الجلوس لتقرأ، في شرفتنا الخلفية. «لست أحمر الوجه»؛ صحت وأنا أزدرد دموع الغضب. «لست أحمر الوجه.» هبطت أمي درجات السلم بوجه مصدوم لم يفهم بعد، ثم اندفعت نانسي من الكوخ خلفي مندهشة تماما، بوجهها المزخرف.
فهمت أمي.
صرخت في وجه نانسي بصوت لم أسمعه من قبل، صوت مرتفع، وحشي ومرتعش: «أيتها المجرمة الصغيرة البغيضة.» «لا تقتربي منا، إياك، أنت فتاة سيئة جدا جدا، ليس في داخلك ذرة شفقة إنسانية؟ لم يعلمك أحد قط أن ...»
خرجت والدة نانسي من الكوخ، وكان شعرها مبتلا منسابا فوق عينيها، وكانت تحمل فوطة.
قالت والدة نانسي: «بحق الإله، ألا أستطيع غسل شعري في هذا المكان ...»
صرخت أمي فيها أيضا: «إياك أن تستخدمي هذه اللهجة أمام ابني وأمامي ...»
ردت والدة نانسي من فورها: «يا للهراء! هل علي أنا أقف صامتة وأنا أسمعك تصيحين وتصرخين؟!»
أخذت أمي نفسا عميقا، وقاطعتها قائلة: «أنا ... لا ... أصرخ، كل ما أريد هو أن أقول لابنتك المجرمة إن وجودها لم يعد مرحبا به في منزلنا. إنها طفلة قاسية حاقدة حتى تسخر من ابني في أمر لا حيلة له فيه. أنت لم تعلميها أي شيء؛ أنت لم تعلميها أي سلوك مهذب؛ إنها لم تعرف كيف تشكرني حين اصطحبتها معنا إلى الشاطئ، لم تعرف كيف تقول من فضلك أو شكرا؛ ولا عجب في ذلك، إذا كانت تعيش مع أم مثلك تتبختر في إزارها.»
تدفق كل هذا من أمي كما لو كان بداخلها سيل من الغضب والألم والسخافات لن يتوقف أبدا. حتى وأنا أجذبها من ثوبها متوسلا: «كفى، كفى.»
ثم زاد الأمر سوءا مع ترقرق عينيها بالدموع وابتلاعها الكلمات واختناقها وارتجافها.
أزاحت والدة نانسي شعرها المبلل عن عينيها، ووقفت تراقب.
ثم قالت: «سأقول لك شيئا واحدا: استمري في هذا وسوف يأخذونك إلى مزبلة المجانين. ماذا أفعل إذا كان لديك زوج يكرهك وابن بوجه مشوه؟!»
أمسكت أمي برأسها بين يديها وراحت تصيح متأوهة كأن الآلام تلتهمها. كانت فيلما - المرأة التي كانت تعمل لدينا في المنزل في ذلك الوقت - قد خرجت إلى الشرفة؛ قالت: «سيدتي، تعالي، سيدتي» ثم إذا بها ترفع صوتها وتصيح في والدة نانسي. «اذهبي، اذهبي إلى منزلك، اذهبي من هنا.» - «حسنا سأذهب، لا تقلقي. ولكن، من تظنين نفسك لكي تقولي لي ماذا أفعل! وكيف ترين العمل عند ساحرة عجوز لديها خفافيش في برج منزلها؟» ثم تحولت إلى نانسي. - «كيف أنظفك بحق السماء؟»
ثم عادت ترفع صوتها مرة أخرى لكي تتأكد من أني أسمعها، وقالت: - «إنه مقزز، انظري كيف يتعلق بسيدته العجوز. لن تلعبي أبدا مع هذا الصبي مرة أخرى. رضيع السيدة العجوز.»
رحنا نحاول أنا وفيلما تهدئة أمي وإعادتها إلى داخل المنزل. كانت قد توقفت عن الضجيج الذي كانت تحدثه؛ واستوت في وقفتها، وراحت تتحدث بصوت مصطنع البهجة يمكن أن يبلغ الكوخ: «أحضري لي المجزة يا فيلما من فضلك! يمكنني أن أقلم الزنابق أثناء وجودي هنا؛ فقد ذبل بعضها تماما.»
لكن مع انتهائها من التقليم، اختفت كلها من الممر؛ لا زهرة واحدة، ذابلة أو مزدهرة. •••
لا بد أن هذا حدث يوم سبت كما قلت؛ لأن والدة نانسي كانت في المنزل وفيلما كذلك كانت حاضرة؛ إذ إنها لا تأتي يوم الأحد. ومع مجيء يوم الإثنين أو ربما قبل ذلك، أنا متأكد من أن الكوخ كان قد خلا من ساكنتيه. ربما وصلت فيلما إلى أبي في النادي أو في ملعب الكروكيت أو أينما كان، فجاء إلى المنزل ضيق الصدر وقح اللسان، لكنه سرعان ما أذعن. وأقصد «أذعن»، بشأن طرد نانسي وأمها من المكان. لا أعلم أين ذهبتا. ربما أنزلهما فندقا حتى يستطيع أن يدبر مكانا آخر لهما، ولا أعتقد أن والدة نانسي أظهرت أي اعتراض على المغادرة.
راحت حقيقة أني لن أرى نانسي مرة أخرى تتضح لي ببطء. في البداية كنت غاضبا منها ولم أبال، ثم حين سألت عنها، فلا بد أن أمي أسكتتني بإجابة غامضة؛ لعدم رغبتها في أن يتذكر أي منا المشهد المؤلم. بالتأكيد كان ذلك هو الوقت الذي باتت تفكر فيه بجدية بشأن إلحاقي بالمدرسة. في الواقع، أعتقد أني ألحقت بلاكفيلد ذلك الخريف. لعلها ظنت أني ما إن أتعود على وجودي في مدرسة للبنين، سوف تتلاشى ذكرى صديقة طفولتي؛ الفتاة، وستبدو تافهة، بل سخيفة. •••
بعد يوم من جنازة أبي، فاجأتني أمي حين سألتني أن أدعوها على العشاء (بالطبع كان الوضع أن تدعوني هي إلى العشاء) في مطعم على بعد بضعة أميال إلى جانب شاطئ البحيرة، حيث كانت تأمل في ألا تقابل أحدا نعرفه.
قالت لي أمي: «أشعر أني قد سجنت في هذا المنزل للأبد، أحتاج إلى بعض الهواء.»
في المطعم، راحت تختلس النظرات حولها، ثم أعلنت أنه ما من أحد تعرفه.
قالت: «هل تشاركني كأس نبيذ؟»
هل قطعنا كل هذا الطريق لتستطيع أن تحتسي نبيذا علنا؟
حين جاء النبيذ وطلبنا الطعام، قالت: «هناك أمر يجب أن تعرفه.»
ربما تكون تلك الكلمات من بين أبغض الكلمات التي يضطر الشخص إلى سماعها في حياته. إنها تحمل دلالات قوية أن أيا ما كان يجب أن تعرفه سيكون حملا ثقيلا، وتنطوي على إيحاء بأن أناسا آخرين اضطروا إلى حمله على كاهلهم، بينما كنت متحررا منه، كل ذلك الوقت.
فقلت: «أبي ليس أبي الحقيقي، أليس كذلك؟» - «لا تكن سخيفا. هل تتذكر صديقتك الصغيرة نانسي؟»
لم أتذكرها حقيقة للحظة. ثم قلت «ذكرى مبهمة!»
في ذلك الوقت، كانت كل أحاديثي مع أمي تتطلب تعاملا استراتيجيا من جانبي. لا بد أن أبقى مرحا وظريفا وهادئا. كان صوتها ووجهها يواريان مشاعر أسى. لم تتذمر قط مما أصابها من بلاء، لكن القصص التي كانت تحكيها لي كان أبطالها دائما أشخاصا كثيرين أسيء استغلالهم رغم براءتهم؛ كانت قصصها تنضح بالسخط، لدرجة جعلتي بالتأكيد، على أدنى حد، أقبل على أصدقائي وحياتي المحظوظة بقلب مثقل.
رفضت أن أؤازرها. كل ما أرادت أمي على الأرجح علامة ما على التعاطف، أو ربما على حنان جسدي، لا أضمن هذا. كانت امرأة شديدة الاهتمام بهندامها لم يتمكن منها الهرم بعد، لكني أحجمت عنها كما لو أن الاقتراب منها يحمل في جعبته كآبة لجوج؛ أو ربما خطر الإصابة بداء معد. أحجمت عن أي إشارة إلى عيبي الخلقي خاصة، الذي بدا لي أنها تكن له معزة خاصة؛ القيد الذي لا أستطيع منه فكاكا، الذي يجب أن ألتزم به، الذي ربطني بها منذ الرحم.
قالت أمي: «ربما علمت بالأمر لو أنك كنت تقيم في المنزل فترة أطول، لكن هذا الأمر حدث قبيل إلحاقك بالمدرسة.»
ذهبت نانسي وأمها إلى العيش في شقة يملكها أبي في الميدان، وفي صباح خريفي باكر مشمس، عثرت أم نانسي على ابنتها في الحمام، وكانت تشق وجنتها بموسى حلاقة. تناثر الدم على الأرض وفي الحوض، وهنا وهناك على نانسي، لكنها لم تتنازل عن هدفها، ولم تفلت منها صرخة ألم.
كيف عرفت أمي كل هذا؟ أستطيع أن أخمن أنها قصة درامية انتشرت في البلدة فقط، وكان من المفترض أن تظل في طي الكتمان، لكن دمويتها المفرطة - وهذا بالمعنى الحرفي للكلمة - حالت دون أن تحكى تفصيلا.
وضعت والدة نانسي فوطة حول ابنتها، وبطريقة ما أخذتها إلى المستشفى. لم يكن هناك إسعاف في ذلك الوقت، ربما أشارت لسيارة لتبطئ عند الميدان. لماذا لم تتصل بأبي؟ لا يهم - إنها لم تتصل به وحسب. لم تكن الجروح عميقة، ولم تفقد دماء كثيرة على الرغم من الدم المتناثر؛ لم تقطع وعاء دمويا رئيسا. ظلت والدة نانسي توبخ طفلتها طوال الوقت وتسألها إذا كان عقلها سليما.
ظلت والدتها تقول: «أنت قدري؛ قدري أن تكون لي طفلة مثلك.»
قالت أمي: «لو كان هناك في ذلك الوقت اختصاصيون اجتماعيون، لحصلت تلك الفتاة الصغيرة المسكينة على رعاية (مساعدة الأطفال)، بلا شك.» «كانت الجروح في الوجنة ذاتها، كتلك التي لديك.»
حاولت أن أحافظ على صمتي، متظاهرا أني لا أعرف عم تتحدث؛ لكن اضطررت أن أتحدث.
فقلت: «كان الطلاء يغطي وجهها كله.» - «نعم، لكنها فعلته هذه المرة بدقة أكبر، شقت تلك الوجنة فقط؛ بذلت ما في وسعها لتبدو مثلك.»
هذه المرة نجحت في أن أظل هادئا. «لو كانت صبيا لاختلف الأمر، لكنه أمر شنيع بالنسبة إلى فتاة.» «جراحات التجميل تصنع المعجزات هذه الأيام.» «يا إلهي! ربما تستطيعان أن تفعلا ذلك.»
قالت بعد لحظة: «يا لعمق مشاعر الأطفال!» «لربما يتجاوزون الأمر.»
أخبرتني أمي أنها لا تدري ماذا حدث لهما، الطفلة أو أمها. قالت إنها سعيدة أني لم أسأل قط؛ لأنها كانت ستكره أن تخبرني بأي شيء محزن لهذه الدرجة، في وقت كنت لا أزال صغيرا فيه. •••
لا أعلم ما علاقة القصة بأي شيء، لكن يجب أن أقول إن أمي تغيرت كلية في سنوات شيخوختها؛ إذ أصبحت بذيئة اللسان وكثيرة الأوهام. ادعت أن أبي كان حبيبا رائعا وأنها نفسها كانت «فتاة سيئة جدا». أعلنت أني كان يجب أن أتزوج «تلك الفتاة التي شقت وجهها» لأن أيا منا لن يستطيع التبجح بأنه فعل جميلا للآخر، ثم قهقهت ضاحكة وهي تقول إن كلا منا سيكون مشوها مثل الآخر تماما.
كنت متفقا معها؛ إذ إني أحببتها حبا جما آنذاك. •••
منذ بضعة أيام، لدغني دبور بينما أزيل بعض ثمرات تفاح معطوبة تحت واحدة من الأشجار العتيقة. لدغني في جفني، الذي سرعان ما انغلق. قدت السيارة بنفسي إلى المستشفى معتمدا على عيني الأخرى (كانت العين المتورمة في الجانب «الجيد» من وجهي)، وأدهشني حين علمت أني يجب أن أقضي الليلة في المستشفى. كان السبب هو أنه ما إن أحقن، حتى يجب أن أضع ضمادة على عيني؛ لكي أتجنب أن تصاب العين التي ترى بالترشيح. نمت نوما قلقا في تلك الليلة؛ إذ كنت أستيقظ كثيرا. بالطبع لا يسود الهدوء المستشفى أبدا، وفي تلك الفترة القصيرة التي كنت لا أرى فيها، بدا أن سمعي أصبح أكثر حدة. حين سمعت خطوات في غرفتي عرفت أنها لامرأة، وشعرت أنها ليست الممرضة.
لكن حين قالت: «حسنا، أنت مستيقظ، أنا القارئة.» اعتقدت أني أخطأت، فقد كانت ممرضة في النهاية. مددت ذراعي؛ إذ اعتقدت أنها أتت لتقرأ ما هو معروف بالعلامات الحيوية.
فقالت بصوتها الجاد الصغير: «لا، لا، أتيت لأقرأ لك، إذا كنت تحب هذا. يحب الناس هذا في بعض الأحيان؛ إذ يضجرون من الاستلقاء بعينين مغلقتين.»
سألتها قائلا: «هل يختارون ما تقرئينه لهم، أم أنك من تختارين؟» - «بل هم من يختارون، لكن في بعض الأحيان أذكرهم بنحو ما، فأحيانا، أحاول أن أذكرهم ببعض قصص الإنجيل؛ جزء من الإنجيل يحفظونه، أو قصة من طفولتهم. أحمل معي مجموعة كاملة من الموضوعات.» - «أحب الشعر.» - «لا تبدو متحمسا.»
أدركت أن هذا صحيح وعرفت السبب. لدي خبرة في إلقاء الشعر، على الراديو، وفي الإصغاء لقراءة أصوات مدربة أخرى وهي تلقي الشعر، وهناك أساليب إلقاء أحبها وأخرى أمقتها.
قالت: «إذن نستطيع أن نلعب لعبة.» كما لو أني أوضحت لها هذا، دون أن أفعل. «يمكن أن أقرأ عليك بيتا أو بيتين، ثم أتوقف وأرى إذا كنت تستطيع أن تكمل البيت الثاني. حسنا؟»
أثار إعجابي أنها يمكن أن تكون صغيرة في العمر، ومتلهفة على المراهنة وعلى النجاح في هذه الوظيفة.
وافقت، ولكن أخبرتها ألا تذكر أي أبيات بالإنجليزية القديمة.
بدأت وفي صوتها نبرة السؤال: «جلس الملك في بلدة دونفرملين ...»
فتدخلت آخذا دوري: «يحتسي النبيذ الأحمر الدموي ...» وواصلنا اللعبة في حالة مزاجية جيدة. تقرأ جيدا، مع أنه بأداء طفولي قليلا، وسرعة فيها ما فيها من التباهي. بدأت أحب نبرة صوتي؛ إذ كانت تتمكن مني نزعة تمثيلية انعكست نوعا ما على أدائي.
قالت: «رائع.» «وأدلك على منبت السوسن/على ضفاف إيطاليا ...»
قالت: «أهي منبت أم غير ذلك؟ ليس لدي في الحقيقة كتاب به هذا، مع أني يجب أن أتذكر. لا يهم، إن هذا رائع، لطالما أحببت صوتك في الراديو.» - «حقا؟ هل كنت تستمعين إلي؟» - «بالطبع. كثير من الناس استمعوا إليك.»
توقفت عن تلقيني الأبيات، وتركتني أسترسل. لك أن تتخيل، روينا قصائد «شاطئ دوفر» (ماثيو أرنولد)؛ و«قبلاي خان» (كولريدج)؛ و«الرياح الغربية» (شيلي)؛ و«البجعات البرية» (بتلر)؛ و«شباب هالك» (أون). حسنا، ربما بعض أجزاء منها، وليس كلها.
قالت لي: «لقد بدأ نفسك ينقطع.» كانت يدها الصغيرة السريعة فوق فمي، ثم وجهها أو جانب منه فوق وجهي؛ «يجب أن أذهب، إليك واحدة أخرى قبل أن أذهب، سأصعبها لأني لن أبدأ من مطلعها.» «لن يبكيك أحد طويلا/لن يصلي أحد لأجلك؛ لن يفتقدك أحد/أصبح مكانك خاويا ...»
قلت: «لم أسمع بها قط.» «متأكد؟» «متأكد. أنت تفوزين.»
ارتبت في شيء ما حينها. بدت مشتتة، منزعجة قليلا. سمعت صياح الإوز أثناء تحليقه فوق المستشفى. يتدرب على الهجرة في هذا الوقت من السنة، ثم تطول المسافات ، وفي يوم ما يختفي. استيقظت في حالة من الدهشة، والسخط، تلك التي تتبع حلما يبدو واقعا. كنت أريد أن أعود وأشعر بوجهها فوق وجهي، وجنتها فوق وجنتي، لكن الأحلام ليست كريمة إلى هذا الحد. •••
حين استعدت بصري وعدت إلى البيت، بحثت عن تلك الأبيات التي تركتها لي في الحلم. تفحصت كتابين من المقتطفات الشعرية ولم أعثر عليها فيهما. بدأت أشك أن هذه الأبيات ليست جزءا من قصيدة حقيقية، لم تكن إلا إبداعا داخل الحلم؛ لكي تتركني في حيرة من أمري.
ولكن، من الذي أبدعها؟
في وقت لاحق، من فصل الخريف، حين كنت أجهز بعض الكتب لأتبرع بها إلى بازار خيري، وقعت قصاصة ورق مائلة إلى اللون البني، مكتوب عليها بعض السطور بالقلم الرصاص. لم يكن خط أمي، ولا يمكن أن يكون لأبي، إذن لمن كان؟ أيا من كان، فقد كتب اسم مؤلفها في النهاية. والتر دي لا مير. لا عنوان. لم يكن من الكتاب الذين أعرفهم بشكل خاص، لكن لا بد أني رأيت القصيدة في وقت ما، ربما ليست في هذا الكتاب، ربما في مرجع ما، لا بد أني دفنت الكلمات في فجوات غائرة من عقلي، ولماذا؟ حتى تسخر مني، أو كي يسخر مني شبح طفلة ملح في حلم ما؟
لا حزن
لن يشفيه الزمن
لا فقد، أو خيانة
يستعصيان على الشفاء
بلسم للروح، إذن
مع أن الحزن سوف يفرق بين الأحباء
يمزق كل ما كان
انظر ... الشمس العذبة تشرق
والمطر قد توقف
والزهر يتأنق في محياه
كم هو فاتن هذا النهار
لا تمعن التفكير
في الحب، وفي الواجب
فلعل أصدقاءك الذين نسيتهم طويلا
ينتظرونك؛ حيث
لقاء الحياة مع الموت
يأتي بكم جميعا إلى المشهد
لن يبكيك أحد طويلا
لن يصلي أحد لأجلك، أو يفتقدك
تركت مكانك خاويا
وصار أثرك عدما!
لم تصبني القصيدة بالإحباط، بل الأمر الغريب أنها عززت بداخلي قرار عدم بيع العقار، بل وأن أبقى فيه أيضا.
شيء ما قد حدث ها هنا، في حياتك، هناك أماكن قليلة، أو ربما مكان واحد فقط، حدث به شيء ما، وبعده تأتي كل الأماكن الأخرى.
بالطبع أعرف لو أني رأيت نانسي - في مترو الأنفاق على سبيل المثال في تورنتو - فكل منا لا يزال يحمل علامته المميزة، فإننا على كل الاحتمالات لن نتدبر سوى إجراء إحدى هذه المحادثات المحرجة الجوفاء؛ حيث نسرد في إيجاز قائمة من الحقائق الذاتية عديمة الجدوى، لعلي كنت سألاحظ الوجنة الملتئمة التي تكاد تبدو عادية، أو الجرح الذي لا يزال ملحوظا، لكننا لن نشير إلى هذا في حديثنا على الأرجح. ربما نذكر الأطفال - لكن لن نذكر على الأرجح إذا كانت تعافت أم لا - والأحفاد، والأعمال. ربما لن أضطر لذكر هذا عني. لعلنا كنا لنشعر بالصدمة والحميمية والرغبة الشديدة في الفرار.
هل تعتقد أن هذا كان يمكن أن يغير الأمور؟
الإجابة هي: بالتأكيد، ربما لفترة من الوقت، وربما لم يكن ليغيرها أبدا.
بضع نساء
أندهش في بعض الأحيان حين أفكر في عمري. أذكر حين كانت ترش شوارع البلدة التي عشت فيها بالمياه لتهدئة التراب في الصيف، وحين كانت الفتيات يرتدين فساتين ذات خصر محكم ومن قماش القرينول القطني الذي ينتصب وحده، وحين لم يكن هناك الكثير مما يمكن عمله مع شلل الأطفال واللوكيميا - تحسن بعض من أصابهم شلل الأطفال، سواء أصيبوا بعدها بالعجز أم لا، لكن من عانوا من اللوكيميا رقدوا في الفراش، وبعد انهيار كان يدوم أسابيع أو شهورا في جو مأساوي، كانوا يموتون.
حصلت على وظيفتي الأولى بسبب حالة كهذه في إجازة الصيف حين كنت في الثالثة عشرة من عمري. عاد السيد كروزير الشاب (بروس) إلى بيته من الحرب سالما؛ إذ كان طيارا مقاتلا، التحق بالجامعة ودرس التاريخ، وتخرج فيها، وتزوج، وهو يعاني الآن من اللوكيميا. عاد هو وزوجته ليبقيا مع زوجة أبيه السيدة كروزير العجوز. وكانت السيدة كروزير الشابة (سيلفيا) تذهب مرتين أسبوعيا في فترة ما بعد الظهيرة لتدرس أحد الفصول الدراسية الصيفية في تلك الكلية ذاتها التي تقابلا فيها، على بعد أربعين ميلا. وظفوني لأرعى السيد كروزير الشاب أثناء غيابها عن المنزل. كان يرقد في السرير في أول غرفة في الدور العلوي، وكان لا يزال قادرا على الذهاب إلى الحمام بنفسه. كل ما كان علي أن أفعله هو أن أحضر له الماء وأن أخفف الإضاءة أو أزيدها، وأرى ما الذي يحتاجه حين يقرع الجرس الصغير الموضوع على المائدة الصغيرة بجوار سريره.
كان ما يريده غالبا هو تحريك المروحة. أحب نسيمها لكن كان يزعجه ضجيجها؛ لذا كان يريد المروحة في الغرفة فترة من الوقت، ثم يريد إخراجها إلى القاعة لكن بالقرب من بابه المفتوح.
حين سمعت أمي هذا تساءلت عن السبب الذي جعلهم لا يضعونه في غرفة في الطابق السفلي، حيث السقف عال بالتأكيد، وسوف يشعر ببرودة أكبر.
أخبرتها أنه لا توجد غرف نوم بالطابق السفلي.
قالت: «حسنا، يا للسماء! ألا يستطيعون تجهيز واحدة بصفة مؤقتة؟»
أظهر هذا ضآلة ما تعرفه عن إدارة بيت آل كروزير أو سيطرة السيدة كروزير العجوز. تمشي السيدة كروزير العجوز بعكاز. تصعد السلم مرة واحدة، على نحو كئيب ينذر بالشؤم؛ لترى ابن زوجها في الأيام التي أكون فيها هناك، وأظن أنها لا تفعل أكثر من هذا حين لا أكون هناك، ثم صعودا آخر، حسب الضرورة، حين تذهب للنوم. لكن فكرة وجود غرفة نوم في الطابق السفلي يمكن أن تغضبها مثل فكرة وجود حمام في غرفة المعيشة. لحسن الحظ كان هناك بالفعل حمام في الطابق السفلي، خلف المطبخ، لكني كنت متأكدة أنه لو كان الحمام الوحيد في الطابق العلوي لكانت فضلت صعود السلم بقدر ما هو ضروري ومجهد، على أن ترى تغييرا جذريا ومزعجا.
كانت أمي تفكر في العمل في مجال القطع الأثرية العتيقة؛ ولهذا كانت مهتمة جدا بالمنزل من الداخل. دخلته مرة في أول يوم لي. كنت في المطبخ، ووقفت مرتاعة حين سمعتها تهتف «يوووو-هووو» ثم أتبعت ذلك بالشتيمة المرحة الخاصة بي، ثم دقتها الروتينية، خطواتها على سلم المطبخ. حينها خرجت السيدة كروزير العجوز تمشي بتثاقل من الغرفة المشمسة .
قالت أمي إنها مرت لترى كيف تسير شئون ابنتها.
قالت السيدة كروزير التي كانت تقف عند باب الصالة تحجب رؤية القطع الأثرية القديمة: «لا بأس بها.»
ألقت أمي ببعض الملاحظات المخزية الأخرى قبل أن ترحل. في الليلة ذاتها، قالت أمي إن السيدة كروزير العجوز لا تتمتع بالتهذيب؛ لأنها مجرد زوجة ثانية التقطها زوجها في رحلة عمل إلى ديترويت؛ ولهذا كانت تدخن وتصبغ شعرها أسود بلون القار وتضع أحمر شفاه مثل لطخة مربى. لم تكن حتى أم المريض الذي في الطابق العلوي. لم تتمتع بالذكاء الكافي لتكون أمه. (كنا أثناء أحد شجاراتنا حينئذ؛ وكان هذا الشجار يتعلق بزيارتها، لكن هذا أمر لا أهمية له.)
أما من وجهة نظر السيدة كروزير العجوز، فلا بد أني بدوت مجرد متطفلة مثل أمي، مجرد متبجحة مرحة. في يومي الأول ذاته دخلت قاعة الاستقبال الخلفية، وفتحت خزانة الكتب، ووقفت هناك أتفحص مجموعة كلاسيكيات هارفارد المصفوفة على نحو ممتاز. معظمها أجفلني، لكني أخرجت واحدا، ربما كان رواية على الرغم من عنوانه بلغة أجنبية
I Promessi Sposi (أعدك بالزواج). اتضح أنه رواية بالفعل، وكان بالإنجليزية.
لا بد أني كنت أتصور حينئذ أن كل الكتب مجانية أينما وجدتها، مثل المياه في الصنبور العمومي. حين رأتني السيدة كروزير مع الكتاب سألتني من أين حصلت عليه، وما الذي أفعل به. أجبتها بأني التقطته من المكتبة وأحضرته للطابق العلوي لكي أقرأ. يبدو أن الأمر الذي أربكها هو أني حصلت عليه من الطابق السفلي وأحضرته إلى الطابق العلوي. واضح أنها نحت جانبا جزء القراءة، كما لو أن هذا النشاط غريب جدا على تفكيرها. وأخيرا، قالت لي إني إذا أردت أن أقرأ كتابا فعلي إحضاره معي من البيت.
كانت الرواية مملة ورتيبة على كل حال، ولم أبال بإعادتها إلى مكانها في المكتبة.
كان هناك بالطبع كتب في غرفة المريض، بدا لي أن القراءة مقبولة فيها. لكن غالبية الكتب كانت مفتوحة، وعلى وجهها، كما لو أن السيد كروزير قرأ قليلا من هذا وذاك ووضعه جانبا. ولم تجذبني عناوينها : «محاكمة الحضارة»، «المؤامرة الكبرى على روسيا».
كانت جدتي قد حذرتني من لمس أي شيء يكون المريض قد لمسه؛ بسبب الجراثيم، إذا كان بوسعي تجنب ذلك، وأخبرتني أنه يجب أن أضع قطعة قماش بين أصابعي وكوبه.
قالت أمي إن اللوكيميا ليست مرضا تسببه الجراثيم.
قالت جدتي: «ما الذي يسببه إذن؟» - «الأطباء لا يعرفون.» - «هاه.» •••
كانت السيدة كروزير الشابة هي التي تأخذني وتعيدني إلى منزلي، مع أن المسافة لم تتجاوز عبور البلدة من طرف إلى الآخر. كانت امرأة طويلة ورفيعة ذات شعر فاتح، ولون بشرة متغير؛ ففي بعض الأحيان كان يملأ وجنتيها بقع حمراء وكأنها كانت تحكهما. سرت إشاعة أنها أكبر سنا من زوجها، وأنه كان تلميذها في الكلية. قالت أمي إنه يبدو أن أحدا لم يفكر أنه قد يكون تلميذها ببساطة لأنه من قدامى المحاربين دون أن يجعلها هذا أكبر منه. يعاملها الناس بعداء لأنها متعلمة فقط.
قالوا أيضا إنها كان يمكن أن تلازم المنزل وترعاه، حسبما يلزمها عقد الزواج ووعوده، بدلا من أن تخرج للتدريس. دافعت عنها أمي مرة أخرى فقالت إنهما ظهيرتان فقط أسبوعيا وعليها أن تحافظ على وظيفتها؛ إذ تدرك أنها سوف تعول نفسها قريبا جدا. وتساءلت أمي: إذا لم تبتعد عن السيدة العجوز بين الحين والآخر، ألا تعتقدين أنها قد تجن؟ لطالما دافعت أمي عن النساء اللواتي يعملن في البلدة، ولطالما وبختها جدتي بسبب هذا.
في أحد الأيام حاولت أن أجري حديثا مع السيدة كروزير الشابة أو سيلفيا. كانت الخريجة الجامعية الوحيدة التي أعرفها، ناهيك عن أنها معلمة؛ بالإضافة إلى زوجها بالطبع، الذي لم أعد أضعه في الاعتبار.
سألتها: «هل كتب توينبي كتبا تاريخية؟»
قالت: «أستمحيك عذرا؟ أوه! نعم.»
لم يكن أي أحد منا يعني لها شيئا؛ لا أنا، ولا من انتقدوها، ولا من دافعوا عنها، لسنا أكثر من حشرات حول مصباح مضيء. •••
ما كان يعني السيدة كروزير العجوز حقا هو حديقة أزهارها. كان لديها رجل يأتي ويساعدها، شخص في مثل عمرها لكنه أكثر خفة ومرونة. كان يقطن في شارعنا، وفي الحقيقة كان هو من حدثها عني كموظفة محتملة. في البيت، لا يفعل شيئا سوى الثرثرة ويترك الأعشاب الضارة تنمو، لكنه عند السيدة يقتلع الأعشاب، ويسمد الحديقة، ويتذمر، بينما تتبعه هي متكئة على عكازها، وتظللها قبعتها القش الكبيرة. في بعض الأحيان تجلس فوق مقعدها، لكن تعلق وتعطي الأوامر وتدخن سيجارة. في البداية، تجرأت على المشي بين الأسيجة المتقنة الصنع لأسأل إن كانت هي أو معاونها يرغبان في كوب من المياه، فصرخت: «انتبهي لأحواض الزرع» قبل أن تقول: كلا.
لم تكن هناك زهور تدخل المنزل. أفلتت بعض نباتات الخشخاش ونمت بقوة خلف السياج، تقريبا في الشارع؛ لذا سألت إن كنت أستطيع جمع باقة منها لأضفي البهجة على غرفة المريض.
قالت: «ستموت فحسب»، دون أن تعي على ما يبدو أن هذه الملاحظة ذات حدين، في ظل الظروف الحالية.
بعض اقتراحات أو أفكار معينة كانت تجعل عضلات وجهها المبقع الرخو ترتجف، وتجعل عينيها تصبحان حادتين وسوداوين، وتجعل فمها يتحرك كما لو أن به مذاقا بغيضا. يمكن لملامح وجهها أن توقفك عن الكلام حينها، مثل النباتات الشوكية البرية. •••
لم يكن يوما عملي متعاقبين. فلنقل إنهما كانا الثلاثاء والخميس مثلا. كنت وحيدة في اليوم الأول مع الرجل المريض والسيدة كروزير. وصل في اليوم الثاني شخص لم يخبروني عنه. سمعت صوت السيارة أمام البيت، وبعض الخطوات النشطة تصعد السلالم الخلفية، وشخصا يدخل المطبخ دون أن يطرق الباب، ثم نادى أحدهم: «دورثي»، التي لم أكن أعرف أنه اسم السيدة كروزير العجوز. كان الصوت لامرأة أو فتاة، وكان جريئا ومثيرا في آن واحد، فتشعر تقريبا أن هذا الشخص يدغدغك.
هبطت السلم مسرعة وأنا أقول: «أعتقد أنها في الغرفة المشمسة.»
قالت: «واو، ما هذا؟ من أنت؟»
أخبرتها من أنا وماذا أفعل هنا، وقالت السيدة الشابة إن اسمها روكسان.
وأردفت: «أنا المدلكة.»
لم أكن أحب أن يفاجئني أحد بكلمة لا أعرفها. لم أقل أي شيء لكنها رأت تعبيرات وجهي.
قالت: «لم تفهمي ما تعنيه المدلكة، أليس كذلك ؟ أنا أقوم بجلسات تدليك للجسم، هل سمعت عن هذا من قبل؟»
كانت حينئذ تفرغ محتويات الحقيبة التي معها: ضمادات وأقمشة متنوعة وفرش مخملية.
ثم أردفت: «سأحتاج إلى بعض المياه الساخنة لتدفئة هذه الأشياء، يمكنك أن تسخني بعض الماء في الغلاية.»
كان المنزل كبيرا، لكن لم يكن به إلا مياه باردة في الصنبور، كما في منزلي.
يبدو أنها رأت أني شخص على استعداد لتلقي الأوامر؛ خاصة، ربما، الأوامر التي تصدر بصوت لطيف جدا كصوتها. وكانت على حق، مع أنها ربما لم تخمن أن استعدادي كان بدافع الفضول أكثر من سحرها.
اكتسبت سمرة مبكرا في ذلك الصيف، وكان شعرها الصبياني يلمع لمعة نحاسية؛ وهو ما يمكن أن تكتسبه بسهولة هذه الأيام بواسطة زجاجة، لكن كان حينئذ أمرا غير معتاد ويدعو للحسد. كانت ذات عينين بنيتين، ولديها غمازة في أحد خديها، وتبتسم وتمرح بحيث لا يمكنك قط أن تلقي نظرة فاحصة على وجهها لتعرف ما إذا كانت جميلة حقا أم لا، أو كم عمرها.
انحنى ردفاها على نحو جميل إلى الوراء بدلا من أن يتوزعا على جانبيها.
علمت على الفور أنها وافدة جديدة على البلدة، متزوجة من ميكانيكي يعمل في محطة إسو، وأن لديها ولدين، أحدهما في الرابعة والآخر في الثالثة. قالت وهي تغمز إحدى غمزاتها العابثة: «احتجت بعض الوقت لأفهم السبب في مجيئهما.»
تدربت على مهنة التدليك في هاملتون حيث كانوا يعيشون، واتضح لها أنه العمل الذي تمتعت دائما بمهارة خاصة في أدائه.
صاحت: «دووورثي؟»
قلت لها مرة ثانية: «إنها في الغرفة المشمسة.»
قالت: «أعرف، أنا أمازحها فحسب. ربما لا تعرفين شيئا عن التدليك، لكن عندما تدلكين جسمك، يجب أن تخلعي كل ملابسك. لا تكون مشكلة كبيرة حين تكونين شابة، لكن حين تكبرين في العمر، كما تدركين، تشعرين بالحرج الشديد.»
كانت مخطئة في أمر واحد فقط، على الأقل بالنسبة لي، أخطأت في أن ذلك لا يكون مشكلة في الشباب.
وأضافت: «لهذا ربما يجب أن تنسحبي من هنا على الفور.»
هذه المرة صعدت السلم الأمامي بينما كانت هي مشغولة بالماء الساخن. بهذه الطريقة استطعت أن ألقي نظرة عبر باب الغرفة المشمسة، حيث لم تكن مشمسة على الإطلاق؛ إذ إن كل نوافذها في الجهات الثلاث مغطاة بأوراق عامرة من أشجار الكتلبة.
رأيت السيدة كروزير العجوز هناك مستلقية على سرير، على بطنها، رأسها متجه إلى الجهة الأخرى مني، عارية تماما. طبقة رقيقة رفيعة من اللحم الشاحب. لم يبد جسمها عجوزا جدا مثل الأجزاء التي تظهر منه يوميا؛ يداها المعرقتان المنمشتان، وساعداها، ووجنتاها المبقعتان. هذا الجزء المغطى من جسدها كان أصفر مائلا إلى البياض، مثل الخشب الذي نزع عنه لحاؤه.
جلست على الدرجة الأولى، واستمعت إلى أصوات التدليك. ضربات ونخرات. صوت روكسان آمرا ومبتهجا لكنه محفز. - «عقدة متيبسة هنا. أوه! سأضطر إلى صفعك بشدة. أمزح معك. آوو. هيا، فكي من أجلي. تعلمين أن لديك جلدا جميلا هنا. تجويف ظهر كمثل مؤخرة الطفل. الآن سوف أضغط عليك قليلا، سوف تشعرين بهذا هنا. تخلصي من التوتر. فتاة جيدة.»
كانت السيدة كروزير العجوز تعوي قليلا. أصوات شكوى وامتنان. استمرت الجلسة لفترة طويلة ثم شعرت بالملل فعدت لأقرأ بعض المجلات البيتية الكندية القديمة التي وجدتها في خزانة الردهة. قرأت وصفات طعام وتفحصت الموضة القديمة حتى سمعت صوت روكسان يقول: «الآن سوف أنظف هذه الأشياء ونصعد لأعلى كما تريدين.»
وضعت المجلات في مكانها في الخزانة؛ المجلات التي كانت أمي ستحسدني عليها، ثم دخلت غرفة السيد كروزير. كان نائما، أو على الأقل عيناه مغلقتان. حركت المروحة بضع بوصات ورتبت غطاءه وذهبت أقف إلى جانب النافذة أتحسس طريقي في العتمة.
وكما هو متوقع، علت ضجة من السلم الخلفي؛ السيدة كروزير العجوز بخطواتها البطيئة والمتوعدة مع العكاز، وروكسان تركض تسبقها على السلم وتنادي: «احذر، احذر، أينما كنت، نحن آتيتان لإمساكك أينما كنت.»
فتح السيد كروزير عينيه الآن، وعلا وجهه المرهق تعبير ينم عن القلق. لكن قبل أن يتظاهر بالنوم مرة أخرى، اندفعت روكسان إلى الغرفة.
قالت: «إذن، هذا هو المكان الذي تختبئ فيه. قلت لزوجة أبيك إني أعتقد أن الوقت حان لأتعرف عليك.»
قال السيد كروزير: «كيف حالك روكسان؟» - «كيف عرفت اسمي؟» - «الشائعات تنتشر.» - قالت روكسان للسيدة كروزير العجوز، التي جاءت إلى الغرفة تتعثر في خطواتها: «لديك شخص ظريف هنا.»
قالت السيدة كروزير لي: «كفي عن التسكع؛ اذهبي وأحضري لي كوب ماء فاتر إذا كنت تريدين أن تفعلي شيئا مفيدا. ليس باردا، فاترا فحسب.»
قالت روكسان للسيد كروزير: «حالتك مزرية. من حلق لك ذقنك؟»
قال: «حلقتها أمس بنفسي، بقدر ما استطعت.»
قالت روكسان: «هذا ما ظننته.» ثم قالت موجهة حديثها إلي: «حين تحضرين لها كوب الماء، ما رأيك في أن تسخني لي بعض الماء لأتولى حلاقة ذقنه على نحو لائق؟» •••
هكذا حصلت روكسان على هذا العمل الآخر، مرة أسبوعيا بعد جلسة التدليك. قالت للسيد كروزير في ذلك اليوم الأول ألا يقلق.
قالت له: «لن أخبط عليك كما لا بد أنك سمعتني أفعل مع دورثي العابثة في الدور السفلي. قبل أن أصبح مدلكة كنت أعمل في التمريض، مساعد ممرض. واحدة من تلك الأعمال التي تعمل فيها كل شيء ويمر الممرضات ليشرفن عليك. على كل، تعلمت كيف أريح الناس.»
دورثي العابثة؟ ابتسم السيد كروزير ابتسامة عريضة. لكن الغريب أن السيدة كروزير العجوز اكتفت أيضا بالابتسام فحسب.
حلقت روكسان ذقنه بمهارة. مسحت وجهه ورقبته وجذعه وذراعيه ويديه بإسفنجة، وسحبت الملاءات من تحته، بطريقة لا تزعجه، وخبطت الوسادات وأعادت ترتيبها. كانت تتحدث طوال الوقت؛ مزاح خالص وهراء.
قالت: «دورثي، أنت كاذبة؛ قلت إن لديك رجلا مريضا فوق، فأدخل هنا وأتساءل أين الرجل المريض؟ لا أرى أي رجل مريض هنا.»
قال السيد كروزير: «إذن ما رأيك في؟» - «تتعافى، هذا ما أعتقده. لا أقول إنك يجب أن تنهض وتجري، لكني أقول إنك تتعافى. أي شخص مصاب بمرضك ليس من المفترض أن يبدو في حالة جيدة كما تبدو أنت الآن.»
اعتقدت أن هذه الثرثرة المليئة بالغزل مهينة؛ كان مظهر السيد كروزير رهيبا في الحقيقة، رجل طويل برزت أضلاعه بينما كانت تمسح جسده مثل أضلاع شخص عانى من الجوع، أصلع، وجلده مثل جلد دجاجة منتوفة الريش، وبرزت عروق رقبته وكأنه طاعن في السن. حينما كنت أخدمه بأي شكل كنت أتجنب النظر إليه، ليس لأنه مريض وقبيح بل لأنه يحتضر. كنت سوف أشعر بشيء من هذا التحفظ حتى لو بدا جميلا ملائكيا. كنت أشعر بجو الموت في المنزل؛ إذ يغدو أكثر كثافة حين تقترب من غرفته، وكان هو مركزها، مثل خبز القربان المقدس الذي يحتفظ به الكاثوليك في صندوق يسمى الصيوان. كان هو المنكوب، مميزا عن الجميع، وها هي روكسان تنتهك أرضه بمزحاتها وتبخترها وفكرتها عن التسلية.
تتساءل، على سبيل المثال، عما إذا كان هناك في المنزل لعبة اسمها الشطرنج الصيني.
وربما كانت زيارتها الثانية حين سألته ماذا فعل طوال اليوم.
أجابها: «أقرأ أحيانا، وأنام.»
وكيف نام في الليل؟ - «إذا لم أستطع النوم، أستلقي مستيقظا، أفكر، أقرأ أحيانا.» - «ألا يزعج هذا زوجتك؟» - «تنام في الغرفة الخلفية.» - «آها. إنك بحاجة إلى بعض التسلية.» - «هل ستغني وترقصي لي؟»
رأيت السيدة كروزير العجوز تدير وجهها بابتسامتها الغريبة الخارجة عن إرادتها.
قالت روكسان: «لا تكن وقحا. هل تحب لعب الورق؟» - «أكره لعب الورق.» - «حسنا، هل لديك شطرنج صيني في البيت؟»
وجهت روكسان السؤال إلى السيدة كروزير العجوز، التي قالت في البداية إنها لا تعرف، ثم تساءلت إن كان هناك واحد في درج من أدراج بوفيه غرفة الطعام.
لذا أرسلتني لأنظر، وعدت باللوح ووعاء من أحجار الداما الصغيرة.
وضعت روكسان اللوح على ساقي السيد كروزير، ولعبت هي وأنا والسيد كروزير، بعد أن قالت السيدة كروزير العجوز إنها لم تفهم قط اللعبة ولم تستطع أن تحافظ على أحجارها منتصبة. (لدهشتي، بدا لي أنها تقول هذا مازحة). قد تصرخ روكسان حين تحرك قطعة من أحجارها أو تزوم حين ينقض شخص آخر على واحد منها، لكنها كانت حريصة ألا تزعج المريض أبدا. احتفظت بجسدها ساكنا وكانت ترتب قطع أحجارها كأنها ريشات. حاولت أن أتعلم أن أفعل مثلها؛ لأنها كانت تفتح عينيها على وسعها تحذرني إن لم أفعل هذا. كل هذا بدون أن تفقد نغزتها.
تذكرت أن السيدة كروزير الشابة، سيلفيا، قالت لي في السيارة إن زوجها لا يحبذ الحوارات. قالت إنها تنهكه، وحين يتعب يصبح مهتاجا؛ لذا اعتقدت أن هذا الوقت هو الذي يمكن أن يصبح عصبيا فيه؛ إذ أجبر على لعب لعبة سخيفة على سرير احتضاره؛ حيث تستطيع أن تشعر بحرارته الشديدة في الملاءات.
لكن يبدو أن سيلفيا كانت مخطئة؛ فقد أظهر صبرا عظيما وتأدبا أكثر مما تعلم عنه. تصرف مع أناس أدنى منه - بالتأكيد كانت روكسان أدنى منه - بتسامح ونبل. في حين أن كل ما كان يريد أن يفعله هو الاستلقاء وتأمل حياته والاستعداد لمستقبله.
مسحت روكسان العرق عن جبينه وهي تقول: «لا تفرح، أنت لم تفز بعد.»
قال: «روكسان، روكسان؛ هل تعرفين اسم من هذا يا روكسان؟»
قالت: «هممم؟» ومن ثم تدخلت أنا في الحديث. لم أستطع أن أتمالك نفسي. - «كان اسم زوجة الإسكندر الأكبر.»
كان رأسي مثل عش غراب العقعق المحتشد بكسرات لامعة من المعلومات.
قالت روكسان: «حقا؟ ومن يكون الإسكندر الأكبر هذا؟»
أدركت شيئا حين نظرت إلى السيد كروزير في تلك اللحظة؛ شيئا صادما ومحزنا.
لقد كان يفضل ألا تعرف. أدركت هذا. كان يفضل ألا تعرف. لقد أيقظ جهلها متعة ذابت على لسانه مثل لعقة من حلوى التوفي. •••
كانت ترتدي في اليوم الأول بنطالا قصيرا مثلي، لكن في المرة الثانية، وفيما بعد دائما ارتدت روكسان فستانا من قماش سميك أخضر فاتح لامع. تستطيع أن تسمع حفيفه وهي تجري على السلالم. أحضرت وسادة صوفية رقيقة ناعمة للسيد كروزير حتى لا يصاب بقرح الفراش. كانت مستاءة من ترتيب أغطية السرير دائما، وكانت دائما تعدلها. ولكن التغييرات التي كانت تجريها لم تزعجه قط، وجعلته يعترف أنه يشعر بالارتياح بعدها.
لم تكن تحتار أو ترتبك قط. أحيانا تأتي مجهزة بالألغاز، أو النكات. بعض النكات كانت من تلك التي تسميها أمي بذيئة، ولم تكن لتسمح أن تذكر في منزلنا، إلا عندما تصدر عن بعض أقرباء أبي الذين لم يمارسوا فعليا أي نوع آخر من الأحاديث.
تلك النكات تبدأ عادة بأسئلة تبدو جادة لكنها سخيفة.
هل سمعت عن المربية التي ذهبت تشتري مطحنة لحم؟
هل سمعت عما طلبه العروسان تحلية في ليلة زفافهما؟
تأتي الإجابات تحمل دائما معنى مزدوجا؛ بحيث إن قائل النكتة يمكن أن يتظاهر أنه صدم ويتهم الحاضرين بأن طريقة تفكيرهم قذرة.
وبعد أن جعلتهم يعتادون على إلقائها لتلك النكات، مضت روكسان إلى نوع من النكات لا أعتقد أن أمي على دراية بوجودها؛ إذ إنها غالبا تتضمن الجنس بين الخراف أو الدجاج أو آلات حلب اللبن.
كانت دائما ما تقول في نهاية كل نكتة من تلك النكات: «أليس هذا فظيعا؟» وقالت روكسان إنها ما كانت لتعرف هذه الأشياء لو لم يحضرها زوجها معه من الجراج.
صدمني أن السيدة كروزير العجوز تقهقه بقدر ما صدمتني النكات ذاتها. اعتقدت أنها لا تفهم على الأرجح مغزاها، بل استمتعت ببساطة بالاستماع إلى كل ما تقوله روكسان. جلست بابتسامتها الممضوغة على وجهها برغم شرودها، كما لو أنها تلقت هدية عرفت أنها سوف تحبها رغم أنها لم تفتحها بعد.
لم يضحك السيد كروزير على نكاتها؛ لكنه لم يكن يضحك قط في الحقيقة. كان يرفع حاجبيه، متظاهرا بأنه سوف يوبخ روكسان حين يراها بذيئة ومحببة أيضا على حد سواء. ربما كان هذا من باب اللياقة أو الامتنان لكل مجهوداتها، أيا ما كان.
أنا شخصيا حرصت على أن أضحك، حتى لا تحط من قدري بسبب براءتي المتزمتة.
كان الشيء الآخر الذي فعلته، لتحافظ على الحيوية هو أن تحكي عن حياتها. حضرت من بلدة صغيرة ضائعة في شمال أونتاريو إلى تورونتو لتزور أختها الكبرى، ثم حصلت على وظيفة في إيتون؛ عاملة نظافة في الكافيتريا، ثم بعد أن لفتت انتباه أحد المديرين؛ لأنها سريعة في أداء عملها ومبتهجة دائما، وجدت نفسها فجأة بائعة في قسم القفازات (أعتقد أنها جعلت هذا يبدو كما لو أن شركة وارنر برذرز هي التي اكتشفتها ). وفي يوم من الأيام جاءت باربرا آن سكوت، نجمة التزحلق على الجليد، التي اشترت زوجين من القفازات الطويلة البيضاء للأطفال.
في تلك الأثناء، كان لدى أختها العديد من العشاق حتى إنها كانت ترمي قطعة نقدية في الهواء لتحدد بها من الذي سوف تخرج معه كل ليلة تقريبا، ووظفت روكسان لتقابل المرفوضين بتعبيرات أسف عند الباب الأمامي لمنزلهما المشترك، بينما تتسلل هي ومن وقع عليه اختيارها من الخلف. قالت روكسان إنها ربما اكتسبت ميزة الثرثرة بهذه الطريقة. وسريعا ما بدأ بعض من الأولاد الذين قابلتهم بهذه الطريقة يطلبون الخروج معها بدلا من أختها؛ إذ لم يعرفوا سنها الحقيقي.
قالت: «اقتنصت فرصتي.»
بدأت أفهم أن هناك متكلمين معينين - بنات معينات - يحب الناس أن يستمعوا إليهن، ليس بسبب ما يقلنه، بل للبهجة التي يضفينها على ما يقلنه. بهجة في داخلهن، إشراق على وجوههن، اقتناع بأن كل ما يحكينه رائع، وأنهن ذاتهن لا يسعهن إلا إمتاع الآخرين. ربما كان هناك أناس آخرون - مثلي - لا يقرون بهذا، لكنهم هم الخاسرون. وأناس مثلي لن يكونوا أبدا الجمهور الذي تسعى وراءه تلك الفتيات على كل حال.
اعتدل السيد كروزير مستندا إلى وسائده، ونظر من كل النواحي كما لو كان سعيدا، سعيدا فقط بأن يغلق عينيه ويدعها تتكلم، ثم يفتح عينيه فيجدها أمامه، مثل أرنب الشوكولاتة في صباح عيد الفصح، وحينئذ - بعينين مفتوحتين - يتابع كل حركة من حركات شفتيها الجميلتين واهتزازات مؤخرتها البارزة.
تتأرجح السيدة كروزير العجوز إلى الأمام والخلف قليلا في حالة رضا غريبة.
كان الوقت الذي تقضيه روكسان في الدور العلوي يساوي الوقت الذي تقضيه في الدور السفلي في جلسة التدليك. تساءلت إن كانت تتقاضى أجرا أم لا. لو أنها لا تتلقى أجرا، فكيف تستطيع إنفاق هذا الوقت بلا مقابل؟ ومن ذا الذي يدفع لها إلا السيدة كروزير العجوز؟
ولماذا؟
لكي يظل ابن زوجها سعيدا ومرتاحا؟ أشك في هذا.
لكي تسلي نفسها بطريقة غريبة؟ •••
في ظهيرة أحد الأيام، حين تركت روكسان غرفته، قال السيد كروزير إنه يشعر بعطش أكثر من المعتاد. نزلت لكي أحضر له بعض الماء من الدورق الموضوع في الثلاجة دائما. كانت روكسان تستعد للرحيل.
قالت لي: «لم أنو قط البقاء إلى هذا الوقت المتأخر، ما كنت لأرغب في مقابلة تلك المعلمة.»
للحظة لم أفهم ما تقوله. - «تعرفين ما أقصده، سيلفيا، هي أيضا لا تحبني، أليس كذلك؟ هل تحدثت عني في أي مرة وهي توصلك؟»
قلت إن سيلفيا لم تذكر اسم روكسان قط لي أثناء أي مرة من مرات توصيلي، لكن لماذا؟
قالت: «تقول دورثي إنها لا تعرف كيف تتعامل معه. تقول إني أسعده أكثر منها. تقول دورثي هذا. لن أندهش لو أنها قالت لها هذا في وجهها.»
فكرت كيف تجري سيلفيا إلى غرفة زوجها كل ظهيرة حين تعود إلى المنزل، قبل حتى أن تتحدث إلي أو إلى حماتها، وجهها مشتعل بالشوق واليأس. أردت أن أقول شيئا عن هذا؛ أردت أن أدافع عنها، لكني لم أعرف كيف. الناس الذين يتمتعون بقدر المهارة الذي تتمتع به روكسان يستطيعون في الغالب الحصول على كل المعلومات التي يحتاجونها مني، حتى ولو بعدم الإصغاء إلي. - «متأكدة أنها لم تقل أي شيء عني؟»
قلت لها مرة ثانية إنها لم تذكر اسمها: «تكون مرهقة حين تصل البيت.» - «نعم، الجميع يشعرون بالتعب. البعض يتعلم أن يتظاهر بالعكس فحسب.»
قلت شيئا حينئذ لمعارضتها: «إنها تروق لي تماما.»
سخرت روكسان قائلة: «تروق لك تماما؟»
سخرت بعبث وحدة من تسريحة ضفائر مجدولة فعلتها بنفسي مؤخرا.
قالت: «عليك أن تمشطي شعرك على نحو لائق.» •••
لو أن روكسان تسعى وراء الإعجاب، وتلك هي طبيعتها، فما الذي تريده دورثي؟ انتابني شعور بأن هناك لعبة ما، لكني لم أستطع تحديدها. ربما ترغب فقط في أن تكون روكسان في المنزل. حيويتها في المنزل، لوقت مضاعف.
مر منتصف الصيف. كانت المياه منخفضة في الآبار. توقفت عربة الرش عن الحضور، ووضعت بعض المتاجر صفحات من ورق يشبه السوليفان الأصفر على نوافذها لتحمي بضائعها من الذبول. كانت أوراق الشجر مبقعة والعشب جافا .
ظلت السيدة كروزير العجوز حريصة على مجيء البستاني ليحرث حديقتها، يوما بعد يوم. ذلك ما تفعله في الجو الجاف، تحرث وتحرث لكي تخرج أي رطوبة يمكن أن تجدها تحت الأرض.
تنتهي المدرسة الصيفية في الكلية بعد الأسبوع الثاني من أغسطس، ومن ثم سوف تصبح سيلفيا في البيت كل يوم.
لا يزال السيد كروزير سعيدا برؤية روكسان، لكنه ينام غالبا. يمكن أن ينام دون أن يسقط رأسه، أثناء سرد واحدة من نكاتها أو دعاباتها، ثم يستيقظ بعد لحظة ويسأل أين هو. - «هنا، أيها الأبله النعسان، من المفترض أن تنتبه لي، يجب أن أضربك، أو ما رأيك في أن أدغدغك؟»
كان بوسع الجميع أن يرى أنه ينهار. كانت وجنتاه مجوفتين كرجل طاعن في السن، وشعاع الخفيف يشع فوق أعلى أذنيه كما لو كانتا من البلاستيك وليستا لحما (مع أننا لم نكن نقول «بلاستيك» حينها، بل «سيلولويد»). •••
كان اليوم الأخير من عملي هنا وآخر يوم لسيلفيا في التدريس، أحد أيام التدليك. اضطرت سيلفيا أن تغادر المنزل مبكرا متجهة إلى الجامعة؛ بسبب احتفالية ما، فقطعت البلدة مشيا، وحين وصلت كانت روكسان موجودة بالفعل، وكانت السيدة كروزير العجوز في المطبخ أيضا، ونظرتا إلي كما لو أنهما نسيتا أني قادمة؛ كما لو أني قاطعتهما.
قالت السيدة كروزير العجوز: «أرسلت في طلبها بوجه خاص.»
لا بد أنها كانت تقصد حلوى المعكرون التي كانت في العلبة على المائدة.
قالت روكسان: «نعم، لكني قلت لك لا أستطيع أن آكل هذه الأشياء، مستحيل تماما.»
قالت دورثي: «أرسلت هارفي إلى المخبز ليحضرها.»
كان هارفي هو اسم جارنا، البستاني.
أجابت روكسان: «حسنا، ليأكلها هارفي. لست أمزح؛ أصاب بطفح جلدي فظيع من نوع ما.»
قالت السيدة كروزير العجوز: «ظننت أنه يمكننا تناول وجبة ممتعة، شيء مميز، بما أنه اليوم الأخير قبل ...»
قاطعتها روكسان: «اليوم الأخير قبل أن تستقر هنا للأبد. نعم، أعلم هذا، لكن لن يفيدني أبدا أن تبدو بشرتي مثل ضبع أرقط.»
من التي ستستقر هنا للأبد؟
سيلفيا.
كانت السيدة كروزير ترتدي إزارا حريريا أسود جميلا منقوشا بالسوسن والإوز. قالت: «ليست هناك فرصة لتناول أي شيء مميز في وجودها، سوف ترين.»
قالت روكسان: «لنبدأ إذن ونحظى ببعض الوقت اليوم، لا تبالي بتلك الحلوى، ليس هذا خطأك. أعلم أنك كنت ترغبين في شيء جميل.»
قلدتها السيدة كروزير العجوز بلهجة وضيعة قائلة: «أعلم أنك كنت ترغبين في شيء جميل.» ثم نظرتا إلي، وقالت روكسان: «الدورق حيث هو دائما.»
أخذت دورق السيدة كروزير من الثلاجة. خطر ببالي أنهما قد تعرضان علي قطعة من حلوى المعكرون المرصوصة في العلبة، لكن يبدو أنه لم يخطر ببالهما شيء كهذا. •••
توقعت أن أجده مستلقيا على وسائده بعينين مغلقتين، لكنه كان مستيقظا تماما.
قال: «كنت أنتظر.» ثم أخذ نفسا وأردف: «حضورك. أريد أن أطلب منك ... شيئا تفعلينه من أجلي. هل يمكنك أن تفعلي شيئا من أجلي؟»
قلت له إني سأفعل بالتأكيد.
سألني: «هل ستحتفظين به سرا؟»
كنت أشعر بالفعل مسبقا أنه سيطلب مني أن أسنده إلى الخزانة الصغيرة التي ظهرت في غرفته مؤخرا، لكن هذا ما كان ليكون سرا بالتأكيد.
قلت: «نعم.»
طلب مني أن أذهب إلى الغرفة المقابلة لغرفته، وأفتح الدرج الصغير الأيسر وأرى إن كان به مفتاح.
فعلت هذا، ووجدت مفتاحا ضخما ثقيلا قديم الطراز.
طلب مني أن أخرج من هذه الغرفة وأغلق الباب وأقفله بالمفتاح، ثم أخبئ المفتاح في مكان آمن؛ ربما في جيب بنطالي القصير.
كان من المفترض ألا أخبر أحدا بما فعلت.
لا يجب أن يعرف أحد أن المفتاح معي حتى تعود زوجته إلى المنزل؛ وحينئذ علي أن أعطيها إياه. وسألني: «هل فهمت؟»
قلت: «لا بأس.»
شكرني.
قلت: «حسنا.»
كان يكسو وجهه طبقة خفيفة من العرق وتلمع عيناه كما لو أنه يعاني من الحمى طوال الوقت الذي كان يكلمني به.
لقد قال لي: «لا يدخل أحد إلى هنا.»
وكررت لنفسي: «لن يدخل أحد.»
ثم تذكرت قوله: «لا زوجة أبي ولا ... روكسان، وحدها زوجتي يمكن أن تدخل.»
أغلقت الباب من الخارج بالمفتاح ووضعته في جيب بنطالي القصير. لكن حينئذ خفت أن يظهر عبر القماش القطني الخفيف؛ لذا نزلت إلى الطابق السفلي واتجهت إلى غرفة المعيشة الخلفية وخبأته بين صفحات كتاب «أعدك بالزواج». أعرف أن روكسان والسيدة كروزير العجوز لن تسمعاني لأنهما منهمكتان في جلسة التدليك، وكانت روكسان تستخدم نبرة صوتها المهنية. - «سوف أعاني الأمرين قبل أن أتمكن من بسط هذه التشنجات اليوم.»
وسمعت صوت السيدة كروزير العجوز مفعما بنبرة انزعاج غير معتادة. - «... تضربين بقوة أكبر من المعتاد.» - «مضطرة لذلك.»
كنت أصعد السلم حين خطرت لي أفكار إضافية.
لو أنه هو وليس أنا من أغلق الباب بالمفتاح، وهو ما أراد أن يعتقده الآخرون، وكنت أنا جالسة على الدرجة العليا كالمعتاد، فبالتأكيد كنت سوف أسمعه وأنادي عليهما وأنبههما. لذا نزلت وجلست على الدرجة الأولى من السلم الأمامي؛ مكان لا يمكن أن أسمع منه أي شيء.
بدا التدليك اليوم سريعا وجادا؛ فلم تمزحا أو تتبادلا النكات. وسرعان ما سمعت صوت روكسان تصعد السلم الخلفي راكضة.
توقفت ثم قالت: «أهلا، بروس.»
بروس.
هزت مقبض الباب. - «بروس.»
ثم لا بد أنها قربت فمها من ثقب الباب؛ أملا في أن يستطيع أن يسمعها دون أن يسمعها سواه. لم أستطع تبين ما كانت تقوله تماما، لكني أدركت أنها كانت تتوسل. تعاكسه أولا، ثم تتوسل. لوهلة بدا وكأنها تصلي.
عندما يئست من هذا بدأت تدق على الباب بقبضتيها، بإلحاح وليس بقوة.
كفت عن هذا أيضا بعد برهة.
قالت بصوت أكثر صرامة: «هيا، لو أنك وصلت للباب لتغلقه تستطيع أن تصله لتفتحه.»
لم يحدث شيء. جاءت ونظرت من فوق الدرابزين ورأتني. - «هل أحضرت مياه السيد كروزير إليه في غرفته؟»
أجبتها أن نعم. - «إذن لم يكن بابه مغلقا؟»
أجبتها أن نعم. - «هل قال لك أي شيء؟» - «قال شكرا فحسب.» - «حسنا، لقد أغلق بابه ولا أستطيع أن أجعله يجيبني.»
سمعت عكاز السيدة كروزير العجوز يدق صعودا إلى أعلى السلم الخلفي.
سألت: «ما هذه الضجة؟»
أجابت روكسان: «أغلق الباب على نفسه ولا أستطيع إقناعه بأن يجيبني.» - «ماذا تعنين بأنه أغلق على نفسه الباب؟ الباب عالق على الأرجح. تصفعه الريح ويعلق.»
لم تكن هناك رياح في ذلك اليوم.
قالت روكسان: «حاولي بنفسك، إنه مغلق.»
قالت السيدة كروزير: «لم أعلم أن هناك مفتاحا لهذا الباب.» كما لو أن عدم علمها ينفي الحقيقة. ثم، بلا مبالاة، حاولت أن تفتح المقبض، وقالت: «حسنا. يبدو أنه مغلق فعلا.»
فكرت في نفسي أنه اعتمد على هذا؛ أنهما لن تشكا بي، معتقدتين أنه هو من فعل هذا، وتلك هي الحقيقة في واقع الأمر.
قالت روكسان: «يجب أن ندخل.» وركلت الباب بقدمها.
قالت السيدة كروزير العجوز: «كفي عن هذا، هل تريدين تحطيم الباب؟ لن تستطيعي على كل حال؛ إنه من خشب البلوط؛ كل باب في هذا المنزل من البلوط الصلب.»
ردت روكسان: «إذن علينا أن نتصل بالشرطة.»
خيم الصمت لبرهة.
قالت روكسان: «يمكنهم أن يصعدوا إلى النافذة.»
حبست السيدة كروزير العجوز أنفاسها وتكلمت بحسم. - «أنت لا تعي ما تقولين. لن تأتي الشرطة إلى هذا المنزل. لن أسمح لهم بتسلق جدران المنزل كالديدان.» - «إننا لا نعرف ما الذي يفعله بالداخل.» - «حسنا، هذا شأنه، أليس كذلك؟»
خيم الصمت مرة أخرى.
ثم علا صوت؛ خطوات روكسان؛ تتراجع إلى السلم الخلفي.
قالت السيدة كروزير: «نعم، هذا أفضل. من الأفضل أن تنصرفي قبل أن تنسي بيت من هذا.»
كانت روكسان تهبط السلم. وعلا صوت بضع ضربات من عصا السيدة كروزير من ورائها، لكنها لم تتبعها على السلم.
أضافت السيدة كروزير: «ولا تفكري في الذهاب إلى رئيس الشرطة من وراء ظهري، فلن يتلقى أوامره منك. من يصدر الأوامر هنا على أي حال؟ بالتأكيد لست أنت، أتسمعين؟»
سرعان ما سمعت صوت باب المطبخ يغلق بعنف، ثم صوت محرك سيارة روكسان.
لم أكن قلقة من مجيء الشرطة بقدر قلق السيدة كروزير العجوز. كانت الشرطة في بلدتنا تعني رئيس الشرطة ماكلارتي الذي حضر إلى المدرسة ليحذرنا من التزلج في الشوارع في الشتاء والاستحمام في قناة الطاحونة في الصيف، وقد ظللنا نفعل كلا الأمرين. كانت فكرة سخيفة أن تتصوره يتسلق سلما أو يلقي محاضرة على مسامع السيد كروزير عبر باب موصد.
سوف يقول لروكسان أن تهتم بأمورها وأن تدع آل كروزير يهتمون بأمورهم.
مع ذلك، لم تكن فكرة سخيفة أن أتصور أن السيدة كروزير تتصل بالشرطة، وقد ظننت أنها ستفعل هذا بالفعل الآن؛ إذ رحلت روكسان التي يبدو أنها فقدت إعجابها بها. لعلها تلتفت إلي وتسألني إن كنت ضالعة في هذا الأمر.
لكنها لم تهز حتى مقبض الباب. فقط وقفت أمام الباب الموصد وقالت شيئا واحدا.
همهمت: «أقوى مما قد تظن.»
ثم اتجهت إلى الطابق السفلي، مصدرة الضجة المعتادة بعكازها.
انتظرت قليلا ثم ذهبت إلى المطبخ. لم تكن السيدة كروزير العجوز هناك، ولم تكن في غرفة المعيشة أو في غرفة الطعام أو في الغرفة المشمسة. توترت وطرقت باب الحمام، ثم فتحته، ولم تكن فيه كذلك. ثم نظرت من نافذة المطبخ التي تعلو الحوض ورأيت قبعتها المصنوعة من القش تتحرك بثبات فوق حاجز الأرز. كانت في الحديقة في الحر، تمشي بتثاقل بين أحواض زهورها.
لم تقلقني الفكرة التي أثارت اضطراب روكسان. لم أتوقف للتفكير بها؛ لأني اعتقدت أنه من السخف تماما أن ينتحر إنسان لم يتبق له وقت طويل في الدنيا. لا يمكن أن يحدث هذا.
مع ذلك، كنت متوترة. أكلت قطعتين من حلوى المعكرون التي كانت لا تزال على مائدة المطبخ. أكلتهما أملا في أن ترجع لذتهما حالتي الطبيعية، لكن لم أجد لهما مذاقا في فمي، ثم دفعت العلبة في الثلاجة حتى لا ألجأ إلى تناول المزيد أملا في تحقيق النتيجة المرجوة. •••
كانت السيدة كروزير لا تزال في الخارج حين وصلت سيلفيا إلى المنزل، ولم تدخل حينها.
أخرجت المفتاح من بين صفحات الكتاب ما إن سمعت صوت السيارة، وأعطيته سيلفيا ما إن دخلت المنزل. قلت لها سريعا ما حدث، متغاضية عن معظم الهرج والمرج، وما كانت لتنتظر سماع التفاصيل على أية حال؛ إذ صعدت السلم ركضا.
وقفت عند أول السلالم لأسمع ما يمكنني سماعه.
لا شيء ، لا شيء.
ثم صوت سيلفيا، مندهشا ومنزعجا، لكن ليس يائسا على الإطلاق، ومنخفضا جدا بحيث لم أفهم ما كانت تقوله. خلال خمس دقائق كانت تهبط السلم قائلة إن الوقت قد حان لتوصلني إلى المنزل. كان وجهها أحمر كما لو أن البقع على وجنتيها انتشرت على وجهها كله، وبدت مصدومة لكنها غير قادرة على أن تقاوم سعادتها.
ثم قالت: «أوه، أين الأم كروزير؟» - «أعتقد أنها في حديقة الزهور.» - «حسنا، أعتقد أنه من الأفضل أن أتحدث إليها، لدقيقة فحسب.»
وبعد أن تحدثت إلى السيدة كروزير، لم تعد أمارات السعادة تبدو عليها.
قالت - وهي تعود بالسيارة إلى الخلف: «أظن أنك تعلمين. أعتقد أنك تدركين مدى انزعاج الأم كروزير. هذا لا يعني أني ألومك. كان فعلا جيدا منك ومخلصا أن تفعلي ما طلبه منك السيد كروزير. ألم تخشي وقوع أي مكروه؟ للسيد كروزير؟ هل كنت خائفة؟»
أجبتها أن لا.
ثم أردفت: «أعتقد أن روكسان كانت خائفة.» - «السيدة هوي؟ نعم، هذا سيئ جدا.»
وبينما كنا نسير فيما يعرف بتل كروزير، قالت: «أعتقد أنه لم يرد أن يكون سافلا ويخيفهما. حين يمرض الإنسان لفترة طويلة، يمكن أن يصل به الحال إلى عدم تقدير مشاعر الآخرين. يمكن أن ينقلب على الناس حتى حين يكونون طيبين ويفعلون ما باستطاعتهم ليساعدوه. كانت السيدة كروزير والسيدة هوي تحاولان أقصى جهدهما بالتأكيد، لكن كل ما في الأمر أن السيد كروزير شعر أنه لا يرغب في وجودهما بالقرب منه بعد الآن. اكتفى منهما، أتفهمين؟»
يبدو أنها لم تدرك أنها كانت تبتسم حين قالت هذا.
السيدة هوي.
هل سمعت هذا الاسم من قبل؟
قالته بلطف واحترام، لكن بقدر هائل من التنازل المتعالي.
هل صدقت أنا ما قالته سيلفيا؟
أعتقد أن هذا ما قاله لها. •••
رأيت روكسان مرة ثانية ذلك اليوم، رأيتها في اللحظة نفسها التي كانت سيلفيا تحدثني فيها وتعرفني على الاسم الجديد؛ السيدة هوي.
كانت روكسان في سيارتها وتوقفت عند التقاطع الأول أسفل تل كروزير في انتظار مرورنا. لم ألتفت لأنظر إليها لأن هذا كان سيربكني جدا أثناء الحديث مع سيلفيا. •••
بالطبع ما كانت سيلفيا لتعرف سيارة من هذه. لم تكن لتعرف أن روكسان لا بد أنها عادت لتفهم ماذا كان يحدث، أو لعلها ظلت تقود سيارتها في أنحاء الحي؛ أيعقل أن يكون هذا ما فعلته حقا؟ طول الوقت منذ أن غادرت بيت آل كروزير.
وكانت روكسان تستطيع التعرف على سيارة سيلفيا على الأرجح. وكانت ستراني فيها، وكانت ستعرف أن الأمور على ما يرام من خلال ابتسامة سيلفيا اللطيفة الطيبة والجادة أثناء حديثها معي.
لم تنعطف وتقد سيارتها إلى التل حيث بيت آل كروزير. أوه! لا. لقد قادت سيارتها عبر الشارع؛ رأيتها في المرآة الجانبية؛ نحو الجانب الشرقي من البلدة حيث المنازل التي بنيت في فترة ما بعد الحرب. كان بيتها هناك.
قالت سيلفيا: «هل تشعرين بالنسيم، تلك السحب ستمطرنا على الأرجح.»
كانت السحب عالية وبيضاء، وساطعة بهية؛ لم يبد أنها تحمل مطرا؛ وكان النسيم يهب لأننا في سيارة متحركة بنوافذ مفتوحة. •••
أدركت تماما لعبة المكسب والخسارة التي دارت بين سيلفيا وروكسان، لكن كان من الغريب أن أفكر في الجائزة شبه الفانية - السيد كروزير - وأن أفكر أنه كان يمتلك القدرة على اتخاذ قرار بأن يحرم نفسه في أواخر حياته. الشهوة على أبواب الموت - أو الحب الحقيقي - إنها مسائل يجب أن أنفضها عني بينما تسري القشعريرة مرات في عمودي الفقري. •••
نقلت سيلفيا السيد كروزير بعيدا إلى كوخ مستأجر على البحيرة؛ حيث مات قبل سقوط أوراق الشجر.
رحلت عائلة هوي من البلدة، كعادة عائلات الميكانيكية.
صارعت أمي مرضا أقعدها؛ وهو ما وضع حدا لكل أحلامها في تكوين ثروة.
أصاب دورثي كروزير جلطة في المخ، لكنها تعافت منها، وأصبحت مشهورة ببيع حلوى الهالوين للأطفال الذين كانت تنهر إخوانهم وأخواتهم الأكبر عن الوقوف على بابها.
أما أنا فقد نضجت وكبرت.
لعب أطفال
أظن أنه دار حديث في منزلنا عما حدث، بعد ذلك.
قالت أمي: «كم هذا محزن! كم هو بشع!»
وقال أبي: «كان يجب أن يكون هناك إشراف. أين كانت المرشدات؟» •••
وكلما مررنا أمام البيت الأصفر، تقول أمي: «تذكرين؟ هل تذكرين كم كنت تخافين منها؟ المسكينة.»
لدى أمي عادة التعلق بطرائف طفولتي البعيدة بل والاعتزاز بها. •••
حين تكون طفلا تصبح شخصا مختلفا مع كل عام يمر عليك. يحدث هذا في الخريف عادة، حين ترجع المدرسة من جديد، وتحتل مكانا في صف دراسي أعلى، وتترك وراءك كسل وفوضى الإجازة الصيفية، فحينئذ تلاحظ التغير أكثر ما تلاحظ. بعد ذلك، لا تكون متأكدا من الشهر أو العام لكن التغيرات تستمر على المنوال نفسه. وعبر زمن طويل يتساقط ماضيك بعيدا عنك بسهولة وبتلقائية، كما ينبغي. لا تختفي مشاهده بقدر ما تنقطع صلتك بها، ثم فجأة، تقابل طريقا متعرجا يرجعك إلى ما انتهى وكاد يطويه النسيان؛ ليطل برأسه من جديد مطالبا بانتباهك، بل وبأن تفعل شيئا ما بصدده، مع أنه من الواضح أن فعل أي شيء قد أصبح مستحيلا. •••
مارلين وشارلين. اعتقد الناس أننا توءمان. سادت في تلك الأيام موضة تسمية التوءمين بأسماء مسجوعة. بوني وكوني. رونالد ودونالد. وبالطبع كان لدينا - شارلين وأنا - قبعات متماثلة. قبعات الخادمات، هكذا كانت تسمى؛ وهي عبارة عن أقماع عريضة مسطحة من القش المغزول ترتدى عبر نوع من الرباط أو المطاط يثبت تحت الذقن. وقد أصبحت مألوفة فيما بعد في ذلك القرن، من المشاهد التليفزيونية عن الحرب في فيتنام. يلبسها رجال يسوقون دراجات في شارع من شوارع سايجون، أو نساء يمشين في طريق خلفيته قرية مقصوفة بالقنابل.
كان ممكنا في ذلك الوقت؛ أعني حين كنت أنا وشارلين في المعسكر، أن نقول خادمة دون أن نعتبرها إهانة على الإطلاق؛ أو نستخدم كلمة زنجي، أو نتحدث عن المساومة في الثمن على الطريقة اليهودية. أعتقد أني لم أربط تلك الكلمات بدلالاتها المهينة إلا في مراهقتي.
وهكذا كنا نحمل تلك الأسماء ونلبس تلك القبعات، ومع أول نداء على الأسماء في المعسكر أشارت إلينا المرشدة - مافيس الظريفة التي أحببناها، مع أننا لم نحبها بقدر الجميلة بولين - ونادت: «التوءمان». ومضت تنادي على الأسماء الأخرى قبل أن يتسع لنا الوقت لننكر هذا.
وحتى قبل هذا، فلا بد أننا لاحظنا القبعات وتقبل بعضنا البعض. وإلا كنا خلعنا تلك القبعات الجديدة، ودفعناها دون تردد تحت سرير الكابينة، معلنين أن والدتينا أجبرتانا على ارتدائها، وأننا نكرهها، إلى آخره.
ربما تقبلت شارلين؛ لكني لم أعرف كيف أصاحبها. إن البنات في التاسعة أو العاشرة - كان هذا نطاق العمر العام لهذه المجموعة مع أنه كان هناك من هن أكبر عمرا قليلا - لا يخترن أصدقاء أو يتصادقن بنفس سهولة بنات السادسة أو السابعة. كنت قد اتبعت ببساطة عند دخولي المعسكر بعض الفتيات من بلدتي - لم يكن أي منهن صديقة مقربة لي - إلى واحدة من تلك الكبائن التي بها بعض الأسرة التي لم تزل شاغرة؛ حيث أفرغت أغراضي على البطانية البنية، عندها سمعت صوتا خلفي يقول: «هل يمكن أن آخذ السرير المجاور لأختي التوءم؟»
لقد كانت شارلين تتحدث إلى فتاة ما لا أعرفها. تضم كابينة النوم دستتين من الفتيات. قالت الفتاة التي كانت تتحدث إليها «بالتأكيد.» وابتعدت.
استخدمت شارلين نبرة خاصة، متملقة، ممازحة، ساخرة من نفسها، يشوبها مرح جذاب، تشبه رنين الأجراس. كان واضحا جدا أنها تتمتع بثقة بنفسها أكبر مني. وهي ليست ببساطة ثقة في أن الفتاة الأخرى سوف تبتعد ولن تقول بصلابة: «قد جئت هنا أولا.» (أو ربما تقول - لو أنها ربيت تربية فظة والبعض كن كذلك؛ إذ دفع لهن ثمن الإقامة في المعسكر نادي ليونز أو الكنيسة وليس عائلتهن: «اغربي عن وجهي؛ لن أتحرك من هنا») لا، كان لدى شارلين ثقة في أن أي شخص سيرغب في أن ينفذ طلباتها، لا أن يوافق فحسب على تنفيذها. وقد خاطرت معي كذلك، ألم يكن باستطاعتي أن أقول: «لا أريد أن أكون توءمك» ثم أعود لترتيب أغراضي. لكني لم أفعل هذا بالطبع. لقد شعرت بالزهو، كما توقعت هي، وراقبتها تفرغ محتويات حقيبتها بسيماء احتفالي حتى إن بعض الأشياء وقعت على الأرض.
كل ما استطعت قوله لها هو: «لقد اكتسبت سمرة بالفعل .»
فردت قائلة: «دائما ما أكتسب السمرة بسهولة.»
كان ذلك أول الاختلافات بيننا. وقد بدأنا نبذل جهدا لتعلمها. هي تكتسب بشرتها سمرة بينما يمتلئ وجهي بالنمش. شعرنا بني لكن شعرها أكثر دكنة. شعرها مموج؛ شعري كثيف. كنت أطول بنصف بوصة، وكان لديها رسغان وكاحلان أعرض. عيناها تميلان إلى اللون الأخضر بينما تميل عيناي إلى الأزرق. لم نمل من التفتيش والتصنيف فلم نترك حتى الشامات والنمش على ظهرينا، وطول إصبع السبابة في قدمينا (كان إصبع السبابة لدي أطول من الإبهام، بينما كانت سبابتها هي أقصر)، أو سرد قائمة الأمراض والحوادث التي أصابتنا حتى الآن، إلى جانب الإصلاحات والإزالات التي جرت على جسدينا. كل منا استئصلت لوزتاها - وهو إجراء احتياطي عادي في تلك الأيام - وكل منا أصيبت بالحصباء والسعال الديكي لكن لم نصب بالنكاف. خلعت سنة من أسناني لأنها كانت تنمو فوق أسناني الأخرى، وكان ظفر إبهامها على شكل نصف قمر ناقص لأن نافذة أغلقت عليه.
وما إن عرفنا دقائق جسدينا وتاريخيهما حتى انتقلنا إلى قصص عائلتينا؛ المآسي أو ما يشبه المآسي أو الاختلافات لدى كل عائلة. كانت الابنة الصغرى والفتاة الوحيدة لعائلتها وكنت أنا طفلة وحيدة. كان لدي عمة ماتت بشلل الأطفال أثناء دراستها في المدرسة الثانوية، وكان لدى شارلين أخ أكبر في البحرية. ولأننا كنا في وقت الحرب، كنا نختار في نشاط الغناء حول نار المعسكر أغاني «ستظل إنجلترا باقية» و«قلوب البلوط» و«فلتحكم بريطانيا» وفي بعض الأحيان «تحيا أوراق القيقب إلى الأبد». كانت الغارات الجوية والمعارك والسفن الغارقة هي الخلفية الدائمة، وإن كانت البعيدة، لحيواتنا. وأحيانا تقتحم تلك الخلفية حياتنا على نحو مخيف لكن مهيب ومثير، كأن يقتل شاب من بلدتنا أو من شارعنا في الحرب، ويكتسب البيت الذي كان يعيش فيه وزنا خاصا داخله، حتى دون أن يضع إكليلا أو ستائر سوداء؛ كأنه قد حقق قدرا كتب عليه وبدأ يسحبه إلى أسفل، رغم أنه لا يحمل خصوصية ما داخله على الإطلاق، ربما تقف سيارة لا تخص ساكنيه بموازاة الرصيف أمامه، ما يدل على أن بعض الأقارب أو قسا ما جاءوا ليجلسوا مع العائلة المنكوبة.
واحدة من مرشدات المعسكر فقدت خطيبها في الحرب وكانت ترتدي ساعته، كنا نعتقد أنها ساعته، مثبتة بدبوس إلى قميصها. كنا نود أن نحزن من أجلها ونهتم بها، لكنها كانت حادة الصوت ومتسلطة بل وتحمل اسما كريها: أرفا.
كانت الخلفية الأخرى لحيواتنا التي من المفترض التوكيد عليها في المعسكر هي الدين. لكن بما أن الكنائس الكندية المتحدة كانت مسئولة رسميا عن المعسكر فلم يكن هناك إلحاح كبير على هذا الموضوع كما كان المعمدانيون أو الإنجيليون سيفعلون، أو تعبير رسمي كبير عنه كما كان الكاثوليكيون أو حتى الإنجليكانيون سيفعلون. كانت الغالبية من آبائنا ينتمون إلى الكنيسة المتحدة (على الرغم من أن بعض البنات اللواتي دفعت تكلفة المعسكر لهن ربما لم ينتمين إلى أية كنيسة على الإطلاق)، وقد تعودنا على أسلوبها العلماني الودود، حتى إننا لم نكن ندرك أننا كنا نتقبل بسهولة صلوات المساء وأدعية الشكر قبل الوجبات والحديث الخاص الذي يستغرق نصف ساعة، كان يسمى دردشة، بعد الإفطار. حتى «الدردشة» نفسها كانت خالية نسبيا من الإشارات إلى الله أو المسيح، وكانت تدور أكثر عن الصدق والطيبة والمحبة والأفكار الفاضلة في حيواتنا اليومية، والتعهد بعدم شرب الخمر أو التدخين أبدا حين نكبر. لم يعترض أحد منا على هذا الكلام أو حاول أن يهرب من الحضور؛ لأن هذا ما تعودنا عليه؛ ولأنه كان ممتعا أن نجلس على المقعد الطويل أمام الشاطئ في الشمس الدافئة بينما لايزال الجو باردا على القفز في المياه.
تفعل النساء الناضجات الأشياء نفسها التي فعلتها شارلين وأنا. ربما لا يحصين عدد الشامات على ظهر كل واحدة منهن ولا يقارن طول أصابع القدم، لكن حين يتقابلن ويشعرن بتعاطف خاص فيما بينهن، يشعرن كذلك بالحاجة إلى تبادل المعلومات الهامة؛ الأحداث الكبرى سواء العلنية أو السرية، ثم المضي في ملء الفجوات بينها. لو شعرن بهذا الدفء والتوق، فمن المستحيل تقريبا أن تمل إحداهما الأخرى. سوف يضحكن على تفاهة ما يحكينه وسخفه، أو عند الكشف عن أنانية مروعة أو خداع أو دناءة أو شر خالص.
لا بد أن توجد ثقة عظيمة بينهما بالطبع، لكن تلك الثقة يمكن أن تترسخ فورا في لحظة واحدة.
كنت قد لاحظت هذه الظاهرة. من المفترض أنها قد بدأت في تلك الفترات الطويلة التي جلس النساء أثناءها حول نار المخيم يقلبن عصيدة من جذور الكاسافا أو أية أكلة أخرى بينما يكون الرجال في الأحراش محرومين من الحديث لأنه سوف يبعد الحيوانات البرية (أنا متخصصة في علم الإنسان).
لاحظت ... لكني لم أشارك قط في هذه العلاقات الأنثوية. ليس فعليا. تظاهرت أحيانا بهذا لأنه بدا مطلوبا، لكن النساء اللاتي كان من المفترض أن أصادقهن كن دوما ما يدركن تظاهري بذلك فيرتبكن ويصبحن حذرات.
بوجه عام شعرت بتحفظ أقل مع الرجال؛ فهم لا يتوقعون هذه التفاعلات، ونادرا ما يهتمون بها حقا.
هذه الحميمية التي أتحدث عنها - مع النساء - ليست ذات طابع شهواني أو ما قبل شهواني؛ تلك ظاهرة أخرى خبرتها أيضا، قبل البلوغ. في هذه الحالة أيضا توجد ثقة بين الطرفين وأكاذيب، على الأرجح ربما تؤدي إلى ألعاب. هي حالة من الإثارة المؤقتة، ربما تصحبها مداعبة للأعضاء التناسلية وربما لا. يعقبها شعور سقيم، وإنكار واشمئزاز.
حكت لي شارلين عن أخيها، لكن بنفور حقيقي. الأخ المجند في البحرية الآن. كانت قد ذهبت إلى غرفته تبحث عن قطتها ورأته «يفعلها» مع حبيبته. لم يعرفا قط أنها رأتهما.
قالت: كانا يلتطمان بينما كان يصعد ويهبط.
قلت: تقصدين يلتطمان بالسرير.
قالت: لا، كانا يلتطمان حين كان عضوه يدخل ويخرج. كان شيئا مقرفا، مقززا.
وكانت مؤخرته البيضاء العارية مليئة بالبثور، مقززة.
أخبرتها عن فيرنا. •••
حتى بلوغي السابعة من عمري كان والداي يعيشان فيما يسمى منزلا مزدوجا. لم تكن كلمة «دوبلكس» شائعة في ذلك الوقت، وعلى كل لم يكن البيت مقسما قسمة متساوية. أجرت جدة فيرنا الغرف الخلفية وأجرنا نحن الغرف الأمامية. كان البيت طويلا وعاريا من الأثاث وقبيحا، ومدهونا بالأصفر. كانت البلدة التي عشنا بها أصغر من أن تحتوي على وحدات سكنية لائقة، لكني أعتقد فيما يخص الوحدات القائمة، كان ذلك المنزل يقع على الحدود الفاصلة بين اللائق والمتهالك. أتحدث ها هنا عن الوضع قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة، مع نهاية الكساد الكبير (أعتقد أن هذا المصطلح لم يكن معروفا لنا وقتها).
بما أن أبي كان مدرسا فقد كان لديه عمل منتظم لكن براتب ضئيل. كان الشارع يتلاشى خلفنا بين منازل هؤلاء الذين لم يكن لديهم أي عمل أو مال. لا بد أن جدة فيرنا كان لديها القليل من المال لأنها تكلمت باحتقار عن الناس الذين يعيشون على الإعانات الاجتماعية. أعتقد أن أمي تجادلت معها، دون أن تنجح في إقناعها، زاعمة أنهم غير مسئولين عن وضعهم. لم تكن المرآتان صديقتين على وجه الخصوص، لكنهما كانتا ودودتين فيما يتعلق بتنظيم استخدام حبل الغسيل.
كان اسم الجدة السيدة هوم. كان يأتي رجل ليزورها من وقت لآخر، وكانت أمي تتحدث عنه باعتباره صديق السيدة هوم. «لا يجب أن تتحدثي مع صديق السيدة هوم.»
في الحقيقة لم يكن مسموحا لي حتى باللعب في الخارج حين يأتي؛ لهذا لم تتوفر لي فرصة كبيرة للتحدث إليه. لا أتذكر حتى شكله، مع أني أتذكر سيارته، التي كانت زرقاء داكنة من طراز فورد في-8. كنت أهتم كثيرا بالسيارات، على الأرجح لأنه لم يكن لدينا سيارة.
ثم جاءت فيرنا.
تحدثت عنها السيدة هوم باعتبارها حفيدتها ولم يكن هناك مبرر لافتراض كذب زعمها، لكن لم توجد أية علامات على وجود ابن أو ابنة للسيدة هوم. لا أعرف إذا ما كانت السيدة هوم سافرت ثم عادت بها، أم أحضرها الصديق صاحب السيارة الفورد. ظهرت فيرنا في فصل الصيف السابق لالتحاقي الأول بالمدرسة. لا أتذكرها تخبرني باسمها؛ فهي لم تكن اجتماعية بالطريقة العادية، ولا أعتقد أني سألتها. منذ البداية شعرت بنفور تجاهها يفوق ما شعرت به تجاه أي شخص آخر حتى الآن. قلت إني أكرهها، وقالت أمي: «لماذا، ماذا فعلت لك؟» «يا للفتاة المسكينة !»
يستخدم الأطفال كلمة «كره» ليعبروا عن مشاعر متنوعة؛ فقد تعني أنهم خائفون. لا لأنهم يشعرون بالخطر من أن يهاجمهم أحد؛ كما شعرت، على سبيل المثال، تجاه بعض الصبية الكبار الذين كانوا يحبون قطع طريقي بدراجاتهم بينما أسير على الرصيف وهم يصيحون صيحات مخيفة. وليس الخوف من الأذى الجسدي هو ما شعرت بها حيال فيرنا بقدر ما كان خوفا من لعنة ما أو نية أذى. إنه شعور يمكن أن تحسه عندما تكون في سن صغيرة جدا تجاه واجهات منازل معينة أو تجاه بعض جذوع الأشجار، وقد يتعاظم هذا الخوف لاسيما حيال الأقبية الرطبة أو الدواليب العميقة.
كانت أطول مني بكثير، ولا أعرف بكم سنة تكبرني عمرا؛ سنتين، ثلاث سنوات؟ كانت نحيلة، وذات بنية ضئيلة جدا حقا ورأس صغير جدا ذكرني بالثعابين. يرتخي شعر أسود جميل على هذا الرأس وينسدل فوق جبينها. بدت بشرة وجهها لي بليدة مثل باب خيمتنا القديمة الخيشية، وكانت وجنتاها تنتفخان مثلما ينتفخ باب الخيمة مع هبوب الريح، كانت حولاء دائما.
لكن أعتقد أنه لم يكن بهيئتها شيء باعث على النفور في أعين الآخرين، وبالتأكيد وصفتها أمي بأنها جميلة، أو تقريبا جميلة (كقولها: «هي ليست قبيحة جدا، يمكن اعتبارها جميلة»). لا يشوب سلوكها ما يمكن الاعتراض عليه كذلك كما ترى أمي. و«هي صغيرة جدا بالنسبة لعمرها». وتلك عبارة ملتوية وقاصرة لقول إن فيرنا لم تتعلم القراءة أو الكتابة أو نط الحبل أو لعب الكرة، وإن صوتها أجش ونشاز، وكلماتها تخرج منفصلة انفصالا غريبا كما لو أنها قطع غليظة من اللغة عالقة في حلقها.
كان أسلوبها في التطفل علي وإفساد ألعابي الفردية أسلوب بنت أكبر سنا وليس أصغر. لكن بنت أكبر لا تتمتع بالمهارة اللازمة أو حق فعل هذا، ولا تتمتع سوى بتصميم عنيد وعجز عن فهم أنه غير مرحب بها.
بطبيعة الحال يكون الأطفال محافظين إلى أقصى درجة، وينفرون من كل ما هو مختل ومنفلت وخارج عن المعتاد. ولأني كنت طفلة وحيدة دللت دلالا كبيرا (ووبخت كذلك ). كنت خجولا وصعبة المراس، وأكبر من سني، وكان لدي الكثير من الطقوس الخاصة بي والكثير من الكراهية. كرهت حتى مشابك الشعر التي كانت تنزلق باستمرار من شعر فيرنا، وحلوى النعناع ذات الخطوط الحمراء أو الخضراء التي كانت تعرضها علي باستمرار. في الحقيقة كانت تفعل أكثر من عرضها علي، كانت تحاول أن تمسك بي وتدفع هذه الحلوى إلى فمي، وهي تضحك طول الوقت بطريقتها المتقطعة. أكره مذاق النعناع إلى اليوم، واسم فيرنا، أكرهه أيضا. بالنسبة لي لا يعبر الاسم عن الربيع أو العشب الأخضر أو أكاليل الورود أو البنات في فساتين هفهافة، قدر ما يعبر عن ممر من النعناع المتيبس والوحل الأخضر.
لا أعتقد أن أمي أحبت فيرنا حقا هي الأخرى. لكن بسبب بعض النفاق في طبيعتها، في رأيي، وبسبب قرار ما اتخذته - لإغاظتي على ما يبدو - تظاهرت أنها تشفق عليها. طلبت مني أن أكون طيبة معها. في البداية، قالت إن فيرنا لن تبقى طويلا، ومع نهاية إجازة الصيف سوف تعود إلي أينما كانت من قبل. ثم، حين أصبح واضحا أنه لا مكان آخر لدى فيرنا لتعود إليه، تحولت أمي إلى استرضائي بقول إننا أنفسنا سوف ننتقل قريبا إلى منزل آخر، وعلي أن أكون طيبة لوقت أطول قليلا فحسب (في الحقيقة لم ننتقل إلا بعد عام كامل). وأخيرا، بعدما نفد صبرها، قالت إني خيبت أملها، وأنها لم تعتقد قط أن طبيعتي دنيئة إلى هذا الحد. - «كيف تلومين شخصا على أنه ولد على هذا النحو؟ ما خطؤها؟»
لم يبد لي هذا منطقيا. لو كنت أكثر مهارة في الجدال لقلت إني لا ألوم فيرنا، أنا لا أريدها أن تقترب مني فحسب. لكني كنت قطعا ألوم فيرنا. لم يراودني شك في أن حالها هو خطؤها بطريقة أو بأخرى. وفي هذه المسألة بالذات، بغض النظر عن أي مما قد تقوله أمي، كنت متفقة بدرجة ما مع الحكم العام غير المفصح عنه لدى الناس في الزمن والمكان اللذين عشت بهما؛ فحتى الكبار كانوا يبتسمون بطريقة معينة ، وكانوا يبدون قدرا لا يمكن كبحه من الرضا عن الذات ومن الاستعلاء المقبول في طريقة تحدثهم عن الناس «البسيطة» أو «محدودة القدرات.» وكان بوسعي ملاحظة ذلك. وأعتقد أن أمي كانت حقا مثلهم في دخيلتها.
التحقت بالمدرسة، وكذلك فيرنا. وضعوها في صف خاص في مبنى خاص يقع في ركن من ساحة المدرسة. كان هذا المبنى هو مبنى المدرسة الأصلي، لكن أحدا لم يهتم بالتاريخ المحلي وقتها، وبعد بضع سنوات جرى هدمه. كان هناك ركن مسيج حيث يقضي طلاب ذلك المبنى فترة الاستراحة بين الحصص الدراسية. كانوا يذهبون إلى المدرسة بعدنا بنصف ساعة في الصباح ويخرجون قبلنا بنصف ساعة بعد الظهر. كان من المفروض ألا يتحرش بهم أحد في الاستراحة، لكن بما أنهم كانوا يتعلقون غالبا في السياج يراقبون ما يحدث في ساحة المدرسة العادية، كان بقية الطلاب أحيانا يندفعون ناحيتهم صائحين أو ملوحين بالعصي في محاولة لإخافتهم. لم أقترب قط من ذلك الركن، ولم أر فيرنا قط. لكن كان لزاما علي أن أتعامل معها في المنزل.
كانت في البداية تقف عند زاوية البيت الأصفر، تراقبني، وكنت أتظاهر أني لا ألاحظ وجودها. بعد ذلك كانت تتمشى إلى الحديقة الأمامية حيث تقف على سلالم مدخل الجزء الخاص بعائلتي من المنزل. لو أردت أن أدخل إلى البيت، لكي أدخل الحمام أو لأني كنت أشعر بالبرد، كان يجب علي أن أقترب منها حتى ألمسها وأن أخاطر بأن تلمسني.
كان بوسعها الوقوف في مكان واحد أطول من أي شخص عرفته، تحدق في شيء واحد فقط؛ عادة في.
كان لدي أرجوحة معلقة في شجرة قيقب، يمكنني التأرجح عليها بحيث أرى المنزل أو الشارع؛ ما يعني أنه كان علي أن أراها أو أن أعلم أنها تحدق بظهري، وربما تأتي لكي تدفع الأرجوحة. بعد فترة من مراقبتي على الأرجوحة، كانت تقرر فعل ذلك، ودائما ما كانت تدفعني على نحو ملتو، لكن هذا ليس أسوأ ما في الأمر. كان الأسوأ هو أصابعها التي تنغرز في ظهري. عبر معطفي، عبر ملابسي الأخرى؛ أصابعها مثل الخراطيم الباردة. كان أحد أنشطتي الأخرى بناء منزل من أوراق الشجر. كنت أمشط الحديقة وأحمل كومة من الأوراق المتساقطة من شجرة القيقب التي تحمل الأرجوحة، وأفرغ تلك الأوراق وأرتبها في نموذج ورقي لمنزل؛ هنا غرفة المعيشة، هنا المطبخ، هنا كومة ناعمة كبيرة للسرير في غرفة النوم وهكذا. لم يكن هذا النشاط من ابتكاري، كانت ملاعب الفتيات بالمدارس تمتلئ في الفسحة ببيوت أوراق شجر أكبر وأوسع نطاقا مما كنت أبنيه، كانت بشكل تشبه أثاث ساحة الملعب إلى أن يأتي الحارس في النهاية ليجمعها كلها ويحرقها.
في البداية كانت فيرنا تراقب ما كنت أفعله فقط، يعلو وجهها ذا العينين المحولتين تعبير بدا لي حيرة متعالية (كيف تجرؤ على أن ترى نفسها أعلى مني؟!) يلي ذلك اقترابها وهي تحمل ملء ذراعيها أوراق شجر تساقطت منها بسبب ترددها أو حماقتها. وهي أوراق لم تأخذها من كومة الأوراق الاحتياطية بل من أوراق حائط منزلي ذاته. كانت تلتقط الأوراق الساقطة ثم تحملها مسافة صغيرة ملقية إياها وسط أحد غرفي المرتبة.
صحت فيها أن تتوقف، لكنها انحنت لكي تلتقط حمولتها المتبعثرة مرة ثانية، ولم تكن قادرة على الاحتفاظ بها، فبعثرتها في كل مكان، وحين أصبحت كلها على الأرض بدأت في ركلها بحماقة هنا وهناك. كنت لا أزال أصيح فيها أن تتوقف لكن لم يكن لذلك أي تأثير عليها أو لعلها اعتبرته تشجيعا؛ فخفضت رأسي وجريت تجاهها ونطحتها في بطنها. لم أكن أرتدي قبعة؛ لهذا لمس شعر رأسي المعطف الصوفي أو الجاكيت الذي كانت ترتديه، وبدا لي أني لمست فعليا شعرا شائكا على جلد بطن صلب ومقرف. ركضت إلى المنزل أصرخ متذمرة، وحين سمعت أمي القصة فاقمت غضبي بقولها: «إنها تريد أن تلعب ليس إلا. هي لا تعرف كيف تلعب.»
مع حلول الخريف كنا قد انتقلنا إلى بيت جديد من طابق واحد ولم أضطر قط إلى المرور بالمنزل الأصفر الذي كان يذكرني كثيرا بفيرنا، كما لو أنه اكتسب مكرها المجرد من الذكاء، أو حول عينها المنذر بالخطر. بدا الدهان الأصفر نفسه لونا يعبر عن الإهانة ذاتها، وأضاف الباب الأمامي الذي لم يكن في منتصف البيت بالضبط، لمسة من التشوه.
كان البيت الجديد على بعد ثلاثة مربعات سكنية فقط من المنزل الأصفر، وكان قريبا من المدرسة. لكن تصوري عن حجم البلدة وتشابك شوارعها كان كبيرا بحيث بدا لي أني هربت من فيرنا كلية. فيما بعد أدركت أن هذا ليس صحيحا، ليس صحيحا تماما، حين التقيت أنا وزميلة لي في أحد الأيام بفيرنا على الطريق الرئيس. لا بد أن واحدة من أمهاتنا أرسلتنا في مهمة ما. لم أرفع عيني لأنظر إليها لكني أعتقد أني سمعت ضحكة تحية أو صيحة تعارف بينما مررنا من جوارها.
قالت زميلتي شيئا مروعا لي. - «كنت أعتقد أنها أختك.» - «ماذا؟» - «كنتما تسكننان المنزل نفسه لهذا اعتقدت أنكما بالتأكيد أقارب، بنات عم مثلا. على كل، أهذا صحيح؟ أأنتما بنات عم؟» - «لا.» •••
أعلن أن المبنى القديم حيث توجد الصفوف الخاصة أصبح غير آمن، وعليه فقد انتقل تلاميذه إلى مبنى الكنيسة الإنجيلية، الذي تؤجره البلدة الآن أسبوعيا. يقع مبنى في الناحية المقابلة من البيت الذي نسكن فيه أنا وأمي وأبي الآن. كان هناك أكثر من طريق يؤدي بفيرنا إلى المدرسة، لكنها اختارت الطريق الذي يمر ببيتنا. ويقع بيتنا على بعد أقدام قليلة من الرصيف، ما يعني إذن أن ظلها قد يسقط بالفعل على سلالم منزلنا. ولو رغبت فإنها تستطيع أن تركل بعض الحصى إلى حديقتنا، وإذا لم تكن الستائر منسدلة تستطيع أن تسترق النظر إلى صالتنا وإلى الغرفة الأمامية.
تغيرت مواعيد الحصص الخاصة بحيث تزامنت مع ساعات المدرسة العادية، على الأقل في الصباح؛ ظل التلاميذ ذوو الحالات الخاصة يذهبون لمنازلهم في وقت أبكر بعد الظهيرة. لا بد أنه بعدما انتقلوا إلى مبنى الكنيسة ساد شعور بأنه لا داعي لفصلهم عنا في الطريق إلى المدرسة. كان هذا يعني أني قد ألتقي فيرنا صدفة على الرصيف. تعودت أن أنظر دائما إلى الاتجاه الذي يمكن أن تأتي منه، وإذا رأيتها أحني رأسي عائدة إلى المنزل متعللة بأني نسيت شيئا ما أو أن فردة حذائي كانت تحك كعبي وأحتاج إلى أن أضع ضمادة طبية عليه، أو أن شريط شعري قد انحل. أصبحت الآن أذكى من أن أخطئ وأذكر فيرنا كي أسمع أمي تقول: «ما المشكلة، مم تخافين، هل تظنين أنها ستأكلك؟»
ما المشكلة يا ترى؟ أكنت أخاف أن تصيبني بمرض، عدوى ما؟ كانت فيرنا نظيفة بالقدر المعقول وبصحة جيدة. وكان من المستبعد أن تهاجمني وتلكمني أو تشدني من شعري، لكن الكبار فقط هم من يصور لهم غباؤهم أنها لا تملك قوة. إن لديها قوة، قوة موجهة لي تحديدا. كنت أنا من تترصده، أو هذا ما اعتقدته. كما لو أن هناك صلة ما بيننا لا يمكن وصفها ولا يمكن محوها. صلة لا يمكن التخلص منها، على غرار الحب، مع أنه من ناحيتي بدا أنه كره مطلق.
أعتقد أني كرهتها كما يكره بعض الناس الثعابين أو الديدان أو الفئران أو البزقات، دون سبب منطقي، لا لأنها قد تتسبب في أذى ما، بل لأنها قادرة على إثارة الغثيان وجعلك تشمئز من الحياة. •••
حين حكيت لشارلين عنها كنا قد وصلنا إلى مستويات أعمق من حوارنا؛ ذلك الحوار الذي لم ينقطع إلا إذا كنا نسبح أو نائمين. لم تكن فيرنا قصة مثيرة بما يكفي لتوطيد علاقتي مع شارلين، فهي لم تكن مقززة تقززا جليا، مثل مؤخرة أخيها المليئة بالبثور، وأتذكر أني قلت إنها كريهة على نحو لا يسعني وصفه. رغم ذلك كنت قد وصفتها ووصفت مشاعري تجاهها، ولا بد أني أتقنت هذا؛ لأنه مع اقتراب انتهاء أسبوعي المعسكر فوجئت بشارلين تهرع إلي في صالة الطعام في منتصف النهار، ووجهها يشع رعبا وسعادة غريبة. - «إنها هنا، إنها هنا، تلك الفتاة، الفتاة الكريهة؛ فيرنا، إنها هنا في المعسكر.»
كان الغذاء قد انتهى. كنا ننظف ونضع أطباقنا وأكوابنا على رف المطبخ لتسحبها الفتيات المسئولات عن المطبخ في ذلك اليوم وتغسلها، ثم نصطف لنذهب إلى متجر الحلوى، الذي يفتح يوميا في الواحدة بعد الظهر. كانت شارلين قد أسرعت إلى المهجع لتحضر بعض النقود. فبما أنها كانت تنتمي لأسرة ثرية - إذ يعمل أبوها حانوتيا - فقد كانت مستهترة نوعا ما، وتحتفظ بنقودها في كيس مخدتها، بينما كنت أحتفظ بنقودي معي دائما، باستثناء وقت السباحة. كان من يستطيع منا تحمل نفقة الذهاب إلى المتجر بعد الغداء يذهب ليشتري ما يزيل مذاق أصناف حلوى المطعم التي كرهناها؛ لكننا دائما ما نجربها لا لسبب سوى التأكد من أنها مقرفة بقدر ما توقعنا؛ أصناف مثل بودنج التبيوكة، تفاح مخبوز طري، كاسترد لزج. حين رأيت لأول وهلة التعبير على وجه شارلين، اعتقدت أن نقودها قد سرقت، لكن فكرت بعد ذلك أن كارثة كتلك لن تقلب وجهها على هذا النحو، كانت الصدمة على وجهها تشع بهجة.
فيرنا؟! كيف يمكن أن تكون فيرنا هنا؟! لا بد من وجود خطأ ما.
لا بد أنه كان يوم الجمعة. لم يتبق سوى يومين في المعسكر، يومان ثم نرحل. وكما اتضح حضر إلى هنا فريق من ذوي الحالات الخاصة - هنا أيضا كانوا يسمون هكذا - ليقضوا معنا إجازة نهاية الأسبوع الأخير. لم يكونوا عددا كبيرا، كانوا عشرين إجمالا، ولم يكن جميعهم من بلدتي بل من بلدات أخرى مجاورة. في الحقيقة، بينما كانت شارلين تحاول إبلاغي بالأخبار انطلقت صفارة وقفزت المرشدة أرفا فوق المقعد لتخاطبنا.
قالت إنها تعلم أننا سنبذل أقصى جهد لنرحب بهؤلاء الزائرين، المخيمين الجدد، وأنهم أحضروا معهم خيامهم الخاصة ومرشدتهم، لكنهم سوف يأكلون ويسبحون ويلعبون ويحضرون دردشة الصباح معنا. قالت، بنبرة التحذير أو التوبيخ المألوفة في صوتها، إنها متأكدة أننا سوف نرى هذا فرصة لتكوين صداقات جديدة.
استغرق هؤلاء القادمون الجدد وقتا طويلا في نصب خيامهم وترتيب أغراضهم. بعضهم لم يبال بتلك العملية وبدءوا يهيمون على وجوههم، فأخذ المشرفون ينادون عليهم ويذهبون لإحضارهم. وبما أن الوقت كان وقت فراغنا أو استراحتنا، فقد اشترينا ألواح الشوكولاتة أو عصا العرقسوس أو حلوى التوفي الهشة، من متجر الحلوى، وذهبنا نستلقي على أسرتنا ونستمتع بتناولها .
ظلت شارلين تقول: «تخيلي. تخيلي. إنها هنا. لا أستطيع أن أصدق هذا. هل تعتقدين أنها تلاحقك؟»
قلت: «على الأرجح.» - «هل تعتقدين أني أستطيع أن أخبئك دوما هكذا؟»
حين وقفنا في الصف أمام متجر الحلوى خفضت رأسي، وجعلت شارلين تقف بيني وبين الحالات الخاصة، أثناء مرورهم. ألقيت نظرة واحدة على جمعهم وتعرفت على فيرنا من الخلف، من رأسها الثعبانية المتهدلة. «لا بد أن نفكر في طريقة ما لتغيير شكلك.»
يبدو أن شارلين اعتقدت من كلامي أن فيرنا تحرشت بي بقوة. وكنت أعتقد أن هذا هو ما حدث بالفعل، باستثناء أن التحرش كان أكثر مهارة وأقل وضوحا مما قدرت على وصفه. ووقتها، تركت شارلين تعتقد ما تريد لأن ذلك كان أكثر إثارة لي.
لم تجدني فيرنا على الفور؛ بسبب المراوغات المعقدة التي كنا نقوم بها: شارلين وأنا، وربما لأنها كانت مذهولة قليلا مثلما بدا معظم الحالات الخاصة؛ إذ كانوا يحاولون فهم ماذا كانوا يفعلون هنا. وسريعا ما أخذوهم إلى حصة السباحة عند نهاية شاطئ البحيرة.
وفي وقت العشاء كانوا يدخلون إلى صالة الطعام بينما نغني:
كلما تجمعنا معا، معا، معا
نقترب من بعضنا أكثر
وتصبح سعادتنا أكبر.
بعد ذلك جرى تفريقهم عمدا وتوزيعهم بيننا. كانوا جميعهم يحملون بطاقات عليها أسماؤهم. جلست أمامي فتاة اسمها ماري ألان، لا أتذكر اسم عائلتها، لم تكن من بلدتي، لم أكد أسعد بهذا حين رأيت فيرنا تجلس إلى المائدة المجاورة، كانت أطول ممن حولها، لكنها - والحمد لله - كانت تواجه الناحية التي أواجهها فلم تستطع أن تراني خلال الوجبة.
كانت الأطول بينهم، ومع ذلك لم تكن فارعة الطول، ليس إلى درجة تجذب الانتباه كما كنت أتذكرها عندما سكنا في المنزل نفسه. كان السبب على الأرجح هو طفرة النمو التي مررت بها خلال العام الماضي، بينما ربما توقفت هي عن النمو كلية.
بعد العشاء، حين وقفنا وجمعنا أطباقنا، أبقيت رأسي محنيا، لم أنظر قط إلى ناحيتها، ومع ذلك أدركت حين وقعت عيناها علي، حين تعرفت علي، وحين ابتسمت ابتسامتها الصغيرة المتهدلة أو ضحكت ضحكتها الغريبة المحشورة في حلقها.
قالت شارلين: «لقد رأتك، لا تنظري، لا تنظري، سوف أقف بينك وبينها. تحركي، واصلي التحرك، استمري.» - «هل هي قادمة إلى هذا الاتجاه؟» - «لا، إنها تقف هناك فقط. إنها تنظر إليك فقط.» - «تبتسم؟» - «نوعا ما.» - «لا أستطيع أن أنظر إليها؛ سوف أتقيأ.»
كم مرة «اضطهدتني» فيرنا خلال اليوم والنصف المتبقيين؟ اعتدنا أن نستخدم: شارلين وأنا، كلمة «اضطهاد» باستمرار، مع أن فيرنا لم تقترب منا قط في الحقيقة. كانت كلمة تنتمي لعالم الكبار وذات دلالات قانونية. كنا في حالة ترقب دائم كما لو أني مطاردة. حاولنا أن نقتفي مسار جولات فيرنا، وتبلغني شارلين عن موقفها أو تعبيرها. خاطرت بالنظر إليها مرتين، حين كانت شارلين تقول: «لا بأس. لن تلاحظ الآن.»
في تلك المرات بدت فيرنا مكتئبة قليلا أو حزينة أو مرتبكة، كما لو أنها - مثل معظم الحالات الخاصة - تائهة ولا تستوعب كلية أين كانت أو ماذا كانت تفعل هنا. تسبب بعضهم، لم تكن فيرنا منهم، في اضطراب حين تجولوا بعيدا في غابات الصنوبر والأرز والحور على الجرف خلف الشاطئ، أو على الشاطئ الرملي الطويل الذي ينتهي إلى الطريق السريع. بعد ذلك عقد اجتماع وطلب منا أن ننتبه لأصدقائنا الجدد، الذين لا يألفون المكان مثلنا. نخزتني شارلين في أضلاعي في تلك اللحظة. لم تكن تعي بالطبع أي تغير، أو أي اختفاء للثقة، أو حتى صغر الحجم الجسدي في فيرنا هذه، ودائما تبلغني بمكرها وتعبيرها الشرير؛ ونظرة التهديد على وجهها. وربما كانت على حق؛ ربما رأت فيرنا في شارلين؛ هذه الصديقة الجديدة أو حارستي الخاصة؛ هذه الغريبة، علامة ما على تغير كل شيء بيننا، وهذا جعلها متجهمة مع أني لم أر هذا.
قالت شارلين: «لم تخبريني قط عن يديها.» - «ماذا عنهما؟» - «لديها أطول أصابع رأيتها في حياتي. تستطيع أن تلفها حول رقبتك وتخنقك فقط. تستطيع بالفعل. تخيلي أن تكوني معها في الخيمة ليلا، ألن يكون ذلك فظيعا؟»
قلت: صحيح، سيكون فظيعا. - «لكن هؤلاء الآخرين في خيمتها أكثر حماقة من أن يلاحظوا هذا.»
حدث تغير ما في نهاية ذلك الأسبوع الأخير؛ ساد شعور مختلف تماما في المعسكر. لم تحدث أية تغيرات جذرية. كانوا يعلنون عن الوجبات بجرس غرفة الطعام في المواعيد العادية ولم يتحسن الطعام المقدم ولم يتدهور. ظلت أوقات الراحة واللعب والسباحة كما هي. فتح متجر الحلوى أبوابه كالمعتاد، وكان المرشدات يجمعننا كما هي العادة لنحضر الدردشة الصباحية. لكن نما شعور من التململ واللامبالاة. تستطيع أن تستشعره حتى في المرشدات، اللاتي لم تعد كلمات التوبيخ أو التشجيع نفسها على أطراف ألسنتهن، وكن ينظرن إلينا مطولا كأنما يحاولن تذكر ماذا كن يقلن عادة. ويبدو أن هذا كله بدأ مع وصول الحالات الخاصة. غير حضورهم المعسكر. كان هناك معسكر حقا قبل مجيئهم، بكل قوانينه وحرمانه ومتعه المفروضة الحتمية كما في المدرسة أو في أي جزء من حياة الطفل، ثم بدأ يتداعى، يكشف عن أنه شيء مؤقت، مجرد ادعاء.
ألأننا نظرنا إلى الحالات الخاصة وفكرنا لو أنهم يستطيعون أن يكونوا كشافة، فلا يوجد إذن كشافة حقيقيون؟ ربما كان ذلك أحد الأسباب، لكن ذلك يرجع أيضا إلى قرب الوقت الذي ينتهي فيه كل هذا وينكسر النظام اليومي، ويأتي آباؤنا لاصطحابنا إلى حياتنا القديمة، ويعود المرشدون أناسا عاديين، ليسوا مدرسين حتى. كنا نعيش في ديكور مسرح على وشك أن يتفكك مع كل صداقاته وعداواته ومنافساته التي ازدهرت في الأسبوعين الماضيين. من يصدق أنهما أسبوعان فقط؟
لم يعرف أحد كيف يتحدث عن هذا، لكن التراخي انتشر بين صفوفنا؛ وساد مزاج معتل ضجر، بل وعكس الطقس هذا الشعور. لم يكن كل يوم مر علينا خلال الأسبوعين الماضيين مشمسا وحارا، لم يكن ذلك حقيقيا على الأرجح لكن بالتأكيد سوف يغادر معظمنا حاملين هذا الانطباع. والآن، في صباح ذلك الأحد الأخير، كان هناك تغير. بينما كنا نؤدي صلواتنا الخارجية (هذا ما كنا نؤديه في أيام الآحاد بدل الدردشة) غيمت السماء. لم يحدث تغير في حرارة الجو، ربما زادت درجة الحرارة حتى، لكن كان هناك ما يسميه بعض الناس رائحة عاصفة. رغم ذلك خيم سكون هائل. تطلع المرشدون - وحتى القس الذي كان يأتي في أيام الآحاد من أقرب بلدة - إلى السماء بين الحين والآخر بقلق.
سقطت قطرات مطر قليلة ليس إلا. انتهت الصلاة ولم تهب أي عاصفة. أصبحت السماء أكثر صفاء إلى حد ما، لا إلى الحد المبشر بطلوع الشمس، لكن بما يكفي لكي لا تلغى سباحتنا الأخيرة. بعد ذلك لن نتناول الغذاء؛ فقد أغلق المطبخ بعد وجبة الإفطار، ولن يفتح محل الحلوى أبوابه. سوف تبدأ عائلتنا في الوصول بعد الظهر مباشرة ليصطحبونا إلى البيت، وسوف تأتي الحافلة لتصطحب الحالات الخاصة. حزمنا معظم أغراضنا، وخلعنا الملاءات وطوينا البطاطين البنية الخشنة التي كانت دائما ندية عند قدم السرير.
حتى حينما كنا نثرثر ونرتدي ثوب السباحة، بدت كابينة النوم مؤقتة وكئيبة.
كان الحال نفسه مع الشاطئ. بدت صخوره أكثر ورماله أقل، وبدا الموجود منها رماديا. بدت المياه باردة، مع أنها كانت دافئة إلى حد كبير؛ ومع ذلك ذوى حماسنا للسباحة، وكان معظمنا يخوض في المياه الضحلة دون هدف. واضطرت مرشدتا السباحة - بولين وامرأة متوسطة العمر مسئولة عن الحالات الخاصة - أن تصفق لنا هاتفة: - «أسرعوا، ماذا تنتظرون؟ إنها فرصة السباحة الأخيرة في هذا الصيف.»
كان هناك بيننا سباحون ماهرون يندفعون عادة فورا نحو الطوف، وكل من صنف على أنه سباح معقول، من بينهم شارلين وأنا، عليه أن يسبح حتى الطوف مرة على الأقل ويعود من أجل أن يثبت أنه يستطيع أن يسبح ياردتين على الأقل في مياه تعلو رأسه. عادة تسبح بولين إلى هناك مباشرة، وتبقى في المياه العميقة تراقب إذا ما وقع أي شخص في مشكلة، وتتأكد كذلك أن كل من عليه أن يسبح قد أدى واجبه. مع ذلك، في ذلك اليوم انطلق عدد أقل من السباحين أقل من المعتاد إلى هناك، وبولين نفسها بعد صيحات التشجيع والتوبيخ الأولى؛ كي ينزل الجميع إلى الماء، كانت تسبح بتراخ حول الطوف وتضحك، وتمازح السباحين الماهرين المخلصين. كانت بقيتنا لا تزال تسبح في المياه السطحية، كنا نسبح مسافة أقدام أو ياردات قليلة، ثم نقف على القاع ويرش بعضنا بعضا بالمياه، أو ننقلب على ظهورنا متظاهرين بأننا جثة ميت عائمة، كما لو أن السباحة أصبحت نشاطا لم يعد أحد يهتم بممارسته. كانت المرأة المسئولة عن الحالات الخاصة تقف حيث تصل المياه بالكاد إلى خصرها - لم يتجاوز معظم ذوي الحالات الخاصة أنفسهم مستوى مياه أعلى من ركبهم - والجزء العلوي من ثوب سباحتها المشجر ذي التنورة لم يبتل حتى. كانت تنحني وترش قليلا من المياه عليهم بينما تضحك هاتفة: «أليس هذا ممتعا.»
كنت أنا وشارلين نقف عند مستوى من المياه لم يتجاوز صدرينا على الأرجح. كنا ضمن فئة السباحين الكسالى، نلعب لعبة الرجل الميت، نتقافز في المياه سابحين على ظهرينا أو صدرينا دون أن يأمرنا أحد بالتوقف عن اللهو. كنا نحاول أن نرى كم من الوقت يمكن أن نحتفظ بأعيننا مفتوحة تحت الماء، وكنا نتسلل وتقفز إحدانا على ظهر الأخرى. كان حولنا الكثير ممن يصيحون ويصرخون مازحين بينما يفعلون الشيء نفسه.
وصل، أثناء هذا، بعض الآباء أو أفراد قادمون لاصطحاب ذويهم من المعسكر، وأوضحوا أنه ليس لديهم وقت يضيعونه؛ ومن ثم استدعي الكشافة الذين يجب أن يرحلوا من المياه؛ ما سبب مزيدا من الصياح والارتباك.
صاحت شارلين: «انظري. انظري»؛ أو بالأحرى بصقت الكلام مع المياه لأني في الحقيقة كنت قد دفعتها إلى الأسفل، وكانت قد خرجت لتوها تبصق المياه التي بللتها تماما.
نظرت لأجد فيرنا تشق طريقها نحونا، ترتدي قبعة سباحة مطاطية ذات لون أزرق باهت، تلطم المياه بيديها الطويلتين وتبتسم كما لو أنها استعادت حقوقها علي فجأة. •••
لم أحتفظ بعلاقتي مع شارلين. لا أتذكر حتى كيف ودعت إحدانا الأخرى، إن كنا قد فعلنا ذلك. أتصور أن كلا من عائلتينا وصلتا في الوقت نفسه تقريبا، وأننا اندفعنا إلى سيارات منفصلة واستسلمنا - ماذا يمكن أن نفعل غير هذا؟! - إلى حياتنا القديمة. بالتأكيد لم تكن سيارة عائلة شارلين رديئة النوع ولم تكن مزعجة ولا يعتمد عليها مثل سيارة عائلتي، لكن حتى لو اختلف الوضع لم يكن ليخطر على بالنا أن نعرف العائلتين إحداهما على الأخرى. كان الجميع - ونحن أنفسنا - متعجلين على الرحيل، على ترك الضوضاء المثارة حول ممتلكات ضائعة أو حول من قابل عائلته، ومن لا يزال ينتظر، ومن استقل الحافلة.
رأيت بعدها بسنوات صدفة صورة زفاف شارلين. كان هذا زمن حيث كانت صور الزفاف لا تزال تنشر في الصحف، ليس في صحف البلدات الصغيرة فقط، بل صحف المدن كذلك. رأيتها في صحيفة تصدر في تورنتو، كنت أتصفحها بينما أنتظر صديقا في مقهى في شارع بلور.
أقيم الزفاف في مدينة جويلف. كان العريس من أهل تورنتو وخريج كلية حقوق أوسجيد هول. كان فارع الطول أو ربما كانت شارلين قصيرة جدا؛ فهي بالكاد تصل إلى كتفه، حتى مع تسريحة شعرها العالية اللامعة والتي كانت موضة وقتها. جعل شعرها وجهها يبدو مطموسا وغيب ملامحه، لكن عينيها تركتا لدي انطباعا بأنهما محددتان تحديدا ثقيلا؛ على غرار عيني كليوباترا، وشفتاها شاحبتان. قد يبدو منظرها غريبا ومنفرا لكنه كان الشكل المحبب في تلك الأيام. كل ما ذكرني بها في طفولتها هو النتوء الصغير المثير للضحك في ذقنها.
تخرجت العروس في كلية سانت هيلدا بتورونتو.
إذن لا بد أنها كانت هنا في تورنتو، تدرس في سانت هيلدا بينما كنت في المدينة ذاتها، أدرس في جامعة تورنتو. ربما كنا نسير في الوقت نفسه في الشوارع أو الطرق نفسها حول حرم الجامعة. ولم نتقابل قط. لا أعتقد أنها رأتني وتجنبت الحديث معي. ولم أكن لأتجنب الحديث معها. بالطبع كنت سوف أعتبر نفسي طالبة أكثر جدية حالما أدرك أنها التحقت بسانت هيلدا. كنت أنا وأصدقائي نعتبر سانت هيلدا كلية لربات البيوت.
كنت في ذلك الوقت خريجة متخصصة في علم الإنسان. قررت ألا أتزوج أبدا، مع أني لم أستثن علاقات الحب. شعري طويل ومسترسل؛ إذ كنا أصدقائي وأنا نتبع موضة الهيبز الوليدة. كانت ذكرياتي عن الطفولة بعيدة عني ومنزوية وغير مهمة أكثر مما هي عليه اليوم.
كان يمكن أن أكتب لشارلين على عنوان والديها في الصحيفة. لكن لم أفعل هذا. كنت أعتقد أن تهنئة أي امرأة على زواجها تمثل ذروة النفاق. •••
لكنها كتبت لي - بعد خمسة عشر عاما ربما - كتبت على عنوان ناشري: «صديقتي القديمة مارلين، كم أنا مبتهجة وسعيدة أن أرى اسمك في مجلة ماكلين. وكم تذهلني فكرة أنك ألفت كتابا. لم أشتره بعد لأننا كنا خارج البلد نقضي إجازتنا لكن أنوي أن أشتريه، وأقرأه كذلك، في أسرع وقت. كنت أتفحص المجلات التي تراكمت أثناء غيابنا؛ فرأيت صورتك البارزة والمقالة النقدية الشيقة عن الكتاب. وفكرت أني لا بد أن أكتب وأهنئك.
لعلك متزوجة لكن تستخدمين اسم عائلتك على كتبك؟ ربما لديك عائلة؟ اكتبي وأخبريني كل شيء عنك. للأسف ليس لدي أطفال لكني أشغل نفسي بالعمل التطوعي وزراعة الحديقة والإبحار مع كيت (زوجي). هناك دائما الكثير لإنجازه. أنا حاليا عضو في مجلس إدارة المكتبة، وسوف أقنعهم بشراء كتابك إذا لم يكونوا قد بعثوا في طلبه بعد.
تهاني مرة ثانية. لا بد أن أقول إني لم أندهش كليا من إنجازك لأني توقعت دائما أنك قد تفعلين شيئا ما خاصا.»
لم أتواصل معها في تلك المرة كذلك. بدا أنه لا نفع من هذا. في البداية لم أنتبه لكلمة «خاصا» في ختام الخطاب، لكنها هزتني قليلا عندما فكرت فيها بعد ذلك. مع ذلك، قلت لنفسي - ولا زلت أعتقد هذا - إنها لم تعن بها أي شيء.
كان الكتاب الذي تشير إليه قد انبثقت فكرته من أطروحة دكتوراه لم ألق تشجيعا على كتابتها؛ لذا تركتها وكتبت أطروحة أخرى؛ لكني عدت إلى الأولى كمشروع خاص بي حين أتيح لي الوقت. شاركت في كتابين منذ ذلك الحين، كما كان متوقعا مني، لكن ذلك الكتاب الذي ألفته بنفسي هو الوحيد الذي حقق لي ضجة صغيرة في العالم الخارجي (وبعض الاعتراض من زملائي بالطبع). نفدت طبعات الكتاب الآن. كان عنوانه «حمقى وآلهة»؛ عنوان كان سيسبب لي المشكلات اليوم، وحتى حينئذ أثار توتر ناشري مع أنهم اعترفوا أنه جاذب.
ما حاولت اكتشافه في الكتاب هو موقف الناس في ثقافات مختلفة - لا يجرؤ المرء على وصفها بالثقافات البدائية - تجاه الناس المتفردين عقليا أو جسديا. إن صفات مثل «عاجز» و«معاق» و«متخلف» أصبحت بالية، لا لأنها قد تعكس موقفا متعاليا وقسوة مألوفة بل لأنها لا تصف هؤلاء الأشخاص بدقة ليس إلا. تنحي تلك الكلمات جانبا كبيرا مميزا بل ورائعا - أو على أي حال قويا إلى حد استثنائي - في أولئك الأشخاص. وما كان شيقا هو اكتشاف وجود قدر معين من التبجيل، إلى جانب الاضطهاد، في معاملة الناس لأولئك الاشخاص، ونسبة قدر كبير من القدرات لهم، ليست كلها غير دقيقة، ينظر إليها على أنها مقدسة وسحرية وخطرة أو ذات قيمة. بذلت أقصى ما في وسعي في البحث التاريخي والمعاصر، وأخذت في اعتباري الشعر والأدب الروائي والعادات الدينية بالطبع. وبالطبع انتقدت في مجالي؛ لأني كنت أدبية جدا في أسلوبي ولأني جمعت كل معلوماتي من الكتب، لكني لم أستطع في ذلك الوقت التحول حول العالم حينئذ؛ لم أستطع الحصول على منحة.
أستطيع بالطبع أن أرى صلة؛ صلة اعتقدت أن شارلين يمكن أن تكون رأتها أيضا. كانت هذه الأحداث بعيدة وغير مهمة بشكل غريب، مجرد نقطة بداية. كما بدا لي كل شيء في طفولتي حينئذ؛ بسبب الرحلة التي اجتزتها منذ ذلك الحين، والإنجاز الذي حققته في سنوات نضجي؛ الأمان.
كتبت شارلين: «اسم عائلتك» كان هذا تعبيرا لم أسمعه منذ فترة زمنية طويلة. يمت بصلة قربى لتعبير سيدة عذراء، يحمل دلالات الطهارة والحزن، وغير مناسب تماما في حالتي؛ فحتى حين نظرت إلى صورة زفاف شارلين لم أكن عذراء، مع أني أعتقد أنها هي الأخرى لم تكن عذراء. لا يعني هذا أنه كان لدي حشد من العشاق، ومعظمهم لا ينطبق عليهم هذا الوصف. لكني مثل معظم النساء في فئتي العمرية اللواتي لم يعشن في علاقة زواج أحادية، أعرف عدد «عشاقي»: ستة عشر. أنا على يقين أن نساء أصغر مني وصلوا إلى هذا العدد قبل أن ينتهي عقدهن الثالث أو قبل انتهاء سنوات مراهقتهن (بالطبع، حين تلقيت رسالة شارلين كان العدد أقل. لا يهمني الآن، حقا لا يهمني، تحديد الرقم الصحيح). لعب ثلاثة منهم دورا مهما في حياتي، والثلاثة كانوا يقعون بالترتيب الزمني ضمن العشاق الستة الأوائل. ما أعنيه ب «دور مهم» أنه مع هؤلاء الثلاثة - بل اثنين فقط؛ كانت مشاعري حيال الثالث أكبر كثيرا من مشاعره تجاهي - أتت اللحظة التي تريد فيها أن تفتح قلبك وتسلم ما هو أكثر من جسدك، وتترك حياتك كلها، شاعرا بالأمان؛ لتمتزج بحياته.
منعت نفسي عن هذا؛ بالكاد.
يبدو أني لم أكن مقتنعة بهذا الأمان اقتناعا كاملا. •••
تلقيت رسالة أخرى من فترة ليست بعيدة. أعادت الكلية التي كنت أدرس بها قبل تقاعدي إرسالها إلي على عنوان المنزل. وجدتها تنتظر حين عدت من رحلة إلى باتاجونيا (أصبحت مسافرة جريئة الآن). كان عمرها شهرا.
رسالة مطبوعة؛ وهي الحقيقة التي يعتذر عنها كاتبها فورا. «خط يدي في الكتابة سيئ للغاية» وشرع يقدم نفسه بأنه زوج «رفيقة طفولتك القديمة شارلين.» قال إنه آسف، آسف جدا لأنه يرسل لي أخبارا سيئة. شارلين كانت في مستشفى الأميرة مارجريت في تورنتو. بدأ مرض السرطان لديها في الرئتين ثم انتشر إلى الكبد. كانت للأسف مدخنة طوال حياتها. أمامها وقت قليل جدا تعيشه. لم تتكلم عني كثيرا، لكن حين تكلمت، عبر السنوات، كان تتحدث بسعادة عن إنجازاتي الرائعة. كان يعرف مدى تقديرها لي، والآن في نهاية حياتها تبدو شغوفة جدا لرؤيتي. طلبت منه أن يبحث عني، مضيفا أنه ربما تعني ذكريات الطفولة لها كل شيء؛ فمشاعر الطفولة هي الأقوى دون نزاع.
حسنا. لعلها ماتت، هكذا فكرت.
لكن لو أنها ماتت - هكذا حسبت المسألة - لو أنها ميتة، فلا مخاطرة في أن أذهب إلى المستشفى وأستفسر عنها. ومن ثم سوف يرتاح ضميري أو أيا ما تريد أن تسميه. أستطيع أن أكتب له رسالة قصيرة أذكر فيها أني كنت مسافرة للأسف، لكني سوف أحضر في أقرب وقت ممكن.
لا، من الأفضل ألا أكتب رسالة. ربما يظهر في حياتي ويشكرني. إن كلمة «رفيقة» أشعرتني بعدم الراحة. كذلك أشعرتني عبارة «إنجازاتك الرائعة» لكن على نحو مختلف. •••
يبعد مستشفى الأميرة مارجريت عدة مربعات سكنية عن المبنى الذي أسكن فيه. وفي يوم ربيعي مشمس سرت إلى هناك. لا أعلم لماذا لم أتصل هاتفيا. ربما أردت أن أعتقد أني بذلت أقصى جهدي.
في مكتب الاستقبال اكتشفت أن شارلين ما زالت حية، حين سئلت إذا كنت أرغب في رؤيتها لم أستطع أن أقول لا.
صعدت في المصعد بينما أفكر أنه لا يزال بوسعي المغادرة قبل أن أصل إلى مكتب الممرضات في طابقها؛ أو ربما أن أستدير عائدة، وأستقل المصعد التالي إلى الأسفل. لن تلاحظ موظفة الاستقبال مغادرتي أبدا. وفي الحقيقة هي لم تلاحظ أني غادرت في اللحظة التي أعطت انتباهها للشخص التالي في الصف، وحتى إذا لاحظت فماذا في هذا؟
ربما كنت سأشعر بالعار، ليس لأني فاقدة الحس بقدر ما أفتقد إلى الشجاعة.
توقفت عند غرفة الممرضات، وأعطينني رقم الغرفة.
كانت غرفة خاصة، صغيرة جدا بدون أجهزة ضخمة أو زهور أو بالونات. في البداية لم أستطع أن أرى شارلين. كانت الممرضة تنحني فوق السرير الذي بدا أنه يحمل كومة من الملاءات بدون شخص واضح تحتها. إنه الكبد المتضخم، كما أدركت، وتمنيت لو أني هربت حينما استطعت.
اعتدلت الممرضة واستدارت وابتسمت لي. كانت امرأة ممتلئة الجسم سمراء البشرة تتحدث بصوت جذاب، ربما دل على أنها من جزر الهند الغربية.
قالت: «أنت مارلين.»
شيء ما في اسمي أبهجها على ما يبدو. «كانت تتلهف على حضورك، يمكن أن تقتربي.»
أطعتها ونظرت إلى الجسد المنتفخ والوجه التالف الحاد، والعنق الذي يشبه رقبة الدجاجة يبرز من رداء المستشفى المهلهل، وشعرها المجعد، الذي لا يزال بنيا، ولا يزيد طوله عن طول رقبتها ربع بوصة حول جمجمتها. لم أجد أثرا لشارلين.
لقد رأيت وجوه محتضرين من قبل؛ وجه أمي وأبي، حتى وجه الرجل الذي كنت أخشى من حبه. لم أفاجأ.
قالت الممرضة: «هي نائمة الآن، كانت تأمل جدا أن تحضري.» - «هي ليست في غيبوبة؟» - «نعم، بل نائمة.»
عندها بدأت أرى أثر بقية من شارلين القديمة. ماذا كان؟ ربما اختلاجة؛ تلك الثنية الهازلة الواثقة في زاوية فمها.
كانت الممرضة تتحدث إلي بنبرتها السعيدة الخافتة: «لا أعرف إذا كانت سوف تميزك. لكنها تمنت أن تحضري ... لقد تركت لك شيئا.» - «هل ستستيقظ؟»
هزت كتفها قائلة: «يجب أن نحقنها مرارا بسبب الألم.»
كانت تفتح درج الطاولة المجاورة. «تفضلي، قالت لي أن أعطيك إياه لو وصلت إلى مرحلة متأخرة جدا من المرض. لم ترغب في أن يعطيك إياه زوجها، وبما أنك جئت بنفسك، سوف يجعلها ذلك سعيدة.»
أعطتني مظروفا مغلقا كتب عليه اسمي بحروف كبيرة مرتعشة.
لمع بريق في عين الممرضة إذ تقول: «لم ترغب في أن يعطيه لك زوجها» ثم ابتسمت ابتسامة عريضة. هل شكت في وجود شيء ما غير شرعي؛ سر نسائي؛ حب قديم؟
قالت: «عودي غدا، من يعرف؟ سأخبرها لو أمكنني هذا.»
قرأت الرسالة ما إن وصلت إلى البهو. نجحت شارلين في أن تكتب بخط عادي تقريبا، ليس ببربرية مثل الحروف المبعثرة على المظروف. طبعا لعلها كتبت الرسالة أولا ووضعتها في المظروف، ثم أغلقت المظروف ووضعته جانبا إذ اعتقدت أنها سوف تسلمني إياه بنفسها. لكن أدركت فيما بعد أنها تحتاج إلى أن تضع اسمي عليه.
مارلين. أكتب هذا في حالة إن وصلت إلى مرحلة متدهورة تمنعني عن الكلام. من فضلك افعلي ما أطلبه منك. من فضلك اذهبي إلى جويلف وتوجهي إلى الكاتدرائية واسألي عن الأب هوفسترادر. كاتدرائية سيدة المعونة الدائمة، إنها كبيرة جدا، لا تحتاجين إلى ذكر اسمها. الأب هوفسترادر يعلم ما يجب أن يفعله. لا أستطيع أن أطلب هذا من «ك» ولا أريده أن يعرف أبدا. الأب «ه» يعلم، وسألته وقال إنه من الممكن أن يساعدني. مارلين، بوركت افعلي هذا أرجوك. لا شيء عنك. «ك»، لا بد أن هذا زوجها. لا يعرف، بالطبع لا يعرف.
الأب هوفسترادر.
لا شيء عني.
كان بإمكاني تكوير هذه الرسالة ورميها ما إن أخرج إلى الشارع. وهو ما فعلته، رميت المظروف بعيدا وتركت الريح تجرفه إلى بالوعة في شارع الجامعة. ثم أدركت أن الرسالة لم تكن في المظروف؛ كانت لا تزال في جيبي.
لن أذهب إلى المستشفى مرة ثانية. لن أذهب أبدا إلى جويلف.
كان اسم زوجها كيت، تذكرت الآن. ذهبا للإبحار. كريستوفر. كيت. كريستوفر. ك.
حين عدت إلى بناية سكني وجدت نفسي أستقل المصعد نزولا إلى الجراج وليس صعودا إلى شقتي. دخلت سيارتي بالملابس التي كنت أرتديها، وقدتها إلى الشارع، وبدأت أتوجه إلى طريق جاردنير السريع.
طريق جاردنير السريع، الطريق السريع 427، الطريق السريع 401. كانت ساعة الذروة؛ توقيت سيئ للخروج من المدينة. أكره القيادة في هذا الوقت. لا أمارسها كثيرا؛ فلست واثقة من تمكني منها. كانت السيارة بها أقل من نصف جالون بنزين، وعلاوة على ذلك كنت أحتاج إلى استعمال الحمام. فكرت، يمكن أن أخرج من الطريق السريع عندما أصل إلى ميلتون وأزود السيارة بالوقود، وأستخدم الحمام وأعيد النظر في المسألة. في الوقت الحالي ليس بوسعي إلا الاستمرار في طريقي، التوجه شمالا، ثم غربا.
لم أخرج من الطريق السريع. تجاوزت مخرج ميسيسوجا، ومخرج ميلتون. رأيت علامة من علامات الطريق السريع تعلمني بعدد الكيلومترات المتبقية حتى جويلف، وترجمتها إلى أميال تقريبية في رأسي، كما تعودت أن أفعل، واكتشفت أن البنزين سوف يكفي. كان المبرر الذي قدمته لنفسي عن عدم توقفي هو أن الشمس سوف تنخفض أكثر؛ وهذا يعني مزيدا من المشقة، بما أني أمر الآن عبر الضباب الخفيف الذي يرقد فوق المدينة حتى في أصفى الأيام.
ركنت السيارة عند أول محطة بعدما أخذت مخرج جويلف، وتوجهت إلى حمام السيدات بساقين مرتجفتين متيبستين. ملأت خزان الوقود بعد ذلك وسألت، حين كنت أدفع النقود عن الاتجاهات إلى الكاتدرائية. لم تكن الاتجاهات واضحة جدا لكن علمت أنها تقع فوق تلة كبيرة ويمكن أن أصل إليها من أي مكان في قلب البلدة.
بالطبع لم يكن هذا حقيقيا، مع أني استطعت أن أراها من أي مكان تقريبا. كانت مجموعة من القمم المستدقة دقيقة التصميم تبرز من بين أربعة أبراج جميلة. كان مبنى جميلا مع أني توقعت مبنى فخما فقط. كان فخما كذلك؛ بالطبع، كانت كاتدرائية فخمة وكبيرة الحجم بالنسبة إلى مدينة صغيرة نسبيا (مع أن شخصا ما قال لي فيما بعد إنها ليست كاتدرائية حقا).
أتكون شارلين تزوجت هنا؟
لا، بالطبع لا. لقد أرسلها أهلها إلى معسكر تابع لكنيسة المسيح المتحدة، ولم يكن به بنات كاثوليكيات، مع أنه كان يضم تنوعا هائلا من البروتستانتيات. هذا إلى جانب رغبتها في ألا يعلم «ك» بأمر هذه الزيارة.
ربما حولت مذهبها سرا، منذ ذلك الحين.
وجدت طريقي إلى ساحة ركن سيارات الكاتدرائية، وجلست هناك أتساءل ما الذي يجب أن أفعله. كنت أرتدي بنطالا فضفاضا وسترة. كانت فكرتي عما هو مطلوب ارتداؤه في كنيسة كاثوليكية، كاتدرائية كاثوليكية عتيقة جدا، حتى إني لم أكن متأكدة مما إذا كانت هيئتي مناسبة. حاولت أن أسترجع زياراتي إلى الكنائس العظيمة في أوروبا. هل يجب تغطية الذراعين؟ وضع غطاء للرأس؟ أو ارتداء تنورات؟
يا للصمت الكثيف الذي ساد فوق هذه التلة. كنا في شهر أبريل؛ لم تنبت ورقة واحدة بعد على الأشجار، لكن مع ذلك لا تزال الشمس تضيء السماء. كان هناك مجرى منخفض من الثلج رمادي اللون يشبه لون الرصيف في باحة وقوف السيارات التابعة للكنيسة.
كانت السترة التي أرتديها أخف من أن تقيني برد المساء أو ربما كان الجو أبرد هنا، والريح أقوى من تورنتو.
ربما يكون المبنى مغلقا فعلا في هذا الوقت، مغلقا وفارغا.
بدت الأبواب الضخمة الأمامية هكذا. لم أكلف نفسي مشقة صعود السلالم لأجرب؛ لأني قررت أن أتبع زوجا من النساء العجائز، العجائز مثلي، أتيتا توا من رحلة طويلة من الشارع، وتجنبتا تلك السلالم تماما؛ إذ توجهتا إلى مدخل أسهل يقع في جانب المبنى.
كان بالداخل ناس أكثر، ربما دستتان أو ثلاث، لكن لم يبد أنهم اجتمعوا للصلاة. كانوا متفرقين هنا وهناك في المقاعد الخشبية الطويلة، البعض راكع والبعض يتبادل الحديث. غمست المرأتان أمامي يديهما في حوض التعميد الرخامي بدون أن تنظرا إلى ما تفعلانه، وألقتا التحية، بالكاد خافضتان صوتيهما، على رجل كان يرص سلات على مائدة.
قالت إحداهما: «الجو أدفأ بكثير في الخارج من هنا.» فقال الرجل إن الرياح شديدة اليوم.
لاحظت مقصورات الاعتراف؛ مثل أكواخ صغيرة متفرقة أو بيوت لعب ضخمة للأطفال على الطراز القوطي، بنقوش خشبية داكنة اللون وستائر بنية غامقة. باستثناء ذلك كان كل شيء يضيء ويتلألأ. كان السقف المقوس العالي أزرق سماويا، والتقوسات الأدنى من السقف، تلك التي تلتقي بالحيطان، مزينة بصور دينية في رصائع ذهبية اللون. تحولت النوافذ الزجاجية الملونة التي تضربها الشمس في هذا الوقت من اليوم إلى صفوف من الحلي المتلألئ. مشيت في أحد الممرات بتمهل؛ إذ كنت أحاول أن ألقي نظرة على المذبح لكن لأن المحراب كان ناحية الحائط الغربي فمنعني ضوء الشمس الساطع من أن أراه جيدا. ومع ذلك رأيت رسوما لملائكة فوق النوافذ لأفواج من الملائكة، نضرة وشفافة ونقية مثل النور.
كان أكثر الأماكن التي تفرض حضورها لكن لم يبد أن أحدا يستحوذ عليه هذا الحضور. ظلت السيدات المتحدثات يتحدثن بنعومة لكن ليس همسا. وانحنى البعض الآخر على ركبتيه بعد أن أومئوا برءوسهم، ورسموا إشارة الصليب على صدورهم سريعا، وشرعوا في أداء أعمالهم الروتينية.
علي أنا أيضا البدء في مهمتي. بحثت عن قسيس لكني لم أر أحدا؛ لا بد أن القساوسة مثل غيرهم يعملون ساعات العمل اليومية المعتادة. لا بد أنهم يقودون سياراتهم إلى بيوتهم ويدخلون إلى غرفة المعيشة أو المكتب أو غرفهم الخاصة، ويشغلون التلفزيون ويفكون ياقاتهم. يحضرون مشروبا ويتساءلون ماذا سيتناولون في وجبة العشاء؟ حين يحضرون إلى الكنيسة يحضرون في هيئة رسمية، في بذاتهم جاهزون لأداء طقس ما، قداس مثلا؟ أو لسماع الاعترافات. لكن مع ذلك لا يعرف المرء أبدا متى يوجدون، هل يدخلون ويغادرون مقصورات الاعتراف ذات القضبان الخشبية من باب خاص؟
كان يجب أن أسأل شخصا ما. بدا أن الرجل الذي يوزع السلال موجود لأسباب ليست خاصة به تماما، مع أنه لم يبد أنه حاجب الكنيسة. لا يحتاج أحد إلى حاجب؛ فالناس يختارون المكان الذي يريدون أن يجلسوا، أو يركعوا فيه، وأحيانا يقررون أن ينهضوا ويختاروا مكانا آخر؛ ربما لأن وهج الشمس المتلألئ أزعجهم. حين تحدثت إليه همست، كما اعتدت قديما عند الوجود في الكنائس، وأضطر أن يطلب مني أن أتحدث ثانية. ثم أومأ برأسه في تردد، نابعا من حيرة أو ارتباك، إلى واحدة من مقصورات الاعتراف. كان علي أن أكون محددة جدا ومقنعة. - «لا، لا. أريد أن أتحدث إلى قس. أرسلت إلى هنا للتحدث إلى قس، قس اسمه الأب هوفسترادر.»
اختفى رجل السلال في ممر أبعد، وعاد في فترة قصيرة مع قس شاب ممتلئ قوي البنية يتحرك بحيوية في الزي الأسود العادي.
وجهني إلى غرفة لم ألاحظها، ليست غرفة فعليا؛ إذ اجتزنا مدخلا مقوسا - لا بابا - في القسم الخلفي من الكنيسة.
قال القس: «يمكننا التحدث هنا» وسحب لي كرسيا. - «أيها الأب هوفسترادر ...» - «أوه، لا، أنا لست الأب هوفسترادر، الأب هوفسترادر ليس هنا؛ هو في إجازة.»
للحظة لم أعرف كيف أتابع. - «سأبذل قصارى جهدي لأساعدك.»
قلت: «هناك امرأة، امرأة تحتضر في مستشفى الأميرة مارجريت في تورنتو ...» - «نعم، نعم، نعرف مستشفى الأميرة مارجريت.» - «تطلب مني، لدي رسالة منها، تريد أن ترى الأب هوفسترادر.» - «هل هي عضو في الأبرشية؟» - «لا أعرف، لا أعرف إذا كانت كاثوليكية أم لا. إنها من هنا. من جويلف. هي صديقة لم أرها منذ زمن طويل.» - «متى تحدثت معها؟»
اضطررت أن أشرح له أني لم أتحدث معها، كانت نائمة، لكنها تركت لي رسالة. - «لكنك لا تعرفين إذا كانت كاثوليكية؟»
كان مصابا ببثرة متقرحة في زاوية فمه. لا بد أن التحدث كان مؤلما له. - «أعتقد أنها كذلك، لكن زوجها ليس كاثوليكيا ولا يعرف أنها كذلك، لا تريد أن يعرف.»
قلت هذا أملا في أن أجعل الأمور أوضح، مع أني لم أعرف يقينا إذا كانت حتى حقيقية. خطر لي أن هذا القس ربما يفقد اهتمامه بالمسألة تماما في وقت قصير. قلت: «لا بد أن الأب هوفسترادر على علم بكل هذا.» - «لم تتحدثي معها؟»
قلت إنها كانت تحت تأثير العلاج لكن ليس هذا هو الوضع طول الوقت وإني متأكدة أنها تمر بفترات وعي كامل. شددت على هذا أيضا لأني اعتقدت أنه ضروري. - «لو كانت ترغب في الاعتراف، فهناك قساوسة في مستشفى الأميرة مارجريت.»
لم يتفتق ذهني عن شيء آخر أقوله. أخرجت الرسالة، وفردت الورقة، وأعطيته إياها. رأيت أن الخط ليس جيدا بقدر ما اعتقدت. كان يبدو مقروءا عند مقارنته بالحروف التي على الظرف فحسب. ظهر على وجهه تعبير اضطراب. - «من ك؟» - «زوجها.» كنت قلقة من أن يسأل على اسم الزوج، لكي يتصل به، لكن بدلا عن هذا سأل عن اسم شارلين. «اسم تلك المرأة» كما قال. - «شارلين سوليفان». كان عجيبا أني تذكرت كنيتها. وشعرت بالاطمئنان للحظة لأنه كان اسما يبدو كاثوليكيا. بالطبع قد يظن القس أنها كنية الزوج، وأنه هو الكاثوليكي، لكنه قد يستنتج أنه قد ارتد، وهذا سوف يضفي على كتمان شارلين مزيدا من الوضوح وعلى رسالتها مزيدا من الإلحاح. - «لماذا تحتاج إلى الأب هوفسترادر؟» - «أعتقد أنه أمر خاص على الأرجح.» - «كل الاعترافات هي أمور خاصة.»
قام بحركة ليقوم لكني بقيت في مكاني. جلس ثانية. - «الأب هوفسترادر في إجازة لكنه ليس خارج البلدة. يمكنني أن أهاتفه وأسأله عن هذا؛ إن كنت تصرين.» - «نعم، من فضلك.» - «لا أحب أن أزعجه؛ هو يعاني من وعكة صحية.»
قلت: إذا لم يكن بصحة تمكنه من قيادة السيارة بنفسه إلى تورنتو يمكن أن أصطحبه. - «نستطيع أن نتولى مسألة نقله عند الضرورة.»
نظر حوله ولم ير ما يريده، وخلع غطاء قلم أخرجه من جيبه، ثم قرر أن المساحة الفارغة من الرسالة صالحة ليكتب عليها. - «إذا تكرمت بإعطائي الاسم. تشارلوت ...» - «شارلين.» •••
ألم تغوني فكرة الاعتراف طوال هذه الثرثرة؟ ولو مرة واحدة؟ أن أنهار وأبوح بما بداخلي، لمصلحتي ليس إلا، تحت مظلة هذا الغفران الواسع، المخادع رغم ذلك. لكن لا، لست أنا . ما حدث قد انتهى. وأفواج الملائكة ودموع الدم على وجوه التماثيل لن تغير شيئا منه. •••
جلست في السيارة بدون أن أفكر في تشغيل الموتور، مع أني كنت أتجمد من البرد مع حلول هذا الوقت. لم أعرف ماذا أفعل بعد ذلك. كنت أعرف ماذا بوسعي أن أفعل. التوجه نحو الطريق السريع واللحاق بسرب السيارات الدائم اللامع المتجه إلى تورنتو، أو أجد مكانا لأقضي الليلة، إذا ما رأيت أن لا قوة لدي على القيادة. توفر معظم الأماكن لك فرشاة أسنان، أو توجهك لآلة تستطيع أن تحصل منها على واحدة. عرفت ما كان من الضروري ومن الممكن فعله، لكنه كان يفوق طاقتي في تلك اللحظة. •••
كان من المفترض أن تظل القوارب البخارية على مسافة كبيرة من الشاطئ، وخاصة من منطقة مخيمنا، بحيث لا تزعج الأمواج المرتفعة سباحتنا. لكن في ذلك الصباح الأخير، صباح الأحد، بدأ قاربان منها في التسابق والدوران قريبا؛ ليس قريبا إلى حدود الطوف، بالطبع، لكن قريبا بما يكفي لخلق أمواج. كان الطوف يتأرجح وارتفع صوت بولين في صياح توبيخي وجزع. لكن كان يصدر عن القوارب البعيدة ضجة عالية منعت قائديها عن سماعها، وعلى كل فقد خلقا موجة كبيرة اندفعت تجاه الشاطئ، وتسببت في جعل معظمنا في المياه السطحية إما أن يقفزوا معها أو أن يسقطوا في المياه.
فقدنا - شارلين وأنا - موقع أقدامنا. كنا نعطي ظهرينا إلى الطوف؛ لأننا كنا نراقب فيرنا قادمة إلينا. كنا نقف في مياه تصل إلى آباطنا، وبدا أننا ارتفعنا وهوينا في اللحظة نفسها التي سمعنا فيها صياح بولين. ربما صحنا كما فعل العديد؛ خوفا في البداية ثم بهجة حين وقفنا مجددا على أقدامنا وتجاوزتنا تلك الموجة. وتبين أن الأمواج التي تلتها ليست قوية، فاستطعنا أن نتماسك في مواجهتها.
في تلك اللحظة التي سقطنا فيها، كانت فيرنا تنحدر نحونا. حين طفونا، ووجهانا مبللان وأذرعنا تخفق، رأينا جسدها يمتد تحت سطح الماء. سادت جلبة من الصراخ والصياح في كل مكان، وتزايدت مع وصول الموجات الأقل شدة، ومن فوت الهجمة الأولى ادعى أن الثانية ارتطمت به وأسقطته. لم ينغمس رأس فيرنا في الماء، لكنها الآن لم تكن واقفة في جمود بل كانت تدور باسترخاء، بخفة مثل قناديل البحر. وضعنا - شارلين وأنا - أيدينا عليها، على قبعتها المطاطية.
يمكن أن يكون هذا حادثا. كما لو أننا - إذ كنا نحاول أن نستعيد توازننا - تشبثنا بهذا الشيء المطاطي الضخم القريب منا، دون أن ندرك ما هو أو ما نفعل. لقد فكرت في جميع الاحتمالات. أعتقد أنه كان سيغفر لنا. فلسنا سوى أطفال صغار؛ مرعبين.
نعم، بالتأكيد. طفلتان لم تدركا ما كانتا تفعلان.
أهذا صحيح، من ناحية ما؟ إنه صحيح من حيث إننا لم نقرر أي شيء، في البداية. لم تنظر إحدانا إلى الأخرى وقررنا أن نفعل ما فعلنا بوعي فيما بعد. بوعي؛ لأن أعيننا تلاقت بالفعل بينما رأس فيرنا يحاول الصعود إلى سطح المياه. كان رأسها مصمما على الخروج، مثل قطعة الزلابية التي تقلى على نار هادئة. بقية جسمها كان يتحرك تحت المياه حركات ضعيفة بلا هدف، لكن رأسها عرف ما يجب عليه فعله.
كان يمكن أن تنزلق قبضتانا من على الرأس المطاطي، القبعة المطاطية، لولا أن الرسومات البارزة عليها جعلتها أقل زلاقة. أتذكر لون القبعة جيدا، الأزرق الفاتح الكالح، لكني لم أستطع معرفة كنه الرسومات - أكانت سمكة، عروس بحر، زهرة؟ - التي كانت أطرفها البارزة تحتك بكفي.
ظللت - أنا وشارلين - ينظر بعضنا لبعض، بدلا من النظر إلى الأسفل، إلى ما كانت تفعله أيدينا. كانت عيناها واسعتان تتلألآن جزلا، مثل عيني كذلك على ما أظن. لا أعتقد أننا شعرنا بأننا شريرتان، ننتصر بشرنا، بل شعرنا أكثر كما لو أننا نفعل، لدواعي الذهول، ما هو مطلوب منا؛ كما لو أن هذه هي أهم لحظة، لحظة الذروة، في حياتنا؛ ذروة تحققنا.
يمكن أن تقول إننا تجاوزنا مرحلة العودة. لم يعد لدينا خيار، لكني أقسم أن هذا الخيار لم يخطر على بالنا، لم يخطر قط على بالنا.
لم يستغرق الأمر كله أكثر من دقيقتين؛ ثلاثة؟ أم دقيقة ونصف؟
يبدو من المبالغ فيه أن أقول إن السحب الكئيبة انقشعت في ذلك الوقت تماما، لكن في مرحلة ما - ربما مع خرق القوارب البخارية للقواعد، أو حين صرخت بولين، أو حين ضربت الموجة الأولى، أو حين توقف الجسم المطاطي تحت أكفنا عن أن تكون له إرادته الخاصة به - أشرقت الشمس، وظهر مزيد من الآباء على الشاطئ، وتتالت النداءات علينا جميعا بأن نتوقف عن العبث ونخرج من المياه. انتهت السباحة. انتهت في هذا الصيف بالنسبة لهؤلاء الذين يعيشون بعيدا عن البحيرة أو حمامات السباحة البلدية. كانت حمامات السباحة الخاصة في مجلات السينما فقط.
كما قلت، تخونني ذاكرتي عند محاولة تذكر لحظة الانفصال عن شارلين، وركوب سيارة والدي؛ لأنها لم تكن لحظة مهمة. في ذلك السن، كانت الأشياء تنتهي. كنا تتوقع نهاية للأشياء.
أنا متأكدة أننا لم نقل أي شيء تافه أو مهين أو غير ضروري مثل «لا تقولي لأحد».
أستطيع أن أتخيل بداية القلق، الذي كان يمكن أن ينتشر بسرعة كبيرة لولا الاضطراب الذي ساد المشهد؛ فقد طفل صندله، طفلة من الأطفال الصغار تصرخ أن رملا دخل عينها من الأمواج. بالتأكيد كان أحد الأطفال يتقيأ؛ بسبب الإثارة التي حدثت في المياه أو إثارة وصول العائلات أو الإفراط في أكل الحلوى.
بعد وقت قصير، لكن ليس على الفور، تحول مسار القلق إلى هذا: هناك شخص مفقود. - «من؟» - «حالة من الحالات الخاصة.» - «أوه لا. كان هذا متوقعا للأسف.»
كانت المرأة المسئولة عن الأطفال من الحالات الخاصة تجري في كل مكان، لا تزال في ثوب سباحتها المشجر، يترجرج لحم ذراعيها وساقيها. صوتها غاضب ومليء بالدموع.
يذهب شخص ما للبحث في الغابة، يصعد ممرها الوعر، ينادي اسمها. - «ما اسمها؟» - «فيرنا.» - «انتظري.» - «ماذا؟» - «ما هذا الذي يطفو على الماء؟» •••
لكن أعتقد أننا كنا قد رحلنا حينئذ.
الحرش
روي منجد ومرمم أثاث. يقبل كذلك إصلاح الكراسي والموائد التي فقدت روافدها أو أرجلها، أو في حالة متهالكة. لا يعمل الكثير من الناس هذا النوع من العمل الآن؛ لذا يحصل روي على عمل أكثر من وسعه. ولا يعرف كيف يتصرف حيال ذلك. إن مبرره بشأن عدم تعيين أي شخص يساعده هو أن الحكومة سوف تجبره على خوض الكثير من الإجراءات البيروقراطية، لكن ربما كان السبب الحقيقي هو أنه اعتاد العمل وحيدا؛ فهو يعمل بتلك المهنة منذ أن سرح من الجيش، ومن الصعب عليه أن يتصور وجود شخص آخر معه طوال الوقت. لو كان هو وزوجته ليا، أنجبا ولدا، فلعله شب مهتما بالعمل والتحق به حين يبلغ العمر المناسب؛ أو حتى لو كانا أنجبا بنتا. فكر ذات مرة في أن يدرب ديان، ابنة أخت زوجته. حين كانت طفلة، كانت تظل معه تراقبه، وحين تزوجت، فجأة في سن السابعة عشرة، ساعدته في بعض الأعمال لأنها احتاجت وزوجها إلى المال. لكنها حبلت، وأصابتها بالغثيان روائح مزيل الطلاء ودهان الخشب وزيت الكتان ومادة الصقل والتلميع ودخان الخشب؛ أو هذا ما قالته لروي. قالت لزوجته السبب الحقيقي؛ إن زوجها يعتقد أنه ليس نوع العمل المناسب لامرأة.
والآن لديها أربعة أطفال وتعمل في مطبخ دار للمسنين. كما يبدو، يرى زوجها هذا العمل مناسبا.
تقع ورشة روي في السقيفة خلف المنزل. يدفئها موقد الخشب، وتسبب الموقد وضرورة توفير وقود له في انشغال آخر لدى روي، انشغال خاص لكن ليس سريا؛ بمعنى، يعرف الجميع به لكن لا أحد يعرف إلى أي مدى يفكر به أو ما مدى أهميته له.
ألا وهو قطع الأشجار.
يملك روي شاحنة نصف نقل ومنشارا آليا وفأسا تزن ثمانية أرطال. وأصبح يقضي وقتا أطول وأطول في الحرش يقطع حطبا للتدفئة؛ أكثر مما يحتاج لنفسه كما اتضح؛ لهذا اتجه إلى بيعه. تحتوي المنازل الحديثة في غالبيتها على مدفأة في غرفة المعيشة وأخرى في غرفة الطعام وموقد في غرفة العائلة. وترغب هذه المنازل في التدفئة طوال الوقت؛ لا في أوقات الحفلات أو أعياد الكريسماس فقط.
حين بدأ يذهب إلى الحرش كانت ليا تشعر بالقلق عليه. قلقت من أن يتعرض لحادث وحيدا، ومن أن يصاب عمله بالركود. لم تقصد أن حرفيته وبراعته قد تتأثر، بل قد يتأثر جدوله الزمني. قالت: «لن يسعدك أن تخذل الناس. لو أن شخصا يريد شيئا ما في موعد محدد فلديه سبب لذلك.»
كانت ترى أن عمله التزام عليه؛ شيء ما يفعله ليساعد الناس. شعرت بالحرج حين رفع أسعاره، وكذلك هو في الحقيقة، وبذلت جهدا خاصا كي تخبر الناس كم هي تكلفة المواد الخام هذه الأيام.
أثناء ما كانت تعمل في وظيفتها، لم يكن صعبا عليه أن ينطلق إلى الحرش بعد أن تغادر ويحاول أن يعود قبل أن تصل إلى البيت. كانت ليا تعمل موظفة استقبال ومحاسبة لدى أحد أطباء الأسنان في البلدة. كان عملا جيدا بالنسبة لها - لأنها تستمتع بالحديث مع الناس - وجيدا بالنسبة إلى الطبيب؛ لأنها تنحدر من عائلة ضخمة ومترابطة لن يفكر أي شخص منهم في أن يعتني بأسنانه أحد سوى رئيسها.
اعتاد أقاربها، آل بولس وآل جيترز وآل بوولز أن يوجدوا في المنزل كثيرا، أو العكس؛ تذهب ليا إلى أحد منازلهم. كانوا جميعا عشيرة لم تستمتع بصحبة أحدها الآخر دائما، لكنها حرصت على التجمع كثيرا. وهكذا تجد عشرين أو ثلاثين منهم محتشدين في مكان واحد لقضاء عيد الميلاد أو عيد الشكر، وقد تجد دستة منهم مجتمعين في يوم أحد عادي؛ يشاهدون التليفزيون ويتحدثون ويطبخون ويأكلون. يحب روي أن يشاهد التليفزيون ويحب أن يتحدث ويحب أن يأكل، لكن لا يحب أن يمارس نشاطين من تلك الأنشطة في الوقت نفسه، وبالتأكيد لا يحب ممارسة الثلاثة معا؛ لهذا حين يختارون التجمع في منزله يوم أحد، اعتاد أن ينهض ويذهب إلى السقيفة ويشعل نارا من خشب الصلب أو خشب التفاح؛ أيا منهما، لكنه كان يفضل خشب التفاح خاصة لرائحته المريحة العذبة. كان روي يحتفظ دائما بزجاجة من الويسكي على الرف بجوار مزيلي الدهان والزيوت على مرأى الأعين. كان لديه منه في المنزل كذلك، ولم يكن يبخل على صحبته به، لكن الشراب الذي يسكبه لنفسه حين يكون وحده في السقيفة أفضل مذاقا، بالضبط كما تفوح من النيران رائحة أفضل حين لا يكون شخص ما موجودا ليقول: «أوه، أليس هذا رائعا؟» لم يشرب قط أثناء عمله على الأثاث، أو مع ذهابه إلى الحرش، يشرب في أيام الأحد المليئة بالزائرين فقط.
لم يتسبب تركه المنزل وجلوسه وحيدا في أية مشكلات. لم يشعر الأقارب بالإهانة؛ فهم لم يهتموا كثيرا بمن هم على غرار روي، الذين انتسبوا إلى العائلة حديثا، ولم يسهموا فيها بأي أطفال، وليسوا مثلهم. كانوا يتميزون بضخامة الجسد، وعدم التحفظ، والثرثرة. في حين كان روي قصيرا، مكتنزا وهادئا. كانت زوجته امرأة بسيطة وودودة في العموم، وأحبت روي كما هو؛ لهذا لم توبخه أو تعتذر عن سلوكه.
شعر كلاهما، على نحو ما، بأنهما عنيا لأحدهما الآخر أكثر من الأزواج الذين لديهم العديد من الأطفال.
في الشتاء الماضي مرضت ليا بأنفلونزا - ظلت معها طوال الشتاء تقريبا - والتهاب شعبي. اعتقدت أنها التقطت كل الجراثيم التي يأتي بها الناس إلى عيادة طبيب الأسنان. لهذا تركت عملها؛ قالت إنها تعبت منه على كل حال، وترغب في أن يكون لديها مزيد من الوقت لكي تفعل الأشياء التي رغبت دائما في فعلها.
لم يعرف روي قط ما تلك الأشياء. تدهورت قوتها ولم تستعدها قط. وعلى ما يبدو نتج عن هذا تغير عميق في شخصيتها. أصبح الزائرون يصيبونها بالعصبية؛ خاصة عائلتها. أصبح الحديث يرهقها. لم ترغب في الخروج. لبت متطلبات البيت لكنها كانت ترتاح بين الأعمال المنزلية اليومية؛ فاستغرقت الأعمال الروتينية البسيطة منها اليوم كله. فقدت اهتمامها بمشاهدة التليفزيون، مع أنها كانت تشاهده حين يشغله روي، وفقد جسدها المستدير اللطيف شكله فأصبح رفيعا ومسطحا. جف الدفء واللمعان، وكل ما كان يجعلها جميلة، من وجهها وعينيها البنيتين.
وصف لها الطبيب أقراصا ما لكنها لم تستطع تحديد ما إذا كانت حسنت حالتها أم لا. أخذتها واحدة من أخواتها إلى طبيب متخصص في الطب البديل، وكلفتها الاستشارة ثلاثمائة دولار. ولم تستطع أن تعرف إذا كان هذا حسنها أم لا كذلك.
يفتقد روي زوجته التي عرفها ، بمزاحها وحيويتها. يريدها أن تعود، لكن ليس بيده شيء، سوى أن يصبر على هذه المرأة المتجهمة الفاترة التي تشيح بيدها أمام وجهها في بعض الأحيان كما لو أن نسيج عنكبوت يزعجها أو أنها علقت في شبكة من نبات العليق. ومع ذلك حين يسألها عن نظرها تزعم أنه جيد.
لا تقود سيارتها الآن. لا تقول أي شيء عن ذهاب روي إلى الحرش.
تقول ديان إنها ربما تتجاوز وعكتها وربما لا (وديان هي الشخص الوحيد الذي لا يزال يأتي إلى المنزل).
قال الطبيب إن حالتها جيدة، منتقيا كلماته بعناية. يقول إن الدواء الذي وصفه لها سوف يحميها من أن تتدهور بشدة. ولكن ما الذي يعنيه التدهور بشدة، ومتى يمكننا معرفة ذلك؟ كان هذا ما فكر فيه روي. •••
في بعض الأحيان يعثر روي على حرش قام عمال مصنع الأخشاب بقطع أشجاره، وتركوا قمم الأشجار على الأرض. ويعثر أحيانا على حرش دخله المسئولون عن رعاية الغابة وطوقوا الأشجار التي رأوا أنه يجب إزالتها لأنها سقيمة أو معوجة أو لا تصلح خشبا للبناء. فخشب الصلب؛ على سبيل المثال، لا يصلح خشبا للبناء، ولا الزعرور البري ولا الزان الأزرق. حين يعثر على حرش من هذا يتصل بالمزارع أو من يملكه أيا كان، ويتفاوضان، وإذا اتفقا على السعر، يذهب ليجمع الخشب. يقع كثير من هذه الأعمال في أواخر الخريف، نحن الآن في نوفمبر أو أوائل ديسمبر؛ لأنه وقت بيع الحطب ولأنه الوقت المناسب لإدخال شاحنته في الحرش. لا يملك المزارعون حاليا طريقا معروفا يصل إلى الأحراش كما في السابق حين كانوا يقطعون الخشب ويحملونه بأنفسهم. يضطرون في الغالب إلى أن يقودوا سياراتهم بأنفسهم عبر الحقول، وهذا متاح في فترتين من العام فقط؛ قبل حرث الحقول وبعد جمع المحاصيل.
والأفضل بعد جمع المحاصيل، حين تكون الأرض قاسية بسبب الصقيع. والطلب على الخشب أعلى من أي وقت آخر في العام. يخرج روي مرتين أو ثلاثة في الأسبوع الواحد.
يميز العديد من الناس الشجر بأوراقه أو بشكله العام أو بحجمه ، لكن روي يعرفه، حين يسير عبر الحرش العاري، من لحائه. شجر خشب الصلب؛ هذا الحطب الثقيل الذي يعتمد عليه، يغطي جذعه العريض لحاء بني أشعث، لكن فروعه ناعمة عند أطرافها وحمراء بوضوح. الكرز هي الشجرة الأكثر سوادا في الحرش، ولحاؤها على شكل حراشف جميلة. يندهش معظم الناس من العلو الذي تصل إليه أشجار الكرز هنا؛ فهي لا تماثل إطلاقا أشجار الكرز في بساتين الفواكه. تشبه أشجار التفاح مثيلاتها في البساتين؛ فهي ليست طويلة جدا، لحاؤها ليس قشريا أو غامقا مثل لحاء الكرز. شجرة الدردار شجرة باسلة بجذع مضلع صلب. أما لحاء شجرة القيقب الرمادي فيتمتع بسطح غير مستو، وتخلق ظلاله شرائط سوداء، تلتقي في بعض الأحيان في مربعات عشوائية، وفي بعض الأحيان لا تكون شكلا مربعا. يبدو اللحاء غير مبال بشكله، وهو أمر يبعث على الراحة ويتناسب مع شجرة القيقب الكندية الوطنية المألوفة، ومع ما يراه الناس حين يفكرون في شجرة.
البلوط والزان وضعهما مختلف تماما؛ يتمتعان بشيء ما لافت ودرامي، مع أنهما لا يتمتعان بشكل جميل مثل أشجار الدردار الجميلة التي انقرضت تقريبا الآن. الزان لديه لحاء رمادي ناعم، مثل جلد الفيل يستخدم غالبا لحفر أحرف الأسماء الأولى. تتمدد تلك النقوش مع السنين والعقود، فتتحول من نقش بسكين رفيع إلى لطخات تجعل الحروف غير مقروءة، وعرضها يفوق طولها.
يعلو الزان إلى مائة قدم في الحرش. في العراء ينتشر ويماثل عرضه طوله، لكن في الحرش يعلو، وتنعطف فروعه في الأعلى انعطافا حادا فتبدو مثل قرون الأيل. لكن تلك الشجرة ذات المظهر المتكبر قد تعاني من نقطة ضعف، ألا وهي تعرج ألياف أخشابها، الذي يظهر عبر وجود تموجات في لحائها. وهي علامة على احتمال تعرضها للكسر أو السقوط مع الرياح القوية. أما شجرة البلوط؛ فهي ليست منتشرة في هذا البلد، ليست منتشرة انتشار الزان لكن من السهل العثور عليها. فكما تبدو أشجار القيقب الشجرة المعتادة اللازم زراعتها في الفناء الخلفي. كذلك تبدو شجرة البلوط مثل الشجر في كتب الحكايات، كما لو أن الحرش في جميع القصص التي تبدأ ب «كان يا ما كان» يكون مليئا بأشجار البلوط. تساهم أوراقها الغامقة، اللامعة والمسننة بإحكام في مظهرها الأسطوري، لكنها تظل محتفظة بالطابع نفسه حين تسقط الأوراق وتستطيع أن ترى جيدا اللحاء الفليني السميك بلونه الأسود الرمادي وسطحه المعقد وتموج الفروع وتعرجاتها المتشعبة.
يعتقد روي أنه لا خطر في قطع الشجرة وحدك لو أنك تعرف ما تفعل. حين تقطع شجرة، أول شيء هو أن تحسب مركز جاذبيتها، ثم تغرز وتدا بزاوية سبعين درجة بحيث يكون مركز الجاذبية فوقه تماما. وبالطبع يحدد الجانب الذي ينغرس فيه الوتد الاتجاه الذي سوف تسقط نحوه الشجرة. ثم تبدأ القطع من الجانب المقابل، دون أن تصل إلى قطع الوتد بل تقطع بالتوازي مع أعلى نقطة به. إن الفكرة هي أن تقطع عبر الشجرة وتترك في النهاية جزءا عالقا من الجزع هو مركز ثقل الشجرة ذاته الذي يجب أن تسقط من ناحيته. من الأفضل أن تحرص على أن تسقط دون أن تتشابك مع فروع الأشجار الأخرى، لكن في بعض الأحيان يستحيل تحقيق ذلك. وإذا كانت الشجرة تميل ناحية فروع أشجار أخرى، ولا يتاح لك قيادة الشاحنة إلى موقعها لتسحبها بسلسلة، تقطع الجذع إلى أقسام من أسفل حتى ينحدر الجزء العلوي متحررا من الفروع الأخرى ثم يسقط. حين تنحدر شجرة لتصبح مستندة على أفرعها، في وسعك إسقاط الجذع على الأرض عبر قطع أخشاب الفروع حتى تصل إلى تلك التي تبقي الشجرة مرتفعة عن الأرض. هذه الفروع تكون تحت ضغط، ربما تكون منثنية مثل القوس، وتكمن البراعة هنا في أن تقطعها بحيث تتدحرج الشجرة بعيدا عنك ولا تخبطك الفروع. وحين ترقد على الأرض بأمان، تقطع الجذع إلى أطوال تصلح للموقد ثم تقسمها إلى نصفين بالفأس.
في بعض الأحيان تحدث مفاجآت. لا تنشق بعض كتل الخشب بالفأس مثل المعتاد؛ يجب أن ترقدها على جنبها وتفلقها بالمنشار. وتجمع نشارة الخشب التي نتجت عن طريقة القطع هذه في شكل أشرطة طويلة رفيعة. إضافة إلى ذلك ، يجب شق بعض خشب الزان أو القيقب على نحو جانبي، تقطع الكتلة المستديرة الكبيرة بموازاة حلقات النمو من كل الجوانب حتى تصبح مربعة تقريبا ويمكن فلقها بسهولة. في بعض الأحيان، يوجد خشب عطن، نما الطحلب فيما بين حلقات نموه. لكن عامة تكون صلابة كتل الخشب كما تتوقع؛ أكبر في خشب الجذع عن خشب الأفرع، وأكبر في الجذوع العريضة التي نمت جزئيا في العراء عن تلك الرفيعة الطويلة التي شقت طريقها إلى الأعلى في وسط الحرش.
كلها مفاجآت. لكن يمكنك أن تستعد لها. وإذا كنت مستعدا لها فلا خطر عليك. اعتاد أن يفكر في شرح كل هذا لزوجته. الإجراءات والمفاجآت وكيفية التعرف على الأشجار. لكنه لم يستطع أن يجد الأسلوب المناسب ليجذب انتباهها إلى الموضوع. تمنى في بعض الأحيان، لو أنه قد تحين الفرصة لنقل هذه المعرفة إلى ديان حين كانت أصغر عمرا. لن تملك وقتا الآن لتصغي إليه.
وعلى نحو ما كانت أفكاره عن الخشب أفكارا خاصة جدا؛ شرهة واستحواذية. لم يكن قط رجلا شرها فيما يخص أي شيء آخر، لكنه يمكن أن يظل مستلقيا ليالي يفكر في شجرة زان رائعة يريد أن يحصل عليها، متسائلا ما إذا كانت رائعة كما يبدو من شكلها أم أن غطاءها خادع. يفكر في جميع غابات الخشب في البلد التي لم يرها قط؛ لأنها توجد في خلفيات المزارع، خلف حقول خاصة. لو كان يقود عبر طريق يمر بحرش، يحرك رأسه من جانب إلى آخر؛ إذ يخشى أن يفوته شيء ما. يلفت انتباهه حتى الشجر الذي لن يلبي غرضه؛ أجمة الزان الأزرق، على سبيل المثال، رقيقة جدا، هزيلة جدا لن يكلف أي شخص عناء النظر إليها. يرى الأضلاع الرأسية الداكنة تنحدر نزولا عبر الجذوع الشاحبة؛ سوف يتذكر مكان هذه الأشجار. يحب أن يرسم خريطة في ذهنه لكل حرش يراه، ومع أنه قد يبرر هذا بأهداف عملية، فتلك ليست الحقيقة كلها. •••
بعد يوم أو أكثر من أول سقوط للثلج، يخرج إلى الحرش باحثا عن شجر مطوق . لديه الحق في دخول هذا الحرش؛ فقد تحدث مع المزارع بالفعل، اسمه سوتر.
على طرف هذا الحرش هناك مقلب نفايات غير قانوني، يرمي الناس نفاياتهم في هذه البقعة الخفية عوضا عن نقلها إلى مقلب نفايات المدينة، الذي لا تناسبهم مواعيده، أو يجدون موقعه غير قريب بما يكفي. يرى روي شيئا ما يتحرك هناك، أيكون كلبا؟
لكن اتضح أنه رجل عندما وقف على قدميه، رجل في معطف قذر. في الحقيقة هو بيرسي مارشال، ينكش القمامة بحثا عن أي شيء ذي قيمة. في بعض الأحيان في هذه الأماكن تكتسب مهارة في العثور على قدور فخارية قديمة ذات قيمة أو زجاجات أو حتى غلايات نحاسية، لكن لم يعد هذا احتمالا كبيرا الآن. فضلا عن أن بيرسي ليس منقب قمامة بارعا على أية حال. سوف يظل يبحث عن أي شيء يمكن أن يستخدمه فقط؛ مع أنه من الصعب أن يرى أي شيء وسط أكوام الحاويات البلاستيكية والأغطية الممزقة والأفرشة التي ينبثق منها حشوها.
يعيش بيرسي وحده في غرفة في الجزء الخلفي من منزل فارغ ومغلق بالألواح الخشبية عند تقاطع الطرق على بعد أميال قليلة من هنا. وتجده يمشي في الطرق، يمشي بمحاذاة الجداول وعبر البلدة، يتحدث إلى نفسه ويلعب في بعض الأحيان دور متسول أبله، وفي أحيان أخرى يقدم نفسه كأحد السكان المحليين المحنكين. إن حياة سوء التغذية والقذارة والتعب من اختياره. وقد جرب العيش في دار المسنين الخاصة بالمقاطعة لكنه لم يحتمل الروتين وصحبة الأعداد الكبيرة من كبار السن. منذ زمن طويل كان يملك مزرعة جيدة، لكن حياة المزارع رتيبة جدا؛ لذا بدأ العمل في تهريب الخمور وسرقة المنازل من غير إتقان؛ قضى بعض الوقت في السجن؛ وفي العقد الماضي أو نحو ذلك، تحسنت حالته من جديد بمساعدة معاش تقاعد قديم، فأصبح في وضع آمن. بل ونشرت جريدة محلية صورته مصحوبة بتقرير عنه، كان عنوانه:
آخر السلالة. روح حرة محلية تشاركنا القصص والبصيرة.
صعد بيرسي من مقلب النفايات بجهد، كما لو أنه شعر بأنه مجبر على تبادل حديث قصير مع روي. - «هل ستقطع الأشجار؟»
يقول روي: «ربما.» معتقدا أن بيرسي ربما يسعى وراء هبة من الحطب.
يقول بيرسي: «من الأفضل أن تسرع إذن.» - «لماذا؟» - «ستصبح المنطقة كلها ملكية خاصة.»
لا يستطيع روي أن يمنع نفسه عن أن يرضيه بأن يسأله أي ملكية يعني. بيرسي نمام لكنه ليس كذابا. على الأقل ليس بشأن الأشياء التي تعنيه حقا والتي هي الصفقات والمواريث واقتحام المنازل والمسائل المالية من الأنواع كافة. من الخطأ الاعتقاد بأن الناس الذين لم ينجحوا في جمع المال والاحتفاظ به لا يشغلهم التفكير به. ربما تكون مفاجأة للناس الذين يتوقعونه متشردا فيلسوفا، منغمسا تماما في ذكريات الماضي. على الرغم من أنه يستطيع أن ينطلق في الحديث قليلا عن هذا الماضي حين يكون ذلك مطلوبا.
يقول بيرسي: «سمعت عن هذا الشخص حين كنت في البلدة. لا أعرفه، يبدو أنه يدير مصنع خشب ولديه عقد مع ريفر إن وسوف يمدهم بالأخشاب التي يحتاجونها للشتاء كافة. كومة حطب يوميا، ذلك مقدار استهلاكهم، كومة حطب يوميا.»
يقول روي: «أين سمعت هذا؟» - «في الحانة، أذهب إلى هناك أحيانا. لا أحصل على أكثر من نصف لتر من البيرة. هناك وجدت هؤلاء الأشخاص الذين لا أعرف من هم، لكنهم لم يكونوا سكارى كذلك، يتحدثون عن مكان الحرش وكانوا يقصدون هذا الحرش تحديدا. حرش سوتر.»
تكلم روي مع المزارع الأسبوع الماضي فقط، واعتقد أنه حسم الصفقة تماما، لا يبقى إلا التنفيذ المعتاد.
قال روي في هدوء: «هذا مقدار وافر من الخشب.» - «هو كذلك بالفعل.» - «لو ينوون أخذها فكل ما عليهم هو الحصول على ترخيص.»
قال بيرسي بمتعة بالغة: «نعم، إلا إذا احتالوا.» - «ليس هذا من شأني، لدي ما يكفيني من العمل.» - «بالتأكيد، لديك ما يكفيك.» •••
لم يستطع روي في طريق عودته إلى المنزل منع نفسه عن التفكير في القصة. باع بعض الخشب في بعض المرات إلى ريفر إن. لكن لا بد أنهم قرروا الآن أن يتعاقدوا مع ممول واحد ثابت، ولم يكن هو.
كان يفكر في المشكلات التي سوف تقابله في إخراج كل هذا الخشب الآن، وقد بدأ الثلج يتساقط فعليا. إن الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يقوم به هو سحب الجذوع إلى حقل مفتوح قبل أن يبدأ الشتاء الحقيقي. سيكون على هذا الممول أن يخرجها بأسرع ما يمكن، ويجمعها في كومة كبيرة وينشرها ثم يقطعها فيما بعد. ولكي يخرجها سيحتاج إلى جرافة أو جرار كبير على الأقل. وسوف يضطر إلى تجهيز طريق لسحبها بالسلاسل. سيحتاج إلى طاقم عمل يساعده، فمن المستحيل أن تكون هذه عملية ينفذها شخص أو اثنان، يجب تنفيذها على نطاق واسع.
إذن لا تبدو العملية مشروعا جانبيا؛ من النوع الذي يقوم به روي. قد تكون شركة ضخمة، من خارج المقاطعة تماما.
لم يلمح إليوت سوتر إلى هذا العرض حين كان يتحدث معه روي. لكن من المحتمل أنهم تقدموا له بعرض فيما بعد، فقرر أن يتجاهل الترتيبات غير الرسمية التي عرضها عليه روي من قبل. قرر أن يسمح بدخول جرافة.
في المساء فكر روي أن يهاتفه ويسأل عما يحدث. لكنه فكر لو أن المزارع غير رأيه فعلا فلا يمكنه أن يفعل أي شيء. لا يمكن التمسك باتفاق شفهي، يمكن أن يقول له الرجل أن يغرب عن وجهه.
إن أفضل ما يمكن أن يفعله روي هو أن يتصرف كما لو أنه لم يسمع قط قصة بيرسي، لم يسمع قط عن شخص آخر؛ يذهب ويأخذ الأشجار الذي يستطيع أن ينقلها بأسرع ما يمكن قبل أن تصل الجرافة.
وبالطبع هناك احتمال أن بيرسي أخطأ في فهم الأمر برمته. لم يلفق القصة على الأرجح ليزعج روي فقط، لكنها يمكن أن تكون بلغته على نحو غير دقيق.
ومع ذلك فكلما فكر روي في القصة أكثر تقلص هذا الاحتمال. ظل يرى في ذهنه الجرافة والجذوع المسلسلة، وأكوام الجذوع الكبيرة في الحقل، والرجال مع مناشيرهم. تلك هي طريقة العمل اليوم، البيع بالجملة.
إن جزءا من السبب الذي جعل هذه القصة تؤثر عليه هذا التأثير الكبير هو أنه لا يحب ريفر إن، وهو فندق ومنتجع على نهر بيرجرين. لقد شيد على أطلال طاحونة قديمة لا تبعد كثيرا عن تقاطع الطرق الذي يسكن عنده بيرسي مارشال. في الحقيقة يملك الفندق الأرض التي يعيش بيرسي فوقها والبيت الذي يعيش فيه. كان لديه خطة لهدمه لكن اتضح أن نزلاءه، إذ لا يجدون ما يفعلونه، يحبون أن يمشوا حتى مكان هذا البيت المهجور ويلتقطوا صورا له وللجرافة القديمة ولعربة الخيل المقلوبة التي تقع إلى جانبه وللمضخة العاطلة ولبيرسي حين يسمح بتصويره. بعض النزلاء يرسمون اسكتشات، يأتون من أماكن بعيدة مثل أوتاوا ومونتريال ويظنون أنهم في مناطق نائية بلا شك.
يذهب أهل البلدة إلى الفندق لتناول وجبة غداء أو عشاء مميزة. ذهبت ليا مرة، مع طبيب الأسنان وزوجته وإخصائي الأسنان وزوجته. لم يذهب روي. قال إنه لا يريد أن يأكل وجبة ثمنها كل ما في محفظته، حتى ولو دفع شخص آخر ثمنها. لكنه ليس متأكدا تماما مما يكرهه في الفندق. فهو لا يعارض فكرة أن ينفق الناس المال آملين في إمتاع أنفسهم، وليس ضد فكرة أن يكسب أناس من أناس آخرين يريدون أن ينفقوا مالهم. بالتأكيد تولى ترميم القطع الأثرية في الفندق وإصلاحها حرفيون غيره - أشخاص ليسوا من هنا على الإطلاق - لكن لو كانوا طلبوا منه أن يقوم لهم بهذا العمل، لكان رفض على الأرجح، قائلا إن لديه ما يكفي من العمل بالفعل. حين سألته ليا عما يكره في الفندق، كان الشيء الوحيد الذي استطاع التفكير به هو حين تقدمت ديان بطلب وظيفة هناك، وظيفة نادلة، رفضوها؛ لأنها سمينة.
قالت ليا: «حسنا، لكنها كانت سمينة، ولا تزال، هي نفسها تقول هذا.»
حقيقي؛ لكن روي لا يزال يرى هؤلاء الناس متغطرسين، نصابين ومتغطرسين؛ فهم يشيدون مباني من المفترض أنها تشبه المحال القديمة والأوبرا القديمة للاستعراض فقط. يحرقون الحطب للاستعراض. كومة حطب في اليوم! وهكذا سوف يسوي عامل ما الحرش أرضا بالجرافة كأنه حقل ذرة. هذا هو نوع الخطط الاستبدادية التي عادة ما يحيكونها، أساليب النهب التي يفضلونها. •••
أخبر ليا القصة التي سمعها، لا يزال يخبرها أشياء، تلك هي عادته، لكنه اعتاد كذلك على ألا تعطيه أي انتباه حقيقي الآن حتى إنه لا ينتبه إلى كونها أجابته أم لا. هذه المرة رددت ما قاله نفسه: - «لا تهتم. لديك ما يكفي من العمل على كل حال.»
هذا ما توقعه، سواء كانت بحالة جيدة أم لا. لم تفهم المسألة، لكن أليس هذا ما تفعله الزوجات، والأزواج كذلك على الأرجح، معظم الوقت؟ •••
في الصباح التالي اشتغل لمدة من الوقت في إصلاح مائدة ذات أجنحة تطوى. كان ينوي أن يبقى في السقيفة طوال اليوم كي ينتهي من إصلاح قطعتين تجاوز ميعاد تسليمهما. بالقرب من الظهيرة سمع شكمان سيارة ديان المزعج فنظر من النافذة. هي هنا لتصطحب ليا إلى متخصص بالعلاج بعلم الانعكاسات (الرفلكسولوجي)؛ تعتقد أنه سيحسن ليا، وليا لا تعترض.
لكنها تتجه إلى السقيفة وليس إلى المنزل.
تقول: «مرحبا.» - «أهلا ديان.» - «عمل كثير، هه؟» - «كثير جدا. ما رأيك في العمل معي؟»
هذا هو حديثهما المعتاد. - «لدي وظيفة بالفعل. اسمع، السبب الذي جعلني آتي إليك هو أني أريد أن أطلب منك خدمة. أريد أن أستعير الشاحنة غدا؛ لكي آخذ تايجر إلى الطبيب البيطري، لا أستطيع التعامل معه في السيارة؛ كبر على السيارة. آسفة على اضطراري لطلب هذا منك.»
يطلب منها روي ألا تقلق.
يأخذون تايجر إلى الطبيب البيطري، هذا سوف يكلفهما كثيرا، هكذا فكر روي. - «لن تحتاج الشاحنة، أقصد يمكنك استخدام السيارة بدلا منها؟»
كان ينوي بالطبع أن يذهب إلى الحرش غدا، شريطة أن ينهي عمله اليوم. يمكنه الذهاب بعد ظهيرة اليوم إذن.
تقول ديان: «سوف أزودها بالوقود.»
أضاف ذلك مهمة أخرى إلى مهامه، وهي ملء السيارة بالوقود كي لا تملأها هي. كان على وشك أن يقول: «أتعرفين لم أرغب في الذهاب إلى الحرش، شيء ما استجد لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التفكير به ...» لكنها كانت قد خرجت وتوجهت لاصطحاب ليا.
ما إن ابتعدتا عن مجال نظره وانتهى من تنظيف المكان، حتى دخل إلى الشاحنة وقادها إلى البقعة التي كان فيها في اليوم السابق. فكر في أن يمر على بيرسي ويستفسر عن المزيد لكنه توصل إلى أنه لا نفع من هذا. ربما إظهار اهتمامه بالأمر يدفع بيرسي إلى اختراع أحداث أخرى. فكر مجددا في الحديث مع المزارع لكنه استبعد ذلك للأسباب ذاتها التي فكر فيها الليلة السابقة.
أوقف الشاحنة على الممر الذي يؤدي إلى الحرش. سريعا ما سيتلاشى هذا الممر، حتى قبل أن يغادره. بدأ يمشي متطلعا إلى الأشجار التي تبدو تماما مثل الأمس، ولا تدل على أنها جزء من أي خطة عدوانية. كان معه المنشار الآلي والفأس، وشعر أن عليه أن يسرع. لو ظهر أي شخص آخر هنا، لو منعه أو أوقفه أي شخص، سيقول إن لديه إذنا من المزارع، ولا يعرف أي شيء عن الصفقة الأخرى. سيقول إنه علاوة على ذلك ينوي المضي في القطع ما لم يأت المزارع ويطلب منه شخصيا أن يخرج من هنا. لو حدث هذا حقا، بالطبع سيضطر إلى أن يغادر. لكن هذا لن يحدث على الأرجح؛ لأن سوتر رجل ثقيل الوزن ويعاني من متاعب في مفصل وركه؛ لذا لا يحب التجول في أرضه. - «... يقولون لي غير مصرح لك ...» قال روي محدثا نفسه مثل بيرسي مارشال: «سأقول أريد أن أرى مستندا يثبت ذلك.»
كان يتخيل ما سيقوله لشخص غريب لم يره من قبل.
تتميز أرض الحرش عادة بأنها أكثر وعورة من سطح الأرض المحيطة. اعتقد روي دوما أن هذا يرجع إلى سقوط الأشجار؛ إذ تسحب الشجرة عند سقوطها التربة بجذورها، ثم تظل راقدة على السطح تتعطن. وحيث تقع وتتعطن، تتكون تلة صغيرة؛ أما حيث كانت جذورها فيصبح تجويفا فارغا. لكنه قرأ في مكان ما - منذ فترة قريبة جدا ويتمنى أن يتذكر أين قرأه - أن السبب هو ما حدث منذ وقت طويل، بعد العصر الجليدي مباشرة، حين تكون الثلج بين طبقات الأرض ودفعها إلى الأعلى في حدبات غريبة، كما يحدث اليوم في المناطق القطبية الشمالية. تظل الحدبات قائمة في المناطق التي لم تسو وتجهز. •••
ما حدث لروي بعد ذلك هو شيء عادي ولا يصدق مع ذلك. شيء قد يحدث لأي غبي يمشي في الحرش مستغرقا في أحلام اليقظة، لأي سائح يحملق في الطبيعة، لأي شخص يعتقد أن الحرش متنزه من متنزهات التريض. شخص يرتدي حذاء خفيفا بدلا من حذاء طويل الرقبة ولم يبال بالمشي بحذر. لم يحدث هذا قط لروي خلال مئات المرات التي مشى أثناءها في الحرش، لم يحدث ولو مرة واحدة أن تعرض لحادث وشيك من هذا النوع.
كان ثلج خفيف يتساقط منذ مدة؛ مما جعل التربة والأوراق الجافة زلقة. انزلقت إحدى قدميه والتوت، ثم انغرست الأخرى عميقا في غطاء من الأجمة الثلجية في التربة؛ ما يعني أنه خطا بلا اكتراث، سقط تقريبا، فوق بقعة من البقع التي يجب دائما أن تختبرها بقدمك بحذر، وأن تتفاداها تماما إذا رأيت موقعا أفضل لقدميك بالقرب منها. وحتى لو لم تتفادها، فلا يجب أن يحدث ذلك، لا يجب أن يسقط سقطة قاسية، فهو لم يتعثر في حفرة عميقة. فقد روي توازنه، وأخذ يتأرجح رغما عن إرادته، غير مصدق تقريبا ما يحدث له، ثم وقع مع قدمه التي انزلقت بطريقة ما خلف قدمه الأخرى. أمسك المنشار بحيث يظل بعيدا عنه بينما يسقط، وقذف بالفأس بعيدا. لكن ليس بعيدا بما يكفي؛ ضربته ذراع الفأس بشدة، في ركبة ساقه الملتوية. وسحبه المنشار إلى اتجاهه لكنه على الأقل لم يقع فوقه.
شعر أنه يسقط بالحركة البطيئة، بتمعن وتفكر وحتمية لا مفر منها. كان يمكن أن يكسر ضلعا لكنه لم يفعل. وكان يمكن أن تطير ذراع الفأس عاليا وتضربه في وجهه، لكن هذا لم يحدث، كان يمكن أن يجرح ساقه. لم يفكر في هذه الاحتمالات شاعرا براحة فورية لعدم حدوثها، بل كأنه ليس متأكدا بعد أنه لم يصب بأي منها. إن الطريقة التي بدأ بها كل هذا، الطريقة التي زلقت بها قدمه، ومشيه فوق الأجمة، وسقوطه، كانت غبية جدا وغريبة، وصعبا تصديقها، فيمكن أن يترتب عليها أي عاقبة منافية للعقل.
بدأ في سحب نفسه إلى الأعلى، أصيبت ركبتاه؛ واحدة من الفأس التي ضربته والأخرى من السقوط القاسي على الأرض. أمسك بجذع شجرة كرز صغيرة، حيث كان يمكن أن يرتطم رأسه، وسحب نفسه إلى الأعلى تدريجيا. وبتردد، وقف على قدم واحدة وبدأ يلمس الأرض بالكاد بالأخرى؛ القدم التي انزلقت والتوت تحته. سوف يحاول خلال دقيقة. انحنى ليلتقط المنشار فكاد أن يسقط مجددا. انطلق ألم من قدمه، ولم يتوقف حتى وصل إلى جمجمته. نسي المنشار، واعتدل، دون أن يعرف تماما أين موضع الألم. تلك القدم؛ هل ارتكز عليها بينما ينحني؟ انسحب الألم إلى الكاحل. عدل الساق بقدر ما استطاع، ثم جرب بحرص أن يضع القدم على الأرض، ويجرب أن يرتكز عليها. يا للألم الرهيب! لم يستطع أن يصدق ما يشعر به. هذا الألم لا يستطيع أن يصدق أنه سيستمر هكذا، سيستمر حتى يهزمه. لا بد أن الكاحل لم يلتو فقط؛ لا بد أنه انخلع. هل يمكن أن يكون مكسورا؟ لا يبدو مختلفا في حذائه الطويل عن كاحل القدم السليمة.
يعلم أنه سوف يضطر إلى تحمل الألم. عليه أن يعتاد عليه حتى يخرج من هنا. ظل يحاول، لكنه لم يحقق أي تقدم. لا يستطيع أن يقف عليه. لا بد أنه مكسور. كاحل مكسور؛ حتى هذا، إصابة صغيرة بالتأكيد، نوع من الحوادث التي تقع للسيدات العجائز حين ينزلقن فوق الثلج. لقد كان محظوظا. كاحل مكسور، إصابة صغيرة. مع ذلك لا يستطيع أن يخطو خطوة. لا يستطيع أن يمشي.
ما فهمه، أخيرا، أنه لكي يصل إلى شاحنته، عليه أن يترك منشاره وفأسه وينزل على يديه وركبتيه ويزحف. وهكذا نزل ببطء قدر استطاعته ثم استدار متتبعا آثار حذائه على الأرض، التي بدأ يملؤها الثلج الآن. فكر في تفقد جيبه حيث يضع المفاتيح لكي يتأكد من أنه مغلق بالسحاب. تخلص من قبعته وتركها تسقط على الأرض؛ فحرفها يحجب الرؤية. الآن أصبح الثلج يتساقط فوق رأسه العارية. لكنه لا يشعر ببرودة شديدة. ما إن تأقلم على الزحف أسلوبا للتحرك حتى وجد أنه ليس سيئا؛ أي ليس مستحيلا، مع أنه يؤلم يديه وركبته السليمة. كان يتحرك بحذر كاف الآن إذ يجر نفسه فوق الأجمة وعبر الشجيرات، وفوق الأرض الوعرة. ولو وجد منحدرا ما ليتدحرج فوقه كان يتجنبه فورا؛ عليه أن ينتبه لساقه المصابة. سره أنه لم يمر خلال أي أماكن سبخة، وأنه لم ينتظر وقتا أطول لكي يبدأ طريق العودة؛ فالثلج يتساقط أكثر وتنمحي تقريبا آثار حذائه. وبدون تتبع هذه الآثار، سيكون من الصعب عليه أن يعرف - وهو على الأرض - ما إذا كان يمشي في الطريق الصحيح أم لا.
أصبح الموقف - الذي بدا في البداية غير واقعي له - طبيعيا أكثر. كان يتقدم على يديه وكوعيه وركبة واحدة قريبا من الأرض، يختبر صلابة أحد جذوع الأشجار ثم يسحب نفسه فوقه ليزحف على بطنه، تتوسخ يداه بأوراق الشجر العطنة والطين والثلج؛ إذ اضطر إلى خلع قفازه؛ لأنه لن يستطيع التمسك بالتربة وتحسس الأشياء على أرض الحرش إلا بيديه المخدوشتين العاريتين الباردتين. لم يعد يندهش من نفسه في هذه المرحلة. كان يفكر بالكاد في فأسه ومنشاره اللذين تركهما خلفه، مع أنه في البداية لم يكد يستطيع تركهما وراءه. أصبح لا يفكر سوى في الحادثة ذاتها. لقد وقعت الحادثة، لا يهم كيف، لا تبدو المسألة برمتها غير معقولة أو غير طبيعية إطلاقا الآن.
أمامه تلة منحدرة انحدارا معقولا يمكنه رفع جسده عليه، حين يصل إليها سوف يلتقط أنفاسه، شاعرا بالرحة لأنه قطع هذه المسافة. دفأ يديه داخل الجاكيت، واحدة ثم الأخرى. لسبب ما فكر في ديان وهي ترتدي معطف التزلج الأحمر الذي لا يناسبها، ويقرر أن حياتها هي حياتها، ولا فائدة من القلق عليها. فكر في زوجته، التي تتظاهر بالضحك أمام التليفزيون. في هدوئها. على الأقل هي تشعر بالشبع والدفء، هي ليست متشردة تجر قدميها على الطرق. هناك أشياء أسوأ في الحياة، أشياء أسوأ.
يبدأ في تسلق التلة، يغرز كوعيه، وركبته الملتهبة الصالحة للاستخدام - رغم ذلك - أينما يستطيع. يواصل التقدم، يجز على أسنانه كما لو أن هذا سوف يحميه من الانزلاق للخلف؛ يتمسك بأي جذر مكشوف أو ساق قوي يراه. ينزلق في بعض الأحيان، فيثبت نفسه ويتوقف ثم يصعد بضع بوصات من جديد. لا يرفع رأسه قط ليقدر المسافة التي لا يزال عليه أن يقطعها. لو تظاهر بأن الصعود يستمر إلى الأبد، فسوف يكون الوصول إلى القمة مكافأة ومفاجأة.
استغرق التسلق وقتا طويلا. لكنه سحب نفسه إلى أرض مستوية أخيرا، وعبر الأشجار والثلج المتساقط كان بوسعه رؤية الشاحنة. الشاحنة الحمراء القديمة، طراز مازدا، صديقه الوفي القديم، ينتظره للأبد. بما أنه أصبح على أرض مستوية فقد ارتفعت توقعاته من نفسه مرة ثانية، بدأ يصعد على ركبتيه، محاذرا إيلام قدمه المصابة، برفق، برفق، نهض مهتزا على قدمه السليمة، جارا الأخرى، متأرجحا مثل السكير. حاول أن يقفز، لم ينجح؛ سوف يفقد توازنه على هذا النحو. حاول أن يرتكز قليلا على ساقه المصابة، بلطف، لكنه أدرك أن الألم يمكن أن يصيبه بالإغماء. نزل مرة ثانية إلى وضعه القديم ورجع يزحف. لكن بدلا من أن يزحف خلال الأشجار نحو الشاحنة، داور بزاوية قائمة، واتجه إلى مكان الذي يعلم أن الشاحنة تقف عنده. عندما وصل إلى هناك، بدأ في التقدم أسرع، زاحفا فوق الأخاديد القاسية والوحل الذي ذاب أثناء النهار لكنه بدأ في التجمد مرة ثانية. هذا قاس على ركبته وكفيه لكنه من جهة أخرى أسهل بكثير من الدرب الذي اضطر إلى أن يسلكه قبل ذلك حتى إنه يشعر ببعض الخفة. يستطيع أن يرى الشاحنة أمامه، تنظر إليه وتنتظره.
في وسعه القيادة. من حسن حظه أن الإصابة في الساق اليسرى. الآن، وقد مر الأسوأ، هاجمه كثير من الأسئلة المحيرة بينما بدأ يشعر بالراحة. من الذي سوف يذهب ويحضر المنشار والفأس له، كيف يمكن أن يشرح لأي شخص مكانهما تحديدا؟ كم سيمر من الوقت قبل أن يغطيهما الثلج؟ متى سوف يستطيع أن يمشي؟
لا فائدة من التساؤل. رجع يشق طريقه، رافعا رأسه ليلقي نظرة مشجعة أخرى على الشاحنة. يمكن أن يرتدي قفازه الآن، لكن ما الداعي لإتلافه؟
يخرج طائر ضخم من الحرش إلى جانبه فيرفع روي رأسه ليحدد نوعه. يعتقد أنه صقر، لكنه قد يكون صقرا جارحا. إن كان صقرا جارحا فهل سيخطط لمهاجمته، معتقدا أنه محظوظ بعدما أدرك أن فريسته مجروحة؟
ينتظر ليراه عندما يحوم راجعا، حتى يستطيع أن يعرف نوعه من طريقة طيرانه وجناحيه.
وبينما كان يفعل هذا، بينما كان ينتظر، ويلاحظ جناحي الطائر، الصقر الجارح، خطرت له فكرة جديدة عن قصة صفقة الأخشاب التي شغلته الأربع والعشرين ساعة الماضية. •••
الشاحنة تتحرك! متى حدث هذا؟ حين كان يراقب الطائر؟ في البداية تحركت حركة صغيرة، شعر بذبذبتها في الأرض؛ ربما يكون الأمر كله هلوسة. لكنه يستطيع أن يسمع صوت المحرك. الشاحنة ستذهب وتتركه. هل ركبها شخص ما بينما كان شاردا، أو هل كان ينتظر بداخلها شخص ما طوال الوقت. لقد أغلقها بالتأكيد، والمفاتيح معه. تحسس جيبه المغلق بالسحاب مرة ثانية. شخص ما يسرق الشاحنة أمام عينيه وبدون مفتاح. أخذ يصيح ويلوح من وضعه الراقد؛ كما لو أن هذا سوف ينفع. لكن الشاحنة لا تسير إلى الخلف نحو المنعطف لتغادر، بل تشق طريقها مباشرة إليه، والشخص الذي يقودها يزمر ببوقها، ليس محذرا بل محييا، ويبطئ السرعة.
يرى من هو.
الشخص الوحيد الذي لديه النسخة الأخرى من المفاتيح. الشخص الوحيد المحتمل؛ ليا.
ناضل روي كي يرتكز على ساق واحدة، بينما قفزت ليا من الشاحنة وجرت إليه لتسنده.
قال لها لاهثا: «لقد وقعت بكل بساطة، أغبى شيء فعلته في حياتي.» ثم فكر في أن يسألها كيف وصلت إلى هنا.
قالت: «لم آت طائرة.»
جاءت بالسيارة، كما لو أنها لم تقلع عن القيادة بتاتا، جاءت بالسيارة لكن تركتها عند الطريق.
أضافت: «هي ليست قوية لتتحمل هذا الطريق، وتوقعت أن تنغرس عجلاتها في الوحل، لكن هذا لم يحدث؛ فقد تجمد الوحل وأصبح صلبا.» - «رأيت الشاحنة فمشيت، وحين وصلت إليها فتحتها ودخلتها، وانتظرت . تصورت أنك سوف تعود قريبا؛ لأنها تثلج، لكني لم أتصور أنك سوف تعود على يديك وركبتيك.»
أنار المشي - وربما البرد - وجهها، وصقل صوتها. نزلت ونظرت إلى كاحله، وقالت إنها تعتقد أنه متورم.
قال: «كان يمكن أن يكون أسوأ.»
قالت إن هذه هي المرة الوحيدة التي لم تقلق فيها؛ المرة الوحيدة التي لم تقلق فيها، واتضح أنه كان عليها أن تشعر بالقلق (لم يكلف نفسه عناء أن يخبرها أنها لم تظهر أي قلق حيال أي شيء طوال شهور). لم تشعر بأي نذير. - «لقد أتيت لأقابلك كي أتحدث إليك؛ لأني لم أستطع أن أنتظر حتى تعود كي أخبرك بالفكرة التي خطرت لي بينما تعالجني المرأة، ثم رأيتك تزحف؛ فقلت يا للمصيبة!» - أية فكرة؟ - «أوه، تلك ... حسنا، لا أعرف ما سيكون رأيك فيها. أستطيع أن أقول لك فيما بعد. يجب أن نعالج كاحلك.» - أية فكرة؟
كانت فكرتها هي أن الشركة التي سمع عنها بيرسي غير موجودة. سمع بيرسي بعض الكلام لكنه لم يكن عن مجموعة من الغرباء استخرجوا تصريحا لقطع أشجار الحرش. ما سمعه كان عن روي نفسه. - «إليوت سوتر ليس سوى ثرثار كبير عجوز. أعرف تلك العائلة، زوجته كانت أخت آني بوول. ذهب في كل مكان يتباهى بالصفقة التي عقدها ويضيف إليها شيئا فشيئا، حتى وصلنا إلى هذا، مورد لريفر إن، ومائة كومة حطب يوميا. شخص يشرب بيرة ويستمع إلى شخص ما آخر يشرب بيرة وهذه هي النتيجة. أصبحت لديك عقد، بينما كل ما فعلته هو الاتفاق مع المزارع.»
قال روي: «ربما يبدو ما سأقوله غبيا ...» - «عرفت أنك ستقول هذا لكن فكر في الأمر فحسب ...» - «لا، أقصد أنه ربما يبدو غبيا قول إن الفكرة نفسها خطرت لي أنا نفسي منذ خمس دقائق.»
هذا بالفعل ما خطر له حين كان يتطلع إلى الصقر الجارح.
قالت ليا: «أنت أيضا إذن» ضاحكة في رضى، «كل ما يتصل بالفندق من قريب أو بعيد، اتضح كونه مجرد حكايات خيالية، من النوع الذي يتمحور حول صفقات ضخمة.»
تلك هي المسألة إذن. كان يسمع عن نفسه. كل هذا الاضطراب والارتباك راجع له.
لن تأتي الجرافة، لن يتجمع رجال بمناشير. أشجار الدردار والقيقب والزان وخشب الصلب والكرز كلها آمنة في انتظاره، آمنة في الوقت الحاضر.
تلهث ليا أثر ما تبذله من جهد في إسناده، لكنها تتمكن من قول: «العقول العظيمة تفكر على نحو متشابه.»
هذه ليست اللحظة المناسبة لذكر التغير الذي ألم بها، لن تملك آذانا صاغية الآن.
خبط قدمه وهو يرفع نفسه - وبينما تساعده ليا على هذا - إلى المقعد الخلفي من الشاحنة. تأوه، نوع مختلف من التأوه عما كان ليصدر عنه لو أنه وحده. لم يقصد أن يهول من ألمه، بل يتبع هذا الأسلوب فقط كي يصف ألمه لزوجته.
بل يعرضه عليها؛ لأنه يدرك أنه لا يحس بالشعور الذي اعتقد أنه سوف يغمره حين تسترد حيويتها. وربما تغطي الضجة التي يثيرها هذا النقص أو تبرره. بالطبع من الطبيعي أنه يشعر بقليل من الحذر، فهو لا يعرف ما إذا كان هذا التحسن سوف يستمر للأبد، أم أنها مجرد صحوة قصيرة.
لكن حتى لو دامت حيويتها إلى الأبد، حتى لو أنها أصبحت على ما يرام كلية، فهناك شيء ما آخر؛ خسارة ما تعكر هذا المكسب؛ خسارة ما سيخجل من أن يعترف بها، لو أن لديه طاقة.
يمنعه الظلام والثلج الكثيف من أن يرى أبعد من الأشجار الأولى. يتذكر أنه ذهب من قبل إلى الحرش في مثل هذا الوقت، حين يطبق الظلام في الشتاء المبكر. لكنه ينتبه الآن، يلاحظ شيئا ما في الحرش يعتقد أنه فات عليه في تلك الزيارات السابقة. لاحظ كم هو متشابك في حد ذاته، كم هو كثيف ومليء بالأسرار. إنه ليس مجرد مجموعة من الأشجار، واحدة تلو الأخرى، بل كل الأشجار تتشابك معا؛ تساعد بعضها وتتواطأ وتدبر شيئا واحدا، تتحول خلف ظهرك.
هناك اسم آخر للحرش، يتردد صداه في ذهنه، هنا وهناك يكاد أن يسمعه. إنه اسم طويل ذو طابع مشئوم لكنه بارد.
قال بآلية: «تركت الفأس، تركت المنشار.» - «ما المشكلة في ذلك؟! سوف نجد شخصا ما يذهب ويحضرهما.» - «والسيارة أيضا. هل ستخرجين وتقودينها وتتركيني آخذ الشاحنة؟» - «لا طبعا، هل جننت؟»
كان صوتها شاردا؛ لأنها كانت ترجع بالشاحنة إلى المنعطف. ببطء لكن ليس ببطء شديد، تهتز الشاحنة بينما تمر على الأخاديد لكنها لا تنحرف عن الطريق. لم يتعود على استخدام المرايا الجانبية من هذه الزاوية؛ لهذا ينزل النافذة ويخرج رأسه، متلقيا الثلج على وجهه. لم يفعل هذا ليراقب تقدمها بالشاحنة بل ليخفف إلى حد ما الدوار الذي يهاجمه.
قال: «على مهلك، نعم، هكذا، على مهلك، تمام، جيد جدا.»
بينما يقول هذا تقول هي شيئا ما عن المستشفى. - «... سنذهب ليلقوا نظرة عليك، علينا البدء بالأولويات.»
حسب علمه لم تقد الشاحنة من قبل. مذهلة الطريقة التي تقود بها. «غابة». هذه هي الكلمة. ليست كلمة غريبة على الإطلاق، لكنها كلمة لم يستخدمها قط على الأرجح، كلمة رسمية عادة ما ينفر منها.
قال: «الغابة المهجورة.» كما لو أن هذا المسمى يضع إطارا لكل ما حدث.
سعادة مفرطة
كثيرون ممن لم يدرسوا علم الرياضيات يخلطون بينه وبين علم الحساب، ويعتبرونه علما جافا ومملا. لكن، وفي الواقع، يتطلب هذا العلم خيالا عظيما.
صوفيا كوفالفسكي
1
في اليوم الأول من شهر يناير من عام 1891، تمشي امرأة صغيرة الحجم ورجل ضخم في المقابر القديمة في جنوة. كان كلاهما في حوالي الأربعين من العمر. كان للمرأة رأس طفولي كبير، تغطيها أجمة من شعر مموج داكن؛ ويعكس وجهها تعبير لهفة ومسحة توسل شاحبة. بدأ وجهها في الذبول. أما الرجل فقد كان ضخما؛ كان يزن 285 باوندا، موزعة على هيكل ضخم؛ ولأنه روسي، يشار إليه غالبا بالدب والقوقازي أيضا. كان هناك منحنيا فوق شاهد قبر، منخرطا في تدوين شيء في دفتر ملاحظاته، كان ينقل النقوش من شواهد القبور، محاولا فهم الاختصارات التي لا تتضح له على الفور، رغم أنه يتكلم الروسية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية ويفهم اللاتينية الكلاسيكية ولاتينية القرون الوسطى. تتسع معرفته اتساع حجمه الضخم، مع أن تخصصه هو القانون الحكومي ، فهو قادر على إلقاء محاضرات في تطوير المؤسسات السياسية المعاصرة في أمريكا، وخصائص المجتمع في روسيا والغرب وقوانين الإمبراطوريات القديمة وممارساتها، لكنه ليس مدعيا، إنه ماهر ومحبوب، يتمتع بالرفاهة على عدة مستويات وقادر على عيش حياة مريحة جدا؛ بسبب أملاكه بالقرب من خاركوف. ومع ذلك، فقد حرم من تولي منصب أكاديمي في روسيا لأنه ليبرالي.
اسمه يناسبه؛ ماكسيم، ماكسيم ماكسيموفيتش كوفالفسكي.
وكانت المرأة التي في صحبته تحمل لقب كوفالفسكي أيضا. كانت متزوجة من قريب بعيد له لكنها أرملة الآن.
تتحدث إليه ممازحة إياه: «تعرف أن واحدا منا سيموت، واحد منا سيموت هذا العام.»
يسألها وهو يسمعها بنصف أذن: «ولم هذا؟» «لأننا مشينا وسط المقابر في أول أيام السنة الجديدة.» «حقا!»
تقول بأسلوبها الحيوي المشوب بالقلق: «هناك أشياء لم تعرفها بعد؛ عرفت هذا قبل أن أصل إلى الثامنة من عمري.»
قال: «تقضي الفتيات وقتا أطول مع خادمات المطبخ، فيما يقضي الفتيان أوقاتهم في الإسطبلات؛ أظن هذا هو السبب.» - «ألا يسمع الفتيان في الإسطبلات عن الموت؟» - «ليس كثيرا؛ يركزون على أشياء أخرى.»
كانت الثلوج تتساقط ذلك اليوم لكنها كانت ثلوجا ناعمة. تركا وراءهما آثار أقدام ذائبة وسوداء حيث مشيا. •••
التقته لأول مرة في عام 1888. جاء إلى استوكهولم ليقدم مشوراته بخصوص تأسيس كلية علوم اجتماعية. كانت جنسيتهما المشتركة، التي تصل إلى حد اسم العائلة المشترك، ستجمعهما حتى لو لم يحدث انجذاب خاص. كانت ستأخذ على عاتقها مهمة الترفيه عن زميل ليبرالي غير مرحب به في الوطن، ورعايته عامة.
لكن تبين أن هذا ليس واجبا على الإطلاق؛ فقد أقبل أحدهما على الآخر كما لو أنهما قريبان ضلا الطريق أحدهما عن الآخر طويلا. تبع لقاءهما وابل من المزاح والأسئلة، وتفاهم فوري، وثرثرة تهيمن عليها الروسية، كما لو أن لغات أوروبا الغربية أقفاص رسمية رديئة، طالما انحبسا داخلها، أو بدائل رديئة عن الكلام البشري الحقيقي. سريعا ما تجاوز سلوكهما أيضا آداب سلوكيات استوكهولم؛ فقد بقي حتى وقت متأخر من الليل في شقتها، وذهبت لتناول الغداء معه في فندقه وحدهما. حين أصاب ساقه في حادث على الثلج، ساعدته على نقعها وارتداء ملابسه؛ والأكثر من هذا، وأخبرت الناس عن هذا. كتبت وصفا عنه إلى صديق، مقتبسة عن دي موسيه.
إنه مرح جدا وكئيب جدا في الوقت نفسه
جار مزعج ورفيق ممتاز
أرعن لأقصى الحدود، ومع ذلك شديد التكلف جدا
ساذج سذاجة تثير السخط، ومع ذلك بالغ اللامبالاة
مخلص إخلاصا شديدا، وبالغ المكر في الوقت ذاته.
وختمت وصفها قائلة: «روسي أصيل، علاوة على كل ما سبق.»
أطلقت عليه حينئذ ماكسيم السمين. «لم أشعر قط بإغراء كتابة روايات الحب بالقدر الذي شعرت به أثناء وجودي مع ماكسيم السمين.»
و«إنه يحتل مساحة كبيرة جدا، سواء على الأريكة أو في عقل الشخص. ببساطة، من المستحيل بالنسبة لي، في حضوره، أن أفكر في أي شيء آخر غيره.»
حدث هذا في الوقت نفسه الذي كان يجب عليها فيه أن تعمل ليلا ونهارا؛ تستعد لاشتراكها في جائزة بوردين. «إني لا أهمل دوالي فقط، بل معادلاتي في التكامل الناقص والأجسام الصلبة كذلك.» قالت مازحة مع زميلتها أستاذ الرياضيات ميتاج لفلر، التي أقنعت ماكسيم بأن الوقت قد حان لكي يذهب ويحاضر في إبسالا لفترة من الوقت. انتزعت نفسها من التفكير فيه؛ من أحلام اليقظة؛ لتعود إلى حركة الأجسام الصلبة، وحل ما يسمى بمسألة عروس البحر باستخدام دوال ثيتا مع متغيرين مستقلين. عملت باستماته ولكنها كانت سعيدة؛ لأنه ظل هناك متربعا في خلفية عقلها. حين عاد، كانت مرهقة لكنها مبتهجة بالنصر. نصران؛ بحثها جاهز للمسات الأخيرة ثم تقديمه دون كتابة اسمها عليه، وعودة حبيبها متذمرا، لكن منشرحا ومتلهفا من منفاه، وكل لمحة منه تدل، حسبما اعتقدت، على أنه نوى أن يجعلها امرأة عمره. •••
كانت جائزة بوردين هي ما أفسد عليهما سعادتهما. هكذا تؤمن صوفيا. أسرتها هي نفسها في البداية، انبهرت بكل الثريات والشمبانيا. غطت المجاملات التي تدير الرأس وكلمات الإعجاب وتقبيل اليد بطبقة سميكة على بعض الحقائق المزعجة والصامتة أيضا. إنهم لن يمنحوها وظيفة تستأهل موهبتها، حتى إنها لتكون محظوظة لو وجدت نفسها تدرس في مدرسة ثانوية محلية للبنات. أثناء ما كانت تنعم بكل هذا، هرب ماكسيم، وطبعا، لم يترك كلمة واحدة بتاتا عن السبب الحقيقي لهروبه؛ الورقة التي اضطر إلى أن يكتبها لم يتحدث فيها سوى عن حاجته إلى العيش في سلام قرية بوليو وهدوئها. •••
لقد شعر أنه مهمل. رجل لم يتعود أن يهمل، لم يحدث أن كان في صالون قط، أو في أي حفل استقبال منذ أن غدا رجلا ولم يحظ بالاهتمام. ولم يكن هذا هو الحال في باريس كذلك. لم تكن المشكلة هي خفوته بالمقارنة بشهرة صوفيا، بقدر ما كانت اعتباره نموذجا عاديا من الرجال. رجل ذو قيمة راسخة وسمعة معروفة ووجاهة وذكاء، إلى جانب خفة ظله المرحة، وجاذبيته الرجولية اللبقة. في حين أنها فريدة عصرها، امرأة محبوبة غريبة الأطوار؛ امرأة ذات مواهب في علم الرياضيات وخجل أنثوي، فاتنة لكن تملك تحت تموجات شعرها عقلا مؤسسا تأسيسا غير تقليدي.
كتب اعتذاراته الباردة والمتجهمة من بوليو، بعد أن رفض عرضها بأن تزوره ما إن تنته فورة نشاطاتها الكثيرة. قال إن لديه سيدة تقيم معه لا يستطيع أن يعرفها عليها. كانت هذه السيدة في محنة وتحتاج لتركيزه حاليا. قال إن صوفيا يجب أن تكون في طريقها إلى السويد؛ يجب أن تكون سعيدة حيث ينتظرها أصدقاؤها. وسيكون تلاميذها في حاجة إليها، وكذلك ابنتها الصغيرة. (أكانت تلك وكزة منه؛ تلميحا مألوفا لها لأمومتها المنقوصة؟)
ختم رسالته بجملة واحدة قاسية. - «لو أحببتك، لاختلفت كلماتي إليك.» •••
كانت تلك نهاية كل شيء. عادت من باريس مع جائزتها وشهرتها البراقة الغريبة؛ عادت إلى أصدقائها الذين شعرت فجأة أنهم أصدقاء للتسلية وتمضية الوقت لا أكثر. عادت إلى تلاميذها الذين كانت تحمل لهم تقديرا أكبر، لكن ذلك حين تقف أمامهم فقط حيث تتحول إلى ذاتها الرياضية، التي لا تزال، للغرابة، موجودة. وعادت إلى صغيرتها فوفو التي يفترض الجميع أنها لا تحظى برعاية كافية من أمها، صغيرتها ذات الروح المرحة التي تثير ذهول الجميع.
كل شيء في استوكهولم ذكرها به.
جلست في الغرفة ذاتها، مع الأثاث الذي أحضرته بتلك النفقة السفيهة عبر بحر البلطيق. أمامها الأريكة ذاتها التي حملت جسده مؤخرا بأناقة؛ بالإضافة إلى جسدها حين كان يضمها ببراعة بين ذراعيه؛ فبالرغم من حجمه لم يكن أخرق في ممارسة الحب.
هذا القماش الحريري الأحمر نفسه الذي جلس عليه ضيوف مميزون وغير مميزين في بيتها القديم الضائع. ربما جلس فيودور دوستويفسكي في حالته العصبية البائسة، منبهرا بأخت صوفيا، أنيتا. وبالتأكيد كانت صوفيا نفسها تمارس الإزعاج كالعادة كونها طفلة أمها المتذمرة.
الصوان القديم ذاته الذي أحضرته أيضا من بيتها في باليبينو، يحمل صور أجدادها المرسومة بالبورسلين.
الجدان شوبرت، لا يبدو عليهما أي ارتياح، هو في زيه الرسمي، وهي في فستان سهرة، يبدو عليهما تعبير رضا سخيف عن نفسيهما. لقد حصلا على كل شيء يرغبان فيه - أو هكذا افترضت صوفيا - ولم يكن لديهما سوى مشاعر الاحتقار لكل امرئ ما لم يكن متآمرا جدا أو محظوظا جدا.
قالت لماكسيم: «هل تعرف أن جزءا مني ألماني؟» - «بالطبع؛ وإلا فكيف يمكنك أن تكوني معجزة كبيرة لو اختلف الحال؟ وأن تملكي رأسا مليئا بأرقام خرافية؟»
لو أحببتك.
أحضرت فوفو لها المربى في طبق، وطلبت منها أن تلعب معها إحدى العاب الورق الخاصة بالأطفال. - «اتركيني وحدي، ألا يمكنك أن تدعيني وحدي؟»
لكنها راحت تذرف دموعا بعد ذلك وطلبت المعذرة من الطفلة. •••
لكن في النهاية صوفيا ليست الشخص الذي يكتئب للأبد. ابتلعت كبرياءها وحشدت قدراتها، وكتبت رسائل مرحة ربما تكون أراحته بما فيها من متع تافهة: تزلجها على الجليد، ركوبها الخيل وتركيزها على السياسات الروسية والفرنسية، وربما تكفي حتى لتشعره بأن تحذيره كان وحشيا وغير ضروري. نجحت في أن تنتزع دعوة أخرى منه، وانطلقت إلى قرية بوليو في الصيف ما إن انتهت محاضراتها.
قضت أوقاتا ممتعة تخللها بعض من حالات «سوء التفاهم» على حد قولها، (غيرت هذا التعبير، في وقت من الأوقات، إلى «أحاديث») ونوبات برود، انفصالات، انفصالات وشيكة، ثم لطف مفاجئ. خاضا رحلة متخبطة حول أوروبا، قدما نفسيهما عاشقين، بصراحة فاضحة.
تتساءل أحيانا إذا كان على علاقة بنساء أخريات. هي نفسها كانت تتلهى بفكرة الزواج من ألماني غازلها، لكن الألماني كان شديد التدقيق، فاسترابت في أنه يريد ربة منزل، كما أنها لم تكن تحبه. كانت الدم يتجمد في عروقها بينما ينطق هو بكلمات الحب بألمانية متأنقة.
قال ماكسيم - ما إن سمع عن هذا التودد ذي القصد الشريف - أن تتزوجه أفضل. بشرط أن تتمكن من الشعور بالارتياح لما يعرضه عليها. ادعى أنه يتحدث عن المال، حين قال هذا. أن تشعر بالارتياح لما يتمتع به من ثروة كان مزحة بالطبع. أما أن تشعر بالارتياح مع عطاء المشاعر الفاترة والمهذبة، بعد استبعاد خيبات الأمل والأحداث التي أثيرت تقريبا بسببها؛ فهذه مسألة أخرى كلية.
لجأت إلى المزاح؛ إذ جعلته يتصور أنها تراه غير جاد، وكذلك غير حازم، لكن حين عادت إلى استوكهولم رأت نفسها حمقاء. وهكذا كتبت إلى جوليا، قبل أن تتجه إلى الجنوب في عطلة عيد الميلاد، بأنها لا تعرف ما إذا كانت ذاهبة إلى السعادة أم إلى الحزن. كانت تقصد أنها ستعلن عن موقفها بجدية وتكتشف إذا كان جادا. واستعدت لتلقي أقصى درجات خيبة الأمل إهانة.
وفر عليها كل هذا؛ في النهاية، كان ماكسيم رجلا نبيلا والتزم بكلمته؛ سوف يتزوجان في الربيع. ما إن قررا هذا، حتى أصبحا يشعران براحة أكبر معا منذ بدايتهما الأولى. أحسنت صوفيا التصرف، بدون عبوس أو ثورات غضب. توقع منها بعضا من آداب السلوك اللائق، لكن ليس سلوكيات ربة بيت. لن يعترض أبدا - مثلما قد يفعل أي زوج سويدي - على تدخينها السجائر وشربها المتواصل للشاي ردود أفعالها الغاضبة إزاء القضايا السياسية. ولم تشعر بالإزعاج حين رأت أنه قد يغدو غير عقلاني وسريع الغضب ويشعر بالرثاء على نفسه، مثلها، حين يضايقه النقرس. في النهاية، كانا ابني بلد واحد. وكانت تشعر بضجر يشوبه الإحساس بالذنب مع السويديين العقلانيين الذين كانوا الشعب الوحيد في أوروبا المستعد لتعيين أستاذ رياضيات أنثى في جامعته الجديدة . كانت مدينتهم نظيفة جدا ومنظمة، وعاداتهم في غاية الاتساق، وحفلاتهم في منتهى التأدب. ما إن يقرروا مسارا صحيحا يتوجهون إليه مباشرة ويسلكونه، دون قضاء ليال صاخبة وربما خطرة في الجدالات التي قد تستمر إلى الأبد في بيترسبرج أو باريس.
لم يتدخل ماكسيم في عملها الحقيقي، الذي كان البحث وليس التدريس، لعله يشعر بالسعادة لأن لديها شيئا ما يستحوذ على اهتمامها، مع أنها شكت في أنه، وإن لم يكن يرى الرياضيات علما تافها، فإنه يراه علما غير مهم. وكيف يمكن لأستاذ في القانون والسوسيولوجي أن يفكر بنحو غير ذلك؟ •••
كان الجو أدفأ في نيس، بعد عدة أيام، حين كان يصطحبها لتستقل قطارها.
قالت: «كيف يمكن أن أذهب، كيف يمكنني أن أترك هذا الجو اللطيف؟» - «آه، لكن مكتبك ومعادلاتك التفاضلية في انتظارك. في الربيع لن تقدري على انتزاع نفسك.» - «أتعتقد هذا؟»
لا يجب أن تفكر؛ لا يجب أن تفكر أنها طريقة غير مباشرة ليقول إنه تمنى ألا يتزوجا في الربيع.
كانت قد كتبت فعليا لجوليا، قالت إنها ستحظى بالسعادة في النهاية؛ السعادة. •••
على رصيف محطة القطار عبرت قطة سوداء أمامهما في مسار مائل. تكره القطط بخاصة السوداء، لكنها لا تقول شيئا وتكبح رجفتها. وكما لو أنه يكافئها على سيطرتها على نفسها يعلن أنه سوف يصاحبها حتى مدينة كان، إذا لم تمانع. لم تستطع أن تجيبه، تشعر بالامتنان. والدموع تضغط على عينيها ضغطا مؤلما. يرى أن النحيب علنا فعل مهين (يعتقد أنه لا يجب أن يتحمله صاغرا في مكان خاص كذلك).
تنجح في ابتلاع دموعها، وحين يصلان إلى كان، يضمها ضمنا إلى ملابسه الأنيقة الواسعة ذات الرائحة الرجولية؛ مزيج من فرو وتبغ غال. يقبلها باحتشام لكن بنقرة صغيرة بلسانه على شفتيها، تذكرة بالشهوات الخاصة.
بالطبع، لم تذكره أن عملها كان على نظرية المعادلات التفاضلية (الجزئية)، وأنها انتهت منه منذ مدة طويلة. تقضي الساعة الأولى - أو نحوا من ذلك - من رحلتها المنفردة كما تقضي عادة بعض الوقت الذي يلي افتراقها عنه؛ توازن بين علامات الحب والتبرم، وبين اللامبالاة والعاطفة المحدودة.
قالت لها صديقتها ماري مندلسن: «تذكري دائما أن الرجل عندما يخرج من الغرفة، فإنه يترك كل شيء خلفه فيها، وحين تخرج المرأة تحمل كل شيء حدث في الغرفة معها.»
على الأقل لديها وقت الآن لتكتشف أنها تعاني من التهاب في الحلق. تمنت ألا يشك فيها لو كان التقطه منها؛ فلأنه عازب بصحة متينة يرى أن أي عدوى مرضية بسيطة تصيبه إهانة، والتهوية السيئة والنفس الفاسد هجوم شخصي عليه؛ إنه مدلل لحد الإفساد في نواح معينة.
بل إنه مدلل وحقود في الحقيقة. منذ فترة كتب لها أن كتابات معينة له بدأت تنسب لها بسبب تشابه الأسماء؛ تلقى رسالة من مؤسسة أدبية في باريس، بدأت بتوجيه الكلام إليه بسيدتي العزيزة.
للأسف نسي - كما قال - أنها روائية إلى جانب أنها أستاذ رياضيات. أي إحباط أصاب الباريسيين حين علموا أنه لم يكن أيا من هذا، مجرد أستاذ جامعة، ورجل.
مزحة كبيرة فعلا.
2
تنام قبل أن تضاء أضواء القطار. كانت أفكار يقظتها الأخيرة أفكارا مزعجة عن فيكتور جاكلارد، زوج أختها المتوفاة، الذي تخطط لرؤيته في باريس. فعليا، هي تتلهف على رؤية ابن أختها يوري، لكن الولد يعيش مع أبيه. تتصور يوري دائما في عقلها حين كان في حوالي الخامسة أو السادسة، فهو يتمتع ببشرة شقراء ملائكية، عذب وبريء، لكن لا يشبه في مزاجه أمه أنيتا كثيرا.
تجد نفسها في حلم مشوش عن أنيتا، لكنها أنيتا قبل أن يدخل يوري وجاكلارد إلى المشهد بفترة طويلة. جاءتها أنيتا في الحلم غير متزوجة، وبشعر ذهبي جميل وطباع سيئة، في مقاطعة العائلة في باليبينو، حيث تزين غرفتها العالية بأيقونات أرثوذكسية، وتشتكي من أنها ليست الأعمال الفنية الدينية اللائقة بأوروبا في القرون الوسطى. كانت تقرأ رواية لبولوير لايتون، وتدني على جسدها خمارا، فكانت خير تجسيد لإديث الجميلة، عشيقة هارولد الثاني. تخطط لتكتب روايتها عن إديث، وكتبت فعليا عدة صفحات تصف المشهد الذي كان على البطلة أن تتعرف فيه على جسد حبيبها الممزق من علامات معينة لا يعرفها غيرها.
وها هي قد تمكنت بطريقة ما من الوصول إلى هذا القطار، تقرأ تلك الصفحات على صوفيا التي لا تستطيع أن تحمل نفسها على أن تشرح لها كم تغيرت الأمور، وما حدث منذ تلك الأيام في الغرفة العالية.
حين استيقظت صوفيا، فكرت كم كان كل ذلك حقيقيا - هوس أنيتا بالقرون الوسطى وخاصة التاريخ الإنجليزي - وكيف اختفى هذا في يوم من الأيام؛ الحجاب وكل شيء، كما لو لم يكن أي شيء منها موجودا قبل ذلك، وبدلا من هذا أصبحت أنيتا جادة ومعاصرة تكتب عن فتاة شابة ترفض - بسبب إلحاح والديها ولأسباب تقليدية - باحثا شابا، يموت؛ فتدرك بعد موته أنها تحبه، فلا يعود أمامها خيار سوى اللحاق به.
قدمت هذه القصة سرا إلى مجلة يحررها فيودور دوستويفسكي، ونشرت.
فاستشاط أبوها غضبا. «الآن تبيعين قصصك، فكم من الوقت سيمضي قبل أن تبيعي نفسك؟»
ظهر فيودور نفسه على الساحة في خضم هذا الاضطراب؛ إذ لم يحسن التصرف في إحدى الحفلات لكنه هدأ من روع والدة أنيتا في مكالمة خاصة، أنهاها بعرض زواج. وبما أن والدها يعارض هذا تماما فقد أغرى موقفه أنيتا بأن تقبل وأن تفر معه. لكنها - في النهاية - كانت مغرمة بالأضواء وربما أطلعها حدس داخلي كيف سوف تضحي بهذه الأضواء مع فيودور؛ لهذا رفضته. ضمها في روايته (الأبله) في شخصية أجليا، وتزوجت من كاتب اختزال شاب.
تنعس صوفيا مرة ثانية؛ فتنجرف إلى حلم آخر حيث كانت هي وأنيتا صغيرتين لكن ليس في عمرهما في بالبينو، وهما معا في باريس، وقد حل جاكلارد حبيب أنيتا - لم يكن قد تزوجها بعد - محل هارولد الثاني وفيودور الروائي بطلا لروايتها، وجاكلارد بطل أصيل مع أنه غير مهذب (يتألق في أصوله القروية) وغير مخلص منذ البداية. كان يحارب في مكان ما خارج باريس، وأنيتا تخاف من أن يقتل لأنه شجاع جدا. والآن في حلم صوفيا ذهبت أنيتا تبحث عنه، لكن الشوارع التي كانت تجول فيها منتحبة ومنادية اسمه، كانت في بيترسبرج وليست في باريس ، وتركت صوفيا في مستشفى باريسي ضخم مليء بالجنود الموتى، والمواطنين الجرحى، وكان زوجها فلاديمير من بين الموتى. تهرب من كل هؤلاء الجرحى، تبحث عن ماكسيم، الآمن من القتال، في فندق سبليندد. ماكسيم سيخرجها من كل هذا.
تستيقظ، ترى الأمطار تتساقط في الخارج، والجو معتم؛ ليست وحيدة في المقصورة. تجلس إلى جانب الباب امرأة شابة غير مهندمة، تحمل محفظة رسم. تخشى صوفيا أن تكون قد صرخت في حلمها، لكنها لم تفعل على الأرجح؛ لأن الفتاة تنام في هدوء.
بفرض أن الفتاة كانت مستيقظة، كانت صوفيا ستقول لها: «سامحيني؛ كنت أحلم بعام 1871. كنت هناك في باريس، وكانت أختي تحب أحد أفراد كومونة باريس. قبض عليه وكان يمكن أن يقتل بالرصاص أو أن يرسل إلى نيوكايدونيا لكننا استطعنا أن نحرره. زوجي فعل هذا. لم يكن زوجي فلاديمير من أعضاء الكومونة إطلاقا، بل لم يكن يريد سوى أن يشاهد الحفريات في جاردن دي بلانتس.»
قد تشعر الفتاة بالملل. قد تتصرف بتهذيب لكنها كانت سوف تنقل إليها مع ذلك إحساسها بأن كل هذه الأحداث، في رأيها، حدثت قبل طرد آدم وحواء؛ فلربما هي ليست فرنسية حتى. إن الفتيات الفرنسيات اللواتي يستطعن تحمل تكاليف السفر في الدرجة الثانية لا يسافرن وحدهن في الغالب، فهل تكون الفتاة أمريكية؟
كان صحيحا - للغرابة - أن فلاديمير استطاع أن يقضي بعضا من تلك الأيام في جاردن دي بلانتس، لكنه لم يقتل؛ ففي خضم الاضطراب، كان يرسي أسس مهنته الحقيقية الوحيدة، عالم حفريات. وصحيح أن أنيتا اصطحبت صوفيا إلى مستشفى حيث طردت كل الممرضات المحترفات؛ فقد كن يعتبرن معاديات للثورة، ومن ثم استبدلن بزوجات ورفيقات من الكومونة. لعن النساء العاديات البديلات لأنهن لم يكن يعرفن حتى كيف يضمدن جرحا، ومات الجرحى، لكن معظمهم كان ميتا على كل حال. كان لا بد من معالجة المرض الذي انتشر، إلى جانب جروح المعركة، وكان يقال إن العامة كانوا يأكلون الكلاب والفئران.
حارب جاكلارد والثوار عشرة أسابيع. بعد الهزيمة حبس في سجن فرساي في زنزانة تحت الأرض، وقتل عدة رجال رميا بالرصاص عن اعتقاد خاطئ أنهم جاكلارد؛ أو هكذا انتقل الخبر.
وفي ذلك الوقت، وصل - الجنرال - والد أنيتا وصوفيا من روسيا. نقلت إلى هايدلبرج حيث استرخت في فراشها. عادت صوفيا إلى برلين وإلى دراسة الرياضيات، وبقي فلاديمير، حيث ترك ثدييات العصر الثالث ليتعاون مع الجنرال في إطلاق سراح جاكلارد. نجحا في هذا بالرشوة والإقدام؛ فقد كان من المخطط أن ينقل جاكلارد من محبسه إلى محبس آخر في باريس تحت حراسة جندي واحد، وسلكا شارعا معينا يكون مزدحما بسبب معرض فني. وكانت الخطة أن يخطفه فلاديمير بينما ينظر الحارس إلى الجهة الأخرى؛ فقد حصل على مبلغ من المال في مقابل القيام بذلك. وسوف يشق جاكلارد - تحت إرشاد فلاديمير - طريقه عبر الحشود إلى غرفة يجد فيها بذلة مدنية، ثم يصطحبه فلاديمير إلى محطة السكة الحديدية، ويعطيه جواز سفر فلاديمير، حتى يستطيع الهرب إلى سويسرا.
تمت المهمة بنجاح.
لم يكلف جاكلارد نفسه أن يرجع جواز السفر بريديا حتى التحقت به أنيتا، وأعادته هي. لم يسدد ما عليه من مال قط. •••
أرسلت صوفيا رسائل قصيرة من فندقها في باريس إلى ماري ماندلسون وجوليس بوانكاريه. ردت خادمة ماري بأن سيدتها في بولندا. أرسلت صوفيا رسالة قصيرة أخرى لتقول إنها قد تطلب مساعدة صديقتها، في الربيع القادم، في «اختيار الزي الذي سوف يناسب الحدث الذي يعتبره العالم أهم حدث في حياة المرأة.» وأضافت: إنها وعالم الأزياء ليسا على وفاق إطلاقا.
جاء بوانكاريه في ساعة مبكرة جدا من الصباح، مشتكيا من فوره سلوك عالم الرياضيات فايرشتراس، مشرف صوفيا القديم، الذي كان أحد المحكمين في مسابقة جائزة ملك السويد للرياضيات الأخيرة. كان بوانكاريه قد حصد الجائزة بالفعل، لكن فايرشتراس قرر أن يعلن أنه كان من المحتمل أن توجد أخطاء في عمل بوانكاريه، الذي لم يحصل - أي فايرشتراس - على الوقت الكافي للتدقيق فيه. أرسل خطابا يقدم فيه تساؤلاته الملحقة بالرسالة إلى ملك السويد؛ كما لو أن شخصية مثل هذه ستفهم ما يتحدث عنه، وكتب تصريحا عن بوانكاريه الذي سوف تنبثق قيمته في المستقبل من النواحي السلبية في عمله أكثر من الإيجابية.
هدأته صوفيا؛ إذ قالت له إنها سترى فايرشتراس بعد قليل، وستناقش معه هذه المسألة. تظاهرت بأنها لم تسمع بأي شيء عن الأمر، مع أنها كتبت فعليا رسالة مازحة لأستاذها القديم بخصوصها. «أعتقد أن الملك عانى من اضطراب في نومه الملكي منذ أن وصلته معلوماتك. تصور كيف أزعجت العقل الملكي الذي كان حتى تلك اللحظة منعما في جهله بالرياضيات. احذر من أن تجعله يندم على كرمه ...»
قالت لجوليس: «في النهاية؛ في النهاية أنت لديك الجائزة وستظل لديك للأبد.»
وافق جوليس، مضيفا أن اسمه سيبرق بينما يذهب اسم فايرشتراس في طي النسيان.
سوف ننسى جميعا، فكرت صوفيا لكنها لم تقل هذا بسبب الحساسية المرهفة لدى الرجال - خاصة الشباب منهم - إزاء هذه النقطة.
ودعته في الظهيرة؛ وذهبت لترى جاكلارد ويوري. كانا يعيشان في القسم الفقير من المدينة. اضطرت إلى عبور فناء نشرت فيه ملابس مغسولة. كان المطر توقف، لكن النهار ظل معتما. صعدت درجا طويلا وزلقا إلى حد ما. صاح جاكلارد أن الباب غير موصد، فدخلت لتجده جالسا فوق صندوق مقلوب، يلمع زوجين من حذاء طويل الرقبة. لم يقف ليحييها، وحين همت بخلع ردائها قال: «من الأفضل ألا تفعلي؛ المدفأة لن تعمل قبل المساء.» أشار لها لتجلس على الكرسي الوحيد الموجود في المكان، وكان ملوثا، ملوثا بالشحوم. هذا أسوأ مما توقعت. لم يكن يوري هنا، لم ينتظر ليراها.
كانت تريد معرفة أمرين عن يوري: هل كان أقرب شبها بأنيتا والجانب الروسي من عائلته؟ وهل كان يزداد طوله؟ في الخامسة عشرة، العام الماضي في أوديسا، كان يبدو وكأنه لم يتعد الثانية عشرة.
سرعان ما اكتشفت أن الأمور اتخذت منعطفا باتت معه تلك الشواغل أقل شأنا.
قالت: «أين يوري؟» - «في الخارج.» - «في المدرسة؟» - «ربما. لا أعرف الكثير عنه. وكلما عرفت عنه شيئا، قل اكتراثي له.»
فكرت أن تهدئه وتتناول المسألة فيما بعد. سألته عن صحته؛ أي جاكلارد؛ فقال إن رئتيه في حالة سيئة. قال إنه لم يشف من آثار عام 1871؛ الجوع وليالي النوم في العراء. لم تتذكر صوفيا أن المقاتلين كادوا يموتون جوعا - كان من واجبهم أن يأكلوا لكي يتمكنوا من القتال - لكنها قالت موافقة إنها كانت تفكر توا في تلك الأوقات، في القطار. قالت إنها كانت تفكر في فلاديمير وعملية الإنقاذ التي كانت تبدو وكأنها إحدى مشاهد أوبرا كوميدية.
قال إن الأمر لم يكن كوميديا، ولم يكن مشهدا من أوبرا، لكنه أضحى أكثر حركة وهو يتحدث عنه. تحدث عن رجال قتلوا رميا بالرصاص خطأ؛ إذ شبه كل منهم لمن قتلوه أنه جاكلارد؛ تحدث عن القتال المستميت الذي دار بين العشرين والثلاثين من مايو. وحين قبض عليه أخيرا، كانت الإعدامات بإجراءات موجزة قد انتهت، لكنه كان لا يزال يتوقع أن يموت بعد محاكمتهم الهزلية. كيف نجح في الهرب؟ الله وحده يعلم. لا يعني هذا أنه يؤمن بالله، أضاف ذلك، كما يفعل كل مرة.
كل مرة، وكل مرة يحكي القصة، يغدو دور فلاديمير - والدور الذي لعبته أموال الجنرال - أصغر. ولا يأتي على ذكر جواز السفر كذلك، فقط شجاعة فلاديمير وإقدامه هما اللاعبان الأساسيان، لكن بدا أكثر توددا لجمهوره وهو يتحدث.
لا يزال اسمه في الذاكرة، ولا تزال حكايته تروى.
وتبعت تلك قصص أخرى، مألوفة أيضا. نهض وأحضر خزانة حديدية صغيرة من تحت الفراش. كانت الخزانة تحتوي على تلك الورقة الخطيرة، الورقة التي طردته من روسيا حين كان في بيترسبرج مع أنيتا بعد انقضاء أيام الكومونة. لا بد أن يقرأها كلها. «السيد الفاضل، قنسطنطين بيتروفتش، أضع بين يديك على وجه السرعة المسألة التالية: إن الفرنسي جاكلارد، عضو الكومونة السابقة خلال إقامته في باريس كان على اتصال دائم بممثلي الحزب البروليتاري الثوري البولندي، واليهودي كارل مندلسون، ومن خلال اتصالاته الروسية بوساطة زوجته، تورط في نقل رسائل مندلسون إلى وارسو. وهو كذلك صديق للعديد من الراديكاليين الفرنسيين البارزين. ومن بيترسبرج، أرسل جاكلارد أخبارا مزيفة ومضرة إلى باريس عن الشئون السياسية الروسية، وبعد الأول من مارس ومحاولة الانقلاب ضد القيصر، تجاوزت هذه المعلومات كل حدود الصبر؛ لهذا وبإلحاح مني قرر الوزير أن يرسله إلى خارج حدود إمبراطوريتنا.»
عادت البهجة له بينما يقرأ، وتذكرت صوفيا كم اعتاد المزاح والمرح، وكيف كانت هي، بل وفلاديمير كذلك يتشرفان إلى حد ما بأنه يلاحظ وجودهما، ولو باعتبارهما جمهورا له ليس إلا.
قال: «آه، يا له من شيء سيئ جدا، سيئ جدا أن المعلومات ليست كاملة. لم يذكر قط أن الماركسيين الأمميين في ليون اختاروني لأمثلهم في باريس.»
في تلك اللحظة دخل يوري، لكن والده واصل حديثه قائلا: «كان هذا سرا بالطبع. عينوني رسميا في لجنة الأمان العام لليون.» كان يقطع المكان جيئة وذهابا الآن في جدية ثائرة فرحة؛ «كنا في ليون حين سمعنا أن نابليون الثالث وقع في الأسر، وطلوه كالعاهرات.»
أومأ يوري لخالته، وخلع كنزته - لا يشعر بالبرد بالتأكيد - وجلس على الصندوق، وتولى مهمة أبيه في تلميع الحذاء طويل الرقبة.
حقا؛ كان يشبه أنيتا، لكنه يحمل ملامح أنيتا في أواخر أيامها: الترهل المتجهم المرهق للجفنين، والاعوجاج الذي ينم عن الارتياب - الاستهزاء في حالته - في الشفتين الممتلئتين. لا علامة على الفتاة ذات الشعر الذهبي بنهمها للخطر، للمجد الأخلاقي، ونوبات الإهانة الجارحة. في هذا المخلوق يوري، لم تبق ذكرى سوى ذكرى امرأة مريضة سقيمة، تعاني من الربو والسرطان، لا تكف عن التعبير عن لهفتها على الموت.
أحبها جاكلارد في البداية، ربما بقدر ما يستطيع أن يحب أي شخص. لاحظ حبها له. في رسالته الساذجة - وربما المغرورة - لوالدها؛ إذ يشرح قراره بالزواج منها، كتب يقول إنه ليس من العدل أن يهجر امرأة متعلقة به إلى هذا الحد. لم يتخل قط عن نساء أخريات، حتى في بداية العلاقة حين كانت أنيتا محمومة باكتشافها إياه، وبالتأكيد لم يفعل خلال زواجهما. اعتقدت صوفيا أنه لا يزال جذابا في عيون النساء، مع أن لحيته شعثاء رمادية، وكان حين يتحدث يتحمس في بعض الأحيان إلى حد أن كلماته تخرج في بصقات. بطل أنهكته صراعاته، بطل ضحى بشبابه؛ هكذا ربما يقدم نفسه، دون أن يخلو هذا من المؤثرات. وهذا حقيقي، على نحو ما. كان شجاعا جسديا، وكانت لديه مثل، ولد فلاحا يعرف معنى أن يكون المرء محتقرا.
وكذلك هي؛ كانت تحتقره، الآن فقط.
كانت مظهر الحجرة باليا، لكن حين تنظر إليها بتمعن ترى أنها في أنظف حال ممكنة. تتدلى بعض أواني الطبخ من مسامير في الحائط. كان الموقد نظيفا، وكذلك قاع تلك الأواني. خطر على بالها أن هناك امرأة معه حتى في الوقت الحالي.
كان يتحدث عن كليمينسو، قائلا إنهما كانا على علاقة طيبة. كان مستعدا الآن أن يتحدث بزهو عن صداقة مع رجل توقعت أن يتهمه بأنه كان يعمل لحساب الخارجية البريطانية (مع أنها نفسها كانت مقتنعة بأن هذه تهمة باطلة).
زاغت منه مثنية على نظام الشقة.
نظر حوله، مذهولا من تغييرها الموضوع، ثم ابتسم ببطء، وبرغبة جديدة في الانتقام. «إني متزوج من امرأة ترعى شئوني، إنها فرنسية؛ ويسعدني أن أقول إنها ليست ثرثارة وكسولة مثل الروسيات. متعلمة، وكانت مربية أطفال لكنها طردت بسبب ميولها السياسية. أخشى أني لا أستطيع أن أعرفك عليها. إنها فقيرة لكن محترمة ولا تزال تحترم سمعتها.»
قالت صوفيا بينما تنهض: «آه، كنت أنوي أن أخبرك بأني سأتزوج مرة أخرى من سيد روسي.» - «سمعت أنك على علاقة بماكسيم ماكسيموفتش. لم أسمع أي شيء عن الزواج.»
كانت صوفيا ترتجف من طول جلوسها في البرد. تحدثت إلى يوري، بقدر ما تستطيع من بهجة. - «هل تمشي مع خالتك العجوز إلى المحطة؟ لم تتح لي فرصة لأتحدث معك.»
قال جاكلارد في خبث شديد: «أتمنى ألا أكون قد أسأت إليك؛ أنا أومن دائما بقول الحقيقة.» - «إطلاقا.»
ارتدى يوري الجاكت، التي رأت أنه متسع عليه. ربما اشتراه من سوق للملابس المستعملة. نما لكن لم يكن أطول من صوفيا نفسها. ربما لم يتناول الطعام الصحيح في الفترات المهمة من حياته. كانت والدته فارعة الطول وكذلك كان جاكلارد.
ومع أنه بدا غير متحمس لمرافقتها، فقد بادر بالحديث قبل أن يصلا إلى نهاية السلالم، وحمل عنها حقيبتها من فوره دون أن تطلب منه ذلك.
قال: «إنه شحيح لدرجة أنه حتى لم يشعل لك النار. هناك حطب في الصندوق، هي أحضرته هذا الصباح. إنها قبيحة قبح فأر المجارير، لذا لم يرغب في أن تلتقي بها.» - «لا يجب أن تتحدث بهذه الطريقة عن أي امرأة.» - «لم لا ما دمن يردن المساواة؟» - «أعتقد أني يجب أن أقول ألا تتحدث عن الناس بهذه الطريقة، لكني لا أريد أن أتحدث عنها أو عن والدك. أريد أن أتحدث عنك. كيف حالك مع موادك الدراسية؟» - «أكرهها.» - «لا يمكن أن تكرهها كلها.» - «لم لا؟ ليس من الصعب علي أن أكرهها كلها.» - «هل تستطيع التحدث بالروسية معي؟» - «إنها لغة بربرية، لم لا تتحدثين بفرنسية أفضل؟ يقول إن لكنتك بربرية. يقول إن لكنة أمي كانت بربرية أيضا. الروس بربريون.» - «هل يقول هذا أيضا؟» - «إني أكون رأيي بنفسي.»
مشيا فترة في صمت.
قالت صوفيا: «هذا الوقت من العام كئيب في باريس. هل تتذكر الوقت الجميل الذي قضيناه ذلك الصيف في سيفر؟ تكلمنا عن كل شيء. لا تزال فوفو تتذكرك وتتحدث عنك. تتذكر كم كنت ترغب في أن تأتي وتعيش معنا.» - «كانت تلك رغبة طفولية. لم أفكر بواقعية في ذلك الوقت.» - «إذن هل تفكر بواقعية الآن؟ هل فكرت في مهنة لك.» - «نعم.»
ونظرا لنبرة الرضا الهازئة التي استشعرتها في صوته وهو يقول كلمته الأخيرة هذه. لكنه أخبرها على أية حال. - «سوف أعمل منادي حافلة، أعلن عن المحطات. حصلت على هذه الوظيفة حين هربت في وقت احتفالات عيد الميلاد، لكنه جاء وأعادني، لكن بعد عيد ميلادي المقبل لن يستطيع أن يفعل ذلك.» - «قد لا يسعدك دوما الإعلان عن المحطات.» - «لم لا؟ إنه مفيد جدا. إنها ضرورة دائمة، وبحسب ما أرى، ليس من الضرورة أن يكون المرء عالم رياضيات.»
لزمت صوفيا الصمت.
قال: «لن أستطيع احترام نفسي، إذا أصبحت عالم رياضيات.»
كانا يصعدان إلى رصيف المحطة. «كل ما أفعله هو حصد الجوائز وجمع المال عن أشياء لا يفهمها أي أحد ولا يهتم بها ولا تقدم فائدة لأحد.»
ردت صوفيا: «شكرا لحملك الحقيبة عني.»
أعطته بعض المال مع أنه ليس بالقدر الذي كانت تنويه. أخذه بابتسامة عريضة مزعجة، ولسان حاله يقول: تعتقدين أني سأكون أبيا؟ ثم شكرها بعجلة كما لو أن الأمر لم يكن بإرادته.
راقبته بينما يذهب، مفكرة أنها لن تراه مرة ثانية أبدا على الأرجح. طفل أنيتا. وعلى أية حال، كم كان يشبه أنيتا. كانت أنيتا تفسد كل تجمع عائلي على الطعام في باليبينو بخطبها التوبيخية المتغطرسة. كانت أنيتا تذرع ممرات الحديقة ساخطة على حياتها، ومؤمنة بمصيرها الذي سيأخذها إلى عالم جديد وعادل لا يعرف الرحمة.
ربما يغير يوري مساره؛ لا أحد يعرف. ربما حتى يولع بخالته صوفيا، مع أن ذلك لن يحدث قبل أن يصل إلى عمرها الآن، وتكون هي قد ماتت منذ زمن بعيد.
3
وصلت صوفيا قبل موعد قطارها بنصف ساعة. أرادت أن تحتسي قدحا من الشاي، وتتناول قرص استحلاب لحلقها، لكنها لم تستطع تحمل الانتظار في صف والتحدث بالفرنسية. مهما بلغ نجاحك في تدبر الأمور حين تكون بصحة جيدة، فإن انخفاض معنوياتك أو إحساسك المسبق بالمرض كافيان لتلوذ بالفرار إلى حمى لغتك الأم. جلست على مقعد وتركت رأسها يسقط. تستطيع أن تنام للحظة.
امتدت اللحظة؛ مر خمس عشرة دقيقة بحسب ما تعلنه ساعة المحطة. تجمع حشد كبير الآن، وكان هناك قدر كبير من الضجة حولها، ونشطت حركة عربات الحقائب.
بينما كانت تسرع الخطى إلى قطارها، رأت رجلا يرتدي قبعة من الفراء مثل تلك التي يرتديها ماكسيم، رجلا ضخما في معطف داكن. لم تستطع أن ترى وجهه. كان يتحرك في اتجاه بعيد عنها، لكن كتفيه العريضتين، ودماثته، بل وطريقته الحاسمة في شق طريقه، ذكرتها بماكسيم بشدة.
مرت عربة مكدسة بالحقائب بينهما، واختفى الرجل.
بالطبع لا يمكن أن يكون ماكسيم. ما الذي يمكن أن يفعله في باريس؟ أي قطار أو موعد يهرع إليه؟ بدأ قلبها يخفق في انزعاج بينما تتجه إلى قطارها ، ووجدت مقعدها إلى جانب النافذة. كان من المنطقي أن في حياة ماكسيم نساء أخريات. كان هناك، على سبيل المثال، المرأة التي لم يستطع أن يعرف صوفيا عليها، حين رفض أن يدعوها إلى بوليو. لكنها اعتقدت أنه ليس نوع الرجل الذي يميل إلى التعقيدات الرخيصة؛ ناهيك عن نوبات الغيرة ودموع النساء والفضائح. أشار في تلك الحادثة التي وقعت في البداية إلى أن لا حقوق ولا قيود لها عليه.
هذا يعني أنه بات يعتبر أن لها حقا عليه الآن إلى حد ما، وقد يشعر بأن خداعه إياها مهينا لكرامته.
وحين ظنت أنها رأته كانت قد استيقظت توا من نوم غير صحي وغير طبيعي؛ كانت تهلوس.
راح القطار يغادر المحطة ببطء مطلقا صخبه وجلبته المعتادة.
لطالما أحبت باريس. لم تحب باريس في ظل حكم الكومونة؛ حيث كانت طوعا لأوامر أنيتا المبهمة، بل أحبت باريس التي زارتها مؤخرا، في سنوات اكتمال نضجها، مع تعرفها على علماء الرياضيات والمفكرين السياسيين. وقد أعلنت في كل مكان أنه لا ضجر أو تعالي أو خداع في باريس. •••
فقد منحوها جائزة بوردين، وقبلوا يدها، وقدموا لها الخطب والورود في أكثر الغرف أناقة وسخاء في الإنارة. لكن حين تعلق الأمر بمنحها وظيفة، أغلقوا أبوابهم دونها. لن تتجاوز رؤيتهم لهذه المسألة إلى أكثر من توظيف أنثى شمبانزي متعلمة. فضلت زوجات العلماء العظماء ألا يقابلنها أو يدعونها إلى بيوتهن.
كانت الزوجات هن حراس المتاريس، الجيش العنيد غير المرئي. يهز الأزواج أكتافهم بحزن بسبب الحظر المفروض عليهم، لكنهم يمتثلون في النهاية. كان الرجال أصحاب العقول التي تشرذم المفاهيم القديمة لا يزالون خاضعين لسيطرة نساء لا يملأ عقولهن سوى ضرورة ارتداء المشد الضيق وإرسال بطاقات الزيارات، والأحاديث التي تملأ حلقك بنوع من الضباب المعطر.
لا بد أن تكف عن جلسات استحضار كل ما يثير استياءها. دعتها زوجات علماء استوكهولم إلى بيوتهن، إلى أهم الحفلات وولائم العشاء الحميمية. أثنين عليها، وتباهين بها، ورحبن بطفلتها. ربما كانت شاذة هناك، لكنهن وافقن على هذا الحضور الشاذ بينهن ؛ شيء ما مثل ببغاء متعدد اللغات أو من هؤلاء الأطفال العباقرة الذين يستطيعون أن يقولوا لك بدون تردد أو فترة تفكير واضحة إن تاريخا محددا في القرن الرابع عشر وافق يوم ثلاثاء.
لا، لم يكن ذلك عادلا. كن يكنن الاحترام لإنجازاتها، وآمنت عديدات منهن أنه يجب على مزيد من النساء أن يقمن بأعمال مثل هذه، وأنهن سيفعلن في يوم من الأيام. لماذا إذن أصابها شيء من الضجر منهن، واشتاقت إلى السهرات المتأخرة والحديث المسرف. لماذا أتعبت نفسها بالتفكير فيما إذا كن يرتدين ملابس أشبه بأردية زوجات القساوسة البروتستانت أو ملابس تشبه ملابس الغجر؟
كانت مصدومة؛ وكان ذلك بسبب جاكلارد ويوري، وتلك المرأة المحترمة التي لم تستطع التعرف عليها، وحلقها المحتقن، وارتعاشها؛ بالتأكيد ستصيبها نزلة برد شديدة.
وعلى أية حال ستصبح هي نفسها زوجة؛ بل وزوجة لرجل غني وذكي، وعلاوة على ذلك، متفوق. •••
جاءت عربة الشاي، سيفيد هذا الشاي حلقها بالتأكيد، مع أنها تتمنى لو كان شايا روسيا. بدأ المطر يتساقط بعد أن غادر القطار باريس بفترة قصيرة، وها هو المطر تحول إلى ثلوج، ومثل كل روسي، كانت تفضل الثلج على المطر؛ تلك الحقول البيضاء على الأرض الداكنة المبللة، وحين تثلج يعترف الجميع بالشتاء ويتخذون إجراءات شديدة لحفظ الدفء في بيوتهم. تفكر في بيت فايرشتراس حيث ستنام الليلة. لن يسمح البروفيسور وأختاه لها بالمبيت في فندق.
إن بيتهم مريح دائما بسجاجيده الداكنة وستائره المهدبة ومقاعده الوثيرة. تتبع الحياة هناك طقسا؛ حياة مكرسة للدراسة، بل لدراسة الرياضيات على الأخص. عادة ما يمر طلاب ذكور خجلون غير حسني الهندام بوجه عام، عبر غرفة الجلوس إلى غرفة المكتب واحدا بعد الآخر. تحييهم أختا البروفيسور غير المتزوجتين بلطف بينما يمرون، لكنهما لا تنتظران إجابة؛ فهما مشغولتان بالحياكة أو الرتق أو غزل البساط. إنهما تعرفان أن أخاهما يتمتع بعقل رائع، وأنه رجل عظيم لكنهما تعرفان أنه يجب أن يتناول جرعة محددة من الخوخ المجفف كل يوم؛ بسبب مهنته التي تتطلب الجلوس لفترات طويلة، وأنه لا يستطيع أن يرتدي حتى أنعم أنواع الصوف على جلده مباشرة لأنه يسبب له الحكاك، وأن مشاعره تتأذى حين يخفق زميل في ذكره في مقال منشور (مع أنه يتظاهر بأنه لم يلاحظ ذلك، في حديثه وكتابته على السواء؛ إذ يثني بدقة قصوى على الشخص ذاته الذي تجاهله).
أجفلت هاتان الأختان - كلارا وإليسا - في أول يوم دخلت فيه صوفيا إلى غرفة الجلوس في طريقها إلى غرفة المكتب. لم تتدرب الخادمة التي سمحت لها بالدخول على أن تكون انتقائية؛ ذلك أن أهل البيت لا يعملون على الإطلاق؛ ولأن الطلاب الذين يأتون غالبا ما يكونون مجهولين ولا يحسنون التصرف؛ لهذا لم يطبق المنزل معايير أكثر المنازل احتراما. ومع هذا، عكس صوت الخادمة ترددا من نوع ما، قبل أن تسمح لهذه المرأة الصغيرة بالدخول - هذه المرأة التي تختفي ملامحها تقريبا تحت قلنسوة داكنة، وتتحرك في خوف مثل متسول خجول. عجزت الأختان عن تحديد عمرها لكنهما استنتجا - بعد أن سمح لها بالدخول إلى غرفة المكتب - أنها والدة الطلاب، أتت تساوم أو تتوسل بشأن أجر الدرس.
قالت كلارا التي كانت توقعاتها أكثر واقعية: «يا إلهي! قلنا، من لدينا هنا؛ هل تكون تشارلوت كورداي؟»
كل هذا قيل لصوفيا فيما بعد حين أصبحت صديقتهما، وأضافت إليسا في جفاء: «لحسن الحظ لم يكن أخونا في الحمام؛ إذ لم نكن نستطيع أن ننهض لنحميه ونحن ملفوفتان بكل هذه الكوفيات.»
كانتا تغزلان كوفيات للجنود على الجبهة. كان ذلك عام 1870، قبل أن يقوم كل من صوفيا وفلاديمير برحلة إلى باريس بقصد أن تكون رحلة دراسية. كانتا غارقتين في أبعاد أخرى، قرون ماضية؛ ونادرا ما كانتا توليان أي اهتمام إلى العالم الذي عاشتا فيه، حتى إنهما لم تسمعا عن حرب معاصرة.
ولم يكن فايرشتراس بأعلم من أختيه عن عمر صوفيا أو ما تفعله. قال لها بعد ذلك إنه ظنها مربية أطفال مخادعة أرادت أن تستخدم اسمه بادعاء دراستها للرياضيات في أوراق مؤهلاتها. كان يفكر أنه يجب أن يوبخ الخادمة وأختيه لأنهن سمحن لها باقتحام مكتبه ، لكنه كان رجلا كيسا لطيفا؛ لذا فبدلا من أن يصرفها على الفور، أوضح لها أنه لا يقبل إلا الطلاب المتقدمين علميا والحاصلين على درجات مميزة، وأنه في ذلك الوقت لديه منهم العدد الذي يستطيع توليه. ثم تذكر - بينما ظلت واقفة، ترتجف أمامه، بتلك القلنسوة السخيفة التي تخبئ وجهها، ويداها تقبضان على شالها بشدة - ذلك الأسلوب، أو الحيلة، الذي استخدمه مرة أو مرتين من قبل لتثبيط همة طالب غير كفء. «ما أستطيع فعله في حالتك هو أن أعطيك مجموعة من المعادلات وأطلب منك حلها وإعادتها لي خلال أسبوع من الآن، وإذا نالت رضاي فسوف نتحدث مرة ثانية.»
كان قد نسي كل شيء عنها بعد أسبوع من ذلك اليوم؛ وبالطبع توقع ألا يراها مرة ثانية أبدا. حين جاءت إلى غرفة مكتبه، لم يتعرف عليها؛ ربما لأنها خلعت المعطف الذي كان يخفي جسدها النحيل، وربما لأنها شعرت بشجاعة أكبر أو ربما لأن الطقس قد تغير. لم يتذكر القبعة - أختاه تذكرتاها - لكنه لا ينتبه كثيرا لأشياء من قبيل إكسسوارات النساء. لكنها حين سحبت الأوراق من حقيبتها ووضعتها أمامه على المكتب، تذكر وتنهد وارتدى نظارته.
كانت دهشته عظيمة - قال هذا فيما بعد أيضا - أن يرى أن كل المسائل قد حلت بطريقة عبقرية تماما. لكنه ظل يشك فيها، ظانا حينئذ أن هذا العمل لا بد أنه لشخص آخر، أخ أو حبيب مختبئ لأسباب سياسية.
فقال: «اجلسي! والآن اشرحي لي كلا من تلك الحلول، وكل خطوة اتخذتها في حلها.»
بدأت تتكلم، منحنية إلى الأمام، وسقطت القبعة الخفيفة على عينيها، فخلعتها وتركتها تقع على الأرض. انكشفت تموجات شعرها، وعيناها اللامعتان وشبابها وحماسها الذي يجعلها ترتجف.
قال: «نعم، نعم، نعم، نعم.» تكلم باهتمام متثاقل؛ إذ خبأ بقدر ما يستطيع اندهاشه القوي، خاصة إزاء الحلول التي حادت بأقصى ما يكون من عبقرية عن حلوله.
كانت صدمة بالنسبة له من عدة نواح. كانت ضئيلة الحجم وصغيرة السن وبالغة الحماس. شعر أنه يجب أن يهدئ من روعها، ويتعامل معها بعناية، ويعلمها كيف تتعامل مع حالاتها المزاجية الحادة.
طوال حياته، كان يقول هذا بصعوبة - كما اعترف - لأنه يحذر دائما من الحماس المفرط؛ طوال حياته كان ينتظر طالبا مثلها يدخل إلى غرفته، طالبا يتحداه تماما، وليس قادرا فحسب على اتباع محاولات عقل أستاذه، بل ربما يحلق إلى آفاق أبعد. كان عليه أن يكون حريصا في قول ما يؤمن به حقا؛ هناك شيء ما شبيه بالحدس في العقل الرياضياتي الممتاز، شعلة مضيئة تكشف الغطاء عما كان هناك منذ الأزل. بالطبع لا بد أن يكون حازما ودقيقا، لكن على الشاعر العظيم أن يكون هكذا أيضا.
حين حمل نفسه أخيرا على إخبار صوفيا، قال لها إن هناك من سيشعرون بالإهانة لربط الشعر بالعلوم الرياضياتية، وقال إن آخرين سوف يهاجمون الفكرة بسهولة شديدة للدفاع عن تشوش تفكيرهم وتهلهله. •••
وكما توقعت، كانت طبقات الجليد تزداد سمكا خارج نوافذ القطار بينما يتوجهون شرقا. كانت في قطار الدرجة الثانية؛ لذا كان متقشفا تماما مقارنة بالقطار الذي استقلته من مدينة كان. لم يكن به عربة طعام، بل كعك بارد - البعض منه محشو بنقانق حارة متنوعة - قدمته عربة الشاي. اشترت كعكة محشوة بالجبن في نصف حجم حذاء طويل الرقبة، واعتقدت أنها لن تنهيها أبدا، لكنها فعلت، ثم أخرجت مجلدها الصغير لأعمال هاينريش هاينه؛ لمساعدة عقلها على إخراج الألمانية إلى سطحه.
وفي كل مرة كانت ترفع عينيها إلى النافذة يبدو لها أن الثلج يسقط بكثافة أكبر، وفي بعض الأحيان، يبطئ القطار، بل يكاد يتوقف. سيكونون محظوظين مع هذه السرعة لو وصلوا إلى برلين مع منتصف الليل. تمنت لو أنها لم تسمح بإثنائها عن فكرة المبيت في فندق، بدلا من المبيت في البيت الواقع في شارع بوتسدام. «سوف تقدمين لكارل المسكين صنيعا كبيرا بأن تقضي فقط ليلة واحدة تحت السقف نفسه. لا يزال يراك الفتاة الصغيرة الواقفة على أعتاب منزلنا، بالرغم من تقديره إنجازاتك تقديرا عظيما وفخره بنجاحك العظيم.» •••
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل حين ضغطت على زر الجرس. جاءت كلارا، متدثرة بوشاحها؛ إذ كانت صرفت الخادمة لتنام، وقالت لصوفيا بصوت نصف هامس إن أخاها استيقظ على ضجة التاكسي، فذهبت إليه إليسا تهدئه وتطمئنه أنه سيرى صوفيا في الصباح.
بدت كلمة «تهدأ» شؤما لصوفيا. لم تذكر رسائل الأختين أكثر من بعض الإرهاق، ولم تحتو رسائل فايرشتراس الخاصة أخبارا شخصية، بل ضجت بالكلام عن بوانكاريه وواجبه (أي فايرشتراس) نحو الرياضيات بأن يجعل المسائل أوضح لملك السويد.
وإذ تسمع الآن صوت المرأة العجوز يتهدج قليلا في ورع أو خوف وهي تذكر أخاها؛ وإذ تشم روائح هذا البيت - التي كانت يوما مألوفة لها ومطمئنة، لكنها الليلة عتيقة وقابضة - شعرت صوفيا أن الممازحة لن تكون ملائمة كثيرا كما كانت من قبل، وأنها لم تجلب معها هواء باردا نقيا فقط، بل شيئا من الجلبة المفعمة بالنجاح وحالة نشاط محموم لم تكن واعية بهما تماما، وربما كان ذلك مهيبا ومزعجا؛ فهي التي اعتادت أن تلقى استقبالا بالأحضان والسعادة البالغة (فكانت إحدى الصفات التي أدهشتها في الأختين مدى قدرتهما على أن تكونا ظريفتين بينما تراعيان القواعد التقليدية)، استقبلت بالأحضان هذه المرة أيضا، لكنها أحضان بأذرع عجوز مرتعشة صاحبتها دموع تلتمع في عيونهما المطفأة.
لكن كان هناك ماء دافئ في غرفتها، وكان هناك خبز وزبد على مائدتها الليلية.
استطاعت أن تسمع همسا محتدا خفيضا يأتي من الصالة العلوية بينما تغير ملابسها. لعله كان عن حالة الأخ أو عنها أو عن عدم تغطية الخبز والزبد، وعدم ملاحظة ذلك حتى أرشدتها كلارا إلى غرفتها. •••
حين كانت صوفيا تعمل مع فايرشتراس، كانت تقيم معظم الوقت في شقة معتمة صغيرة مع صديقتها جوليا التي كانت تدرس الكيمياء. لم تذهبا إلى حفلات موسيقية أو مسرحيات؛ إذ كانت أموالهما محدودة وكانت دراستهما مستولية عليهما تماما. عملت جوليا في معمل خاص حيث حصلت على مميزات من الصعب على امرأة أن تحصل عليها. وقضت صوفيا الأيام، فيوما بعد يوم تجلس إلى مائدة عملها، وأحيانا لم تكن تقوم عن كرسيها إلا عند ضرورة إضاءة المصباح؛ حينئذ تشد عضلاتها وتمشي، مسرعة الخطى ، عبر الشقة - مسافة قصيرة كافية - وأحيانا ما تجري وتتحدث بصوت مرتفع، وتنفجر في حالة من اللامنطقية؛ حتى إن أي شخص لا يعرفها جيدا مثلما تعرفها جوليا كان سيشك في قواها العقلية.
كان تفكير فايرشتراس وتفكيرها مشغولين بالدوال الإهليجية والأبيلية، ونظرية الدوال التحليلية التي يرتكن تمثيلها إلى أنها متسلسلة لا نهائية. إن النظرية التي سميت باسمه تزعم أن كل متتابعة لا نهائية محددة من الأرقام الحقيقية لها متسلسلة متقاربة. وفي ذلك، حذت حذوه ثم تحدته فيما بعد، بل وسبقته في وقت من الأوقات، وهكذا تقدما من أستاذ وتلميذ إلى زميلين في علم الرياضيات؛ كانت هي المحفز لأبحاثه، لكن هذه العلاقة أخذت وقتا للتطور، وفي عشاء أيام الآحاد - التي كانت تدعى إليها بالفعل لأنه كرس لها وقت ما بعد الظهيرة من كل يوم أحد - كانت تبدو وكأنها شابة من أقربائهم، تلميذة أو مريدة متحمسة.
وحين جاءت جوليا، دعيت أيضا؛ أكلت الفتاتان لحما مقددا وبطاطا مخفوقة وبودنج لذيذا خفيفا قلب أفكارهما عن الطهي الألماني رأسا على عقب. بعد الفراغ من الطعام، جلسوا جميعا حول النار واستمعن إلى إليسا التي راحت تقرأ بصوت جهوري. قرأت بعضا من قصص الكاتب السويسري كونراد فرديناند ماير بحماس كبير وصوت تعبيري. كان الأدب هو المتعة الأسبوعية بعد كل ما يقمن به من الحياكة والرتق.
في أعياد الميلاد، أحضروا شجرة لصوفيا وجوليا، مع أن آل فايرشتراس أنفسهم لم يهتموا لسنوات لشراء واحدة لأنفسهم. كان هناك بونبون في ورق لامع وكعكة فواكه وتفاح مشوي؛ كل ذلك للطفلتين، حسبما قالوا.
لكن سرعان ما وقعت مفاجأة مزعجة. •••
كانت المفاجأة أن صوفيا - التي بدت أيقونة للشابة الخجولة عديمة الخبرة - يجب أن تتزوج. في الأسابيع الأولى من دروسها، قبل أن تصل جوليا، كانت تستقل سيارة مع شاب في إحدى ليالي الأحد من أمام بيتهم، لم تعرف عائلة فايرشتراس عليه؛ مما دفع بالعائلة إلى الاعتقاد أنه خادم. كان طويلا، يخلو وجهه من أي جاذبية، له لحية خفيفة حمراء وأنف ضخم وملابس غير مهندمة. في الحقيقة ، لو كانت لآل فايرشتراس خبرة أكبر بالحياة، لأدركوا أن عائلة نبيلة محترمة - لأنهم علموا أن عائلة صوفيا من هذا النوع من العائلات - لم تكن لتعين خادما أشعث مثل هذا، ومن ثم كانوا سيدركون أنه صديق.
ثم جاءت جوليا واختفى الشاب.
لم تصرح صوفيا عن المعلومات إلا بعد مرور فترة من الوقت؛ أخبرتهم أن اسمه فلاديمير كوفالفسكي، وأنها تزوجته. كان يدرس في فيينا وباريس مع أنه حاصل على شهادة جامعية في الحقوق، وكان يحاول أن يشق طريقه كناشر في روسيا، وكان يكبر صوفيا بعدة سنوات.
الأمر الآخر المثير لذات القدر من الدهشة تقريبا هو أن صوفيا صرحت لفايرشتراس، وليس للأختين، بهذه الأخبار؛ فمن ناحية إدارة البيت، كانت الأختان هما من تتعاملان مع بعض أوجه الحياة؛ وإن كان عبر حيوات خدمتهما، وقراءة بعض الروايات المعاصرة ليس إلا. لكن صوفيا لم تكن الابنة المفضلة لدى أمها أو مربيتها، ولم تلق مفاوضاتها مع الجنرال النجاح دائما، لكنها كانت تكن له الاحترام، وظنت أنه أيضا كان يبادلها هذا الاحترام؛ لهذا كان فايرشتراس، رجل البيت، هو من اتجهت إليه بثقة كبيرة.
أدركت أنه لا بد أن فايرشتراس شعر بالإحراج؛ ليس حين كانت تتحدث إليه، بل حين اضطر أن يخبر أختيه، فالأمر لم يكن يقتصر على خبر زواج صوفيا؛ ذلك أنها كانت متزوجة زواجا صحيحا وقانونيا، لكنه كان زواجا غير مكتمل - شيء لم يسمع عنه قط، ولا حتى أختاه. زوج وزوجة؛ لا يعيشان معا في المكان نفسه، بل لم يعيشا معا على الإطلاق، لم يتزوجا للأسباب الكونية المعروفة للزواج، بل كانا مقيدين بوعدهما السري ألا يعيشا أبدا بهذه الطريقة؛ ألا ... «يقيما علاقة زوجية مكتملة؟» ربما كلارا هي التي قالت هذا، بعجل، بل وبضجر، لتجاوز اللحظة.
نعم، والشباب - أو الشابات على وجه التحديد - الذين يريدون الدراسة في الخارج يجبرون على اقتراف هذه الخديعة؛ لأنه محظور على الفتيات الروسيات مغادرة البلاد دون موافقة والديهن. كان والدا جوليا متنورين بما يكفي ليسمحا لها بالذهاب، لكن ليس هذا هو حال والدي صوفيا.
يا له من قانون همجي!
نعم، هؤلاء هم الروس. لكن بعض النساء التففن على ذلك بمساعدة شباب في منتهى المثالية والتعاطف، ربما يكونون أناركيين كذلك، من يعرف؟
كانت أخت صوفيا الكبرى هي من عثرت على واحد من هؤلاء الشباب، ورتبت مع صديق من أصدقائها لقاء معه. ربما كانت أسبابهم سياسية أكثر منها فكرية. الله وحده يعلم الأسباب التي جعلتهم يصطحبون صوفيا معهم؛ فهي لم تكن تميل إلى السياسة ولا تعتقد أنها مستعدة لمغامرة من هذا النوع. تجاهل الشاب الأختين الكبريين - لم تستطع الأخت المدعوة بأنيتا أن تخفي جمالها وراء جدار الجدية - وقال: لا، لا، لا أرغب أن أبرم هذا العقد مع أي من السيدتين الشابتين الموقرتين، لكني أوافق على أن أفعل هذا مع أختكما الصغرى. «ربما أعتقد أن الأختين الكبريين يمكن أن تكونا مثيرتين للمشكلات» ربما إليسا هي من قالت هذا، بخبرتها مع الروايات؛ «خاصة بسبب الجمال؛ لذا وقع في غرام صغيرتنا صوفيا.»
لا ينبغي أن يدخل الحب في هذا، ربما كانت كلارا هي من ذكرت ذلك.
تقبل صوفيا طلب الزواج. يزور فلاديمير الجنرال؛ ليطلب يد ابنته الصغرى للزواج. الجنرال مهذب، ويدرك أن الشاب ينحدر من عائلة طيبة، مع أنه لم يحقق كثيرا من الإنجازات حتى الآن في العالم. يقول، لكن صوفيا صغيرة جدا. هل تعرف حتى نواياك؟
وافقت صوفيا، وقالت إنها تحبه.
قال الجنرال: إنهما لا يجب أن يتصرفا بناء على مشاعرهما فورا، بل لا بد أن يقضيا بعض الوقت؛ بعض الوقت الكثير جدا، حتى يتعارفا في باليبينو (كانوا في بيترسبرج حاليا).
كانت الأمور راكدة. لن يترك فلاديمير انطباعا جيدا أبدا. لم يحاول جاهدا بما يكفي لكي يخفي آراءه الراديكالية، ولم يكن يحسن انتقاء ملابسه. كان الجنرال واثقا أن صوفيا سوف تخبو رغبتها في الزواج من هذا الخاطب كلما عرفته أكثر.
من ناحية أخرى، كان لدى صوفيا خططها الخاصة.
جاء يوم كانت عائلتها تقيم فيه حفل عشاء مهم، وكان المدعوون إلى الحفل دبلوماسيين وأساتذة جامعيين ورفاقا عسكريين للجنرال من الكلية العسكرية. استطاعت صوفيا وسط كل هذا الهرج أن تهرب.
خرجت وحيدة إلى شوارع بيترسبرج؛ حيث لم يسبق لها أن سارت دون خادم أو دون أختيها. ذهبت إلى محل إقامة فلاديمير في دائرة من المدينة يسكنها طلاب فقراء. انفتح لها الباب فورا، وما إن دخلت وجلست، حتى خطت رسالة إلى والدها: «أبي العزيز، ذهبت إلى فلاديمير وسوف أبقى هنا. أتوسل إليك ألا تعارض زواجنا أكثر من هذا.»
كان الجميع جالسين إلى المائدة قبل أن ينتبه أحد إلى غياب صوفيا. وجد أحد الخدم غرفتها خالية. سئلت أنيتا عن أختها، فاحمر وجهها وهي تجيب بأنها لا تعرف أي شيء، ولكي تخفي وجهها أسقطت منديلها.
تسلم الجنرال رسالة، استأذن وخرج من الغرفة، وسرعان ما سمع كل من صوفيا وفلاديمير خطواته الغاضبة خارج بابهما. أخبر ابنته، التي عرضت نفسها للفضيحة، والرجل، الذي كانت على استعداد أن تخسر سمعتها من أجله، أن يأتيا معه على الفور. ركبوا جميعا متوجهين إلى البيت، ثلاثتهم بدون كلمة، وعلى مائدة العشاء قال: «اسمحوا لي أن أقدم لكم زوج ابنتي المستقبلي فلاديمير كوفالفسكي.»
وهكذا تم الزواج. كانت صوفيا تشعر بسعادة بالغة، ليس لأنها تزوجت من فلاديمير فعليا، بل لأنها أسعدت أنيتا بتعزيز قضية تحرير النساء الروسيات. عقد زواج تقليدي ورائع في باليبينو، وانطلق العروسان للعيش تحت سقف واحد في بيترسبرج.
وما إن اتضح طريقهما، حتى سافرا ولم يعودا يعيشان تحت سقف واحد. سافرت صوفيا من هايدلبرج ومنها إلى برلين، وسافر فلاديمير إلى ميونخ. كان يزور هايدلبرج كلما استطاع، لكن بعد أن انضمت أنيتا وصديقتها زانا وجوليا إليها - كانت النساء الأربع تحت حمايته صوريا - ولم تعد هناك مساحة كافية له.
لم يكشف فايرشتراس للنساء أنه كان يتبادل الرسائل مع زوجة الجنرال. كتب لها حين عادت صوفيا من سويسرا (من باريس في الواقع) مرهقة وضعيفة؛ فشعر بالقلق على صحتها. ردت المرأة برسالة، مخبرة إياه أن الأجواء في باريس هي التي سببت لابنتها تلك الحالة، لكنها لم تبد منزعجة من الفوران السياسي الذي عاشته ابنتها بقدر انزعاجها من اكتشافها أن ابنتها العزباء تعيش علنا مع رجل، والأخرى المتزوجة لا تعيش فعليا مع زوجها على الإطلاق. وهكذا أصبح - رغما عن إرادته نسبيا - محل ثقة الأم قبل حتى أن يصبح محل ثقة للابنة، وفعليا لم يخبر صوفيا أي شيء عن هذا حتى توفيت الأم.
لكن حين أخبرها أخيرا، قال لها كذلك إن كلارا وإليسا سألتاه فورا عما ينبغي فعله.
كما قال إنه يبدو أن من عادة النساء أن يفترضن أنه ينبغي أن يفعل شيئا ما.
ومن ثم أجاب بحدة بالغة: «لا شيء.» •••
في الصباح، أخذت صوفيا من حقيبتها فستانا نظيفا مجعدا - فهي لم تتعلم قط كيفية ترتيب حقيبتها - ومشطت شعرها المجعد بقدر ما تستطيع؛ لتخفي بعض الخصلات الرمادية، ونزلت درجات السلم على صوت جلبة الأعمال المنزلية التي بدأت فعليا. كان مكانها على مائدة الطعام هو الوحيد الذي لا يزال مرتبا. أحضرت إليسا القهوة وأول فطور ألماني تتناوله صوفيا في هذا المنزل؛ شريحة من اللحم البارد وجبن وخبز مدهون بطبقة سميكة من الزبد. قالت إن كلارا في الدور العلوي تجهز أخاها ليلتقي صوفيا.
قالت إليسا: «في البداية كنا نحضر الحلاق إلى هنا، لكن كلارا تعلمت فيما بعد أن تفعل هذا جيدا؛ اتضح أنها الشخص الذي يتمتع بمهارات الممرضة؛ إن المرأة المحظوظة هي التي تتمتع بمواصفات الممرضة.»
حتى قبل أن تقول هذا، شعرت صوفيا أنهم يمرون بضائقة مالية. باتت طبقة داكنة على الستائر المصنوعة من القماش الدمقسي والستائر الشبكية تعلوها طبقة من الغبار، ومرت مدة طويلة على آخر مرة شحذت فيها السكين الفضي، وصقلت الشوكة الفضية اللتين استخدمتهما. عبر الباب المفتوح الذي يؤدي إلى غرفة الجلوس، رأت فتاة شابة خشنة المظهر؛ خادمتهم الحالية، تنظف المدفأة وتثير سحبا من الغبار. نظرت إليسا إليها كما لو أنها تطلب منها أن تغلق الباب، ثم نهضت وفعلت هذا بنفسها. عادت إلى المائدة بوجه محمر وكئيب، وسألت صوفيا بتسرع - وإن كان بلهجة تخلو من التأدب نسبيا - عن مرض السيد فايرشتراس.
قالت إليسا خافضة صوتها لكن بالصراحة التي تعرف بها المرأة الألمانية: «قلبه الضعيف من ناحية، والالتهاب الرئوي الذي أصابه في الخريف الذي لا يستطيع أن يتجاوزه على ما يبدو، كما أن لديه تورما في أعضائه التناسلية.»
ظهرت كلارا على الباب.
قالت: «إنه ينتظرك.»
صعدت صوفيا السلالم لا تفكر في الأستاذ، بل في الأختين اللتين جعلتا منه محور حياتيهما. غزل الكوفيات، ورتق الشراشف، وإعداد البودنج والمربى؛ تلك الأعمال التي لم تثقا في أن تعهدا بها إلى خادمة قط. احترام الكنيسة الكاثوليكية الرومانية مثل أخيهما - دين بارد ممل في رأي صوفيا - وكل هذا بدون لحظة تمرد كما ترى، أو أي طرفة عين تنم عن الاستياء.
كانت ستفقد عقلها، لو كانت مكانهما.
فكرت في نفسها؛ يمكن أن تجن حتى لو كانت أستاذة جامعية. يمتلك الطلاب عقولا عادية عموما، لا تؤثر فيها إلا النماذج الواضحة العادية.
لم تكن تجرؤ على الاعتراف بهذا لنفسها قبل أن تقابل ماكسيم.
دخلت الغرفة تبتسم لحسن حظها، ولحريتها المرتقبة، ولزوجها المستقبلي.
قال فايرشتراس: «آه، ها أنت هنا أخيرا.» كان فايرشتراس يتحدث بصوت خفيض ومرهق نوعا ما؛ «ها هي الطفلة الشقية، اعتقدنا أنها هجرتنا. هل أنت في طريقك إلى باريس مرة ثانية؛ لترفهي عن نفسك؟» - «أنا في طريق عودتي من باريس، عائدة إلى استوكهولم. لم تكن رحلتي لباريس من أجل الترفيه إطلاقا بل كانت في منتهى الكآبة.» أعطته يديها ليقبلهما الواحدة بعد الأخرى. - «هل أختك أنيتا مريضة إذن؟» - «أنيتا قد توفيت أستاذي الحبيب.» - «هل توفيت في السجن؟» - «لا، لا. كان هذا منذ فترة طويلة. لم تكن في السجن حينئذ. زوجها هو من كان في السجن. ماتت من الالتهاب الرئوي لكنها عانت فترة طويلة من عدة نواح أخرى.» - «أوه، الالتهاب الرئوي، أصبت به أيضا، لا يزال هذا الأمر يحزنك.» - «لن يشفى قلبي أبدا، لكن لدي خبر جيد أخبرك به، خبر سعيد؛ سوف أتزوج في الربيع.» - «هل حصلت على الطلاق من الجيولوجي؟ لا عجب في ذلك، كان يجب أن تفعلي هذا منذ فترة طويلة، ومع ذلك فالطلاق أمر مزعج.» - «لقد توفي هو الآخر، وكان متخصصا في الحفريات، إنه علم جديد، شيق جدا، يكتشفون أشياء ويتعلمونها من الحفريات.» - «نعم، أتذكر الآن، سمعت عن هذا العلم. مات شابا إذن. لم أكن أريده أن يكون عائقا في طريقك، لكني لم أرغب في موته حقا. هل مرض فترة طويلة؟» - «تستطيع أن تقول هذا، تتذكر بالتأكيد كيف تركته، وأنك أوصيت ميتاج ليفلر بي؟» - «في استوكهولم، أليس كذلك؟ تركته. حسنا، كان لا بد من ذلك.» - «نعم، لكنه انتهى الآن وسوف أتزوج رجلا يحمل اسم عائلتي، لكننا لسنا أقارب من الدرجة الأولى؛ وهو نوع مختلف تماما من الرجال.» - «روسي إذن؟ هل يدرس الحفريات أيضا؟» - «إطلاقا، إنه أستاذ قانون، إنه نشيط وظريف جدا، إلا حينما يكون مكتئبا، سوف أحضره ليراك، وسوف ترين بنفسك.»
قال فايرشتراس في أسف: «يسعدنا أن نستضيفه، سيضع هذا نهاية لعملك.» - «إطلاقا، إطلاقا؛ إنه لا يريد ذلك، لكني لن أدرس بعد ذلك؛ سوف أكون حرة، وسوف أعيش في جو مبهج في جنوب فرنسا، وسأكون في صحة جيدة هناك طول الوقت، وأنجز قدرا من العمل يفوق ما أنجزه الآن.» - «سنرى!» - «حبيبي؛ إني آمرك، آمرك أن تسعد من أجلي.»
قال: «لا بد أني أبدو طاعنا في السن، وعشت حياة رزينة. لا أتمتع بجوانب عديدة في طبيعتي مثلك. لقد اندهشت من أنك تكتبين روايات أيضا.» - «لكنك لم تحب الفكرة.» - «مخطئة. لقد أحببت مذكراتك، واستمتعت بقراءتها.» - «ذلك الكتاب ليس رواية بالمعنى الفعلي. لن تحب الكتاب الذي كتبته الآن؛ أحيانا حتى أنا نفسي لا أحبه. إن أحداثه تدور بالكامل حول فتاة تهتم بالسياسة أكثر مما تهتم بالحب. لا يهم، لن تضطر إلى قراءته. سوف تمنع الرقابة الروسية نشره، ولن يريده العالم في الخارج لأنه يتناول شأنا روسيا صرفا.» «أنا لست مغرما بالروايات بوجه عام.» - «أتعتبرها موجهة للنساء فحسب؟» «حقا أنسى أحيانا أنك امرأة. أعتبرك ... أعتبرك ...» - «ماذا تعتبرني؟» - «أعتبرك هدية لي، هدية لي وحدي.»
انحنت صوفيا وقبلت جبينه الأبيض. حبست دموعها حتى ودعت الأختين وغادرت المنزل.
فكرت أنها لن تراه مرة ثانية.
فكرت في وجهه الأبيض بياض الوسائد المنشاة التي لا بد أن كلارا وضعتها خلف رأسه هذا الصباح فقط. لعلها أبعدتها فعليا؛ لتسمح له بأن يرقد على الوسادة التي تحتها، الأنعم والأكثر رثاثة. لعله نام على الفور تعبا من حوارهما. سيفكر أن ذلك ربما كان آخر لقاء بينهما، وسيعرف أن الفكرة خطرت في بالها أيضا، لكنه لن يعرف. كان ذلك مثار مشاعر الخزي لديها، كان ذلك سرها. كم شعرت بأنها خفيفة وحرة، وكانت تشعر في ذلك الحين - بالرغم من دموعها - بمزيد من الحرية مع كل خطوة تخطوها بعيدا عن هذا المنزل.
فكرت فيما إذا كان التفكر في حياته سيكون أكثر إرضاء من تأمل حياة أختيه؟
لن يبقى اسمه مترددا في الكتب الدراسية وفي أوساط الرياضيين سوى لفترة وجيزة. كان يمكن أن يدوم طويلا لو أنه كان أكثر تحمسا لترسيخ سمعته، والبقاء في مقدمة دائرة النخبة المجتهدة. أولى لعمله عناية أكبر مما أولى لاسمه، في الوقت الذي أولى فيه العديد من زملائه العناية لكليهما على السواء. •••
كان يجب ألا تذكر كتابتها؛ إنها في نظره ليست سوى ضرب من العبث. كتبت ذكرياتها عن حياتها في باليبينو في إشراقة حب لكل شيء فقدته؛ لأشياء فقدت فيها الأمل يوما، وأشياء كانت عزيزة عليها يوما. كتبتها بعيدا عن وطنها في وقت ضاع فيه الوطن حاملا معه أختها. وخرجت رواية «فتاة عدمية» من رحم الألم على بلدها؛ نوبة وطنية وربما شعور بأنها لم تعط ما يكفي من الانتباه لها مع دراستها للرياضيات واضطرابات الحياة.
نعم، كانت متألمة على بلدها؛ لكنها من ناحية ما كتبت هذه القصة تكريما لذكرى أنيتا. كانت قصة امرأة شابة تخلت عن كل احتمالية لعيش حياة طبيعية من أجل أن تتزوج من سجين سياسي نفي إلى سيبريا. بتلك الطريقة ضمنت أن تصبح حياته وعقوبته مخففة إلى حد ما - كأن ينفى إلى جنوب سيبريا بدلا من شمال سيبريا - حسبما كانت تنص القاعدة الخاصة بالرجال الذين تصاحبهم زوجاتهم . ستلقى القصة استحسان هؤلاء الروس المنفيين الذين قد ينجحون في قراءة مخطوطة الرواية؛ بل يكفي أن يحظر نشر الكتاب في روسيا لكي يتولد هذا الاستحسان بين صفوف المنفيين السياسيين كما تعرف صوفيا جيدا. كانت أكثر فرحة ب «الأخوات رايفسكي» - المذكرات - مع أن الرقابة أجازته ورفضه بعض النقاد باعتباره يعكس حالة نوستالجيا.
4
خذلت فايرشتراس مرة من قبل، خذلته حين حققت نجاحا مبكرا. هذا حقيقي، مع أنه لم يذكره قط. أدارت ظهرها له وللرياضيات معا؛ لم ترد حتى على رسائله. عادت إلى وطنها في باليبينو في صيف 1874 منتصرة، بشهادتها الجامعية المحفوظة في حقيبة مخملية، ثم خزنتها بعد ذلك في صندوق لتظل هناك منسية لشهور، أو سنوات.
أسكرتها رائحة حقول القش وغابات الصنوبر وأيام الصيف الحارة التي صبغها ضوء الشمس باللون الذهبي، والأمسيات المضيئة الطويلة في شمال روسيا. كانت هناك النزهات الخلوية وألعاب الهواة، وحفلات الرقص وأعياد الميلاد والترحيب بأصدقاء قدامى ووجود أنيتا، التي كانت سعيدة بابنها ذي العام الواحد. كان فلاديمير موجودا كذلك، وفي الجو الصيفي السهل مع الدفء والنبيذ وولائم العشاء الطويلة المفعمة بالبهجة والرقص والغناء، كان من الطبيعي أن تسلم إليه، وأن تتحقق بعد كل هذا الوقت من أنه ليس زوجها فقط، بل حبيبها.
لم يحدث هذا لأنها وقعت في غرامه. كانت تشعر بالامتنان له، وأقنعت نفسها بأن شعورا مثل الحب لا يحدث في الحياة الواقعية. اعتقدت أن موافقتها على ما أراد سوف تسعدهما على السواء، وقد كان ذلك لمدة من الزمن.
في الخريف ذهبوا إلى بيترسبرج، واستمرت حياة المتعة الكبيرة؛ ولائم غداء وألعاب وحفلات استقبال، وكل الصحف والدوريات التي يمكن قراءتها، التافهة منها والجادة. توسل فايرشتراس لصوفيا في رسالة ألا تهجر عالم الرياضيات. حرص على نشر أطروحتها في دورية كرل للرياضيات. بالكاد نظرت إليها. طلب منها أن تقضي أسبوعا - مجرد أسبوع - في صقل عملها عن حلقات زحل؛ حتى يمكن نشره كذلك. لم تتكبد العناء. كانت مشغولة جدا، كانت منخرطة في احتفال دائم إلى حد ما. احتفال بالأعياد الدينية وحفلات البلاط الإمبراطوري والأوبرا الجديدة وعروض الباليه، لكن كل ذلك في الواقع يبدو احتفالا بالحياة نفسها.
كانت تتعلم، متأخرا جدا، ما يبدو أن عديدا من الناس حولها يعرفونه منذ طفولتهم؛ يمكن أن تكون الحياة مرضية لأقصى حد دون إنجازات كبرى، يمكن أن تكون مفعمة بانشغالات لا ترهقك حتى النخاع. بعد أن تحصل على ما تحتاج إليه من أجل عيش حياة كاملة مريحة، ثم تأسيس حياة اجتماعية وعامة مليئة بالمتعة، يقيك ذلك الشعور بالملل أو الكسل، وفي النهاية ستشعر أنك فعلت كل ما يرضي الجميع؛ فلا مجال للألم.
باستثناء مسألة الحصول على المال.
أنعش فلاديمير عمله في النشر. استعارا المال من أينما استطاعا، ولم يمر وقت طويل قبل أن يتوفى والدا صوفيا، فاستثمرت إرثها في بناء حمامات ملحقة بصوبات زراعية ومخبز ومغسلة تنظيف ملابس بالبخار. كانت لديهما مشاريع عظيمة؛ لكن حدث أن الطقس في بيترسبرج صار أبرد من المعتاد ولم تعد حمامات البخار تغري الناس. غشهم البناءون وأناس آخرون، وأصبحت السوق غير مستقرة، وعوضا عن أن يتدبرا أساسا قويا لحياتهما، راحا يغوصان أعمق وأعمق في الديون.
وحين تصرفا مثل كل زوجين، أثمرت علاقتهما ثمرة غالية. أنجبت صوفيا طفلة. سميت الرضيعة على اسم والدتها لكنهم نادوها بفوفو. كان لدى فوفو ممرضة ومرضعة وجناحها الخاص. وظفت العائلة طاهيا وخادمة أيضا. اشترى فلاديمير ملابس جديدة أنيقة لصوفيا وهدايا رائعة لابنته. حصل على شهادته الجامعية من جينا، ونجح في أن يصبح مساعد أستاذ في بيترسبرج، لكن ذلك لم يعد كافيا. كانت دار النشر تنهار تقريبا.
ثم اغتيل القيصر وأصبح الجو السياسي مضطربا، وعاش فلاديمير فترة من السوداوية العميقة فلم يكن يستطيع العمل أو التفكير.
عرف فايرشتراس بموت والدي صوفيا، ولكي يخفف من حزنها قليلا، كما قال، أرسل إليها معلومات عن نظامه الجديد الممتاز في التكامل، ولكن عوضا عن الرجوع إلى الرياضيات توجهت إلى كتابة النقد المسرحي والمقالات العلمية المبسطة للصحف. كان ذلك توظيفا لموهبة أكثر تجارية وأقل إزعاجا للآخرين أو إرهاقا لها مثل الرياضيات.
انتقلت عائلة كوفالفسكي إلى موسكو، آملة في أن يتغير حظها.
تعافى فلاديمير، لكنه لم يشعر بالقدرة الكافية على العودة إلى التدريس. وجد فرصة جديدة للمجازفة؛ إذ عرضت عليه وظيفة في شركة تستخلص النفط من آبار البترول. كانت الشركة ملك الأخوين راجوزين، اللذين يمتلكان مصفاة وقلعة حديثة في فولجا. اعتمدت الوظيفة على استثمار فلاديمير جزءا من المال نجح في استدانته.
لكن صوفيا شعرت هذه المرة بالمشاكل القادمة. لم يحبها آل راجوزين ولم تحبهم. تزايد نفوذهم على فلاديمير. حدثها فلاديمير عن أن هؤلاء هم الرجال الجدد، وأن لا مجال للهراء لديهم. أصبح متحفظا واتخذ سيماء فظة ومتعالية. قال: اذكري لي امرأة واحدة مهمة حقا، واحدة صنعت فارقا حقيقيا في هذا العالم، إلا بإغراء الرجال وقتلهم، هن متخلفات بالفطرة ومتمحورات حول ذاتهن، ولو امتلكن أي فكرة، أي فكرة محترمة، يكرسن أنفسهن لها، يصبحن هستيريات ويفسدنها بإحساسهن بالأهمية.
قالت صوفيا: هذا هو رأي آل راجوزين.
عندئذ استأنفت مراسلاتها مع فايرشتراس. تركت فوفو مع صديقتها القديمة جوليا ورحلت إلى ألمانيا. كتبت إلى ألكسندر أخي فلاديمير أن الأخير التقط طعم الأخوين راجوزين بسهولة حتى كأنه كان يغري القدر ليرسل له كارثة أخرى، ومع ذلك كتبت لزوجها تعرض عليه العودة. لم يرد ردا إيجابيا.
تقابلا مرة واحدة أخرى في باريس. كانت تعيش هناك حياة متقشفة بينما يحاول فايرشتراس أن يحصل على وظيفة لها. عادت إلى الانغماس في المسائل الرياضية، وكذلك كان الأشخاص الذين تعرفهم. بدأ فلاديمير يشك في الأخوين راجوزين، لكنه ورط نفسه إلى الحد الذي لم يعد يمكنه أن ينسحب معه. ومع ذلك، ذكر شيئا عن السفر إلى الولايات المتحدة، وسافر إلى هناك بالفعل، لكنه عاد ثانية.
كتب لأخيه في خريف عام 1882 أنه أدرك الآن أنه كان شخصا تافها تماما. في نوفمبر، أبلغ عن إفلاس راجوزين. كان خائفا من أن يحاولوا توريطه في إجراءات إجرامية محددة. رأى فوفو في عيد الميلاد، وكانت في أوديسا مع عائلة شقيقة. كان سعيدا بأنها تذكرته، وبصحتها الجيدة وذكائها. بعد ذلك جهز رسائل وداع لجوليا وأخيه وأصدقاء آخرين معينين لكن لم تكن صوفيا من ضمنهم. كتب كذلك رسالة للمحكمة يشرح فيها بعض الأعمال التي قام بها فيما يتعلق بشأن الأخوين راجوزين.
أجل إرسالها فترة أطول، وانتظر حتى أبريل، فربط كيسا حول رأسه واستنشق الكلوروفورم.
رفضت صوفيا - وكانت في باريس - تناول الطعام ولم تخرج من غرفتها. ركزت كل تفكيرها على رفض الطعام؛ حتى لا تشعر بما كانت تشعر به.
في النهاية أجبرت على تناول الطعام ونامت. حين استيقظت كانت تشعر بخجل عميق من هذا السلوك. طلبت ورقة وقلم رصاص؛ لأنها قد تواصل عملها على مسألة رياضية. •••
لم يترك مالا. كتب إليها فايرشتراس يطلب منها أن تأتي للإقامة بينهم لتكون أختا أخرى. لكنه استمر في استعمال نفوذه سرا، ونجح أخيرا مع تلميذه السابق وصديقه ميتاج ليفلر في السويد. وافقت جامعة استوكهولم الجديدة على أن تكون الجامعة الأولى في أوروبا التي تعين أستاذة للرياضيات.
استعادت صوفيا ابنتها في أوديسا وأخذتها لتعيش مع جوليا. كانت غاضبة من الأخوين راجوزين. كتبت لأخي فلاديمير تصفهم ب «أوغاد ماكرين قاتلين.» أقنعت قاضي الاستماع أن يعلن أن كل الأدلة تبين أن فلاديمير كان يسهل خداعه لكنه كان صادقا.
ثم أخذت قطارا مرة أخرى من موسكو إلى بيترسبرج مسافرة للحصول على وظيفتها الجديدة المرموقة - وبالتأكيد الأكثر إثارة للاستنكار - في السويد. شرعت في رحلتها من بيترسبرج بحرا. انطلق القارب بينما ضوء الغروب يغمر الكون من حولها. جال في خاطرها أن الحياة ستخلو من الحمق منذ ذلك الحين؛ سوف أبني حياة محترمة الآن.
لم تكن قابلت ماكسيم حينئذ أو فازت بجائزة بوردين.
5
تركت برلين أول ما بعد الظهيرة بعد أن ودعت فايرشتراس ذلك الوداع الأخير والتحرري كذلك. كان القطار قديما وبطيئا، ومع ذلك كان نظيفا جيد التدفئة كما تتوقع من أي قطار ألماني.
في منتصف الرحلة تقريبا فتح رجل يجلس أمامها صحيفة، بعد أن عرض عليها أي قسم منها قد تحب أن تقرأه.
شكرته رافضة العرض.
أومأ برأسه تجاه النافذة، إلى الثلج الناعم المتساقط .
قال: «آه حسنا، ما الذي يتوقعه الشخص منا؟»
ردت صوفيا: «فعلا.» - «هل تسافرين إلى ما بعد روستوك؟»
لعله لاحظ لكنة لم تكن ألمانية. لم تهتم بحديثه معها أو تتوصل إلى هذه النتيجة عن نفسها. كان أصغر منها بسنوات عدة، حسن الهندام، يتعامل نوعا ما بشيء من الاحترام والمراعاة. شعرت أنها قابلته أو رأته من قبل؛ لكن هذا عادة ما يحدث حينما يكون المرء مسافرا.
قالت: «إلى كوبنهاجن، ثم إلى استوكهولم. بالنسبة إلي سيزداد سمك الثلج.»
قال: «سوف أتركك عند روستوك.» ربما قالها ليطمئنها أنها لن تتورط في حوار طويل؛ «هل أنت سعيدة في استوكهولم؟» - «أمقت استوكهولم في هذا الوقت من السنة، أكرهها.»
كانت مندهشة من نفسها، لكنه ابتسم في بهجة وبدأ الحديث بالروسية.
قال: «أرجو المعذرة، كنت محقا؛ الآن أنا من أتحدث مثل الأجنبي، لكني في وقت ما كنت أدرس في روسيا، في بيترسبرج.» - «هل لاحظت لكنتي الروسية؟» - «ليس بشكل مؤكد، حتى قلت ما قلته عن استوكهولم.» - «هل كل الروس يكرهون استوكهولم؟» - «لا، لا. لكن يقولون إنهم يكرهونها، يكرهون، يحبون.» - «لم يكن ينبغي أن أقول ذلك؛ السويديون طيبون جدا معي، يعلمونك أمورا ...»
عند هذه النقطة هز رأسه ضاحكا.
قالت: «حقا؛ لقد علموني التزلج ...» - «فعلا! لم تتعلمي التزلج في روسيا؟!» - «الروسيون لا يصرون جدا ... جدا على تعليمك أشياء مثل السويديين.» - «ولا في بورنهولم. أعيش الآن في بورنهولم. الدانماركيون لا يصرون جدا؛ هذه هي الكلمة، لكن طبعا في بورنهولم، نحن لسنا حتى دانماركيين، ونعلن أننا لسنا كذلك.»
كان طبيبا في جزيرة بورنهولم، تساءلت هل لو طلبت منه أن يفحص حلقها - الذي بات شديد الاحتقان - سيكون خروجا عن حدود اللياقة، وقررت أنه سيكون كذلك.
قال إن أمامه سفرا طويلا وربما شاقا لا يزال عليه أن يقطعه، بعد أن عبرا الحدود الدانماركية.
لا يرى شعب بورنهولم أنفسهم دانماركيين، حسبما يقول؛ لأنهم يرون أنفسهم من الفايكنج احتلتهم الرابطة الهانزية في القرن السادس عشر. يملكون تاريخا عنيفا، وكانوا يأخذون أسرى. هل سبق لها أن سمعت عن إيرل بوثويل الشرير؟ يقول بعض الناس إنه مات في بورنهولم مع أن شعب زيلاند يقول إنه مات هناك.
قال: «لقد قتل زوج ملكة اسكتلندا وتزوجها هو، لكنه مات في الأغلال، مات مجنونا.»
قالت: «ماري ملكة اسكتلندا! لقد سمعت بذلك.» وبالفعل سمعت بذلك؛ لأن ملكة اسكتلندا كانت إحدى أوائل البطلات اللاتي أسرن خيال أنيتا. - «أوه، سامحيني، أنا أثرثر.»
قالت صوفيا: «أسامحك؟! ما الذي اقترفته لأسامحك عليه؟»
احمر وجهه. وقال: «إني أعرف من تكونين.»
قال إنه لم يكن يعرف في البداية، لكن حين تحدثت بالروسية، تأكد. - «أنت تلك السيدة التي عملت أستاذة في الجامعة، قرأت عنك في الجريدة. كان بها صورة لك كذلك، لكنك كنت تبدين أكبر سنا مما أنت فعليا. أعتذر أني تطفلت عليك لكني لم أستطع أن أمنع نفسي.» - «بدوت شديدة الصرامة في الصورة لأني اعتقدت أن الناس لن تثق في لو ابتسمت، ألا ينطبق الأمر نفسه على الأطباء؟» - «ربما، لم أتعود على أن تلتقط لي الصور.»
والآن نشأ حاجز بسيط بينهما، وكان عليها أن تزيحه. كان الوضع أفضل قبل أن يقول لها إنه يعرفها. عادت إلى قضية بورنهولم. قال: إنها كانت جريئة وعاصفة، وليست لطيفة وذات تضاريس منبسطة مثل الدنمارك. يأتي الناس إلى هناك طلبا للسكينة والهواء الصافي. أخبرها بأنها إن رغبت في أي وقت أن تأتي، فسيشرفه أن يصاحبها في التجول في أنحاء الجزيرة.
قال: «لدينا أندر نوع من الحجر الأزرق ويسمى المرمر الأزرق، يكسر ويصقل لترتديه النساء حول رقابهن، إذا رغبت في الحصول على واحد في أي وقت ...»
كان يتحدث بحماقة لأنه كان يريد أن يقول شيئا ولا يستطيع البوح به، كان بإمكانها أن ترى ذلك.
كان القطار يقترب من روستوك؛ فزاد توتره. كانت تخشى من أن يطلب منها أن توقع اسمها على ورقة أو على كتاب معه. نادرا ما يفعل أحد ذلك، لكن الأمر يحزنها، لم تستطع أن تعرف السبب.
قال: «أرجوك أصغي إلي، لا بد أن أقول لك شيئا ما. ليس من المفترض أن أفصح عنه. أرجوك. في طريقك إلى السويد، من فضلك، لا تذهبي عبر كوبنهاجن. لا تخافي، أنا في كامل قواي العقلية.»
قالت: «لست خائفة.» رغم أنها كانت خائفة قليلا. - «اذهبي عبر الطريق الآخر، عبر الجزر الدنماركية، بدلي تذكرتك من المحطة.» - «هل لي أن أسأل لماذا؟ هل توجد لعنة في كوبنهاجن؟»
باتت متأكدة فجأة أنه سيخبرها بمؤامرة أو قنبلة.
هل هو من الأناركيين؟ «هناك وباء حصبة في كوبنهاجن، وباء. غادر العديد من الناس المدينة لكن السلطات تحاول التكتم على الأمر؛ يخشون أن يسود الرعب أو أن يحرق البعض المباني الحكومية. والمشكلة هي الفنلنديون. يقول الناس إن الفنلنديين جلبوها إلى كوبنهاجن؛ لا يريدون أن يثور الناس على اللاجئين الفنلنديين، أو ضد الحكومة لأنها سمحت لهم بالدخول.»
توقف القطار ووقفت صوفيا تتفقد حقائبها. - «عديني، لا ترحلي قبل أن تعديني.»
قالت صوفيا: «حسنا أعدك.» - «سوف تستقلين المعدية إلى جتسر، سوف أذهب معك لتبديل التذكرة لكن يجب أن أواصل إلى رتجن.» - «أعدك.»
هل ذكرها بفلاديمير؟ فلاديمير في الأيام الأولى. لم تكن ملامحه هي التي ذكرتها بفلاديمير بل رعايته لها التي تنطوي على شيء من التضرع، تواضعه الهادئ وعناده ورعايته المتضرعة.
بسط يده وأعطته يدها ليتصافحا، لكن لم تكن هذه نيته، وضع في كفها حبة دواء صغيرة قائلا: «هذه ستمنحك بعض الراحة إذا أرهقتك الرحلة.»
قررت أنه سيكون عليها التحدث إلى أي مسئول عن وباء الحصبة هذا، هكذا قررت. •••
لكنها لم تفعل هذا. انزعج الرجل الذي بدل تذكرتها لأنه اضطر أن يقوم بأمر معقد جدا وسوف يغضب أكثر لو غيرت رأيها. في البداية، بدا أنه لن يجيب على أي كلام إلا لو كان باللغة الدنماركية، كما تحدث إليه المسافرون الآخرون، لكن حين أنهى تبديل التذكرة لها قال بالألمانية إن هذه الرحلة تستغرق وقتا أطول الآن، إذا كانت لا تدرك ذلك، ثم أدركت أنهم لا يزالون في ألمانيا، وأنه ربما لا يعرف أي شيء عن كوبنهاجن؛ ما الذي كانت تظنه؟
أضاف بكآبة أن الثلوج تتساقط على الجزر. كانت المعدية الصغيرة إلى جتسر جيدة التدفئة على الرغم من عدم وجود خيار سوى الجلوس، الجلوس على مقاعد خشبية قاسية. كانت على وشك أن تتناول الحبة؛ إذ اعتقدت أن ما كان يعنيه حين تحدث عن رحلة شاقة هو الجلوس كمقاعد مثل هذه، ثم قررت أن توفرها في حال أصيبت بدوار البحر.
كان بالقطار المحلي الذي استقلته مقاعد درجة ثانية عادية مع أنها بالية. من ناحية أخرى، كان الجو باردا في القطار حتى مع وجود الموقد الدخاني غير المفيد تقريبا في نهاية العربة.
كان المحصل أكثر ودا من بائع التذاكر، ولم يكن في عجلة من أمره. وإذ أدركت أنهم في الأراضي الدنماركية فعلا سألته بالسويدية - التي اعتقدت أنها قد تكون أقرب إلى الدنماركية من الألمانية - عما إذا كان هناك وباء في كوبنهاجن بالفعل. أجاب بلا، إن القطار الذي تستقله لن يذهب إلى كوبنهاجن.
بدا أن كلمتي «قطار» و«كوبنهاجن» هما كل ما يعرفه من اللغة السويدية.
لم تكن بهذا القطار مقصورات بالطبع، كانت هناك عربتان بمقاعدهما الخشبية فقط. أحضر بعض المسافرين معهم وسائدهم الخاصة وأغطيتهم ومعاطفهم ليلتحفوا بها. لم ينظروا إلى صوفيا، ولم يحاولوا أن يتحدثوا إليها على الإطلاق. أي فائدة ستجنيها لو فعلوا؟ لن تستطيع أن تفهمهم أو تجيبهم.
ليس هناك عربة شاي كذلك. انفتحت لفافات مغلفة في ورق مزيت وخرجت شطائر باردة. شرائح سميكة من الخبز والجبن ذي الرائحة النفاذة؛ وقطع من لحم الخنزير المطهو البارد؛ وفاحت رائحة رنجة من مكان ما. أخرجت امرأة شوكة من جيبها في طيات ملابسها وأكلت كرنبا مخللا من برطمان. كل ذلك أثار في صوفيا ذكريات الوطن؛ روسيا.
لكن هؤلاء ليسوا فلاحين روسيين، وليس من بينهم من يثرثر أو يثمل أو يضحك، هم يابسون مثل الألواح. حتى الشحم الذي يكسو عظام بعضهم شحم يابس، شحم لوثري يحترم ذاته. لا تعرف عنهم أي شيء.
لكن ماذا تعرف عن الفلاحين الروس بحق، الفلاحين في باليبينو، حين يأتي ذكرهم؟ إنهم غالبا ما يتزلفون لكل من يعلونهم منزلة.
باستثناء المرة الواحدة، ربما، في يوم الأحد حين يجب على كل الخدم ومرءوسيهم الذهاب إلى الكنيسة لسماع الكرازة. انهارت معنويات والدة صوفيا تماما بعدها وراحت تبكي وتنتحب؛ وكانت تقول «ما الذي سيحل بنا؟ ما الذي سيحل بأطفالي المساكين؟» أخذها الجنرال إلى غرفة مكتبه ليهدئها. جلست أنيتا تقرأ في أحد كتبها، وراح أخوهم الصغير فيودور يلعب بمكعباته. تتجول صوفيا في الأنحاء وتتجه إلى المطبخ حيث يأكل خدم المنزل والحقل الفطائر المقلية ويحتفلون؛ لكنه كان احتفالا مكتنفا بالوقار نوعا ما كما لو أنه عيد أحد القديسين. يضحك رجل كبير في السن كانت مهمته مقتصرة على تنظيف الساحة، مناديا عليها بالسيدة الصغيرة: «ها هي السيدة الصغيرة آتية تتمنى لنا الخير.» ثم يهلل لها البعض. تفكر كم هم لطفاء مع أنها تفهم أن الهتاف لها نوع ما من المزاح.
ثم سرعان ما تظهر المربية بوجه مثل السحابة السوداء وتأخذها بعيدا.
بعد ذلك تمضي الأشياء كالمعتاد إلى حد كبير.
كان جاكلارد يخبر أنيتا بأنها لا يمكن أن تكون ثائرة حقيقية، هي فقط ماهرة في استخلاص المال من والديها المجرمين. بالنسبة لصوفيا وفلاديمير (فلاديمير الذي انتزعه انتزاعا من قبضة الشرطة)؛ فهما طفيليان متأنقان يجتران دراساتهما العقيمة. •••
تصيبها رائحة الكرنب والرنجة بالغثيان قليلا.
توقف القطار عند نقطة لاحقة وطلب منهم أن يخرجوا جميعا من العربة. على الأقل هذا ما افترضته من صياح المحصل فيهم، ونهوض الأجساد اللامبالية المطيعة أيضا. وجدوا أنفسهم مغروسين في الثلج حتى ركبهم، ولا أثر لبلدة أو رصيف على مد أبصارهم، كل ما يلوح أمامهم عبر الثلج المتساقط خفيفا تلال بيضاء سهلة تحيط بهم. يجرف بعض الرجال الثلج الذي تجمع قاطعا السكة الحديدية أمام مقدمة القطار. تحركت صوفيا لتحمي قدميها من التجمد في حذائها الخفيف طويل الرقبة الذي يناسب شوارع المدينة لكن ليس هنا. وقف المسافرون الآخرون ساكنين ولم يعلقوا على الوضع.
بعد نصف ساعة، أو ربما خمس عشرة دقيقة فقط، أصبح المسار سالكا وصعد المسافرون إلى القطار مرة أخرى. لا بد أن سبب اضطرارهم للنزول من القطار في المقام الأول عوضا عن الانتظار في مقاعدهم - غامض عليهم جميعا وعلى صوفيا أيضا، لكن أحدا لم يتذمر. يتقدمون ويتقدمون في الظلام وشيء آخر غير الثلج يصطدم بالنوافذ. صوت شرير خادش. مطر جليدي.
ثم لاحت أمامهم مصابيح معتمة لإحدى القرى، ونهض بعض المسافرين، يجمعون أنفسهم ويلتقطون حقائبهم وحزمهم بانتظام ويهبطون من القطار ويختفون. تستمر الرحلة، لكن بعد وقت قصير يطلب منهم النزول من القطار مرة ثانية. ولم يكن ذلك بسبب تكدس الثلوج. إنهم يتوجهون إلى قارب، معدية صغيرة أخرى، تأخذهم في مياه سوداء. وصل احتقان حلق صوفيا إلى حد أنها لم تكن تستطيع أن تتحدث لو اضطرت إلى هذا.
لم تكن تعرف المدة التي يستغرقها هذا العبور. حين رست العبارة، كان على الجميع الدخول إلى سقيفة ذات ثلاثة جدران، لم تتسع للجميع ولم تكن تحتوي على مقاعد. وصل قطار بعد مدة من الانتظار لم تستطع أن تحسبها. وحين أتى هذا القطار، كم كانت تشعر بالامتنان، مع أنه لم يكن أدفأ، ويحتوي المقاعد الخشبية نفسها التي كانت في القطار الأول. يبدو أن امتنان المرء لوسائل الراحة الضئيلة يعتمد على ماهية المأساة التي مر بها قبل الحصول على تلك الوسائل. كانت تريد أن تسأل شخصا ما؛ أليست هذه عبرة كئيبة محزنة؟
بعد مدة توقفوا في بلدة أكبر يوجد مقصف في محطتها. ومع ذلك، كانت مرهقة جدا لدرجة تمنعها من أن تنهض وتمشي إليها كما فعل بعض المسافرين الذين عادوا بأكواب قهوة يتصاعد منها البخار. ولكن المرأة التي أكلت الكرنب أقبلت حاملة في يديها كوبين، واتضح أن أحدهما لصوفيا. ابتسمت صوفيا وبذلت ما في وسعها لتعبر لها عن امتنانها. أومأت المرأة برأسها كما لو أن هذا الهرج غير ضروري، بل حتى غير لائق. لكنها ظلت واقفة هناك حتى أخرجت صوفيا العملات الدنماركية التي أخذتها من موظف التذاكر، فأخذت المرأة اثنتين منها بأصابعها الرطبة العارية، بينما تزفر في ضيق. وكان ذلك ثمن القهوة على الأرجح؛ وليس مقابل اهتمامها وشرائها وحملها. ودون أن تنبس ببنت شفة عادت المرأة إلى مقعدها مرة أخرى.
صعد إلى القطار بعض ركاب جدد؛ امرأة مع طفل في الرابعة تقريبا، يغطي أحد جانبي وجهه ضمادة طبية وإحدى ذراعيه معلقة. ربما تعرض لحادث، وذاهب إلى مستشفى البلدة. عبر فتحة في الضمادة ظهرت عين داكنة حزينة. وضع الطفل وجنته السليمة على حجر أمه فبسطت الأم على جسده جزءا من شالها. فعلت هذا بنحو يخلو من الرقة أو المبالاة على الأخص، بل بنحو آلي إلى حد ما. لا بد أن شيئا سيئا قد حدث، مزيدا من الرعاية ألقيت على عاتقها، هذا كل شيء. ثمة أطفال ينتظرون في البيت، وربما هناك طفل في رحمها.
تفكر صوفيا كم هذا رهيب. كم هو رهيب حظ النساء. وما الذي قد تقوله هذه المرأة لو أخبرتها صوفيا عن النضالات الجديدة ومعركة المرأة لكسب حق التصويت وأماكن في الجامعات؟ لعلها تقول لكن هذه ليست مشيئة الرب. وإذا جادلتها صوفيا لتتخلص من هذا الرب ولتصقل عقلها، ألن تنظر إليها - صوفيا - بشفقة عنيدة وإنهاك وتقول: كيف إذن سنمضي في هذه الحياة من دون الرب؟
عبروا المياه السوداء مرة أخرى، هذه المرة فوق جسر طويل، ويتوقفون في قرية أخرى حيث غادرت المرأة والطفل القطار. تفقد صوفيا اهتمامها، ولا تنظر لترى إذا كان هناك شخص ما ينتظرهما، حاولت أن ترى ساعة المحطة التي ينيرها ضوء القطار، تتوقع أن يكون الليل قد انتصف، لكن الساعة قد تجاوزت العاشرة بقليل.
فكرت في ماكسيم. هل استقل ماكسيم في حياته قطارا مثل هذا؟ تخيلت رأسها مستلقيا في استرخاء فوق كتفه العريضة؛ مع أن الحقيقة أنه لن يهتم بهذا أمام الناس. معطفه المصنوع من قماش فاخر غالي الثمن، تفوح منه رائحة المال والرفاهية. تلك الأشياء الجيدة التي يؤمن أن له الحق في أن يأمل فيها وعليه واجب الحفاظ عليها حتى مع كونه ليبراليا غير مرحب به في وطنه. تلك الثقة الرائعة التي يتمتع بها، تلك الثقة التي كانت لأبيها، تستطيع أن تشعر بها وأنت طفل صغير تستكين بين ذراعي أبيك، وترغب في أن تظل أسيرا لهذا الشعور طوال حياتك. وسيكون الأمر أكثر إثارة للبهجة لو أنهم يحبونك، لكنه مريح حتى لو كان مجرد نوع من المواثيق أبرموه منذ الأزل؛ عهد وقعوا عليه، من منطلق الضرورة حتى إن لم يكن من منطلق الحماس، من أجل حمايتك.
قد يستاءون لو وصفهم شخص ما بالسلاسة ولين الجانب، مع أنهم هكذا على نحو ما. إنهم يخضعون أنفسهم للسلوك الرجولي. يخضعون أنفسهم للسلوك الرجولي بكل مخاطره وقسوته وأعبائه المعقدة وتحايلاته المتعمدة. قواعده، التي تستفيدين منها في بعض الحالات، كامرأة، ثم لا تستفيدين منها في بعض الحالات الأخرى.
الآن ترى في مخيلتها صورته؛ ماكسيم، لا يحميها على الإطلاق، بل يهرول في محطة باريس كما يلائم رجلا له حياة خاصة.
غطاء رأسه البارز، ثقته الدمثة في نفسه.
هذا لم يحدث. لم يكن ماكسيم. بالتأكيد لم يكن هو. •••
لم يكن فلاديمير جبانا - انظري كيف أنقذ جاكلارد - لكنه لم يتمتع باليقينيات الرجولية؛ لهذا استطاع أن يمنحها بعض الندية لم يستطع الآخرون منحها إياها؛ ولهذا لم يستطع قط أن يحيطها بذلك الدفء والأمان، ثم مع اقتراب النهاية حين كان تحت تأثير الأخوين راجوزين، وغير نبرته - في حالته البائسة ومع اعتقاده بأنه قد ينجو بنفسه بتقليد الآخرين - تحول إلى معاملتها بأسلوب غير لائق، بل وسخيف ومتكبر. لقد منحها إذن مبررا لمقته، لكن لربما كانت تمقته طوال الوقت؛ سواء احترمها أم أهانها كان من المستحيل أن تحبه.
مثلما أحبت أنيتا جاكلارد؛ كان جاكلارد أنانيا ووقحا وخائنا، وحتى حين كرهته كانت تحبه.
أي أفكار قبيحة وضارة يمكن أن تطفو إذا لم تحبسها في سراديب عقلك.
حين أغلقت عينيها ظنت أنها رأته - أي فلاديمير - يجلس على المقعد أمامها، لكن لم يكن فلاديمير، كان الطبيب من بورنهولم، إنها ذكراها عن الطبيب من بورنهولم ليس إلا؛ ملحاح وقلق، يقحم نفسه في حياتها بذلك الأسلوب المتواضع المريب. •••
وحان الوقت - في منتصف الليل بالتأكيد - الذي كان عليهم فيه مغادرة القطار نهائيا. وصلوا إلى حدود الدانمارك . هيلسينكور. على الأقل، بلغوا الحدود؛ وكانت تفترض أن الحدود الحقيقية تقع في مكان ما في كاتيجات.
كانت المعدية الأخيرة بانتظارهم، وكانت ضخمة ومبهجة بأضوائها الكثيرة المتلألئة. أقبل عليها حمال ليحمل حقائبها إلى السطح، ويشكرها على عملاتها الدنماركية ويسرع بعيدا. ثم أظهرت تذكرتها لضابط الحدود الذي تحدث إليها بالسويدية. طمأنها أنهم سيقومون بالاتصال بالجانب الآخر بالقطار المتجه إلى استوكهولم. لن تضطر إلى قضاء الليل في غرفة انتظار.
قالت للضابط: «أشعر أني عدت إلى المدنية.» فنظر إليها في شيء من الارتياب. كان صوتها نعيبا، مع أن القهوة ساعدت حلقها. فكرت؛ لأنه سويدي ليس إلا. ليس من الضروري الابتسام أو إبداء الملاحظات بين السويديين. يمكن الحفاظ على المدنية بدون هذا.
لم يكن العبور سهلا تماما هذه المرة، لكن لم تصب بدوار البحر. تذكرت حبة الدواء لكنها لم تحتج إليها. ولا بد أن القارب كان دافئا لأن بعض الناس خلعوا طبقة الملابس العليا من ملابسهم الشتوية، لكنها ظلت ترتعش. لعله من الضروري أن ترتعش؛ فقد اختزنت بردا كثيرا في جسدها خلال رحلتها عبر الدنمارك. لقد تكدس البرد بداخلها، وبهذه الرعشة فقط تستطيع أن تنفضه عنها. •••
كان القطار المتجه إلى استوكهولم منتظرا، كما وعدها الضابط، في محطة هيلسينكبرج المزدحمة، كانت المحطة أكثر حيوية وأضخم من تلك الأخرى المسماة بذات الاسم على الجهة المقابلة من المياه. ربما لا يبتسم لك السويديون لكن المعلومات التي يعطونك إياها صحيحة. جاءها حمال ليأخذ حقائبها بينما كانت تبحث في حقيبتها عن بعض العملات. أخذت عددا وفيرا ووضعته في يده، معتقدة أنها دنماركية؛ فلن تحتاج لها بعد الآن.
كانت دنماركية. أرجعها لها قائلا: «لن يصلحوا.»
صاحت: «هذا كل ما لدي.» لتدرك مع صيحتها أمرين: لقد تحسن حلقها، وأن لا نقود سويدية لديها.
وضع حقائبها على الأرض ومضى مبتعدا.
كان معها نقود فرنسية، ونقود ألمانية، ونقود دانماركية، لقد نسيت السويدية.
كان القطار ينفث دخانه، والمسافرون بداخله، بينما وقفت هناك في ورطتها. لا تستطيع حمل حقائبها. لكن لو لم تستطع، فسوف تتركها خلفها .
قبضت على حاملات الحقائب المختلفة وبدأت تجري. جرت تتمايل وتلهث والألم يدق في صدرها إلى ما تحت ذراعيها، والحقائب ترتطم بساقيها. كانت هناك سلالم. لو توقفت لتلتقط أنفاسها ستتأخر جدا. صعدتها، وبدموع شفقة على نفسها تملأ عينيها توسلت للقطار ألا يتحرك.
ولم يتحرك، لم يتحرك حتى أمسك المحصل - الذي انحنى ليوصد الباب - ذراعها، ثم نجح على نحو ما في الإمساك بحقائبها وسحبها إلى القطار.
ما إن نجت حتى بدأت تسعل. كانت تحاول أن تطرد شيئا ما إلى خارج صدرها؛ الألم، كانت تطرده من صدرها. تطرد الألم وضيق النفس إلى خارج حلقها، لكنها اضطرت أن تتبع المحصل إلى مقصورتها، وكانت تضحك بانتصار بين نوبات السعال. نظر المحصل في مقصورة كانت مليئة بالركاب فعليا، فاصطحبها إلى واحدة فارغة. •••
قالت له في إشراق: «كنت محقا، سأكون مصدرا للإزعاج لو أجلستني حيث لا يمكن أن أجلس.» «ليس معي نقود، سويدية، معي كل العملات الأخرى إلا السويدية. اضطررت أن أجري؛ لم أعتقد قط أني أستطيع ...»
طلب منها أن تجلس وتوفر أنفاسها. ذهب وعاد سريعا بكوب من الماء. فكرت في الحبة وهي تشربه وتناولتها مع آخر جرعة من الماء. هدأ السعال.
قال: «لا يجب أن تفعلي هذا ثانية، صدرك مضطرب. يصعد ويهبط.»
إن السويديين صرحاء جدا، ومحافظون ودقيقون جدا.
قالت: «انتظر.»
كان هناك شيء آخر تريد أن تتأكد منه، تقريبا كما لو أن القطار لن يوصلها إلى المكان الصحيح إن لم تتأكد. «انتظر لحظة، هل سمعت عن ...؟ هل سمعت عن وجود وباء الحصبة؟ في كوبنهاجن؟» - «لا أعتقد.» قال ذلك ثم حياها بإيماءة حادة من رأسه، وإن كانت مهذبة، ثم تركها.
قالت وهي تلاحقه: «شكرا لك، شكرا لك.» •••
لم تثمل صوفيا في حياتها قط، وأي دواء تناولته، يمكن أن يشوش تفكيرها، ينعسها قبل أن يحدث هذا، ومن ثم ليس لديها الخبرة التي تجعلها تقارن ذلك الشعور الاستثنائي - حالة تغير الإدراك - الذي يتسلل إليها الآن بها. في البداية، ربما لم يكن هناك سوى شعور الارتياح، إحساس رائع، وإن كان سخيفا؛ لأنها نجحت في حمل حقائبها وصعدت درجات السلم ركضا ووصلت إلى القطار، ثم إنها نجت من نوبة السعال وشعور الاعتصار في قلبها، واستطاعت على نحو ما أن تتجاهل حلقها. •••
لكن كان هناك المزيد، كما لو أن قلبها يتمدد ويستعيد حالته العادية ويواصل العمل بعد ذلك؛ فيصبح منشرحا ومنتعشا، يطرد المتاعب - بمرح على الأغلب - بعيدا عن طريقها. حتى وجود الوباء في كوبنهاجن يمكن أن يصبح الآن شيئا مثل الطاعون في قصة شعبية، جزء من قصة قديمة. وعلى ما كانت عليه حياتها؛ تحولت صداماتها ومراراتها إلى أوهام. تتخذ الأحداث والأشكال شكلا جديدا الآن؛ إذ تراها من خلال طبقات من الألمعية الصافية؛ عبر منشور زجاجي. •••
عاشت تجربة ذات مرة ذكرتها بحالتها الحالية. كانت أول زلة لها في علم المثلثات، حين كانت في الثانية عشرة من عمرها. ترك لهم البروفيسور تيرتوف، جارها في باليبينو، الكتاب الجديد الذي ألفه. اعتقد أنه قد يثير اهتمام والدها الجنرال؛ بسبب معرفته بالمدفعية. عثرت عليه في غرفة المكتب وفتحته بالصدفة على الفصل الأول الذي تناول البصريات. بدأت تقرؤه وتدرس الرسومات البيانية، واقتنعت أنها خلال وقت قصير ستكون قادرة على فهمها. لم تسمع قط من قبل عن الجيب وجيب التمام، لكن بإحلال الجيب محل قيمة وتر الدائرة، وللصدفة السعيدة فإنهما يتطابقان تقريبا في الزوايا الصغيرة؛ هكذا استطاعت أن تفك شفرة هذه اللغة الجديدة المبهجة.
لم تندهش حينئذ مع أنها كانت سعيدة سعادة بالغة.
يمكن أن تحدث هذه الاكتشافات. إن الرياضيات هبة طبيعية، مثل ظاهرة الشفق القطبي. إنها لا تختلط بأي شيء آخر في العالم، لا تختلط بالأبحاث ولا بالجوائز والزملاء والشهادات.
أيقظها المحصل قبيل بلوغ القطار استوكهولم. قالت: «أي يوم من أيام الأسبوع هذا؟» - «الجمعة.» - «جيد، جيد. أستطيع أن ألقي محاضرتي.» - «اهتمي بصحتك سيدتي.» •••
عند الثانية بعد الظهر، كانت وراء منصة المدرج، وألقت محاضرتها باقتدار وتماسك، بدون أن تشعر بأي ألم أو سعال. لم تؤثر السخونة البسيطة - التي تسري في جسدها، كما يسري التيار في السلك - على صوتها . وبدا أن حلقها شفي من تلقاء نفسه. حين انتهت توجهت إلى البيت وبدلت ملابسها واستقلت سيارة أجرة إلى حفل استقبال كانت مدعوة إليه في بيت آل جولدنس. كانت معنوياتها جيدة، تتحدث بإشراق عن انطباعاتها عن إيطاليا وجنوب فرنسا، لكنها لم تتحدث عن رحلة عودتها إلى السويد، ثم تركت الغرفة بدون أن تستأذن وتوجهت إلى الخارج. كان عقلها ينضح بأفكار مضيئة واستثنائية لدرجة جعلتها تعزف عن التحدث إلى الناس أكثر من هذا.
حل الظلام، وراحت الثلوج تتساقط بدون رياح، وكبرت مصابيح الشارع مثل كرات الزينة في أعياد الميلاد. بحثت عن سيارة أجرة لكنها لم تر واحدة. كانت هناك حافلة نقل ركاب صغيرة مارة، فأشارت إليها. أبلغها السائق أنه خارج أوقات العمل.
قالت بدون اكتراث: «لكنك توقفت.»
لم تعرف شوارع استوكهولم جيدا إطلاقا؛ لهذا مرت مدة حتى أدركت أنها لم تكن في الطريق الصحيح إلى منزلها. ضحكت وهي تشرح هذا للسائق، وتركها لكي تمشي إلى بيتها في الثلج في فستان السهرة وردائها الخفيف وحذائها المفتوح. كان الرصيف ساكنا وأبيض. كان عليها أن تمشي مسافة ميل، لكنها سعدت حين اكتشفت أنها تعرف الطريق على أية حال. غاصت قدماها في الثلوج لكنها لم تكن تشعر بالبرد. فكرت أن سبب هذا هو عدم وجود رياح، والسحر الذي يجوب عقلها وجسدها والذي لم تعه قط من قبل، ولكنها تستطيع الاعتماد عليه بالتأكيد من الآن فصاعدا. ربما يبدو قولا مكررا أن تقول هذا؛ لكن المدينة كانت تبدو وكأنها مدينة في إحدى حكايات الأطفال الخيالية. •••
لازمت الفراش في اليوم التالي؛ وأرسلت إلى زميلها ميتاج ليفلر رسالة قصيرة تطلب منه أن يحضر لها طبيبا لأنه ليس لديها واحد. جاء بنفسه أيضا، وخلال الزيارة الطويلة تكلمت معه بحماس عظيم عن عملها الذي تخطط له في الرياضيات. كان عملا أكثر طموحا وأهمية وجمالا من أي شيء آخر خطر على بالها حتى ذلك الوقت.
اعتقد الطبيب أن المشكلة كانت بكليتيها وترك لها بعض الأدوية.
قالت صوفيا حين رحل: «نسيت أن أسأله؟»
قال ميتاج ليفلر: «تسألينه عن ماذا؟» - «هل هناك وباء في كوبنهاجن؟»
قال ميتاج ليفلر بلطف: «أنت تحلمين، من قال لك هذا؟» - «رجل أعمى.» ثم قالت: «لا، أعني طيبا. رجل طيب.» حركت يديها في الهواء كأنها تحاول أن ترسم شكلا ما أكثر ملائمة من الكلمات. قالت «إنها لغتي السويدية.» - «لا تتكلمي إلى أن تتحسن حالتك.»
ابتسمت ثم بدت حزينة، وقالت مشددة على كلماتها: «زوجي.» - «تعنين خطيبك؟ إنه ليس زوجك بعد. إني أمازحك فحسب، هل تريدينه أن يأتي؟»
لكنها هزت رأسها. قالت: «ليس هو. بوثويل.»
قالت بسرعة: «لا، لا، لا، الآخر.» - «يجب أن ترتاحي.» •••
حضرت تيريسا جولدن وابنتها إليسا، وكذلك إيلين كي. كن يتناوبن على تمريضها. بعد أن غادر ميتاج ليفلر نامت قليلا. حين استيقظت، كانت تثرثر مرة أخرى لكنها لم تتحدث عن أي زوج. تحدثت عن روايتها وعن كتاب ذكريات شبابها في باليبينو. قالت إنها تستطيع أن تفعل شيئا أفضل كثيرا الآن، وبدأت تصف فكرتها لقصة جديدة. أصبحت مشوشة، وضحكت لأنها لم تكن حتى واضحة في تشوشها. قالت: هناك حركة بندولية؛ هناك نبض في الحياة. كان أملها أن تكتشف في هذه القطعة الأدبية ما يحدث. شيء ما تحت السطح، مبتكر لكنه ليس كذلك.
ضحكت، ما الذي تعنيه بهذا؟
كانت تموج بأفكار ذات اتساع جديد كلية، وأهمية ومع ذلك طبيعية جدا وبديهية حتى إنها لا تستطيع أن تمنع نفسها عن الضحك. •••
ساءت حالتها يوم الأحد. بالكاد تستطيع أن تتحدث لكنها أصرت على أن ترى فوفو في فستان كانت سترتديه في حفلة أطفال.
كان مفصلا على الطراز الغجري؛ وراحت فوفو ترقص في فستانها حول سرير أمها. •••
طلبت صوفيا يوم الإثنين من تريسا جولدن أن تتولى رعاية فوفو.
في ذلك المساء شعرت بتحسن، وجاءت ممرضة لتعطي فرصة لتريسا وإلين أن تنالا قسطا من الراحة.
استيقظت صوفيا في الساعات الأولى من الصباح. كانت تريسا وإلين مستيقظتين وأيقظتا فوفو لكي ترى الطفلة أمها حية لمرة أخيرة. لم تستطع صوفيا أن تتكلم إلا قليلا.
اعتقدت تريسا أنها سمعتها تقول: «هذه سعادة مفرطة.» •••
ماتت حوالي الرابعة بعد الظهر. بين التشريح أن الالتهاب الرئوي أتلف رئتيها تماما، وقلبها يعاني من مشكلة تعود إلى سنوات عدة. وكان مخها - كما توقع الجميع - ضخما. •••
عرف طبيب بورنهولم عن وفاتها من الجريدة، ولم يندهش لذلك. كان يأتيه حدس أحيانا، مزعج لشخص يمتهن مهنته، وليس بالضرورة صادقا. فكر أن تجنبها كوبنهاجن يمكن أن يحميها. تساءل إذا كانت تناولت الدواء الذي أعطاه إياها، وما إذا منحها السلوان، كما منحه إياه عند الضرورة. •••
دفنت صوفيا كوفالفسكي فيما كان يطلق عليه حينها المقابر الجديدة في استوكهولم، عند الثالثة من بعد الظهيرة في يوم بارد ساكن حيث تعلقت أنفاس الحزانى والمتفرجين في شكل سحب في الهواء المجمد. •••
جاءها إكليل غار من فايرشتراس. قال لأختيه إنه عرف أنه لن يراها مرة ثانية.
عاش ست سنوات أخرى. •••
وصل ماكسيم من بوليو بناء على برقية من ميتاج ليفلر استدعاه فيها قبل موتها. وصل في الوقت المناسب لكي يتحدث في الجنازة بالفرنسية، متحدثا عن صوفيا على أنها أستاذة من معارفه، وشكر الأمة السويدية نيابة عن الأمة الروسية على منحها فرصة لكسب العيش (أن تستخدم علمها في الرياضيات بطريقة مفيدة، حسبما قال) كأستاذ للرياضيات. •••
لم يتزوج ماكسيم. سمح له بعد فترة بالعودة إلى مسقط رأسه، وأن يحاضر في بيترسبرج. وأسس حزب الإصلاح الديمقراطي في روسيا، مدافعا عن الملكية الدستورية. اعتبره القيصريون ليبراليا جدا. من ناحية أخرى، اتهمه لينين بالرجعية. •••
اشتغلت فوفو بالطب في الاتحاد السوفييتي، وتوفيت في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين. لم يكن لديها اهتمام بالرياضيات، هكذا قالت. •••
أطلق اسم صوفيا على فوهة بركان في القمر.
Unknown page