وكانت عيناه حمراوين. وكانت أخبار الوكالات الأجنبية تتحدث عن تطويق قواتنا في صحراء
سيناء . وشعرت بعطش فناديت الساعي ليحضر لي شيئا مثلجا فلم يأت. وغادرت الجريدة إلى الشارع، وكانت الشمس حامية. مشيت بجوار الجدران بحثا عن الظل. وشربت عصيرا في أحد المحلات، ثم جلست في مقهى، ولمحت سيارة عسكرية تخرج مسرعة من مبنى تجمع فيه بعض الجنود، وكان ركابها يدخنون جميعا وقد أمسكوا بعلب السجائر في أيديهم ولا بد أنهم تسلموها لتوهم. وبجوار السائق جلس ضابط ممتلئ يضع على عينيه نظارة شمسية خضراء كبيرة أخفت وجهه، ولم يكن يبتسم. تطلع الناس إلى السيارة وركابها. وتوقف البعض يتابعونها بنظراتهم في صمت حتى اختفت. جف حلقي مرة أخرى فشربت زجاجة كوكاكولا، ثم فنجان قهوة. ودوت صفارة الإنذار. انتظرت مدة لأسمع صفارة الأمان دون جدوى. عدت إلى الجريدة، وقال
مصطفى
إن زوجة أخي اتصلت بي مرتين. وقفت في النافذة أتأمل الطريق، وكانوا قد بدءوا يطلون ظهور سيارات الأوتوبيس باللون الأزرق. وعدت إلى مكتبي فجلست أمامه حتى خيم الظلام، وشعرت بإعياء شديد، فغادرت الجريدة وفكرت أن أدخل سينما، ثم غيرت رأيي وأخذت تاكسيا إلى المنزل، ولم يكن أخي هناك. بحثت عن شمعة الأمس فلم أجدها، فأضأت النور كله، ولم أعبأ بصياح الناس في الشارع حتى خلعت ملابسي وغسلت قدمي ووجهي. طرق الباب شخص غاضب على إشعال النور، فأطفأته بعد أن وجدت الشمعة. وذهبت إلى المطبخ وفتحت الثلاجة ولكني لم أجد رغبة في الأكل، فعدت إلى حجرتي وأغلقت بابها خلفي. استلقيت على فراشي وأشعلت سيجارة، وتناولت الترانزستور، ثم وضعته جانبا. دق جرس التليفون فظللت ممددا أنصت إليه حتى كف عن الرنين. انتهت سيجارتي فأشعلت واحدة جديدة، وسمعت صوت مفتاح يعبث بقفل الباب الخارجي، ثم انفتح الباب وسمعت صوت أقدام أخي في الصالة. ناداني فقلت: أنا هنا. تردد بين المطبخ والحمام، ثم أوى إلى غرفته. لم أتحرك من مكاني وأشعلت سيجارة ثالثة، وشعرت بشيء يخزني في ذراعي فحككته بأصبعي، لكن الوخز ازداد، وظننته برغوثا فنفضت يدي بعيدا، وانتظرت في رعب أن يعلن عن نفسه في مكان آخر من جسدي كما يحدث دائما. شعرت بوخزة في ساقي. لم أتحرك فربما كنت أتوهم. تكررت الوخزة فلم يعد هناك شك. فبللت أصبعي ومددته في بطء داخل سروالي مقتربا في حذر من مكان الوخزة، ثم ضغطت عليه بأصبعي فلم أمسك بشيء. شعرت بوخزة جديدة في صدري فقمت في بطء وفتحت باب الغرفة، وسرت متصلبا إلى الصالة حيث كانت الشمعة. وقفت أمامها ورفعت قميصي في حذر آملا ألا يكون البرغوث قد تحرك من مكانه، وأخذت أبحث عنه في ثنايا القميص. تطلعت إلى صدري العاري فوجدت بقعا حمراء كبيرة مثل تلك التي يصنعها البرغوث بلدغته ولكن أكبر، وأحسست أيضا أن كل مكان في جسدي يحكني. دعكت ساقي وصدري، لكن الإحساس بالحك زاد وانتقل إلى وجهي ورأسي وكل جسمي. حملت الشمعة إلى حجرتي ووقفت أمام المرآة. رفعت الشمعة وتأملت وجهي في دقة، فوجدت البقع الحمراء البارزة منتشرة على سطحه. حاولت أن أتجاهل الأمر، لكن جسدي كله كان مشتعلا. مضيت إلى حجرة أخي حاملا الشمعة وطرقت الباب، دخلت ونزعت قميصي دون أن أتكلم، ثم رفعت الشمعة أمامه. نهض أخي من فراشه وفحص البقع الحمراء على ضوء الشمعة، ثم طلب مني أن أجلس وأهدأ، وقال إنها لا شيء. ارتدى ملابسه وقال إنه سيأتي لي بدواء من صيدلية قريبة. ظللت جالسا كما أنا عاري الصدر أمام الشمعة. وعاد أخي بعد قليل يحمل زجاجة دواء. انتقلت إلى حجرتي وتمددت على الفراش بعد أن خلعت كل ملابسي، ونثر أخي محتويات الزجاجة على جسدي، ثم بسطها بيده، وظل بجواري حتى بدأ الالتهاب يخف، ورحت في النوم. واستيقظت متأخرا في اليوم التالي بإحساس شديد بالإرهاق. أفطرت وغادرت المنزل ولم أذهب إلى الجريدة. جلست في مقهى بميدان
التحرير ، وكان الراديو ما زال يذيع الأناشيد والموسيقى الحماسية. وبعد مدة قمت وجلست في مقهى آخر، ثم ذهبت إلى الجريدة، وقالوا إن عدة تليفونات سألت عني. واتصلت بنا قيادة الجيش تسأل عن الأخبار، لكن كل شيء كان مشوشا. وغادرت الجريدة ومشيت في الشوارع، ثم أخذت تاكسيا إلى منزل
إنصاف
وكانت تجلس في الصالة بجوار أختها وقريبة لها، وكان الراديو يذيع أغنية «بلادي بلادي». قلنا إن هناك شيئا ما. وبعد قليل اتصلت بالجريدة فرد علي
صادق
وكان يبكي. قال: انتهى كل شيء. قلت: ماذا تعني؟ لم يرد وواصل البكاء. وضعت السماعة ونظرت إلى
إنصاف ، ثم رفعت بصري إلى صورة زوجها المعلقة على الجدار. جلسنا صامتين ننتظر، ثم أعلن المذيع أننا قبلنا قرار وقف إطلاق النار. قلت: سيحملوننا المسئولية عما حدث. غادرت المنزل وسرت إلى منزل أخي، وكانت بعض المنازل مضاءة والبعض الآخر مظلمة، ولم يكن أخي بالمنزل، أو ربما كان في حجرته. دخلت حجرتي ونمت بملابسي، وظللت نائما حتى ظهر اليوم التالي، وأخيرا قمت فاستحممت، وسقط رأس الدش مرة أخرى فأعدته مكانه، وأعددت إفطارا من البيض، وشربت كوبا من الشاي، ثم فنجانا من القهوة، وبحثت عن قميص نظيف فلم أجد. غسلت واحدا وأرسلته إلى الكواء مع البواب، وكانت الشقة متربة، وطلبتني زوجة أخي وقالت إنها تحاول الاتصال بي منذ الصباح ، وقالت إنها ربما تعود اليوم وربما تذهب مع
Unknown page