Rousseau Muqaddima Qasira
روسو: مقدمة قصيرة جدا
Genres
بهذه الطريقة وظف روسو بعض المبادئ السياسية لهوبز وبوفندورف ولوك في مناقشته لأصول اللامساواة. فقد كان يرى أن أفكارهم طرحت رواية دقيقة تماما، لا لالتزاماتنا الحقة، بل لماضينا على النحو الذي لا بد أنه كان عليه، وأن الصلات التعاقدية التي عرضت في نظريات كل من هؤلاء وغيرهم من المفكرين ساعدت على تفسير كيف تسنى للبشر إبرام هذه الاتفاقات التي أفسدتهم أخلاقيا. ومع ذلك، اعتقد روسو أنه بما أن الأعراف الاجتماعية التي أفسدت البشر فرضها الأفراد على أنفسهم، لم يكن من المستحيل بالنسبة إليهم قط، حتى في المجتمعات الفاسدة، أن يقيموا مؤسسات من نوع مختلف بالكلية. وإذا ضاعت حريتنا الطبيعية بلا رجعة، فإن قدرتنا على تحسين أنفسنا، من ناحية أخرى، ظلت دون مساس، وكما يزعم لاحقا في «العقد الاجتماعي» (الكتاب الثالث، الفصل الثاني عشر)، فإن الممكن في علاقاتنا الأخلاقية أقل تقييدا بشكل حاد مما هو مفترض. لا بد أن الإنسان أساء استخدام ملكة الاستعداد للكمال بطريقة قيدت حريته عندما أسس للملكية الخاصة، وانتقل من الهمجية إلى الحضارة. لكن، إذا كان الإنسان يتمتع باستعداد للكمال بطبيعة الحال، لكان بالإمكان تصحيح الأخطاء التي اقترفها على الأقل نظريا والتغلب عليها. في الجمهوريات العتيقة كما تخيلها روسو، تشكلت المجتمعات المتحضرة في إطار جعل المواطنين أحرارا أخلاقيا ومتساوين سياسيا تحت مظلة القانون، وفي «العقد الاجتماعي»، ركز روسو انتباهه على الطريقة التي يمكن بها إقامة مؤسسات بديلة تراعي مثل هذه الحرية والمساواة في العالم الحديث، كما تأسست في وقت من الأوقات داخل دستور جنيف.
الفصل الرابع
الحرية والفضيلة والمواطنة
في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر، وتحديدا من خلال «الخطاب» الأول والثاني و«رسالة عن الموسيقى الفرنسية»، ذاع صيت روسو في شتى أرجاء أوروبا كناقد للتنوير والمجتمع المدني. لم تقربه كتاباته التي تناولت هذين الموضوعين من أبرز معاصريه الذين توقعوا مساندته لهم في حملاتهم ضد الوثنية الدينية والظلم السياسي، وشجب فولتير - وهو رائد دعاة الثقافة العالمية - سعي روسو الرجعي في ظاهره للترويج لضرورة العودة للحياة البربرية. علاوة على ذلك، في عام 1756، عارض آدم سميث، الذي أمسى أبرز دعاة المجتمع التجاري في القرن الثامن عشر والمؤسسات المهذبة أخلاقيا المرتبطة به، في مجلة إدنبره ريفيو أيضا تفضيل الهمجية على الحضارة الذي عبر عنه روسو تحديدا في «الخطاب» الثاني. وفي حين أن فولتير وسميث وغيرهما من المفكرين قدموا برامج تربوية وسياسية واقتصادية يمكن أن تسهم في التطور الأخلاقي للبشر، بدا روسو، في معارضته لهذا التوجه، عدوا للتطور بكل أشكاله. ومع ذلك، وكما لاحظ سميث في تعليقاته على «الخطاب» الثاني، فقد كرس روسو هذا العمل لجمهورية جنيف، وأقر بالإحساس العميق بالشرف الذي خلعه عليه كونه مواطنا في هذه الدولة. وقد أعلن روسو عن هويته المدنية والجمهورية بصفحة عنوان «الخطاب» الأول أيضا، ورغم أنه اشتكى لاحقا من أن معاصريه خانوا مبادئ دستورهم، ظل روسو فخورا بأصوله وبالمدينة التي أشعلت جذوة حماساته الأولى، حتى بعد أن استنكر بعض أبناء وطنه مبادئه على اعتبار أنها مثيرة للفتن.
أيد روسو أكثر من غيره من أبرز الشخصيات في القرن الثامن عشر وجهة النظر التي تقول بوجود علاقة بين السياسة والأخلاق والتي استقاها من اليونان القديمة. وافترض أنه إذا كان بالإمكان عزو فساد أخلاق أهالي البندقية المعاصرين إلى فساد حكومتهم، فإن فساد غيرهم من الشعوب بالمثل يرجع إلى حد كبير للجرائم السياسية والاضطهاد اللذين تمارسهما حكوماتهم. وفي كتاباته الأولى، حاول روسو أن يتعقب أصول ذلك الانحطاط الأخلاقي على مدار فترات زمنية أوسع وأكثر تباعدا تاريخيا من خلال التجريد الفلسفي للظلم السياسي الراهن. لقد كان على قناعة بأنه ما دامت أزمة الإنسان الحديث في ظل أغلب الحكومات المعاصرة خلقتها ظروف سياسية، فإن الدول التي تتبنى مبادئ سياسية مغايرة يمكنها في المقابل جعل مواطنيها ينتهجون سلوكا أفضل؛ مما يتمخض عنه إحلال الفضيلة محل الرذيلة. وفي مؤلفه «العقد الاجتماعي» المنشور في ربيع عام 1762، رسم روسو بناء على ذلك سيناريو ملهما للاجتماع السياسي يختلف تماما في طبعه عن رؤيته للمجتمع المدني في «الخطاب» الأول والثاني. والحقيقة أن «العقد الاجتماعي» يبدو أنه يتناول الفكرة المحورية ل «خطاب عن اللامساواة» ولكن بطريقة عكسية؛ حيث يرسم الخطوط العامة لعقد للاجتماع السياسي يجمع بين المواطنين بدلا من أن يفرقهم، ويحافظ على قيم المشاركة العامة العادلة التي تدعم حريتهم بدلا من أن تدمرها. وبعد أن عرض روسو من قبل مراحل الفساد الأخلاقي للبشر في المجتمع المدني، طرح هنا بالتفصيل على نحو توجيهي لحجته السابقة ولكن بشكل عكسي عن طريق رسم صورة للمؤسسات الضرورية لحصول المواطنين على حريتهم. وبوضع الأسس الدستورية للسلطة السياسية الشرعية بأشكال مختلفة ملائمة للظروف المتباينة، استطاع أكثر مواطني جمهورية جنيف فخرا بانتمائه لها شجب النظم الاستبدادية الملكية الحاكمة في عصره، وفي الوقت نفسه تقديم مخطط للدول التي ربما تتحقق فيها الفضيلة السياسية من خلال تجمع رعاياها معا كي يحكموا أنفسهم بأنفسهم.
شكل 4-1: صفحة من الفصل الثالث من الكتاب الأول لمؤلف روسو «مخطوطة جنيف» التي تتضمن الفقرة الافتتاحية للفصل الأول من الكتاب الأول من كتاب «العقد الاجتماعي».
تظهر العبارة الأشهر من «العقد الاجتماعي»، وربما الأكثر اقتباسا من بين أعمال روسو كلها، في بداية الفصل الأول من الكتاب الأول، بعد ثلاث فقرات قصيرة تمهيدية أرسى فيها روسو خبرته التي تخوله تناول مسائل الحق والعدالة والمنفعة، لا من منطلق كونه أميرا أو مشرعا، ولكن لأنه أحد أبناء أو مواطني دولة حرة، ومن ثم فهو صاحب سيادة فيها. قال روسو وكأنه يوجز الملحمة الرهيبة لتحولنا السياسي السابق إيرادها في عمله «خطاب عن اللامساواة»: «يولد الإنسان حرا، ولكنه مكبل في كل مكان بالقيود.» تتناول الفصول الأولى من «العقد الاجتماعي» في واقع الأمر موضوعات شبيهة جدا بالموضوعات التي يرتكز عليها «الخطاب» الثاني، من حيث إنها تسعى مرة أخرى لبيان أنه لا يمكن أن يكون هناك أساس طبيعي للمجتمع المدني، سواء على مستوى العائلة أو على مستوى أي حق مفترض نابع من استخدام القوة الوحشية. زعم روسو أن الحق لا يمكن أن ينبع من القوة، كما زعم قبل ذلك أن اختلافاتنا الجسمانية لا تقدم أي مسوغ على تفاوتاتنا الأخلاقية. وإذا كان للقوة أن تخلق الحق، فإنما هو حق سيكون عابرا شأنه شأن كل تغير في نزعة القوة، ولتحول العصيان إلى تصرف شرعي فور توفر قوة كافية. وزعم هوبز في الفصلين الخامس والسادس من كتابه «المواطن»، والفصل الثامن عشر من «ليفايثن»، وفي مواضع أخرى أن القوة والحق لا بد أن يتلازما، ما دامت «الكلمات» (أي القوانين) من دون «السيف» (أي الوسيلة اللازمة لتطبيقها) ليست ملزمة بشكل كاف. ولكن في «العقد الاجتماعي» كرر روسو التمييز بين القوة والسلطة (وهما في اللغة اللاتينية
potestas
و
auctoritas ) وهو أمر لم يكن يعني الكثير بالمرة بالنسبة إلى هوبز، ولكنه عنى الكثير بالنسبة إلى مواطني الجمهورية الرومانية.
Unknown page