لاحظ جرانت أن رائحة الويسكي الكريهة في المقصورة كانت قوية لدرجة أن المرء قد يصيبه الدوار ويحتاج للاتكاء على عصا وهو بداخلها. بتلقائية، أمسك جرانت بالصحيفة التي كانت قد سقطت على أرضية المقصورة نتيجة لهز يوجورت للراكب، وأصلح سترة الرجل.
وقال: «ألا يمكنك أن تتعرف على رجل ميت حين تراه؟» ووسط الضبابية الناتجة عن إرهاقه سمع جرانت نفسه يقول: ألا يمكنك أن تتعرف على رجل ميت حين تراه؟ كما لو كان أمرا تافها. ألا يمكنك أن تتعرف على زهرة من زهور الربيع حين تراها؟ ألا يمكنك أن تتعرف على أعمال روبنز حين ترى أحدها؟ ألا يمكنك أن تتعرف على نصب ألبرت التذكاري حين ...؟
فقال يوجورت بنبرة تكاد تشبه العواء: «ميت! لا يمكن! يجب أن أغادر.»
أدرك جرانت، مع شرود عقله، أن ذلك هو كل ما كان يهم السيد جالاتشر اللعين. لقد قضى أحدهم نحبه، وغادر هذه الحياة، خرج من الدفء والشعور والإدراك إلى العدم، وكل ما كان يهم جالاتشر اللعين أنه سيتأخر في الانصراف من عمله.
قال يوجورت: «ماذا سأفعل؟ كيف كنت سأعرف أن أحدا قد سكر حتى الموت في عربتي! ماذا سأفعل؟»
فقال جرانت: «أبلغ الشرطة، بالطبع»، وللمرة الأولى عاد إليه إدراكه بأن الحياة مكان قد يشعر فيه المرء بالمتعة. شعر جرانت بمتعة منحرفة رهيبة في أن يوجورت قد وجد أخيرا ندا له؛ الرجل الذي سيفلت من إعطائه بقشيشا؛ وأن ذلك الرجل هو من سيتسبب له في إزعاج أكثر مما نجح أي أحد من قبل في التسبب فيه طوال خدمته التي امتدت لعشرين عاما في السكك الحديدية.
نظر مرة أخرى إلى الوجه اليافع الذي يعلوه الشعر الأسود الأشعث، وابتعد ماضيا في الممر. لم يكن الموتى مسئوليته. لقد نال كفايته من الموتى في شبابه، ومع أنه لم يتوقف مطلقا عن الشعور بانقباض في قلبه من حقيقة أن الموت لا رجعة فيه، فإنه لم يعد يملك القدرة على أن يصدمه.
توقفت العجلات عن النقر، وحل محله الصوت الطويل الخفيض الأجوف الذي يصدره القطار حين يصل إلى محطة للسكك الحديدية. أنزل جرانت النافذة وراح ينظر إلى الشريط الرمادي للرصيف يمر سريعا من أمامه. ولطمه البرد لطمة مثل لكمة في الوجه فراح يرتجف لا إراديا.
ألقى بالحقيبتين على الرصيف ووقف مكانه (وهو يثرثر مثل قرد بغيض، كما كان يظن)، وتمنى لو كان من الممكن أن يموت مؤقتا. في تجويف أخير معتم في عقله كان يعرف أن الحقيقة الأساسية التي ستظل صحيحة مهما حدث هي أن الارتجاف من البرد وتوتر الأعصاب على رصيف محطة قطار في السادسة صباحا من يوم شتوي يمثل ميزة؛ فهو نتيجة منطقية وطبيعية لكون المرء على قيد الحياة، لكن كم سيكون رائعا أن يموت المرء مؤقتا ويعود إلى الحياة مرة أخرى في لحظة أسعد!
سأله الحمال: «إلى الفندق يا سيدي؟» وتابع: «أجل، سأتولى أمر متاعك حين أنتهي من أمر حمولة هذه العربة.»
Unknown page