راح يرقب السحب المستقيمة وهي تزداد قتامة في مواجهة خلفيتها، وتساءل في نفسه عمن ستقترح عليه لورا أن يتزوجها هذه المرة. كان مذهلا أن كل النساء المتزوجات اتحدن معا لمواجهة حالة العزوبية لدى الرجال. إن كانت النساء سعيدات في زيجاتهن مثل لورا، فإنهن كن ينظرن للزواج على أنه الحالة المقبولة الوحيدة لشخص بالغ لا يعاني من أي عجز ملحوظ أو عائق ذي صلة. وإن كن مستعبدات وغير سعيدات في زيجاتهن، فإنهن عندئذ كن مفعمات بمشاعر الاستياء من أي شخص تمكن من الهروب من مثل هذا العقاب. في كل مرة كان جرانت يأتي فيها إلى بلدة كلون، كان من عادة لورا أن تقدم له أنثى فحصت بدقة من أجل أن يأخذ الزواج منها بعين الاعتبار. لم يكن يقال أي شيء عن صفاتهن الجذابة، بالطبع؛ بل كن يسرن أمامه جيئة وذهابا حتى يتسنى له رؤية مشيتهن. ولم يكن كذلك ثمة أي إحساس بالندم في الأجواء حين لم يكن يظهر أي اهتمام بأي مرشحة منهن، لم يكن ثمة أي إشارة إلى إلقاء اللوم عليه أو استنكار فعله. كل ما كان يحدث هو أنه في المرة التالية كانت لورا تأتي بفكرة جديدة.
ومن بعيد، كان صوت يأتي إما قرقرة كسولة لدجاجة أو قعقعة أكواب شاي تجمع معا. راح يتسمع لبرهة قصيرة، آملا أن يكون صوت دجاجة، لكنه توصل في أسف إلى أنه كان صوت تحضير الشاي. كان لا بد أن ينهض. سيعود بات من المدرسة، وستستيقظ بريدجيت من قيلولتها. كان من شيم لورا المعهودة أنها لم تطلب منه أن يبدي إعجابا بابنتها، لم يطلب منه أن يبدي إعجابه بمدى نموها وذكائها وجمالها في العام الماضي. لم تذكر بريدجيت على الإطلاق. كانت مجرد مخلوقة صغيرة في مكان ما بعيدا عن الأنظار، مثل بقية حيوانات المزرعة.
نهض جرانت وذهب ليستحم. وبعد عشرين دقيقة كان ينزل الدرج وهو يعي أنه جائع للمرة الأولى منذ شهور.
فكر في نفسه أن الصورة العائلية التي فتح عليها باب غرفة الجلوس كانت تضاهي بالضبط إحدى لوحات زوفاني. كانت غرفة الجلوس في منزل بلدة كلون تشغل تقريبا كامل مساحة ما كان بالأساس بيتا ريفيا وصار الآن جناحا صغيرا في المبنى الرئيسي. ولأنها كانت فيما مضى مقسمة إلى عدة غرف وليست غرفة واحدة، كان بها نوافذ أكثر مما هو معتاد في مثيلاتها من الغرف، ولأن جدرانها كانت سميكة كانت دافئة وباعثة على الشعور بالأمان، ولأنها كانت ذات طابع جنوبي غربي، كانت أبهى إضاءة من معظم الغرف الأخرى. لذا كانت تحركات المنزل كله منصبة فيها، كما في القاعة الأساسية في إحدى ضيعات القرون الوسطى. لم تكن الأسرة تستخدم أي غرفة أخرى إلا وقت الغداء أو العشاء. كفلت مائدة مستديرة كبيرة بجوار المدفأة وسائل الراحة المتاحة في وجبات «غرفة الطعام» وقت الشاي والإفطار، وكان ما تبقى من الغرفة يمثل خليطا أنيقا ورائعا من مكتب، وغرفة صالون، وغرفة موسيقى، وغرفة دراسة، ومشتل زجاجي. خطر لجرانت أن يوهان زوفاني ما كان بحاجة إلى تغيير تفصيلة واحدة بها. كان كل شيء موجودا بالفعل، حتى كلب الصيد الصغير الذي يستجدي الطعام بجوار المائدة وبريدجيت الواقفة بساقيها منفرجتين على سجادة المدفأة.
كانت بريدجيت طفلة شقراء صامتة، في الثالثة من عمرها، كانت تمضي أيامها وهي تعيد بلا توقف ترتيب الأغراض القليلة نفسها في أنماط جديدة. قالت لورا: «لا يمكنني أن أقرر ما إن كانت تعاني من قصور عقلي أو عبقرية.» لكن جرانت رأى أن النظرة التي استمرت ثانيتين فقط، التي حبته بها بريدجيت عند تقديمه ، بررت تماما الفرح في نبرة صوت لورا؛ إذ لم يكن ثمة خطب في ذكاء «الطفلة»، كما كان باتريك يدعوها. ولم تكن تلك الكنية التي كان بات يستخدمها تحمل أي معنى من معاني الازدراء، ولا حتى أي تعال ملحوظ؛ كانت تؤكد فحسب على تضمينه في المجموعة البالغة، الذي خوله إياه كبره عنها بست سنوات حسب تقديره.
كان بات ذا شعر أحمر وعينين رماديتين كئيبتين متوعدتين. وكان يرتدي إزارا اسكتلنديا من الصوف الأخضر المقلم، وجوربا بلون أزرق باهت، وقميصا صوفيا بلون رمادي باهت أكثر. كانت تحيته لجرانت عفوية، لكنها كانت فظة على نحو مطمئن. كان بات يتحدث بلكنة «بيرثشاير معقدة» كما وصفتها أمه؛ لأن صديقه الحميم في مدرسة القرية هو ابن الراعي، الذي كان ينحدر من كيلين. كان باستطاعته، بالطبع، أن يتحدث الإنجليزية بطلاقة حين يريد ذلك، لكن هذه كانت دائما علامة سيئة. فحين كان بات «يخاصمك»، كان دائما يخاصمك بإنجليزية سليمة للغاية.
أثناء تناول الشاي، سأله جرانت إن كان قد حسم قراره بشأن ما يريد أن يصبح حين يكبر، وكانت إجابة بات الثابتة على السؤال منذ كان في عمر الرابعة هي «إنني أتمهل في قراري». وهي عبارة استعارها من والده قاضي الصلح.
قال بات وهو يبسط المربى بيد سخية: «أجل.» وأضاف: «لقد اتخذت قراري.» «حقا؟ جيد. وماذا ستصبح حين تكبر؟» «ثوريا.» «آمل ألا أضطر يوما لإلقاء القبض عليك.»
قال بات ببساطة: «لن تستطيع.» «ولم؟»
قال بات وهو يغمس الملعقة مرة أخرى في المربى: «سأكون صالحا، يا رجل.»
Unknown page