الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الرمال المغنية
الرمال المغنية
تأليف
جوزفين تاي
ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
محمد حامد درويش
الفصل الأول
كانت الساعة السادسة من صباح أحد أيام شهر مارس، وكان الظلام لا يزال مخيما. أتى القطار الطويل يتهادى وسط أضواء الساحة المتناثرة، وينقر برفق فوق فواصل القضبان. وأخذ يمر عبر وهج كابينة الإشارات ويخرج منه مجددا. ثم يمر تحت اللون الأخضر الزمردي المنفرد بين الألوان الحمراء الياقوتية على جسر الإشارات. وأخذ يتقدم نحو الرصيف الرمادي المهجور الذي كان ينتظر وصوله تحت القباب المقوسة.
كان قطار بريد لندن في نهاية رحلته.
وخلفه امتدت في الظلمة خمسمائة ميل من القضبان وصولا إلى محطة يوستن وليلة أمس. خمسمائة ميل من الحقول التي يضيئها القمر ومن القرى الناعسة؛ خمسمائة ميل من البلدات السوداء والأفران التي لا تكل؛ من المطر والضباب والصقيع، والثلوج الخفيفة والفيضانات، من الأنفاق والجسور. والآن، في ظلام الساعة السادسة من صباح أحد أيام شهر مارس كانت التلال قد انتصبت حول القطار، الذي كان قادما، في هدوء وسكينة، بعد رحلة طويلة متعجلة. وشخص واحد فقط في كل طوله المزدحم لم يتنهد بارتياح لإدراكه ذلك.
ومن بين أولئك الذين تنهدوا اثنان على الأقل تنهدا بسعادة كادت أن ترقى إلى الهيام. كان أحدهما راكبا، والآخر موظفا في هيئة السكك الحديدية. كان الراكب هو ألان جرانت، أما موظف هيئة السكك الحديدية فكان موردو جالاتشر.
كان موردو جالاتشر يعمل مضيفا في عربات النوم في القطار، كما كان أكثر مخلوق مكروه بين محطتي قطار بلدتي ثورسو وتوركاي. طيلة عشرين عاما ظل موردو يرهب عامة المسافرين ليرضخوا له ويبتزهم من أجل الحصول على شكر منهم. والمقصود هنا إكراميات مالية. كان شكرهم الشفهي اختياريا. وبين ركاب الدرجة الأولى كان موردو معروفا لدى القاصي والداني باسم يوجورت. («يا إلهي، إنه يوجورت العجوز!» كانوا يقولون ذلك حين يظهر وجهه العكر في عتمة يوستن الضبابية.) أما ركاب الدرجة الثالثة فكانوا يطلقون عليه أسماء متنوعة، وكانت كلها صادقة ووصفية. أما ما كان يطلقه عليه زملاؤه في العمل فليس من شأن أحد. ثلاثة أشخاص فقط هم الذين استطاعوا التغلب على موردو، وهم: راعي بقر من تكساس، وعريف بحري في فوج مشاة الجيش «كوينز أون كاميرون هايلاندرز»، وامرأة ضئيلة الجسم من سكان شرق لندن في الدرجة الثالثة، والتي هددته بأنها ستضربه على رأسه الأصلع بقنينة ليمون. ولم تكن الرتب ولا الإنجازات تثير إعجاب موردو؛ إذ كان يبغض الأولى ويستاء من الثانية، لكنه كان يخشى كثيرا الألم الجسدي.
طوال عشرين عاما كان موردو جالاتشر لا يبذل من الجهد إلا أقل القليل. كان قد سئم من وظيفته قبل أن يمر أسبوع من شغله لها، لكنه وجد فيها مصدرا خصبا لكسب الكثير من المال فبقي فيها لينقب عنه. إن حصلت على شاي الصباح من يد موردو، فسيكون الشاي خفيفا، وسيكون البسكويت هشا، وسيكون السكر قذرا، وستكون صينية الشاي زلقة، ولن تجد ملعقة، لكن حين يأتي موردو ليستعيد الصينية ستجد أن الاعتراضات التي كنت تتدرب على إلقائها عليه قد خمدت على شفتيك. وبين الحين والآخر كان أميرال أسطول في البحرية الملكية أو شيء من هذا القبيل يغامر بإبداء رأيه قائلا إن الشاي مريع للغاية، لكن كثيرين كانوا يبتسمون ويدفعون المال. طوال عشرين عاما كانوا يدفعون له؛ ضجرا ورهبة وخضوعا لابتزازه. وكان موردو يأخذ المال. كان الآن يمتلك منزلا ريفيا في بلدة دنون، وسلسلة متاجر أسماك مقلية في جلاسكو، ورصيدا جيدا جدا في البنك. كان بإمكانه أن يتقاعد منذ سنوات، لكنه لم يستطع أن يحتمل فكرة فقدانه لمعاشه بالكامل؛ لذا تحمل شعوره بالسأم لفترة أطول قليلا، وسوى أموره بألا يكلف نفسه عناء إحضار الشاي الصباحي إلا إذا طلبه الركاب بأنفسهم؛ وفي بعض الأحيان، إذا كان يشعر بالنعاس بشدة، كان ينسى طلباتهم. كانت أساريره تتهلل عند نهاية كل رحلة بالقطار بارتياح يشبه ارتياح رجل أمضى مدة عقوبته ولم يتبق له منها إلا وقت قليل.
أما ألان جرانت، الذي كان يراقب أضواء الساحة وهي تمر أمامه من خلف النافذة التي يغطيها بخار الماء، ويستمع إلى ذلك الصوت اللطيف لعجلات القطار وهي تنقر فوق الفواصل، فكان سعيدا لأن انتهاء الرحلة يعني انتهاء معاناة دامت طوال الليل. كان جرانت قد أمضى الليل بطوله في محاولة عدم فتح الباب الذي يفضي إلى الممر. اضطجع على سريره الفاخر وقد جافاه النوم وأخذ يتصبب عرقا لساعات. ولم يكن يتصبب عرقا لأن المقصورة كانت حارة للغاية - فقد كان المكيف يعمل بأفضل ما يمكن - لكن (يا للأسى! يا للعار! يا للإهانة!) لأن المقصورة كانت تمثل «مكانا ضيقا مقفلا». لأي شخص طبيعي كانت المقصورة ستبدو مجرد غرفة صغيرة أنيقة بها سرير للنوم، وحوض لغسل الوجه واليدين، ومرآة ورفوف أمتعة بأحجام متنوعة، ورفوف قابلة للطي بحسب الحاجة، ودرج صغير فاخر من أجل الاحتفاظ بأشياء المرء القيمة، وحامل للساعة التي يفترض أن صاحبها لا يرتديها. لكن هذا الخبير، الحزين والمعذب، كان يرى تلك المقصورة «مكانا ضيقا مقفلا».
كان الطبيب قد وصف حالته بأنها إرهاق ناتج عن الإفراط في العمل.
قال له الطبيب، الذي كانت عيادته في ويمبول ستريت: «استرخ واسترح قليلا»، واضعا إحدى ساقيه الرشيقتين على الأخرى معجبا بنفسه لنجاحه في ذلك.
لم يستطع جرانت أن يتخيل نفسه مستريحا، وكان يعتبر الاسترخاء كلمة بغيضة وفعلا تافها جديرا بالازدراء. الاسترخاء. إنه أمر يؤدي بالمرء إلى السمنة. إشباع أحمق لرغبات حيوانية. استرخ، حقا! كان وقع الكلمة على أذنيه بمثابة إهانة. كان يشبه صوت الشخير.
سأله الطبيب، ونظرة إعجابه بنفسه تستمر حتى حذائه: «ألديك أي هوايات؟»
فقال جرانت باقتضاب: «لا.» «ماذا تفعل حين تذهب في إجازة؟» «أصطاد السمك.»
فقال الطبيب النفسي، بعدما جعله هذا الرد يتوقف عن نظرات الإعجاب بنفسه: «أنت تصطاد السمك؟» وأردف: «ألا تعد ذلك هواية؟» «نعم، بكل تأكيد.» «ماذا تسميه إذن؟» «شيء ما بين الرياضة والمعتقد.»
ابتسم طبيب ويمبول ستريت عند سماعه تلك الإجابة وبدا متفهما جدا؛ وطمأنه قائلا إن شفاءه مسألة وقت لا أكثر. وقت واسترخاء.
في الواقع، لقد تمكن على الأقل من ألا يفتح ذلك الباب ليلة أمس. لكن ثمن ذلك النصر كان غاليا. كان يشعر بالاستنزاف والخواء؛ فراغ متجسد في صورة إنسان. كان الطبيب قد قال له: «لا تقاوم الأمر.» وتابع: «إذا أردت أن تصبح في مكان مفتوح، فاذهب إلى مكان مفتوح.» لكن فتحه للباب ليلة أمس كان سيصبح بمثابة هزيمة نكراء لدرجة أنه شعر بأنه ما كان سيتعافى منها أبدا. كانت ستصبح استسلاما غير مشروط لقوى اللامعقول. لذا ظل راقدا يتصبب عرقا. وظل الباب مغلقا.
لكن الآن، في الظلام الصباحي غير المرضي، في الظلمة المجهولة الكئيبة، كان يشعر بأنه فاقد للقوة وكأنه قد انهزم. بذلك التجرد الجوهري الذي كان طبيب ويمبول ستريت قد لاحظه وأقره، فكر في نفسه: «أظن أن هذا هو الشعور الذي تشعر به النساء بعد مخاض طويل.» وتابع: «لكنهن على الأقل يحظين بطفل مزعج نتيجة لذلك. فماذا لدي أنا؟»
رأى أن ما كان لديه هو فخره. الفخر بأنه لم يفتح بابا لم يكن يوجد سبب منطقي يدفعه لأن يفتحه. رباه!
فتح جرانت الباب الآن. بنفور، وتقدير لسخرية القدر التي ينطوي عليها ذلك النفور. اشمئزاز من مواجهة الصباح والحياة. كان يتمنى لو كان بوسعه أن يلقي بنفسه مرة أخرى على ذلك السرير المتغضن ويروح في نوم عميق.
حمل الحقيبتين اللتين لم يعرض يوجورت أن يفعل حيالهما أي شيء، ودس مجموعة المطبوعات الدورية غير المقروءة تحت ذراعه، وخرج إلى الممر. كان الدهليز الصغير الموجود في نهاية هذا الممر يكاد يكون مسدودا حتى السقف بأمتعة دافعي البقشيش الأكثر سخاء، بحيث كاد الباب أن يكون مستترا؛ فتابع جرانت سيره ودخل العربة الثانية من عربات الدرجة الأولى. كان الطرف الأمامي لتلك العربة أيضا مكدسا بعوائق مميزة يصل ارتفاعها إلى الخصر، فبدأ يسير في الممر نحو الباب الموجود في الطرف الخلفي للعربة. وبينما كان يفعل ذلك أتى يوجورت بنفسه من حجيرته في الطرف البعيد للعربة ليتأكد من أن راكب المقصورة «بي 7» عرف أنهم كادوا يصلون إلى المحطة النهائية. كان حقا معترفا به من حقوق راكب المقصورة «بي 7»، أو أي راكب أيا كان رقم مقصورته، أن يغادر القطار بتمهل بعد الوصول، لكن يوجورت بالطبع لم تكن لديه أي نية للانتظار طويلا حتى يستيقظ أحد الركاب من نومه. لذا فقد طرق باب المقصورة «بي 7» بقوة ودلف إليها.
عندما وصل جرانت إلى الباب كان يوجورت يهز راكب المقصورة «بي 7»، الذي كان راقدا بكامل ملابسه على السرير، من كمه ويقول في حنق وسخط مكتومين: «استيقظ يا سيدي، انهض! كدنا أن نصل.»
رفع ناظريه حين سقط ظل جرانت على فتحة الباب وقال في اشمئزاز: «إنه في حالة سكر شديدة!»
لاحظ جرانت أن رائحة الويسكي الكريهة في المقصورة كانت قوية لدرجة أن المرء قد يصيبه الدوار ويحتاج للاتكاء على عصا وهو بداخلها. بتلقائية، أمسك جرانت بالصحيفة التي كانت قد سقطت على أرضية المقصورة نتيجة لهز يوجورت للراكب، وأصلح سترة الرجل.
وقال: «ألا يمكنك أن تتعرف على رجل ميت حين تراه؟» ووسط الضبابية الناتجة عن إرهاقه سمع جرانت نفسه يقول: ألا يمكنك أن تتعرف على رجل ميت حين تراه؟ كما لو كان أمرا تافها. ألا يمكنك أن تتعرف على زهرة من زهور الربيع حين تراها؟ ألا يمكنك أن تتعرف على أعمال روبنز حين ترى أحدها؟ ألا يمكنك أن تتعرف على نصب ألبرت التذكاري حين ...؟
فقال يوجورت بنبرة تكاد تشبه العواء: «ميت! لا يمكن! يجب أن أغادر.»
أدرك جرانت، مع شرود عقله، أن ذلك هو كل ما كان يهم السيد جالاتشر اللعين. لقد قضى أحدهم نحبه، وغادر هذه الحياة، خرج من الدفء والشعور والإدراك إلى العدم، وكل ما كان يهم جالاتشر اللعين أنه سيتأخر في الانصراف من عمله.
قال يوجورت: «ماذا سأفعل؟ كيف كنت سأعرف أن أحدا قد سكر حتى الموت في عربتي! ماذا سأفعل؟»
فقال جرانت: «أبلغ الشرطة، بالطبع»، وللمرة الأولى عاد إليه إدراكه بأن الحياة مكان قد يشعر فيه المرء بالمتعة. شعر جرانت بمتعة منحرفة رهيبة في أن يوجورت قد وجد أخيرا ندا له؛ الرجل الذي سيفلت من إعطائه بقشيشا؛ وأن ذلك الرجل هو من سيتسبب له في إزعاج أكثر مما نجح أي أحد من قبل في التسبب فيه طوال خدمته التي امتدت لعشرين عاما في السكك الحديدية.
نظر مرة أخرى إلى الوجه اليافع الذي يعلوه الشعر الأسود الأشعث، وابتعد ماضيا في الممر. لم يكن الموتى مسئوليته. لقد نال كفايته من الموتى في شبابه، ومع أنه لم يتوقف مطلقا عن الشعور بانقباض في قلبه من حقيقة أن الموت لا رجعة فيه، فإنه لم يعد يملك القدرة على أن يصدمه.
توقفت العجلات عن النقر، وحل محله الصوت الطويل الخفيض الأجوف الذي يصدره القطار حين يصل إلى محطة للسكك الحديدية. أنزل جرانت النافذة وراح ينظر إلى الشريط الرمادي للرصيف يمر سريعا من أمامه. ولطمه البرد لطمة مثل لكمة في الوجه فراح يرتجف لا إراديا.
ألقى بالحقيبتين على الرصيف ووقف مكانه (وهو يثرثر مثل قرد بغيض، كما كان يظن)، وتمنى لو كان من الممكن أن يموت مؤقتا. في تجويف أخير معتم في عقله كان يعرف أن الحقيقة الأساسية التي ستظل صحيحة مهما حدث هي أن الارتجاف من البرد وتوتر الأعصاب على رصيف محطة قطار في السادسة صباحا من يوم شتوي يمثل ميزة؛ فهو نتيجة منطقية وطبيعية لكون المرء على قيد الحياة، لكن كم سيكون رائعا أن يموت المرء مؤقتا ويعود إلى الحياة مرة أخرى في لحظة أسعد!
سأله الحمال: «إلى الفندق يا سيدي؟» وتابع: «أجل، سأتولى أمر متاعك حين أنتهي من أمر حمولة هذه العربة.»
أخذ يتعثر في سيره وهو يصعد الدرج ويعبر الجسر. بدا صوت الخشب تحت أقدامه كصوت قرع الطبول ومجوفا، وراحت دفقات كبيرة من البخار تتصاعد حوله من أسفل، وأخذت أصوات الضوضاء تتردد وتتكرر آتية من القنطرة المظلمة المتاخمة له. فكر قائلا في نفسه إن الناس مخطئون بشأن الجحيم. ليس الجحيم مكانا لطيفا دافئا يشوى فيه المرء. الجحيم كهف بارد كبير يتردد فيه صدى الأصوات وليس فيه مستقبل ولا ماض؛ مكان منعزل مظلم تتردد فيه الأصداء. الجحيم خلاصة مركزة من صباح شتوي بعد ليلة مؤرقة من كره الذات.
خرج إلى الساحة الخالية من الناس، وسكن الهدوء المفاجئ من روعه. كانت الظلمة باردة لكنها صافية. وأنبأت مسحة رمادية في تلك الظلمة بقدوم الصبح، وباحت نسمة ثلجية في صفائها ب «القمم العالية». بعد برهة، حين يظهر ضوء النهار، سيأتي تومي إلى الفندق ويأخذه، وسيمضيان بالسيارة إلى ريف منطقة المرتفعات الاسكتلندية الصافي الرحيب، بعيدا في عالم المرتفعات الريفي الشاسع المستقر القنوع، حيث لا يموت الناس إلا في أسرتهم، ولا يكلف أحد نفسه عناء أن يغلق بابه لأن في ذلك مشقة كبيرة للغاية.
في غرفة الطعام في الفندق كانت المصابيح مضاءة في أحد طرفيها فقط، وفي ظلمة المساحات غير المضاءة كانت توجد صفوف من طاولات بلا مفارش يعلوها قماش جوخ. خطر على باله حينئذ أنه لم يسبق له من قبل أن رأى طاولات بلا مفارش. كانت حقا أشياء رثة متواضعة للغاية مجردة من دروعها البيضاء. مثل ندل من دون الجزء الأمامي من قمصانهم.
أطلت طفلة، ترتدي زي عمل عبارة عن فستان أسود ومعطفا صوفيا أخضر مطرزا بالورد، برأسها من خلف ستارة، وبدا أنها ذهلت حين رأته. سألها عن طعام الإفطار الذي يمكن تقديمه. فأخذت إبريقا زجاجيا من خزانة جانبية ووضعته على القماش أمامه بمظهر يوحي بأنها على وشك أن تبدأ عرضا مسرحيا.
قالت بلطف: «سأرسل ماري إليك»، واختفت خلف الستارة.
قال جرانت في نفسه إن الخدمة قد فقدت رسمياتها ورونقها. لقد أصبحت ما تطلق عليه ربات البيوت خشنة جافة. لكن بين الحين والآخر كان الوعد بإرسال ماري يعوض عن القمصان المطرزة والمآخذ المماثلة .
كانت ماري مخلوقا سمينا هادئا، ولا شك في أنها كانت ستصبح مربية أطفال لو لم يكن أمر مربيات الأطفال صيحة عفى عليها الزمن، وأثناء خدمتها له شعر جرانت بنفسه يسترخي مثل طفل في حضور شخص خير. قال، محدثا نفسه بمرارة، إن وضعه قد صار مزريا عندما يكون في حاجة ماسة إلى الطمأنينة لدرجة أن نادلة فندق سمينة تستطيع أن تقدمها له.
لكنه تناول ما وضعته ماري أمامه من طعام وبدأ يشعر بالتحسن. وبعد قليل عادت النادلة، ورفعت من أمامه شرائح الخبز، ووضعت مكانها طبقا من خبز الصباح الملفوف.
وقالت: «إليك بالخبز الملفوف.» وتابعت: «لقد وصل لتوه. إنه هزيل هذه الأيام. فليس فيه أي حشو على الإطلاق. لكنه أفضل من ذلك الخبز.»
دفعت المربى لتقربها أكثر من يده، ونظرت لترى إن كان في حاجة للمزيد من الحليب، وغادرت مرة أخرى. أما جرانت، الذي لم يكن لديه نية لتناول المزيد من الطعام، فوضع الزبد على واحد من الخبز الملفوف ومد يده ليلتقط واحدة من الصحف غير المقروءة من الليلة الماضية. ما خرج في يده كان صحيفة مسائية لندنية، فراح ينظر إليها بعدم تمييز متسم بالحيرة. هل اشترى صحيفة مسائية؟ لقد قرأ الصحيفة المسائية بالطبع في الوقت المعتاد، وهو في الرابعة من بعد الظهر. فلماذا يشتري صحيفة أخرى في الساعة السابعة مساء؟ هل أصبح شراء الصحيفة المسائية فعلا لا إراديا؛ تلقائيا كتفريش المرء لأسنانه؟ كشك كتب مضاء؛ إذن تشتري الصحيفة المسائية. أكانت تلك هي الطريقة التي جرى بها الأمر؟
كانت الصحيفة هي صحيفة «سيجنال»، وهي الإصدار المسائي لصحيفة «كلاريون» الصباحية. نظر جرانت مرة أخرى إلى عناوين الأخبار التي كان قد قرأها عصر يوم أمس، وراح يفكر في مدى ثبوتها من ناحية نوعيتها. كانت صحيفة يوم أمس، لكنها بالمثل قد تكون من العام المنصرم، أو الشهر التالي. إن العناوين دائما ما تكون هي العناوين نفسها التي كان يطالعها الآن: الخلاف الحاد في مجلس الوزراء، جثة الفتاة الشقراء في حي مايدا فيل، مقاضاة الجمارك، عملية السطو، وصول ممثل أمريكي، حادثة الشارع. دفع جرانت بالصحيفة بعيدا عنه، لكن بينما كان يمد يده ليلتقط الصحيفة التالية في المجموعة لاحظ أن المساحة الفارغة في قسم آخر الأخبار بها خربشات بقلم رصاص. فقلب الصحيفة حتى يتمكن من رؤية ما كان شخصا ما يحسبه. لكن بدا له أن الخربشة لم تكن في نهاية المطاف تقديرا متعجلا لاحتمالات الفوز في أحد الرهانات أجراه بائع للصحف. كانت محاولة من شخص ما لكتابة مقطع شعري. وبدا جليا أنه كان عملا مبتكرا وليس محاولة لتذكر أبيات معروفة بالفعل، وذلك من خلال الكتابة المتقطعة المفككة، ومن حقيقة أن الكاتب كان قد ملأ الشطرين الناقصين بوضع علامات عددها يساوي العدد المطلوب من الكلمات للوزن الشعري؛ وهي حيلة كان جرانت نفسه يستخدمها في الماضي حين كان أفضل كاتب سونيتات في العامين الأخيرين من مرحلة التعليم الثانوي.
لكن هذه المرة لم تكن القصيدة إحدى قصائده.
وفجأة أدرك من أين جاءت الصحيفة. لقد حصل عليها بتصرف أكثر تلقائية بكثير من شراء صحيفة مسائية. لقد وضعها تحت ذراعه مع الصحف الأخرى حين التقطها بعد أن سقطت على أرضية المقصورة «بي 7». كان عقله الواعي - أو ما تبقى واعيا منه بعد ليلة أمس - منشغلا بالفوضى التي كان يتسبب فيها يوجورت لرجل بائس. فكان الفعل الوحيد النابع من الإرادة الذي أتى عليه هو توبيخ يوجورت بإصلاحه لسترة الرجل، ومن أجل ذلك كان يلزم أن تكون يده فارغة؛ ومن ثم وضع الصحيفة تحت ذراعه مع بقية الصحف.
إذن فالشاب ذو الشعر الأسود الأشعث والحاجبين الجامحين كان شاعرا، أكان كذلك؟
راح جرانت ينظر باهتمام إلى الكلمات المكتوبة بالقلم الرصاص. لقد وضع الكاتب قالبا لكتابته في شكل ثمانية سطور، أو هكذا بدا، لكنه لم يكن قادرا على التفكير في السطرين الخامس والسادس. وهكذا كان نص الكلمات:
الوحوش المتكلمة،
والأنهار الراكدة،
والأحجار السائرة،
والرمال المغنية، ... ...
التي تحرس الطريق
إلى الفردوس.
في الواقع، بأمانة شديدة، كان ذلك غريبا جدا. أهي بدايات هذيان ارتعاشي؟
من المفهوم أن صاحب ذلك الوجه المميز جدا لن يرى في أحلامه الناجمة عن السكر شيئا عاديا للغاية مثل الهلاوس. كانت الطبيعة نفسها ستنقلب رأسا على عقب في مخيلة الشاب ذي الحاجبين الجامحين. ماذا كان ذلك الفردوس الذي كانت تحرسه أشياء غريبة ومريعة لهذا الحد؟ أهو غياهب النسيان؟ لماذا كان الشاب في حاجة ماسة للنسيان حتى إنه كان يمثل له الفردوس؟ حتى إنه كان مستعدا لأن يتعرض للأشياء المرعبة المعروفة التي يواجهها عند الاقتراب منه؟
أكل جرانت الخبز الملفوف الطازج اللذيذ الذي كان «من غير حشو بداخله»، وراح يفكر مليا في الأمر. كان خط الكتابة غير منظم لكنه لم يكن مهتزا على الإطلاق؛ إذ بدا كخط شخص بالغ يكتب بيد غير ناضجة، وليس سبب ذلك أن توافقه كان سيئا، وإنما لأنه لم يكن قد تقدم كثيرا في العمر. لأنه في الأشياء الجوهرية كان لا يزال ذلك التلميذ الصغير الذي كان يكتب في الأساس بتلك الطريقة. تأكدت هذه النظرية لدى جرانت من خلال شكل الأحرف الكبيرة، والتي كانت مكتوبة على شكل حروف دفتر تعليم الكتابة بالضبط. من الغريب أن إنسانا مميزا لهذا الحد لم يكن لديه أي رغبة في نقل هويته في شكل حروفه التي يكتبها. فقلة قليلة من الناس فقط هم من لم يعدلوا شكل الحروف في دفتر تعليم الكتابة إلى ما يناسب مزاجهم، أو إلى ما يناسب حاجتهم اللاواعية.
أحد اهتمامات جرانت الأكثر اعتدالا لسنوات كانت مسألة خط اليد تلك، وقد وجد أن نتائج ملاحظاته الطويلة مفيدة كثيرا في عمله. بين الحين والآخر، بالطبع، كان رضا جرانت عن استدلالاته واستنتاجاته يتزعزع - فقد تبين أن أحد القتلة، الذي ارتكب عدة جرائم قتل وكان يذيب ضحاياه في الحمض، كان يتمتع بخط يد استثنائي فيما يتعلق فقط بمنطقه المتطرف؛ الأمر الذي ربما كان في نهاية المطاف ملائما جدا - لكن عموما، كان خط اليد يقدم مؤشرا ودليلا جيدا للغاية عن طبيعة المرء. وعموما، الرجل الذي يستمر في استخدام شكل حروف خطه وهو تلميذ في المدرسة كان يفعل ذلك لأحد سببين: إما أنه غبي، وإما أنه كان يكتب قليلا جدا بحيث لم تسنح الفرصة لأن تنعكس شخصيته على خطه.
بالأخذ في الاعتبار درجة ذكائه العالية التي صيغت في كلمات ذلك الخطر الكابوسي عند بوابات الفردوس، كان من الواضح أن بقاء خط يد الشاب في مرحلة المراهقة لم يكن سببه افتقاره إلى الشخصية. إذ تحولت شخصيته - بحيويتها واهتماماتها - إلى شيء آخر.
إلى ماذا؟ شيء حيوي، شيء منفتح. شيء تستخدم فيه الكتابة لتوصيل رسائل من قبيل: «قابلني عند حانة كمبرلاند في السادسة وخمس وأربعين دقيقة، يا توني»، أو من أجل ملء سجل ما.
لكنه كان منغلقا بما يكفي ليحلل بلاد القمر تلك ويصيغها في كلمات وهو في طريقه إلى فردوسه. كان منغلقا بما يكفي لأن ينأى بجانبه وينظر إليها، وأن يرغب في تسجيلها.
جلس جرانت في حالة استغراق دافئة ممتعة، وراح يمضغ الطعام ويفكر. لاحظ قمم حروف n وm الملاصقة بضعها لبعض في إحكام. هل كان الشاب كذابا؟ أم كان مجرد متحفظ كتوم؟ من الغريب أن تظهر هذه السمة المتحفظة في خط رجل له هذان الحاجبان. كان غريبا مدى اعتماد ما تعنيه ملامح المرء على حاجبيه. فتغيير واحد لدرجة الانحناء بهذه الطريقة أو تلك يؤدي إلى تأثير مغاير تماما. كان أقطاب صناعة الأفلام يأخذون الفتيات الصغيرات اللطيفات من بالهام وموسويل هيل ويزيلون حواجبهن ويرسمون لهن حواجب أخرى، فيصبحن على الفور مخلوقات غريبة من أومسك وتومسك. ذات مرة أخبره تراب، رسام الكاريكاتير، أن حاجبي إيرني برايس كانا السبب في ضياع فرصته في أن يصبح رئيس وزراء. إذ قال تراب، وهو يرمش بعينيه باستمرار كالبومة وهو ينظر إلى جعته: «لم يحبوا حاجبيه.» وأضاف: «لماذا؟ لا تسألني. أنا أرسم فقط. ربما لأنهما كانا يوحيان بأنه انفعالي وسريع الغضب. وهم لا يحبون الرجل الانفعالي السريع الغضب. لا يثقون به. لكن ذلك هو ما أضاع عليه فرصته، صدقني. إنهما حاجباه. لم يحبوا هذين الحاجبين.». ثمة حواجب تنم عن الانفعال، وحواجب تنم عن الغطرسة، وحواجب تنم عن الهدوء ، وحواجب تنم عن القلق، الحاجبان هما ما يضفي على الوجه طابعه الرئيسي. وكان انحراف حاجبي الرجل وميلهما هو ما أضفى على ذلك الوجه الأبيض النحيل على الوسادة صفة الإهمال حتى في موته.
كان الرجل واعيا حين كتب تلك الكلمات، على الأقل كان ذلك واضحا. ربما كانت غياهب النسيان التي غرق فيها ذلك السكير في المقصورة «بي 7» - الجو المكتوم، والأغطية غير المرتبة، والزجاجة الفارغة التي تتدحرج على أرضية المقصورة، والكوب المقلوب على الرف - هي الفردوس الذي سعى خلفه، لكنه كان واعيا حين كتب مخططا للطريق إليها.
الرمال المغنية.
كان تعبيرا غريبا لكنه جذاب بطريقة ما.
الرمال المغنية. هل حقا توجد رمال تغني في مكان ما؟ إن وقع العبارة مألوف بطريقة مبهمة. الرمال المغنية. تصيح وتستغيث تحت قدميك وأنت تسير عليها. أو إن الرياح هي الفاعلة، أو شيء آخر. امتد أمامه ساعد رجل كمه مصنوع من قماش صوفي ذي مربعات، وأخذ خبزا ملفوفا من الطبق.
قال تومي، وهو يسحب كرسيا ويجلس: «يبدو أنك تعتني بنفسك جيدا جدا.» ثم شق الخبز الملفوف ووضع عليه الزبد. وتابع يقول: «لم يعد الخبز الملفوف يحتوي على حشو هذه الأيام. حين كنت صبيا كنت أغوص بأسناني فيه وأقضم قضمة كبيرة. كانت احتمالات أن تنفصل أسنانك أو قضمة الخبز الملفوف متساوية. لكن إن ربحت أسنانك فقد حصلت حقا على شيء يستحق. قضمة ملء فيك من الدقيق والخميرة تظل في فمك دقيقتين. لم يعد له طعم على الإطلاق هذه الأيام، ويمكنك أن تطويه على نفسه وتضعه في فمك دون أن تخشى أن تختنق به.»
نظر إليه جرانت في صمت وتأثر. كان يفكر أنه لا توجد علاقة حميمة أكثر من العلاقة التي تربطك برجل شاركته مهجع مدرسة ابتدائية. لقد تشاركا معا أيضا أيام مدرستهما الثانوية، لكن المدرسة الابتدائية كانت هي ما يتذكره في كل مرة يلتقي فيها مجددا بتومي. ربما لأن ذلك الوجه ذا اللون البني المائل للوردي، ذا العينين الزرقاوين البريئتين بكل عناصره الأساسية، كان نفس الوجه الذي كان يعلو تلك السترة الكستنائية المزررة بطريقة معوجة. كان تومي دائما يزرر سترته بلامبالاة طريفة.
وكان من شيم تومي ألا يضيع وقتا أو جهدا في الأسئلة المعهودة عن رحلته أو صحته. وكذلك كانت لورا بالطبع. كانا يتقبلانه كما هو، كما لو كان معهما منذ بعض الوقت. كما لو أنه لم يغب عنهما قط وكما لو كان لا يزال في زيارته السابقة. كانت العودة للانغماس في ذلك الجو مريحة للغاية. «كيف حال لورا؟» «بأفضل حال. زاد وزنها قليلا. أو ذلك ما تقوله هي على الأقل. أما أنا فلا أرى ذلك. لم أحب مطلقا النساء النحيفات.»
فيما مضى، حين كانا في العشرين من عمرهما، فكر جرانت في الزواج من قريبته لورا، وكانت هي الأخرى تفكر في الزواج منه، كان واثقا من ذلك. لكن وقبل أن تقال أي كلمة، تلاشى السحر بينهما وعادا إلى منزلة الصداقة القديمة الوطيدة. كان ذلك السحر جزءا من النشوة الطويلة في أحد فصول الصيف في منطقة المرتفعات الاسكتلندية. كان جزءا من أوقات الصباح على التلال التي تفوح برائحة أوراق الصنوبر، ومن أوقات الغسق المتواصلة المحلاة بشذى زهور النفل. كان جرانت يعتبر ابنة عمه لورا دوما جزءا من سعادة العطلات الصيفية؛ إذ تدرجا معا من التجديف السريع إلى الصيد بالصنارة لأول مرة، كما سارا معا للمرة الأولى على تل لاريج ووقفا معا للمرة الأولى أيضا على قمة جبل بريرياتش. لكن حتى ذلك الصيف الذي كان في نهاية مرحلة مراهقتهما لم تكن السعادة قد تجسدت بعد في لورا نفسها، وتركز الصيف كله في شخص لورا جرانت. كان لا يزال يشعر بانتشاء في قلبه حين يفكر في ذلك الصيف. كان يتسم بالمثالية الرقيقة، وبهجة ألوان قوس قزح، اللتين تتسم بهما فقاعة. ولأن كلمة واحدة لم تقل فإن تلك الفقاعة لم تنفجر قط. ظلت رقيقة ومثالية وقزحية الألوان وهادئة كما تركت. كان كل منهما قد تابع طريقه وانخرط في أشياء أخرى، ومع أشخاص آخرين. كانت لورا قد تنقلت من شخص إلى التالي بلامبالاة طفل مرح يلعب الحجلة. ثم اصطحبها إلى رقصة أولد بويز تلك. فالتقت بتومي رانكن. وكانت تلك هي النهاية.
سأله تومي قائلا: «ما سبب الجلبة عند المحطة؟» واستطرد: «سيارات إسعاف وما إلى ذلك.» «مات رجل على متن القطار. أظن أن الأمر كذلك.»
قال تومي، منحيا الموضوع جانبا: «أوه.» ثم أضاف بنبرة مهنئة: «ليست مشكلتك هذه المرة.» «لا. ليست مشكلتي، حمدا للرب.» «سيفتقدونك في إمبانكمنت.» «أشك في ذلك.»
قال تومي: «يا ماري، أريد براد شاي ثقيل.». ثم راح ينقر بإصبعه بازدراء على الصحن الذي يحتوي على الخبز الملفوف. وأضاف: «واثنين من تلك الأشياء البائسة.» والتفت نحو جرانت بنظرته الطفولية الجادة وقال: «لا بد أنهم سيفتقدونك. سينقصون واحدا، أليس كذلك؟»
أطلق جرانت أنفاسه على نحو كان أقرب ما وصل إليه مما يمكن أن يوصف بضحكة منذ شهور. كان تومي يرثي لحال قيادة الشرطة، ليس لفقدها لعبقريته، وإنما لافتقارها إلى حضوره. لقد كان أسلوبه «الأسري» يكاد يصل حد التطابق مع ردة الفعل المهنية لرئيسه في العمل. إذ كان برايس قد قال، وعيناه الشبيهتان بعيني صغير الفيل تستعرضان جسد جرانت البادي الصحة وتعودان إلى وجهه باشمئزاز: «إجازة مرضية!» «حسنا، حسنا! إلى أين سيئول الحال بقوة الشرطة؟! في أيام شبابي كنا نظل نعمل حتى نسقط من شدة الإعياء. وكنا نستمر في تدوين الملاحظات حتى تأتي سيارة الإسعاف وتحملنا من على الأرض.» لم يكن من السهل أن يخبر برايس بما قاله الطبيب، ولم يجعل برايس الأمر أسهل. لم يكن برايس من النوع الذي تصاب أعصابه بالتوتر؛ إذ كان قوة بدنية محضة يحركها عقل ماكر وإن كان محدود الذكاء. لم يبد من جانبه أي تفهم أو تعاطف في تلقيه للأخبار التي كان يحملها جرانت. في الواقع، كان ثمة إشارة خفية، مجرد تلميح، إلى أن جرانت كان يتمارض. وأن ذلك الانهيار العصبي الغريب جدا الذي خرج منه متمتعا بجسد بادي العافية والصحة ظاهريا له علاقة ما بالجولة الربيعية في أنهار منطقة المرتفعات الاسكتلندية، وأنه قد جهز بالفعل طعوم فراشات الصيد الصناعية قبل أن يذهب إلى عيادة الطبيب في ويمبول ستريت.
سأله تومي: «ماذا سيفعلون لسد الفجوة؟» «سيرقون الرقيب ويليامز، على الأرجح. فترقيته تأخرت كثيرا على أي حال.»
لم يكن إخبار المرءوس المخلص ويليامز أمرا سهلا. فحين يبجلك مرءوسك صراحة، وكأنك بطل، لسنوات، ليس مما يبعث على السرور أن تظهر أمامه بمظهر كائن بائس مثقل بضغوط عصبية وواقع تحت رحمة شياطين لا وجود لها. ويليامز، هو الآخر، لم يكن من النوع الذي تصاب أعصابه بالتوتر. كان يتقبل كل شيء، بهدوء ودون تساؤل. لم يكن من السهل أن يخبر ويليامز ويرى الإعجاب يتحول إلى قلق. أو إلى ... شفقة؟
قال تومي: «ناولني المربى.»
الفصل الثاني
بينما كانا يستقلان السيارة عبر التلال، تغلغل لدى جرانت إحساس السلام الذي نجم عن تقبل تومي لوجوده باعتباره أمرا واقعا. لقد تقبله هذان الاثنان؛ إذ وقفا في محبة متجردة، يرقبانه وهو يأتي في هدوء معتاد. كان صباحا رماديا كئيبا وساكنا. وكانت الطبيعة أمامهما منسقة مفتوحة. أحاطت جدران رمادية منسقة بحقول مفتوحة، وامتدت أسوار مكشوفة بحذاء المصارف المنسقة. لم يكن أي شيء قد بدأ ينمو بعد في هذا الريف المترقب. لم تظهر الحياة والخضرة في تلك المناطق شبه العارية إلا في شجرة صفصاف هنا أو هناك بجانب قناة تصريف صغيرة.
ستصير الأمور على ما يرام. كان هذا هو ما أحتاج إليه؛ هذا الصمت الفسيح الممتد، وهذا الحيز، وهذه السكينة. كان قد نسي كم كان هذا المكان ودودا، وباعثا على الراحة. كانت التلال القريبة مستديرة وخضراء وودودة، وخلفها كانت توجد تلال أبعد، ملطخة بالزرقة من أثر المسافة. وخلف كل ذلك كان متراس خط المرتفعات الاسكتلندية منتصبا، أبيض اللون ونائيا في مواجهة السماء الساكنة.
قال جرانت، وهما ينزلان إلى وادي نهر تورلي: «منسوب النهر منخفض جدا، أليس كذلك؟» واجتاحه شعور بالذعر.
كانت تلك هي الطريقة التي يحدث بها الأمر دوما. في لحظة يكون إنسانا عاقلا حرا مالكا لزمام نفسه، وفي اللحظة التالية يصبح مخلوقا عاجزا في قبضة اللامنطق والجنون. ضغط يديه إحداهما بالأخرى ليمنع نفسه من فتح الباب على مصراعه للجنون، وحاول أن يستمع إلى ما كان تومي يقوله. لم يهطل المطر منذ أسابيع. لم يكونوا قد حظوا بالمطر منذ أسابيع. فليفكر في شح الأمطار. كان شح الأمطار أمرا مهما. فقد أفسد الصيد. كان قد أتى إلى بلدة كلون من أجل الصيد. وإن لم تكن السماء قد أمطرت فلن توجد أسراب أسماك. لن توجد مياه للأسماك. يا إلهي، ساعدني ألا أجعل تومي يتوقف عن الكلام! لا يوجد ماء. فكر بذكاء في الصيد. إن لم تكن السماء قد أمطرت منذ أسابيع، فلا بد أن المطر على وشك الهطول، أليس هذا ضروريا؟ لماذا يمكنك أن تطلب من صديقك أن يوقف السيارة ويدعك تتقيأ، ولكن لا تطلب منه أن يوقف السيارة حتى يتسنى لك الخروج من حيزها الضيق؟ انظر إلى النهر. «انظر» إليه. تذكر أشياء عنه. هناك اصطدت أفضل سمكة في العام الماضي. وهناك انزلق بات من على الصخرة التي كان جالسا عليها وظل معلقا من مؤخرة بنطاله.
كان تومي يقول: «تلك السمكة كانت أفضل سمكة رأيتها على الإطلاق.»
كانت أشجار البندق بجوار النهر تشكل بقعة بنفسجية براقة في المستنقع ذي اللون الأخضر الرمادي. وبعد قليل، حين يحل الصيف، سيشكل الصخب البارد لأوراقها لحنا مصاحبا لأغنية النهر، لكنها الآن كانت تقف في حشد صامت مرتبك على امتداد ضفة النهر.
ناظرا إلى حالة الماء، لاحظ تومي أيضا أغصان البندق الجرداء، لكن لكونه والدا لم يدفعه ذلك إلى أن يفكر في أوقات العصر الصيفية. وقال: «لقد اكتشف بات أنه بصار.»
ذاك أفضل. فكر في بات. تحدث عن بات. «تتناثر في المنزل أغصان من كل الأشكال والأحجام.» «هل اكتشف أي شيء؟» إن استطاع أن يبقي ذهنه منشغلا ببات فقد تكون الأمور على ما يرام. «لقد اكتشف ذهبا تحت أرضية غرفة الجلوس، ومجموعة من المواد تحت ما يمكن أن تطلق عليه مرحاض الطابق السفلي، وبئرين.» «أين البئران؟» لا يمكن أن تكون المسافة المتبقية طويلة. بقيت خمسة أميال حتى مقدمة الوادي الصغير وبلدة كلون. «واحد تحت أرضية حجرة الطعام، والآخر تحت رواق المطبخ.» «أفهم من ذلك أنكم لم تحفروا في أرضية مدفأة غرفة الجلوس.» كانت النافذة مفتوحة عن آخرها. ما الذي يمكن أن يقلق بشأنه؟ لم تكن السيارة حيزا مغلقا حقا، لم تكن حيزا مغلقا إطلاقا. «لم نفعل. إنه منزعج من هذا كثيرا. وقال بأنني ولدت مرة واحدة.» «ولدت مرة واحدة؟» «أجل. هذه هي آخر كلماته. إنها تعني أنني أدنى بدرجة من شخص كريه، أو هكذا فهمت.» «من أين أتى بالكلمة؟» سينتظر حتى يصلا إلى أيكة شجر البتولا تلك عند الزاوية. حينها سيطلب من تومي أن يتوقف. «لا أعرف. من امرأة متصوفة كانت تتحدث إلى المنظمة الدولية لمقاومي الحرب، في الخريف الماضي، حسبما أظن.»
لماذا ينزعج من أن يعرف تومي؟ لم يكن يوجد شيء مخز في الأمر. لو أنه كان مصابا بالزهري والشلل لقبل مساعدة تومي وتعاطفه. ما الذي يجعله يرغب في أن يخفي عن تومي حقيقة أنه يتعرق رعبا بسبب شيء لا وجود له؟ ربما بإمكانه أن يخدعه؟ ربما يمكنه أن يطلب من تومي أن يتوقف قليلا حتى يبدي إعجابه بالمنظر؟
ها قد وصلا إلى أيكة شجر البتولا. لقد صمد هذه المسافة على الأقل.
سيصمد حتى ذلك الجزء من الطريق الذي يستوي فيه مع منحنى النهر. حينها سيختلق عذرا بدعوى إلقاء نظرة على الماء. هذا مقبول أكثر من النظر إلى المنظر الطبيعي. من شأن تومي أن ينظر بابتهاج إلى النهر، ولكنه سينظر باحتجاج صامت إلى المنظر الطبيعي.
خمسون ثانية أخرى تقريبا. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ...
الآن.
قال تومي، وهو يمر سريعا بمنحنى النهر: «لقد فقدنا زوجا من الغنم في تلك البركة هذا الشتاء.»
فات الأوان.
ما الأعذار الأخرى التي يمكن أن يختلقها؟ لقد أصبح قريبا جدا من بلدة كلون الآن بحيث لا يمكنه أن يجد أعذارا بسهولة.
إنه حتى لا يمكنه أن يشعل سيجارة في حال ما كانت يداه ترتعشان كثيرا.
ربما لو فعل شيئا، مهما كانت تفاهته ...
أخذ حزمة الصحف من على الكرسي بجواره، وراح يعيد ترتيبها، منشغلا بخلطها بدون هدف. ولاحظ أن صحيفة «سيجنال» لم تكن بينها. لقد كان ينوي أن يأخذها معه بسبب تلك القصيدة التجريبية القصيرة الغريبة في قسم آخر الأخبار، لكن لا بد أنه تركها في غرفة الطعام في الفندق. أوه، حسنا. لم تكن مهمة. لقد أدت دورها بإضفاء الإثارة على إفطاره. ولا شك في أن مالكها لم يكن يريدها مرة أخرى. لقد وصل إلى فردوسه، إلى غياهب النسيان، إن كان هذا هو ما كان يريده. لم تكن تناسبه مزية اليدين المرتعشتين والبشرة المتعرقة. ولا مزية التصارع مع الشياطين. لم يكن يناسبه الصباح النقي، ولا الأرض الطيبة، ولا سحر خط أفق المرتفعات الاسكتلندية في مواجهة السماء.
وللمرة الأولى خطر له أن يتساءل عن السبب الذي كان قد جعل الشاب يأتي إلى الشمال.
من المحتمل أنه لم يسافر في مقصورة نوم من الدرجة الأولى لمجرد أن يعاقر الشراب حتى يغيب عن الوعي. لقد كان يقصد وجهة معينة. كان لديه مهمة وبغية. كان لديه غاية.
لماذا أتى إلى الشمال في هذا الموسم القاتم غير الجذاب؟ ليصطاد السمك؟ ليتسلق التلال؟ إن المقصورة كما يتذكرها كانت تخلف انطباعا بأنها خالية، ولكن ربما كانت أمتعته الثقيلة تحت السرير. أو ربما كانت في عربة الحقائب. بمعزل عن التنزه والرياضة، ماذا كان مقصده؟
أكان عملا رسميا؟
ليس بذلك الوجه، لا.
هل كان ممثلا؟ فنانا؟ ربما.
هل كان بحارا في طريقه للحاق بسفينته؟ هل كان ذاهبا إلى قاعدة بحرية بعد إنفرنيس؟ كان ذلك محتملا. كان الوجه سيبدو ملائما تماما على برج قيادة سفينة. سفينة صغيرة، سريعة جدا، سفينة جهنمية في أي بحر من البحار.
ماذا كان شأنه أيضا؟ ما الذي من شأنه أن يأتي بشاب داكن البشرة نحيف الجسد ذي حاجبين جامحين وشهية كبيرة لاحتساء الكحوليات إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية في بداية شهر مارس؟ إلا إن كان قد فكر في أن يبدأ معمل تقطير غير قانوني في مثل هذه الأيام التي يشح فيها الويسكي؟
كانت فكرة باعثة على السرور. كم سيكون ذلك سهلا! ليس بسهولته في أيرلندا؛ لأن الرغبة في الخروج على القانون كانت مفقودة، لكن بمجرد أن تحققها فإن الويسكي سيكون أفضل بكثير. كاد يتمنى لو أنه استطاع أن يعرض الفكرة على الشاب. ربما كان سيجالسه على العشاء ليلة أمس، ويراقب الوميض وهو يظهر في عينيه بفعل فكرة ذلك الخرق الممتع للقانون. تمنى لو أنه تمكن من الحديث معه بأي حال، وتبادل معه الأفكار، واكتشف أمره. لو أن أحدا كان قد تحدث معه ليلة أمس لربما كان الآن جزءا من هذا الصباح المفعم بالحياة، من هذا العالم السخي الرائع بما يحمله من هدايا ووعود، بدلا من أن ...
قال تومي، مختتما قصة: «ثم نكزه بقضيب فأسقطه في البركة تحت الجسر.»
نظر جرانت إلى يديه، فوجد أنهما كانتا ساكنتين.
لقد أنقذه الشاب الميت الذي لم يستطع أن ينقذ نفسه.
رفع ناظريه فرأى أمامه منزل بلدة كلون الأبيض. كان رابضا في أعلى التلة الخضراء، وحيدا باستثناء غابة التنوب الكثيفة المصاحبة له وتظلله، والملتصقة به وكأنها غزل بلون أخضر قاتم من الصوف على هذا المنظر الطبيعي الأجرد. ومن المدخنة تصاعد عمود دخان أزرق متموج في الجو الساكن. كان هذا المشهد بمثابة الجوهر البديع للسلام والسكينة.
وبينما كانا يصعدان بالسيارة الدرب الرملي المتفرع من الطريق، رأى لورا تخرج من الباب وتقف في انتظارهما. لوحت لهما، وبينما كانت تنزل ذراعها التي كانت تلوح بها أعادت بيدها خصلة الشعر التي سقطت على جبهتها. هذه الحركة المألوفة جعلت الدفء يسري في كيانه مبددا فتوره. فهكذا بالضبط اعتادت أن تنتظره على رصيف بادنوخ الصغير في انتظاره حين كانت طفلة؛ بنفس التلويح ونفس حركة إزاحة خصلة الشعر. خصلة الشعر نفسها.
قال تومي: «تبا، لقد نسيت أن أرسل خطاباتها بالبريد. لا تذكر الأمر أمامها إلا إذا سألت عنه.»
قبلته لورا على خديه، ونظرت إليه نظرة سريعة، ثم قالت: «لدي طائر جميل مطهي من أجل غدائك، ولكنك تبدو وكأن قسطا طويلا من النوم الهانئ سيكون أجدى لك. فلتصعد مباشرة إذن إلى الطابق العلوي، ونم وانس أمر الطعام حتى تستيقظ. أمامنا أسابيع طويلة لنتبادل فيها الأحاديث؛ لذا لا يتعين علينا أن نبدأ الآن فورا.»
فكر جرانت أن لورا هي وحدها التي تستطيع أن تضطلع بدور المضيف الذي يهتم باحتياجات ضيفه ببساطة وعناية. فلا تفاخر خفيا من جانبها بالغداء الذي أحسنت إعداده؛ ولا ابتزازا مستترا. إنها حتى لم تصر على أن تقدم لضيفها أكواب الشاي غير المرغوب فيها، ولم توص بوضوح باستخدامه لمياه الاستحمام الدافئة التي لديها. إنها حتى لم تطلب إجراء محادثة الوصول الصغيرة، ولا الجلوس لبرهة في كياسة وتهذيب. لقد أمدت ضيفها من دون استجواب أو تردد بما كان في حاجة إليه. أمدته بسرير لينام فيه.
تساءل هل بدا محطما أم إن الأمر كان ببساطة أن لورا كانت تعرفه جيدا. وخطر له أنه لا يمانع أن تعرف لورا بشأن نوبات الذعر لديه. كان غريبا أنه أحجم عن إظهار ضعفه أمام تومي بينما لم يعبأ بأن تعرف لورا بأمره. كان ينبغي أن يكون الأمر عكس ذلك.
قالت وهي تسبقه على الدرج نحو الطابق العلوي: «لقد خصصت لك الغرفة الأخرى هذه المرة؛ لأن الغرفة الغربية أعدت وما زالت رائحتها كريهة بعض الشيء.»
لاحظ أن وزنها حقا زاد قليلا، لكن كاحليها كانا جميلين كعادتهما دائما. وبهذه الموضوعية الفطرية التي لم يتخل عنها يوما، أدرك أن افتقاره إلى أي رغبة في إخفاء نوبات الذعر الطفولية عن لورا كان دليلا على أنه لم يعد يوجد ولو جزءا صغيرا في أعماقه لا يزال مغرما بها. إن حاجة الذكر لأن يبدو بمظهر حسن في عيني محبوبته لم تكن موجودة في علاقته بلورا.
قالت وهي تقف في منتصف غرفة النوم الشرقية، وتنظر إليها وكأنها لم ترها من قبل: «يقول الناس دائما عن غرف النوم الشرقية إنها تتمتع بشمس الصباح.» وتابعت: «كما لو كانت توصية ما. إنني نفسي أظن أنه ألطف بكثير أن يكون بوسع المرء أن يطل على منظر طبيعي مشمس. وهذا ما لا تستطيع فعله والشمس في عينيك.» ثم دست إبهاميها في حزام خصرها وحررته قليلا إذ كان يزداد ضيقا. أضافت: «لكن الغرفة الغربية ستكون صالحة للسكنى في غضون يوم أو يومين؛ لذا يمكنك عندئذ أن تنتقل إليها إذا ما رغبت في ذلك. كيف حال عزيزي الرقيب ويليامز؟» «في أحسن حال.»
على الفور خطر على ذهنه مشهد ويليامز وهو يجلس جامدا وخجلا إلى طاولة الشاي في ردهة استراحة ويستمرلاند. كان في طريقه للخارج بعد جلسة مع المدير، وصادف لورا وجرانت وهما يتناولان الشاي، فأقنعاه بأن ينضم إليهما. كان قد ترك انطباعا جيدا لدى لورا. «تعرف، كلما تمر هذه البلاد بإحدى فترات الفوضى المتكررة التي تمر بها، أفكر في الرقيب ويليامز وأغدو واثقة تماما من أن كل شيء سيكون على ما يرام.»
قال جرانت، وهو منشغل بفك أحزمة أمتعته: «أظن «أنني» لا أبعث في نفسك أي قدر من الطمأنينة.» «ليس بقدر ملحوظ. ليس بتلك الطريقة على أي حال. ستكون مبعث اطمئنان إن «لم يكن» كل شيء يسير على ما يرام.» وبهذه العبارة المبهمة تركته. واختتمت قائلة: «لا تنزل إلا حين تريد ذلك. لا تنزل على الإطلاق، إذا اقتضى الأمر. فقط رن الجرس حين تستيقظ.»
أخذ وقع قدميها يبتعد في الممر، واجتاح الصمت المكان في إثرها.
خلع جرانت ملابسه وألقى بنفسه على السرير من دون أن يكلف نفسه عناء إسدال الستائر ليحجب الضوء. وبعد قليل فكر في نفسه: من الأفضل أن أسدل تلك الستائر، وإلا فقد يوقظني الضوء مبكرا قبل الأوان. فتح عينيه على مضض ليقيس مقدار الضوء، فوجد أن الضوء لم يعد يأتي من النافذة على الإطلاق. لكنه كان بالخارج. فرفع رأسه من على الوسادة ليفكر في هذا الأمر الغريب، وأدرك أنه حينئذ كان في ساعة متأخرة من بعد الظهيرة.
استدار على ظهره في استرخاء واستمتاع ورقد يستمع إلى السكون. ذلك السكون الموغل في القدم. استمتع به في ترف وعلى مهل. لم يكن يوجد حيز مغلق بين هذا المكان ومضيق بينتلاند. بين هذا المكان والقطب الشمالي، إذا وصل الأمر إلى هذا الحد. ومن خلال النافذة المفتوحة على مصراعيها كان بوسعه أن يرى سماء المساء، التي كانت لا تزال رمادية لكنها كانت مضاءة بإضاءة باهتة، وبها خط من سحب مستقيمة. لم تكن تلك السماء تحمل أمطارا، لم تكن تحمل إلا صدى للسلام الذي لف العالم في هذا السكون القرير. أوه، حسنا، إن لم يكن بوسعه صيد السمك فبوسعه السير والتنزه. وفي أسوأ الأحوال يمكنه أن يصطاد الأرانب.
راح يرقب السحب المستقيمة وهي تزداد قتامة في مواجهة خلفيتها، وتساءل في نفسه عمن ستقترح عليه لورا أن يتزوجها هذه المرة. كان مذهلا أن كل النساء المتزوجات اتحدن معا لمواجهة حالة العزوبية لدى الرجال. إن كانت النساء سعيدات في زيجاتهن مثل لورا، فإنهن كن ينظرن للزواج على أنه الحالة المقبولة الوحيدة لشخص بالغ لا يعاني من أي عجز ملحوظ أو عائق ذي صلة. وإن كن مستعبدات وغير سعيدات في زيجاتهن، فإنهن عندئذ كن مفعمات بمشاعر الاستياء من أي شخص تمكن من الهروب من مثل هذا العقاب. في كل مرة كان جرانت يأتي فيها إلى بلدة كلون، كان من عادة لورا أن تقدم له أنثى فحصت بدقة من أجل أن يأخذ الزواج منها بعين الاعتبار. لم يكن يقال أي شيء عن صفاتهن الجذابة، بالطبع؛ بل كن يسرن أمامه جيئة وذهابا حتى يتسنى له رؤية مشيتهن. ولم يكن كذلك ثمة أي إحساس بالندم في الأجواء حين لم يكن يظهر أي اهتمام بأي مرشحة منهن، لم يكن ثمة أي إشارة إلى إلقاء اللوم عليه أو استنكار فعله. كل ما كان يحدث هو أنه في المرة التالية كانت لورا تأتي بفكرة جديدة.
ومن بعيد، كان صوت يأتي إما قرقرة كسولة لدجاجة أو قعقعة أكواب شاي تجمع معا. راح يتسمع لبرهة قصيرة، آملا أن يكون صوت دجاجة، لكنه توصل في أسف إلى أنه كان صوت تحضير الشاي. كان لا بد أن ينهض. سيعود بات من المدرسة، وستستيقظ بريدجيت من قيلولتها. كان من شيم لورا المعهودة أنها لم تطلب منه أن يبدي إعجابا بابنتها، لم يطلب منه أن يبدي إعجابه بمدى نموها وذكائها وجمالها في العام الماضي. لم تذكر بريدجيت على الإطلاق. كانت مجرد مخلوقة صغيرة في مكان ما بعيدا عن الأنظار، مثل بقية حيوانات المزرعة.
نهض جرانت وذهب ليستحم. وبعد عشرين دقيقة كان ينزل الدرج وهو يعي أنه جائع للمرة الأولى منذ شهور.
فكر في نفسه أن الصورة العائلية التي فتح عليها باب غرفة الجلوس كانت تضاهي بالضبط إحدى لوحات زوفاني. كانت غرفة الجلوس في منزل بلدة كلون تشغل تقريبا كامل مساحة ما كان بالأساس بيتا ريفيا وصار الآن جناحا صغيرا في المبنى الرئيسي. ولأنها كانت فيما مضى مقسمة إلى عدة غرف وليست غرفة واحدة، كان بها نوافذ أكثر مما هو معتاد في مثيلاتها من الغرف، ولأن جدرانها كانت سميكة كانت دافئة وباعثة على الشعور بالأمان، ولأنها كانت ذات طابع جنوبي غربي، كانت أبهى إضاءة من معظم الغرف الأخرى. لذا كانت تحركات المنزل كله منصبة فيها، كما في القاعة الأساسية في إحدى ضيعات القرون الوسطى. لم تكن الأسرة تستخدم أي غرفة أخرى إلا وقت الغداء أو العشاء. كفلت مائدة مستديرة كبيرة بجوار المدفأة وسائل الراحة المتاحة في وجبات «غرفة الطعام» وقت الشاي والإفطار، وكان ما تبقى من الغرفة يمثل خليطا أنيقا ورائعا من مكتب، وغرفة صالون، وغرفة موسيقى، وغرفة دراسة، ومشتل زجاجي. خطر لجرانت أن يوهان زوفاني ما كان بحاجة إلى تغيير تفصيلة واحدة بها. كان كل شيء موجودا بالفعل، حتى كلب الصيد الصغير الذي يستجدي الطعام بجوار المائدة وبريدجيت الواقفة بساقيها منفرجتين على سجادة المدفأة.
كانت بريدجيت طفلة شقراء صامتة، في الثالثة من عمرها، كانت تمضي أيامها وهي تعيد بلا توقف ترتيب الأغراض القليلة نفسها في أنماط جديدة. قالت لورا: «لا يمكنني أن أقرر ما إن كانت تعاني من قصور عقلي أو عبقرية.» لكن جرانت رأى أن النظرة التي استمرت ثانيتين فقط، التي حبته بها بريدجيت عند تقديمه ، بررت تماما الفرح في نبرة صوت لورا؛ إذ لم يكن ثمة خطب في ذكاء «الطفلة»، كما كان باتريك يدعوها. ولم تكن تلك الكنية التي كان بات يستخدمها تحمل أي معنى من معاني الازدراء، ولا حتى أي تعال ملحوظ؛ كانت تؤكد فحسب على تضمينه في المجموعة البالغة، الذي خوله إياه كبره عنها بست سنوات حسب تقديره.
كان بات ذا شعر أحمر وعينين رماديتين كئيبتين متوعدتين. وكان يرتدي إزارا اسكتلنديا من الصوف الأخضر المقلم، وجوربا بلون أزرق باهت، وقميصا صوفيا بلون رمادي باهت أكثر. كانت تحيته لجرانت عفوية، لكنها كانت فظة على نحو مطمئن. كان بات يتحدث بلكنة «بيرثشاير معقدة» كما وصفتها أمه؛ لأن صديقه الحميم في مدرسة القرية هو ابن الراعي، الذي كان ينحدر من كيلين. كان باستطاعته، بالطبع، أن يتحدث الإنجليزية بطلاقة حين يريد ذلك، لكن هذه كانت دائما علامة سيئة. فحين كان بات «يخاصمك»، كان دائما يخاصمك بإنجليزية سليمة للغاية.
أثناء تناول الشاي، سأله جرانت إن كان قد حسم قراره بشأن ما يريد أن يصبح حين يكبر، وكانت إجابة بات الثابتة على السؤال منذ كان في عمر الرابعة هي «إنني أتمهل في قراري». وهي عبارة استعارها من والده قاضي الصلح.
قال بات وهو يبسط المربى بيد سخية: «أجل.» وأضاف: «لقد اتخذت قراري.» «حقا؟ جيد. وماذا ستصبح حين تكبر؟» «ثوريا.» «آمل ألا أضطر يوما لإلقاء القبض عليك.»
قال بات ببساطة: «لن تستطيع.» «ولم؟»
قال بات وهو يغمس الملعقة مرة أخرى في المربى: «سأكون صالحا، يا رجل.»
قالت لورا وهي تأخذ المربى من ابنها: «أنا واثقة أن هذا هو المعنى الذي قصدته الملكة فيكتوريا عندما استخدمت تلك الكلمة.»
لقد كان يحبها من أجل ذلك. ذلك التجرد الغريب المتألق الذي أصاب قوام أمومتها في مقتل.
قال بات وهو يكشط المربى إلى أحد جوانب شريحة الخبز، بحيث تصل إلى العمق المطلوب في نصف مساحة سطح الشريحة على الأقل: «عندي لك سمكة». (ما قاله بالفعل كان: «إندي لك ثمكة»، لكن الصوتيات عند بات لم تكن أكثر استساغة على العين مما هي على الأذن، ويمكن أن نتركها لمخيلة القارئ.) وتابع: «تحت الحافة في بركة كادي. يمكنك أن تستعير طعمي، إن شئت.»
وحيث إن بات كان يمتلك علبة صفيح كبيرة مليئة باختراعات متنوعة للقتل، فإن «طعمي» في صيغة المفرد لا يمكن إلا أن يعني «الطعم الاصطناعي الذي اخترعته».
فسأل حين كان بات قد غادر: «كيف هو طعم بات؟»
فقالت أمه: «يتعين أن أقول إنه فعال.» وأضافت: «إنه شيء مخيف.» «هل يصطاد به أي شيء؟»
قال تومي: «أجل، مع غرابة هذا.» وتابع: «أظن أنه يوجد حمقى في عالم الأسماك أيضا مثلما في أي عالم آخر.»
قالت لورا: «تفغر المخلوقات البائسة أفواهها ذهولا لما تراه، وقبل أن يتسنى لها الوقت لتغلق أفواهها يكون التيار قد سحبه إلى داخلها. يوم غد هو السبت؛ لذا يمكنك أن تراه وهو يعمل. لكنني لا أظن أن أي شيء، ولا حتى اختراع بات الشرير، سيستدرج تلك السمكة الكبيرة، التي تزن ستة أرطال والموجودة في بركة كادي، للصعود إلى السطح إن ظل الماء في البركة على ما هو عليه الآن.»
وكانت لورا محقة بالطبع. إذ كان صباح يوم السبت مشرقا وغير ممطر، وكانت السمكة الكبيرة التي تزن ستة أرطال فزعة كثيرا في بركة كادي جراء سجنها فيها، ومهووسة كثيرا برغبتها في المضي في عكس مجرى النهر، فلم تكن تبدي اهتماما بمصادر التشتيت على السطح. لذا اقترح أن يصطاد جرانت سمك السلمون المرقط في البحيرة، وأن يكون بات مرافقا له. كانت البحيرة على بعد ميلين في التلال، وكانت عبارة عن مسطح مائي منبسط على رقعة أرض سبخة جرداء. حين يكون الجو عاصفا في بحيرة لوخان دهو، كانت الريح تخرج خيط صنارتك من الماء بزوايا قائمة وتبقيه مشدودا كأنه سلك هاتف. وحين يكون الجو هادئا وخاليا من الرياح يجعل البعوض منك وليمة بينما تصعد أسماك السلمون المرقط إلى السطح وتضحك ملء فيها. لكن إن لم يكن صيد السلمون المرقط فكرة جرانت عن الانهماك المثالي، فقد كان من الواضح أن مرافقة بات لجرانت كانت فكرة الأول عن الفردوس. لم يكن يوجد شيء ليس بمقدور بات فعله، من امتطاء الثور الأسود في دالمور إلى طلب حلويات بقيمة ثلاثة بنسات من السيدة مير في مكتب البريد بالاستعانة بنصف بنس والكثير من التهديد والوعيد. لكن متعة العبث في الأرجاء في قارب كانت لا تزال شيئا لا يستطيع أن يتيحه لنفسه. إذ كان القارب عند البحيرة مقفلا بقفل.
لذا انطلق جرانت على الدرب الرملي عبر نباتات الخلنج الجافة، وبات بجواره ومتأخر عنه بخطوة واحدة وكأنه كلب صيد يتصرف على أفضل نحو. وأثناء مسيره كان جرانت واعيا بممانعته هو نفسه، وأخذ يتساءل بشأنها.
ما السبب الذي يمكن أن يستدعي وجود أي قيد أو شرط في سروره هذا الصباح، في فرحه بالذهاب لصيد السمك؟ ربما لا تمثل أسماك السلمون البنية المرقطة فكرته عن المنافسة الرياضية، لكنه كان مسرورا جدا بأنه سيمضي يومه ممسكا بصنارة في يده حتى ولو لم يتمكن من اصطياد أي شيء. كان مسرورا كثيرا لوجوده في العراء، مفعما بالحياة وخالي البال، والحيوية المألوفة للتربة الخثية تحت قدميه، والتلال أمامه. لماذا يوجد في خبايا عقله هذا القدر اليسير من النفور؟ لماذا أراد أن يتسكع حول المزرعة، بدلا من أن يأخذ قاربا ويخرج به في بحيرة لوخان دهو طوال اليوم؟
كانا قد سارا مسافة ميل قبل أن يخرج السبب من غلاف عقله الباطن. لقد كان يرغب في البقاء في منزل بلدة كلون اليوم ليتمكن من الاطلاع على الصحيفة اليومية حين تصل.
كان يرغب في أن يحصل على معلومات عن راكب المقصورة «بي 7».
كان عقله الواعي قد أسقط راكب المقصورة «بي 7» من ذاكرته، مع معاناته في الرحلة وذكرى إذلاله. لم يتذكره على نحو واع منذ اللحظة التي ارتمى فيها على السرير عند وصوله حتى الآن؛ أي بعد ما يقرب من أربع وعشرين ساعة. لكن راكب المقصورة «بي 7» كان لا يزال مصاحبا له، على ما يبدو.
سأل بات، الذي كان لا يزال صامتا ويتصرف على أفضل نحو لديه ومتأخرا عنه بخطوة واحدة: «متى تصل الصحيفة اليومية إلى كلون في هذه الأيام؟»
فرد بات: «إن كان جوني هو من يحضرها فتصل في الساعة الثانية عشرة، لكن إن كان كيني فغالبا ما تصل قرب الواحدة.» ثم أضاف بات وكأنه مسرور لإدراج الحديث في نمط تلك الرحلة: «يتوقف كيني ليتناول كأسا من الشراب في دالمور، شرقي الطريق. إنه يذهب إلى حانة ماكفادينز كريستي.»
قال جرانت لنفسه إن العالم الذي تنتظر فيه أخبار أحداث الأمة كيني حتى يتناول كأسا من الشراب في حانة ماكفادينز كريستي هو عالم بهيج جدا. لا بد أن هذا العالم كاد أن يضاهي الفردوس فيما قبل ظهور الراديو. «التي تحرس الطريق إلى الفردوس.»
الرمال المغنية.
الوحوش المتكلمة،
والأنهار الراكدة،
والأحجار السائرة،
والرمال المغنية ...
ما الذي كانت تعنيه هذه الكلمات؟ أكانت مجرد بلدة من المخيلة؟
هنا في العراء، في هذه الأرض البدائية، كان لهذا الكلام ملاءمة تقلل بطريقة ما من غرابته. كان من الممكن أن يصدق هذا الصباح أنه توجد أماكن على الأرض يمكن للأحجار فيها أن تسير. ألا توجد أماكن؛ أماكن معروفة، حتى في منطقة المرتفعات الاسكتلندية يمكن لرجل وحيد وسط ضوء الشمس الساطع أن يستولي عليه الشعور بإدراك وجود مراقبين له غير مرئيين، فيملؤه خوف شديد ويهرع هاربا من المكان وقد اعتراه الذعر؟ أجل، ومن دون أي مقابلات سابقة بأطباء نفسيين في ويمبول ستريت، أيضا. في الأماكن «العتيقة» كان كل شيء ممكنا. حتى الوحوش المتكلمة.
من أين تحصل راكب المقصورة «بي 7» على فكرته عن الغرابة؟
أطلقا القارب الخفيف من مدرجه الخشبي، وجدف جرانت نحو البحيرة، وقصد الطرف الذي تهب منه الريح. كان الجو مشمسا للغاية، لكن كان ثمة نفحة هواء تكاد ترقى إلى نسيم قوي بما يكفي لأن يصنع تموجا على صفحة الماء. راقب بات وهو يجمع صنارته ويربط طعما في الخيط، وقال في نفسه إنه إن لم يتمكن من أن ينال سعادة أن يكون له ابن من صلبه فابن قريبته الصغير أحمر الشعر كان بديلا جيدا جدا.
سأله بات وهو منشغل بالطعم: «هل سبق أن قدمت باقة أزهار هدية، يا ألان؟» نطق كلمة باقة «باكة».
أجاب جرانت بحذر: «لا أتذكر أنني فعلت.» وسأل: «لماذا؟» «يريدون مني أن أقدم واحدة إلى فيكونتيسة ستأتي لافتتاح قاعة دالمور.» «قاعة؟»
قال بات بمرارة: «تلك السقيفة عند مفترق الطرق.» ثم صمت للحظة، كان من الواضح أنه يفكر أثناءها في الأمر. وأضاف: «إن تقديم باقة من الأزهار لهو فعل متخنث فظيع.»
راح جرانت، ملزما بواجبه نحو لورا الغائبة، يفكر ويفتش في عقله. ثم قال: «إنه شرف عظيم.» «إذن فليجعلوا «الطفلة» تحظى بهذا الشرف.» «إنها لا تزال صغيرة على مثل هذه المسئولية.» «حسنا، إن كانت لا تزال صغيرة جدا على هذه المسئولية فأنا أكبر بكثير من مثل تلك الأفعال الصبيانية. لذا سيتعين عليهم أن يجدوا عائلة أخرى لتفعل ذلك. هذا كله أمر لا طائل من ورائه على أي حال. فالقاعة مفتوحة منذ أشهر.»
لم يجد جرانت إجابة على هذا الشعور بالازدراء المتسم بخيبة الأمل تجاه تصنع البالغين.
راحا يصطادان وظهراهما متقابلان، في وئام ذكوري جميل؛ فكان جرانت يلقي بخيطه في عدم اكتراث وتكاسل، وبات يلقي بخيطه في تفاؤل دائم لا مثيل له. وبحلول الظهر كانا قد انجرفا عائدين إلى موضع عمودي على الرصيف الصغير، فاستدارا متجهين نحو الشاطئ ليعدا الشاي على الموقد الصغير في الكوخ المتواضع. وبينما كان جرانت يجدف بالقارب مسافة الياردات القليلة المتبقية لاحظ أن عيني بات كانتا مثبتتين على شيء ما على الشاطئ، فاستدار ليرى ما تسبب في هذا النفور الملحوظ. وبعد أن نظر إلى الشخص الذي كان يتقدم نحوهما بجسد مرتعش وعظمة غير متناسبة مع مظهره، سأل بات عمن يكون.
فقال بات: «إنه وي آرتشي.»
كان وي آرتشي يستخدم عصا رعاة معقوفة، ما كان أحد من الرعاة ليحملها ولو على جثته - كما علق تومي فيما بعد - وكان يلبس إزارا لم يكن أحد من قاطني منطقة المرتفعات الاسكتلندية ليحلم أن يلبسه. كانت العصا تعلو بنحو قدمين فوق رأسه، ويتدلى الإزار من فوق ردفيه الرفيعين بشدة وكأنه تنورة نسائية داخلية متسخة. لكن كان من الواضح أن من يرتديه لم يكن يحس بوجود أي نقص. وكان قماش الطرطان الصوفي المربع المصنوع منه إزاره البائس الصغير صاخب كأنه طاووس؛ إذ كانت ألوانه تبدو غريبة ودخيلة على ألوان الأرض السبخة. أما رأسه الصغير القاتم الذي كان يشبه رأس الأنقليس، فكانت تتوجه قبعة اسكتلندية مستديرة ذات لون أزرق باهت، وبها عصبة عليها رسومات على شكل مكعبات، والقبعة تتدلى على جانبي رأسه بميل كبير بحيث غطى الجزء المتدلي منها أذنه اليمنى. وعلى الجانب العلوي برزت نبتة كبيرة من مقدمة العصبة. أما الجوربان اللذان كان يلبسهما في ساقيه اللتين كانتا تشبهان دبابيس الشعر فكانا بلون أزرق لامع، وكان نسيجهما زغبيا جدا لدرجة أنهما كانا يوحيان بنمو غير ملائم. وحول كاحليه النحيلين كانت سيور حذاء البروج الجلدية المتقاطعة مشدودة بقوة لم تتمكن حتى شخصية مالفوليو (في مسرحية شكسبير «الليلة الثانية عشرة») من أن تحققها.
سأل جرانت مندهشا: «ماذا يفعل في هذه الأنحاء؟» «إنه يعيش في النزل في مويمور.» «أوه. ما مهنته؟» «إنه ثوري.» «حقا؟ أتلك هي نفس فكرتك عن الثورة؟»
قال بات في ازدراء كبير: «لا!» وتابع: «أوه، أنا لا أقول إنه لم يضع الفكرة في رأسي. لكن لا أحد يعير أمثاله أي اهتمام. إنه يكتب القصائد.» «أفهم من هذا أنه ولد مرة واحدة.» «هذا! إنه لم يولد أصلا. إنه ... إنه ... إنه بيضة.»
خلص جرانت إلى أن الكلمة التي كان يريد بات قولها هي الأميبا، لكن معرفته لم تصل إلى ذلك الحد. إن أدنى أشكال الحياة التي كان يعرفها كان يتمثل في البيضة.
أتى «البيضة» يمشي بابتهاج نحوهما على طول الشاطئ الصخري، وذيل تنورته يتأرجح بتبجح لم يكن ملائما لمشيته المترنحة على الصخور. واقتنع جرانت فجأة أنه كان يعاني من كالوهات في قدميه. كالوهات في قدمين ورديتين نحيلتين تتعرقان بسهولة. ذلك النوع من الأقدام الذي يكتب الناس إلى الأعمدة الطبية بشأنه في الصحف . (اغسل قدميك جيدا كل مساء وجففهما جيدا، لا سيما بين الأصابع. وانثر عليهما مسحوق التلك نثرا جيدا، وارتد جوارب جديدة كل صباح.)
صاح الرجل، باللغة الاسكتلندية الغيلية، حين صار على مقربة منهم: «كيف حالكما؟»
تساءل جرانت، هل كل الأشخاص الغريبي الأطوار تكون أصواتهم نحيفة وخافتة أم إن تلك مجرد صدفة؟ أم إن الأصوات النحيفة الخافتة من سمات أولئك الفاشلين والمحبطين، والفشل والإحباط يولدان الرغبة في التخلي عن القطيع؟
لم يكن قد سمع تلك العبارة الغيلية منذ كان طفلا، وأدى التكلف فيها إلى فتور ترحيبه. فأشار إلى الرجل محييا أن صباح الخير.
قال وهو يتقدم نحوهما: «كان يجب على باتريك أن يخبرك أن اليوم مشمس جدا بحيث لا يناسب الصيد.» لم يعرف جرانت أيهما أثار سخطه أكثر؛ طريقة جلاسكو المنفرة في الكلام أم الرعاية غير المبررة.
توارى النمش على بشرة بات الفاتحة عندما توردت. وحارت الكلمات على شفتيه.
فقال جرانت بسلاسة: «أظن أنه لم يرد أن يحرمني من متعتي»؛ وراقب التورد يتراجع وتظهر ببطء أمارات تقدير وإعجاب. لقد اكتشف بات أنه توجد طرق للتعامل مع الحمقى أكثر فاعلية من الهجوم الصريح عليهم. كانت فكرة جديدة إلى حد ما، وكان يجرب طعمها وهو يقلبها على لسانه.
فقال وي آرتشي بابتهاج: «أظن أنكما أتيتما إلى الشاطئ لتشربا شاي الضحى.» واستطرد: «سيسرني أن أنضم إليكما إن لم يكن لديكما اعتراض.»
وهكذا أعدا الشاي من أجل وي آرتشي الكالح الوجه المهذب. وأخرج هو شطائره، وبينما كانوا يتناولون الطعام راح يلقي على مسامعهما محاضرة عن مجد اسكتلندا؛ بماضيها العريق العظيم ومستقبلها الباهر. لم يكن قد سأل عن اسم جرانت وانخدع بحديثه فظنه إنجليزيا. استمع جرانت مندهشا إلى الحديث عن ظلم إنجلترا لاسكتلندا الأسيرة التي لا حول لها ولا قوة. (سيكون من الصعب تخيل أي شيء أقل عبودية أو عجزا من اسكتلندا التي كان يعرفها.) بدا أن إنجلترا مصاصة للدماء، تستنزف دم اسكتلندا الطيب وتتركها ضعيفة وشاحبة. لقد كانت اسكتلندا تتألم تحت نير الاحتلال الأجنبي، وتترنح خلف عربة المحتل، وتدفع الجزية للطاغية، وتسخر مواهبها تلبية لاحتياجاته. لكنها كانت على وشك التخلص من نير العبودية وفك أغلالها؛ كان الصليب الناري على وشك أن يبعث من جديد، وقريبا ستضرم النيران في نباتات الخلنج. لم يبخل عليهما وي آرتشي بأي عبارات مبتذلة.
راح جرانت يراقب الرجل باهتمام يوليه المرء لعمل فني جديد ضمن مجموعة من الأعمال. وقرر أن الرجل كان أكبر سنا مما كان يظن. كان في الخامسة والأربعين من عمره على الأقل، وربما كان يقارب الخمسين. لقد كان أكبر من أن يمكن علاجه. لقد فاتته فرصة تحقيق النجاح الذي كان يرغب فيه أيا كان، ولن يتبقى له أي شيء على الإطلاق سوى ملابسه الفاخرة المثيرة للشفقة وعباراته المبتذلة.
نظر أمامه ليرى أي أثر خلفه هذا الانحراف في الروح الوطنية على الفتى الاسكتلندي الصغير، وقد ابتهج لما رآه. كان الفتى الاسكتلندي الصغير يجلس مواجها للبحيرة، وكأن مجرد النظر إلى وي آرتشي كان فوق طاقته. كان يمضغ طعامه في انعزال عنيد، وذكرت عيناه جرانت بفلاري نوكس: «عينان تشبهان جدارا صخريا يعلوه زجاج مكسور». سيحتاج الثوريون إلى أسلحة أقوى من آرتشي ليخلفوا أي انطباع لدى مواطنيهم.
تساءل جرانت عما يوفر لقمة العيش لهذا المخلوق. «القصائد» لا توفر لقمة العيش. ولا العمل صحفيا مستقلا؛ أو بالأحرى، نوعية الصحافة التي كان آرتشي يرغب في كتابتها. ربما كان يقتات من «النقد». فقد كان النقاد الصغار يستقدمون من صفوف غير الأكفاء. بالطبع كان ثمة احتمال قائم دائما، وهو أنه كان يتلقى دعما؛ إن لم يكن من مواطن ساخط متعطش للسلطة، فمن وكالة أجنبية لها مصلحة في تأجيج المشكلات. كان آرتشي من نوعية مألوفة جدا لدى رجال فرع الأمن القومي؛ شخص فاشل، سئم من الغرور الفاسد.
كان جرانت لا يزال يتوق إلى صحيفة الظهيرة التي كان على جوني أو كيني أن يوصلها إلى بلدة كلون، ففكر في أن يقترح على بات أن يكتفيا بهذا القدر ويتوقفا عن اجتذاب الأسماك التي لم يكن لديها أي نية في تلقف الطعم . لكن لو انصرفا الآن فسيتحتم عليهما أن يعودا سيرا بصحبة وي آرتشي، وكان ذلك شيئا يبغيان تجنبه. لذا استعد جرانت للعودة إلى تجديفه الخامل في مياه البحيرة.
لكن بدا أن آرتشي كان متلهفا للانضمام إلى فريق الصيد. فقال إنه إن كانت توجد مساحة لراكب ثالث في القارب فسيسره أن يكون بصحبتهما.
حارت الكلمات مرة أخرى على شفتي بات.
وقال جرانت: «أجل، تعال معنا. يمكنك أن تساعدنا في العمل المضني.»
فقال منقذ اسكتلندا وقد امتقع وجهه: «عمل مضن؟» «أجل. فعروق القارب ليست جيدة جدا. إنه يسرب الكثير من الماء.»
بعد إعادة النظر رأى آرتشي أن الوقت ربما يكون قد حان لأن يتابع المضي في طريقه (لم يذهب آرتشي إلى أي مكان قط، بل كان دائما يتابع المضي في طريقه) صوب مويمور. سيكون البريد قد وصل، وسيتحتم عليه أن يتعامل مع الرسائل المرسلة إليه. بعد ذلك، وحتى لا يخطر على بالهما أنه كان غير معتاد على ركوب القوارب، أخبرهما بمدى براعته في الإبحار بالقوارب. فبفضل مهارته هو فقط في أحد القوارب تمكن هو وأربعة آخرون من بلوغ أحد شواطئ الجزر الغربية الاسكتلندية أحياء الصيف الماضي. حكى الحكاية بحماسة متزايدة أثارت شكا جذريا في أنه كان يختلقها وهو ماض في سردها، وبعد أن انتهى غير الموضوع بسرعة، وكأنما يخشى من تلقي أسئلة، وسأل جرانت إن كان يعرف الجزر الغربية.
قال جرانت، وهو يغلق السقيفة الصغيرة ويضع المفتاح في جيبه، إنه لا يعرفها. وهنا أعفاه آرتشي، في سماحة وجود منه، من الحديث وأخبره عنها. أساطيل الرنجة في جزيرة لويس، ومنحدرات جزيرة مينجولاي، وأغاني جزيرة بارا، وتلال جزيرة هاريس، والأزهار البرية بجزيرة بنبيكولا، والرمال، الرمال البيضاء الرائعة التي لا نهاية لها، في جزيرة بيرنيراي.
قال جرانت واضعا حدا للتفاخر: «أظن أن الرمال لا تغني.» ثم دلف إلى القارب ودفعه مبتعدا.
قال وي آرتشي: «لا، لا. إنها موجودة في كلادا.»
فسأله جرانت مذهولا: «ماذا تقصد؟» «الرمال المغنية. حسنا، أتمنى لكما صيدا وفيرا، لكنه ليس يوما مناسبا للصيد، كما تعلمان. فالضوء ساطع للغاية.»
وبهذه العبارات الرقيقة عاود وي آرتشي رفع عصا الراعي، وراح يتهادى مبتعدا بمحاذاة الشاطئ نحو مويمور ورسائله. وقف جرانت بلا حراك في القارب، يراقبه وهو يبتعد. وحين كاد يتجاوز مدى السمع ناداه فجأة قائلا: «هل توجد أي أحجار تسير في كلادا؟»
فقال آرتشي بصوته الرفيع القاصر: «ماذا؟» «هل توجد «أي أحجار تسير في كلادا»؟» «لا. إنها في لويس.»
وانطلق المخلوق الشبيه باليعسوب بصوته الشبيه بصوت البعوض مبتعدا في الأفق البني.
الفصل الثالث
عاد جرانت وبات إلى المنزل وقت تناول الشاي بخمس سمكات سلمون مرقط متواضعة الحجم وشهية كبيرة. وأوضح بات، مبررا اصطياد سمك السلمون المرقط الصغير، أنه في يوم كهذا لا يمكن للمرء أن يتوقع أن يصطاد أي شيء سوى ما أطلق عليه «الأسماك الحمقاء»؛ فعقلية السمك الجدير بالاحترام لا تسمح بأن يصطاد في طقس كهذا. وقد سارا نصف الميل الأخير حتى بلدة كلون وكأنهما جوادان عائدان إلى الدار، فكان بات يتقافز بين طبقات العشب وكأنه جدي صغير، وكان في أثناء ذلك طلق اللسان بقدر ما كان صموتا عندما كانا في طريقهما للرحيل. كان العالم ونهر لندن يبدوان له باتساع الفضاء النجمي البعيد، وكان جرانت في قمة السعادة.
ولكن، بينما كانا يكشطان القاذورات عن حذاءيهما عند المدخل المرصوف لمنزل بلدة كلون، انتبه جرانت إلى نفاد صبره غير المعقول لرؤية تلك الصحيفة. وبما أنه كان يكره صفة اللامنطقية في أي شخص ويمقتها في نفسه، راح يكشط القاذورات من حذائه بعناية من جديد للمرة الثانية.
قال بات وهو يمسح حذاءه مسحا سطحيا على المكشطة الثنائية: «يا إلهي، أنت دقيق للغاية.» «من الفظاظة أن يدخل المرء منزلا وبحذائه طين.»
سأل بات، الذي، كما توقع جرانت، كان يعتبر النظافة تصرفا «متخنثا»: «فظاظة؟» «أجل. إنه فعل يشي بالقذارة وانعدام النضج.»
غمغم بات بدهشة: «هاه»؛ وراح خلسة يكشط القاذورات من حذائه مجددا. ثم قال مؤكدا من جديد على استقلاليته: «إنه لبيت بائس ذلك الذي لا يمكن أن يطيق القليل من الطين»، ثم مضى مقتحما غرفة الجلوس مثل جيش غزاة.
في غرفة الجلوس كان تومي يقطر العسل على كعكة ساخنة، ولورا تصب الشاي، وبريدجيت ترتب مجموعة جديدة من الأغراض بشكل معين على الأرض، وكلب الصيد يدور حول الطاولة لينتهز أي فرصة للحصول على طعام. كان المشهد هو نفس مشهد الليلة الماضية فيما عدا أن ضوء النهار قد أضيف إلى ضوء المدفأة. وكان ثمة اختلاف واحد. ففي مكان ما في الغرفة كانت توجد صحيفة يومية مهمة.
حين رأت لورا نظرة الاستقصاء في عينيه، سألته عما إذا كان يبحث عن شيء ما. «أجل، الصحيفة اليومية.»
فقالت: «أوه، إنها مع بيلا.» كانت بيلا هي الطاهية. وتابعت: «سآخذها منها بعد تناول الشاي إن كنت تريد الاطلاع عليها.»
مرت عليه لحظة من لحظات نفاد الصبر اللاذع منها. كانت راضية عن نفسها بإفراط. وكانت سعيدة للغاية، هنا في معقلها الآمن، مع طاولة الشاي المحملة، وطبقة الشحم الصغيرة المكتنزة تحت حزامها، وطفليها المتمتعين بالصحة، وزوجها اللطيف تومي، وشعورها بالأمان. سيكون من المفيد لها أن تقاتل بعض الشياطين؛ أن تؤرجح في الفضاء وتكون معلقة فوق حفرة بلا قرار بين الحين والآخر. لكن عبثيته أنقذته، وعرف أن الأمر لم يكن كما تصوره. لم يكن ثمة رضا في شعور لورا بالسعادة، ولم تكن بلدة كلون ملاذا من الحقائق. كان كلبا الرعي الصغيران، اللذان كانا يرحبان بهم عند بوابة الطريق في عاصفة من جسدين باللونين الأبيض والأسود وذيلين يهتزان بشدة فرحا، كانا فيما مضى يناديان موس أو جلين أو تريم أو شيئا من هذا القبيل. اليوم، لاحظ أنهما استجابا لاسمي تونج وزانج. منذ أمد بعيد كانت مياه نهر تشيندوين تتدفق لتصب في نهر تورلي. لم تعد توجد أبراج عاجية.
قالت لورا: «لدينا صحيفة «ذا تايمز»، بالطبع، لكنها دائما ما تكون طبعة الأمس؛ لذا ستكون قد طالعتها.»
سأل وهو يجلس إلى الطاولة: «من هو وي آرتشي؟»
قال تومي، وهو يقضم النصف العلوي من كعكته الساخنة، ويلعق ما تسرب منها من عسل: «أقابلت آرتشي براون؟» «أذاك اسمه؟» «كان كذلك. ومنذ أن نصب نفسه بطل جايلدوم (المرتفعات والجزر الاسكتلندية) وهو يطلق على نفسه اسم جيلسبوج ماك أبروثين. إنه مكروه للغاية في الفنادق.» «لماذا؟» «كيف كنت ستدرج شخصا يدعى جيلسبوج ماك أبروثين في سجلاتك؟» «ما كنت سأرغب في أن يقيم في فندقي على الإطلاق. ما الذي يفعله هنا؟» «إنه يكتب قصيدة ملحمية باللغة الغيلية، على حد قوله. لم يكن يفقه أي شيء عن اللغة الغيلية منذ زهاء عامين؛ لذا لا أظن أن تلك القصيدة يمكن أن تكون ذات قيمة. كان الرجل ينتمي إلى المناطق التي تتحدث تلك اللغة التي يسود فيها استخدام كلمات من قبيل كلييش-كلافرز-كلاتر. كما تعرف، أولئك الذين يتكلمون اللغة الاسكتلندية. كان واحدا منهم لسنوات. لكنه لم يحقق الكثير. كانت المنافسة حادة للغاية. لذا قرر أن اللغة الاسكتلندية هي مجرد لهجة وضيعة ومستهجنة للغاية من لهجات اللغة الإنجليزية، وأن لا شيء يضارع العودة إلى «اللغة القديمة»؛ إلى لغة حقيقية. لذلك «لازم» صراف بنك في جلاسكو، شاب من يويست، واجتهد في تعلم بعض اللغة الغيلية. إنه يأتي إلى الباب الخلفي ويتحدث إلى بيلا بين الحين والآخر، لكنها تقول إنها لا تفهم أي شيء مما يقول. وتظن أنه «مختل العقل».»
قالت لورا بحدة: «لا يوجد خطب في عقل آرتشي براون.» واستطردت: «لو لم يكن يتمتع بالذكاء الذي مكنه من أن يبتدع هذا الدور لنفسه، لكان الآن مدرسا في مدرسة في مكان بائس ناء، وما كان حتى مفتش المدرسة سيعرف اسمه.»
قال جرانت: «إنه لافت للنظر بفجاجة على أرض سبخة، على أي حال.» «بل إنه أسوأ من ذلك على رصيف أي من الشوارع. إنه مثل واحدة من تلك الدمى التذكارية المريعة التي يشتريها السياح ويعودون بها إلى أوطانهم، وانتماؤه إلى اسكتلندا تقريبا بنفس قدر انتماء تلك الدمى إليها.» «أليس اسكتلنديا؟» «لا. لا تسري في عروقه ولا حتى قطرة دم اسكتلندية واحدة. فوالده من ليفربول، وأمه من أوهانراهان.»
فقال جرانت: «من الغريب أن جميع الوطنيين الأشد تعصبا أجانب.» وأضاف: «لا أظن أنه سيحظى بتقدير كبير من كارهي الأجانب أولئك؛ أعني الغيليين.»
فقالت لورا: «لديه عائق أسوأ من ذلك.» «وما هو؟» «لهجة جلاسكو التي يتكلم بها.» «أجل. إنها منفرة بقدر كبير.» «لم أقصد ذلك. أقصد أنه في كل مرة يفتح فيها فمه يتذكر مستمعوه إمكانية أن يحكمهم أحد من جلاسكو: والموت أهون من ذلك المصير.» «حين كان يتحدث عن جمال الجزر الغربية ذكر رمالا «تغني». هل تعرفان أي شيء عنها؟»
فقال تومي بغير اهتمام: «يبدو لي ذلك.» وأردف: «إنها في بارا أو بيرنيراي أو في مكان ما.» «قال إنها في كلادا.» «أجل، لعلها كلادا. أتظن أن ذلك القارب في بحيرة لوخان دهو سيصمد موسما أو موسمين آخرين؟»
بعد أن التهم بات أربع كعكات صغيرة وقطعة من كعكة كبيرة بسرعة وبراعة كلب رعي يلتهم قطعة مسلوبة من طعام شهي، سأل: «أيمكنني أن أذهب وآخذ صحيفة «كلاريون» الآن من بيلا؟»
قالت أمه: «إن كانت قد انتهت من مطالعتها.»
قال بات: «ستكون قد انتهت منها بعد هذه المدة الطويلة.» وأضاف: «إنها لا تقرأ سوى الأجزاء الصغيرة المتعلقة بالنجوم.» فتساءل جرانت، بينما كان بات يغلق الباب خلفه: «نجوم؟ نجوم السينما؟»
قالت لورا: «لا. التنجيم؛ كوكبة الدب الأكبر وما إلى ذلك.» «أوه. اليوم وفق ترتيبات نجوم الشعرى اليمانية، والنسر الواقع والعيوق.» «أجل. تقول إنه يتعين عليهم في جزيرة لويس أن يترقبوا التنبؤات بالأحداث المستقبلية. إنه أمر مريح وجيد أن تعرف المستقبل من الصحيفة كل يوم.» «ماذا يريد بات من صحيفة «كلاريون»؟» «قصة الرسوم الهزلية بالطبع. شيئان يسميان تولي وسنيب. لا أستطيع أن أتذكر إن كانا بطتين أم أرنبين.»
لذا كان على جرانت أن ينتظر حتى انتهى بات من تولي وسنيب، وبحلول ذلك الوقت كان كل من لورا وتومي قد انصرفا، الأولى إلى المطبخ والثاني إلى خارج البيت؛ وبهذا ترك جرانت وحيدا مع الطفلة الصامتة الجالسة على السجاد، التي تعيد دون توقف ترتيب كنوزها. وبطريقة رسمية أخذ من بات الصحيفة المطوية بدقة ، وبينما كان بات ينصرف فتحها جرانت بشغف مكبوح. كانت طبعة اسكتلندية، وبخلاف «المقالات الخفيفة» كانت الصحيفة تعج بأخبار تتسم بتركيز بالغ على الاهتمامات المحلية، لكن بدا أنها لم تكن تحتوي على أي شيء من الحادث الذي وقع في محطة القطار أمس. راح يتصفح الصحيفة، متنقلا وسط غابة من الأخبار غير المهمة، مثل كلب صيد يخترق أجمة سرخس، وأخيرا وجد مراده؛ فقرة صغيرة في نهاية أحد الأعمدة، بين حوادث الدراجات وأخبار المعمرين. كان نص العنوان المبهم «رجل يلقى حتفه في قطار». وتحت العنوان كان يوجد بيان موجز، نصه:
لدى وصول القطار السريع «فلاينج هايلاندر» إلى وجهته صباح أمس، وجد أن أحد الركاب، وهو شاب فرنسي يدعى شارل مارتن، كان قد وافته المنية أثناء الليل. من المسلم به أن الوفاة كانت ناجمة عن أسباب طبيعية، ولكن بما أن الوفاة حدثت في إنجلترا، فإن الجثة ستعود إلى لندن من أجل إجراء تحقيق.
قال جرانت بصوت عال: «فرنسي!» فرفعت بريدجيت ناظريها من على ألعابها لتنظر إليه.
فرنسي؟ لا بالتأكيد! لا بالتأكيد!
وجهه، أجل. ربما كان كذلك. وجهه يرجح ذلك جدا. لكن ليس ذاك الخط. ذاك الخط الإنجليزي الطفولي.
هل كانت الصحيفة لا تخص راكب المقصورة «بي 7» على الإطلاق؟
هل أخذها فحسب؟ ربما وجدها في مطعم كان يتناول طعامه فيه قبل ركوب القطار. فعادة ما تتناثر على كراسي غرف تناول الطعام في محطة القطار الأوراق المهملة التي تخص أولئك الذين كانوا يتناولون طعامهم هناك. أو حتى في بيته، أو في مسكنه، أو أيا كان المكان الذي كان يعيش فيه. ربما يكون قد تحصل على الصحيفة بعدة طرق عرضية.
أو بالطبع ربما كان فرنسيا يتلقى تعليمه في إنجلترا، وبهذا حلت الكتابة الدائرية المشوشة محل موروثه من الكتابة المتصلة المنمقة. لم يكن هناك شيء يتعارض جوهريا مع كون راكب المقصورة «بي 7» مؤلف تلك الكلمات المكتوبة بقلم رصاص.
ومع ذلك، كان الأمر غريبا.
وفي حالات الوفاة المفاجئة، مهما كانت طبيعية، تكون الأمور الغريبة ذات أهمية. حين التقى أول مرة براكب المقصورة «بي 7» كان منفصلا للغاية عن ذاته المهنية، وبمعزل عن العالم ككل، حتى إنه تعامل مع الأمر كما سيتعامل معه أي مدني آخر مثقل بالنوم. حينئذ لم يكن راكب المقصورة «بي 7» يمثل له سوى راكب شاب ميت في مقصورة مشبعة برائحة الويسكي، كان مضيف عربات نوم نافد الصبر للغاية يعامله بخشونة. والآن صار شيئا مختلفا تماما؛ صار «موضوع تحقيق». صار شأنا مهنيا؛ شأنا تحكمه القواعد والنظم، شأنا يتعين المضي فيه بحذر، وباللياقة المطلوبة ووفقا للقواعد المقررة. وخطر ببال جرانت للمرة الأولى أنه إذا ما التزم بعين الصواب، فقد يعتبر استلابه لهذه الصحيفة تصرفا مخالفا قليلا للقواعد. لقد كان استلابا غير مقصود بالمرة؛ اختلاسا عرضيا. لكنه كان أيضا تبديدا للأدلة، إن اعتمد المرء المنهج التحليلي حيال الأمر.
وفيما كان جرانت يتفكر في المسألة، عادت لورا من المطبخ وقالت: «ألان، أريد منك أن تفعل شيئا لأجلي.»
وأخذت سلة خياطتها ووضعتها على كرسي بجواره. «سأفعل أي شيء في مقدوري.» «بات متردد في أمر ما عليه فعله، وأريد منك أن تقنعه به. أنت بطله وسيستمع إليك.» «لعل الأمر متعلق بتقديم باقة من الزهور؟» «كيف عرفت؟ هل تحدث معك في الأمر بالفعل؟» «بل أتى على ذكره فحسب هذا الصباح عند البحيرة.» «لم تنحز إلى جانبه، أفعلت؟» «بوجودك في خلفية المشهد! لا. بل أعربت عن رأيي قائلا إنه شرف عظيم.» «وهل اقتنع؟» «لا. يظن أن الأمر برمته «هراء».» «إنه كذلك فعلا. فالقاعة تستخدم بصفة غير رسمية منذ أسابيع. لكن سكان الوادي أنفقوا الكثير من المال والجهد في إقامة تلك القاعة، ومن الصواب أن تفتتح بطريقة «لافتة».» «لكن أيتحتم أن يكون بات هو من يقدم باقة الزهور؟» «أجل. إن لم يفعل، فسيفعلها ويلي ابن آل ماكفادين.» «لورا، لقد صدمتني.» «ما كنت لأصدمك لو أنك رأيت ويلي ابن آل ماكفادين. إنه يبدو كضفدع مصاب بداء الفيل. وجوربه دائما ما يكون ساقطا. ينبغي أن تؤدي فتاة صغيرة ذلك، لكن لا يوجد في الوادي طفلة في سن مناسبة . لذا فالأمر ما بين بات وويلي ابن آل ماكفادين. وإذا نحينا جانبا أن مظهر بات ألطف، فمن الصواب أن يتولى شخص من الوادي ذلك. ولا تقل لي «لماذا؟» ولا تقل لي إنني أصدمك. عليك فقط أن تفعل ما بوسعك لتقنع بات بالأمر.»
قال جرانت وهو يبتسم لها: «سأحاول. من الفيكونتيسة التي سيقدم إليها باقة الزهور؟» «الليدي كينتالين.» «الأرملة النبيلة؟» «تقصد الأرملة. لا يوجد إلا واحدة، حتى الآن. وولدها لم يصل بعد إلى سن تسمح له بأن يتزوج.» «كيف وصلت إليها؟» «كانت زميلتي في المدرسة. في مدرسة سانت لويزا.» «أوه، ابتزاز. تسلط نابع من ذكرى أيام مضت.»
قالت لورا: «لا تسلط على الإطلاق. كانت مسرورة بقدومها والاضطلاع بهذا العبء. إنها شخصية محبوبة.» «أفضل طريقة لإقناع بات بأن يشارك في الأمر هي بجعلها تبدو جذابة في عينيه.» «إنها جذابة للغاية.» «لا أقصد الأمر على ذلك النحو. ما أقصده هو أن تجعليها بارعة في شيء يعجب به.»
قالت لورا بنبرة مترددة: «إنها خبيرة في صيد السمك بالطعوم الصناعية، لكنني لا أعرف إن كان بات سيجد ذلك مثيرا للإعجاب. إنه يظن أن أي شخص لا يستطيع صيد السمك هو شخص غير طبيعي.» «لا أظن أنك تستطيعين إسباغ ميول ثورية عليها.»
فقالت لورا وقد التمعت عيناها: «ثورية! تلك فكرة جيدة. ثورية. لقد كانت فيما مضى يسارية بعض الشيء. وكانت تقول إنها تفعل ذلك «لمضايقة مايلز وجورجيانا». إنهما والداها. ولم تأخذ هذا الأمر بجدية كبيرة مطلقا؛ فقد كانت جميلة للغاية ولم تحتج إلى أي شيء كهذا. لكن يمكنني أن أبني شيئا على ذلك الأساس. أجل. يمكننا أن نجعل منها ثورية.»
يا للمراوغات التي تلجأ إليها النساء! ذلك ما فكر فيه جرانت وهو يراقب إبرتها وهي تخترق الجورب الصوفي الذي كانت ترتقه، ثم عاد إلى التفكير في مشكلته. وكان لا يزال يفكر فيها حين أوى إلى الفراش. لكن وقبل أن يخلد للنوم قرر أن يكتب إلى برايس في الصباح. في واقع الأمر سيكون خطابا يفيد وصوله إلى هذه الأنحاء الملائمة للصحة وعن أمله في أن تتحسن صحته في وقت أسرع مما حدده له الطبيب، لكن في سياق ذلك سينتهز فرصة أن يصحح موقفه بأن يطلع من يهمهم الأمر على وجود صحيفة الرجل الفرنسي معه.
راح في نوم عميق غير متقطع نجم عن الهواء العليل وصفو سريرته، واستيقظ على صمت مطبق. لم يكن الصمت في الخارج فقط، بل كان المنزل نفسه في حالة من الغشية. وتذكر جرانت فجأة أن اليوم هو يوم الأحد. لن يخرج بريد من الوادي اليوم. سيتعين عليه أن يقطع بخطابه كامل المسافة حتى بلدة سكون.
سأل تومي على الإفطار إن كان بإمكانه أن يستعير السيارة ليذهب إلى سكون ليبعث برسالة مهمة، وعرضت لورا عليه أن تقله بالسيارة. لذا ما إن انتهى الإفطار حتى عاد إلى غرفته ليكتب الرسالة، وفي النهاية كان مسرورا جدا بها. أتى على ذكر مسألة راكب المقصورة «بي 7» في سياق الرسالة بإتقان راف خفي يجعل قطعة لا تنتمي إلى النمط العام لثوب تتواءم معه. قال إنه لم يستطع التخلص من ذكرى العمل بأسرع ما يمكنه؛ لأن أول شيء واجهه في نهاية الرحلة كان جثة هامدة. وأضاف أن مضيفا غاضبا من مضيفي عربات النوم كان يهز الجثة بعنف ظنا منه أن الرجل كان نائما حتى يفيق من سكره فحسب. لكن ذلك لم يكن من شأنه، وحمدا للرب على ذلك. كان دوره الوحيد في هذه المسألة هو أنه اختلس بغير قصد صحيفة من المقصورة. إذ وجدها بين أوراقه حين كان يتناول الإفطار. كانت صحيفة «سيجنال»، وكان سيعتبر أنه من المفروغ منه أنها تخصه لولا أنه وجد أن شخصا ما كان قد خط على عجل بقلم رصاص محاولة شعرية في الجزء الخاص بآخر الأخبار في الصحيفة. كان الشعر بالإنجليزية، وربما لم يكن المتوفى هو من كتبه على الإطلاق. وقد نمى إلى علمه أن التحقيق يجري في لندن. وإن رأى برايس أن لهذا المصدر الصغير للمعلومات أي أهمية فيمكنه أن يسلمه إلى السلطات المعنية.
نزل الدرج ليجد أن أجواء يوم الأحد قد تبددت. كان المنزل يعج بحرب وتمرد. كان بات قد اكتشف أن أحدهم ذاهب إلى بلدة سكون (التي كانت تبدو لعينه الريفية، حتى في يوم الأحد، حاضرة ذات تنوع ممتع)، فأراد أن يذهب هو الآخر إلى هناك. وعلى الجانب الآخر، كانت أمه مصرة على أنه سيذهب إلى مدرسة الأحد كالمعتاد.
كانت تقول: «يجب أن تكون مسرورا بأننا سنوصلك، بدلا من التذمر بشأن عدم رغبتك في الذهاب.»
فكر جرانت أن كلمة «التذمر» كانت غير ملائمة للغاية لوصف المعارضة المستعرة التي اتقد بها بات كالشعلة. كان يهتز ويرتج من شدة معارضته، كأنه سيارة متوقفة ومحركها يعمل.
ذكرته لورا قائلة: «لو لم نكن ذاهبين إلى سكون لكان سيتحتم عليك أن تذهب إلى الكنيسة سيرا كالمعتاد.» «هراء، من الذي يعبأ بالسير؟! نتبادل أنا ودوجي أحاديث شيقة ونحن نسير.» كان دوجي هو ابن الراعي. واستطرد قائلا: «الذهاب إلى مدرسة الأحد مضيعة للوقت حين يمكنني أن أذهب إلى سكون، وهذه حقيقة لا جدال فيها. هذا ليس عدلا.» «بات، لن أسمح لك بأن تشير إلى مدرسة الأحد بأنها مضيعة للوقت.» «لن تنعمي بوجودي على الإطلاق إن لم تكوني حذرة. سأموت من تدهور صحتي.» «أوه. ما الذي من شأنه أن يؤدي إلى ذلك؟» «الافتقار إلى الهواء النقي.»
بدأت تضحك. وقالت: «بات، أنت مدهش!» لكن كان من الخطأ دوما أن تسخر من بات. كان يأخذ الأمور المتعلقة به بجدية بالغة.
قال بمرارة: «حسنا، اضحكي! ستذهبين إلى الكنيسة في أيام الأحد لتضعي أكاليل من الزهور على قبري، هذا ما ستفعلينه في أيام الأحد، وليس الذهاب إلى سكون!» «من المستحيل أن أفعل شيئا بهذا البذخ. كل ما ستحصل عليه مني هو حفنة من أزهار أقحوان المروج بين الحين والآخر حين أكون مارة بالمقابر. اذهب وأحضر كوفيتك؛ ستحتاج إليها.» «سأحضر ربطة عنق! إننا في شهر مارس!» «لا يزال الجو باردا. أحضر كوفيتك. ستساعد في حفظك من تدهور الصحة ذاك.» «يا لاهتمامك الكبير بتدهور صحتي، أنت وأقحواناتك . دائما ما كانت عائلة جرانت حقيرة. حفنة من الحقراء البائسين. أنا مسرور جدا لأنني أنتمي لعائلة رانكن، ومسرور جدا لأنني لست مضطرا لارتداء قماش الطرطان الأحمر المريع الذي ترتديه عائلتكم.» كان إزار بات الأخضر المهترئ بنقش عشيرة ماكنتاير، وهو ما كان يتماشى على نحو أفضل مع شعره الأحمر من نقش عشيرة جرانت الزاهي الألوان. كان هذا النقش يعود لأم تومي، وكونها عضوة صالحة في عشيرة ماكنتاير، كانت مسرورة لرؤية حفيدها يرتدي ما أطلقت عليه «لباسا متحضرا».
سار بخطى متثاقلة إلى المقعد الخلفي من السيارة، وجلس وصدره يجيش بمشاعر مكبوتة، وألقى «ربطة العنق» غير المرضي عنها متنصلا منها فتكومت في أقصى طرف المقعد.
قال وهم يمضون ببطء بالسيارة على الطريق الرملي نحو البوابة، والحصى يندفع من تحت الإطارات: «ليس من المفترض أن يذهب الكفار إلى الكنيسة.»
فسألته أمه وتركيزها على الطريق: «من الكافر؟» «أنا. أنا من أتباع محمد.» «إذن أنت في حاجة ماسة للذهاب إلى كنيسة مسيحية من أجل هدايتك. افتح البوابة يا بات.» «لا رغبة لي في الهداية. أنا راض بحالي كما أنا.» وفتح البوابة وأمسكها ليمرا ثم أغلقها خلفهما. وقال وهو يعاود ركوب السيارة: «أنا أرفض الكتاب المقدس.» «إذن لا يمكن أن تكون تابعا صالحا من أتباع محمد.» «ولم لا؟» «لديهم هم أيضا بعض من الكتاب المقدس.» «أنا متأكد من أن داود ليس لديهم!»
سأله جرانت: «ألا توافق على داود؟» «شخص بائس مثير للشفقة، يرقص ويغني كالمخنثين. لا يوجد شخص واحد في العهد القديم أثق فيه بحيث أذهب معه إلى سوق بيع الأغنام.»
جلس منتصبا في منتصف المقعد الخلفي، مفعما بقدر كبير من التمرد؛ فلم يستطع أن يسترخي، وكانت عيناه القاتمتان ترقبان الطريق أمامه في غضب متسم بشرود الذهن. وخطر في ذهن جرانت أنه ربما كان هو الآخر يريد أن ينزوي بعيدا عن الناس في استياء. سره أن قريبه هذا كان شعلة فظة ومنتصبة من الاستياء وليس كومة صغيرة منهارة من التحسر على الذات.
ترجل الوثني المتضرر من السيارة عند الكنيسة، وهو لا يزال فظا ومنتصبا، وسار مبتعدا من دون أن ينظر خلفه لينضم إلى مجموعة صغيرة من الأطفال بالقرب من الباب الجانبي.
سأل جرانت لورا، بينما كانت تعاود التحرك بالسيارة: «ها قد صار في مدرسة الأحد، فهل سيحسن التصرف؟» «أوه، أجل. إنه يحبها حقا. وبالطبع دوجلاس سيكون هناك: إنه مخلص له كإخلاص يوناثان لداود. إن اليوم الذي لا يستطيع فيه أن يقضي جزءا منه في توبيخ دوجي وإملاء الأوامر عليه هو بمثابة يوم ضائع. لم يعتقد حقا أنني سأسمح له أن يأتي إلى بلدة سكون بدلا من الذهاب إلى مدرسة الأحد. إنما كانت محاولة منه.» «كانت محاولة مؤثرة للغاية.» «أجل. يتمتع بات بمواهب تمثيلية رائعة.»
قطعا ميلين آخرين قبل أن تتلاشى أفكاره عن بات من ذهنه. عندئذ، على نحو مفاجئ نوعا ما، وفي ظل الفراغ الذي خلفه رحيل بات، أدرك أنه في سيارة. إنه محبوس في سيارة مغلقة. على الفور توقف عن كونه رجلا بالغا يشاهد، في أناة واستمتاع، تصرفات طفل غير منطقية، وصار طفلا يشاهد، في تلعثم وذعر، التقدم العدائي لعمالقة.
فأنزل النافذة التي على جانبه عن آخرها. وقال: «أعلميني إن كنت تشعرين أن الهواء كثير جدا عليك.»
فقالت: «لقد أمضيت وقتا طويلا للغاية في لندن.» «كيف ذلك؟» «وحدهم الأشخاص الذين يعيشون في المدن هم من يكونون مدمنين للهواء النقي. أما أهل الريف فيرغبون في جو فاسد لطيف باعتباره تغييرا من الهواء الطلق اللامحدود.»
قال جرانت: «سأرفعها إن أردت»، رغم أن فمه كان متيبسا من الجهد الذي بذله لينطق بهذه الكلمات.
فقالت: «لا، بالطبع لا»، وبدأت تتحدث عن سيارة كانا قد طلباها.
وهكذا بدأت المعركة القديمة نفسها. نفس المجادلات والحيل والمداهنات. إشاراته إلى النافذة المفتوحة، وتذكير نفسه بأنها مجرد سيارة ويمكن إيقافها في أي لحظة، والرغبة في التفكير في موضوع يبعد كل البعد عن الوقت الراهن، وإقناعه لنفسه بأنه محظوظ لأنه على قيد الحياة أصلا. لكن مد شعوره بالذعر بدأ يرتفع منذرا بخطر وتهديد بغيضين. مد أسود خبيث ، مزبد وهائج. كان الآن يحيط بصدره، ويضغط عليه ويحبس أنفاسه، حتى إنه كان بالكاد يستطيع التنفس. والآن وصل إلى حلقه، وشعر به يلتف حول قصبته الهوائية، ويقبض على رقبته كالكماشة. في لحظة سيكون في فمه. «لالا، توقفي!»
سألته في دهشة: «أوقف السيارة؟» «أجل.»
أوقفت السيارة تماما، فترجل منها على قدمين مرتعشتين وانحنى على الحاجز الحجري الجاف يشهق محاولا أن يستنشق أكبر قدر من الهواء النقي.
فسألته لورا في قلق: «هل تشعر بتوعك، يا ألان؟» «لا، إنما أردت أن أخرج من السيارة فحسب.»
فقالت بنبرة ارتياح: «أوه، أهذا كل شيء؟!» «أهذا «كل شيء»؟» «أجل؛ رهاب الأماكن المغلقة. كنت أخشى أن تكون سقيما.»
فقال في مرارة: «ألا تسمين ذلك سقما؟» «بالطبع نعم. كدت أموت من الرعب مرة، حين أخذوني لرؤية كهوف شيدر. لم أكن قد دخلت كهفا من قبل.» كانت قد أطفأت المحرك، وكانت حينئذ جالسة على صخرة على جانب الطريق وتكاد توليه ظهرها. وتابعت: «عدا جحور الأرانب تلك التي كنا نطلق عليها كهوفا في شبابنا.» رفعت لورا علبة سجائرها إليه. واستطردت: «لم أكن قد ذهبت تحت الأرض من قبل، ولم يكن لدي مانع من الذهاب على الإطلاق. بل ذهبت وأنا مفعمة بالحماسة والسرور، وكنت على بعد نصف ميل من مدخل الكهف حين صدمني الأمر. كنت أتعرق من شدة الذعر. هل يصيبك ذلك كثيرا؟» «أجل.» «أتعرف أنك الشخص الوحيد الذي ما زال يناديني لالا أحيانا؟ نحن نتقدم بالعمر كثيرا.»
نظر حوله ثم نظر إليها، وكان التوتر يتلاشى من محياه. «لم أكن أعلم أنك تعانين من أي مخاوف غير الجرذان.» «أوه، أجل. لدي تشكيلة كبيرة منها. الجميع لديهم، على ما أظن. على الأقل كل من ليس أحمق. إنني أحافظ على هدوئي لأنني أعيش حياة هادئة وأزداد في الوزن. لو كنت أفرط في العمل على النحو الذي تفعله أنت، لأصبحت مهووسة جامحة. كنت سأصاب على الأرجح برهاب الأماكن المغلقة ورهاب الخلاء، وكنت سأحقق سابقة طبية تاريخية. بالطبع، سيجد المرء سلوى كبرى في كونه موجودا في دورية «ذا لانسيت».»
ترك الاتكاء على الجدار وجلس إلى جوارها. وقال: «انظري»، ثم رفع يده المرتعشة التي يمسك بها سيجارته لتراها. «مسكين أنت يا ألان.»
فقال موافقا: «ألان مسكين بالفعل. لم ينتج ذلك عن كوني في الظلام تحت الأرض على عمق نصف ميل، لكنه عن كوني راكبا في سيارة نوافذها مفتوحة عن آخرها في ريف مفتوح صباح يوم أحد جميل وفي بلد حر.» «لم ينتج عن ذلك، بالطبع.» «لم ينتج عن ذلك؟» «نتج عن أربع سنوات من العمل المستمر المضني والتركيز المفرط. كنت دائما داهية فيما يتعلق بالتركيز. يمكن أن تكون متعبا كثيرا. هل تفضل أن تعاني من رهاب الأماكن المغلقة أم من سكتة دماغية؟» «سكتة دماغية؟» «إن كنت تعمل حتى تكاد تقتل نفسك، فعليك أن تدفع لقاء ذلك بطريقة أو بأخرى. فهل تفضل أن تدفع بالطريقة الجسدية الأكثر اعتيادا كارتفاع ضغط الدم أم إجهاد في القلب؟ من الأفضل أن تخاف من أن تكون في سيارة مغلقة من أن تكون جالسا على كرسي متحرك. على الأقل سيكون لديك وقت لا تكون فيه خائفا. إن كنت تكره فكرة معاودة ركوب السيارة بالمناسبة، فيمكنني أن أتابع المضي إلى سكون بخطابك وأقلك لدى عودتي.» «أوه، لا، سأتابع المضي.» «كنت أظن أن من الأفضل ألا تقاوم الأمر، أليس كذلك؟» «هل صرخت حين كنت على بعد نصف ميل تحت الأرض في كهوف شيدر؟» «لا. لكنني لم أكن عينة مرضية تعاني من الإفراط في العمل.»
ابتسم فجأة. وقال: «أمر غير عادي أن يشعر المرء بالراحة حين يوصف بأنه عينة مرضية. أو بالأحرى، أن يدعى عينة مرضية بتلك النبرات تحديدا.» «أتذكر اليوم الذي أمضيناه في فاريسي حين أمطرت السماء وذهبنا إلى المتحف ورأينا تلك العينات في الزجاجات؟» «أجل، لقد أصبت بالغثيان على الرصيف بالخارج.»
فقالت على الفور: «لقد أصبت بالغثيان حين تناولنا قلوب الأغنام على الغداء لأنك رأيتها وهم يحشونها.»
قال وقد بدأ يضحك: «لالا، يا عزيزتي. لم تكبري يوما واحدا.»
فقالت وهي غارقة في تلك الومضة من الطفولة: «في الواقع، من اللطيف أنه ما زال بوسعك أن تضحك، حتى وإن كان فقط ضحكا مني. أخبرني حين تود متابعة المضي.» «الآن.» «الآن؟ أأنت واثق؟» «واثق جدا. أجد أن لتسميتي عينة مرضية خصائص علاجية مدهشة.»
فقالت بطريقة عملية: «حسنا، في المرة القادمة لا تنتظر حتى تصل إلى حد الاختناق.»
لم يعرف أي الأمرين وجده مطمئنا أكثر: إدراكها أن ما يخالجه كان نوعا من الاختناق أم تقبلها للجنون كأمر واقع.
الفصل الرابع
إن كان جرانت قد تخيل أن رئيسه في العمل سيكون مسرورا، سواء بإمكانية تعافيه المبكر أو بدقته في أمر الصحيفة، فقد كان مخطئا. كان برايس لا يزال غريما له أكثر من كونه زميلا. واحتوى رده على الكثير من التوجيهات التي كانت مطابقة لشخصيته. وبعدما قرأ الرد، فكر جرانت أن برايس هو الوحيد الذي يمكن أن يجمع بين الأمر ونقيضه بنجاح كبير. ففي الفقرة الأولى وبخ جرانت على سلوكه غير المهني بأخذ أي شيء كان موجودا في محيط حالة وفاة مفاجئة وغير مبررة. وفي الفقرة الثانية فوجئ بأن جرانت فكر في إزعاج إدارة كثيرة المشاغل بأمر تافه كأمر الصحيفة المختلسة، لكنه افترض أن انفصال جرانت عن بيئة العمل ساهم بلا شك في افتقاره إلى الحكم الصحيح. ولم تكن توجد فقرة ثالثة.
ما استنتجه جرانت من هذه الورقة المكتبية النحيلة المألوفة كان انطباعا قويا بأنه لم يقدر حق قدره، وإنما اعتبر دخيلا. كان ما قاله الخطاب حقا هو: «لا يمكنني أن أتخيل لم تزعجنا يا ألان جرانت سواء بأمر إبلاغك عن صحتك أو بأمر اهتمامك بعملنا. نحن لسنا مهتمين بالأمر الأول، والأمر الثاني ليس من شأنك.» كان جرانت دخيلا. كان منشقا.
والآن فقط، بعد أن قرأ الخطاب الزاجر وبعد أن أغلق الباب بكل عنف في وجهه، أدرك أن وراء حاجته الواعية لتصويب الأمور مع إدارة الشرطة بشأن الصحيفة المختلسة رغبة في التشبث براكب المقصورة «بي 7». إذ كان خطابه وسيلة للحصول على المعلومات بقدر ما كان اعتذارا من جانبه . لم يعد يوجد أمل في الحصول على معلومات من الصحافة. لم يكن راكب المقصورة «بي 7» يمثل خبرا جديرا بالاهتمام. كل يوم يموت الناس في القطارات. ولا يوجد ما يثير اهتمام الناس في ذلك. وفيما يخص الصحافة كان راكب المقصورة «بي 7» قد مات مرتين، مرة في الحقيقة ومرة باعتباره خبرا جديرا بالاهتمام. لكنه أراد أن يعرف المزيد عن راكب المقصورة «بي 7»، وكان يتمنى من دون إدراك منه أن يحدثه زملاؤه في العمل عن الموضوع.
وفكر جرانت، بينما كان يمزق الورقة ويلقيها في سلة المهملات، أنه ربما كان يعرف برايس على نحو أفضل. لكن، كان يوجد دائما الرقيب ويليامز، وحمدا للرب على ذلك؛ ويليامز المخلص. سيتساءل ويليامز عن السبب وراء اهتمام شخص في مثل رتبته وخبرته بجثة مجهولة رآها مرة واحدة للحظات، لكنه كان على الأرجح سيرجع سبب ذلك إلى السأم. على أي حال لن يكون ويليامز بخيلا في تبادل الحديث. لذا فقد كتب إلى ويليامز. طلب من ويليامز أن يكتشف نتيجة التحقيق بشأن شاب، هو شارل مارتن، توفي ليلة الخميس قبل أسبوع على متن القطار الليلي المتجه إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية؛ وأي شيء آخر عن ذلك الشاب يمكن أن يكون قد ظهر أثناء سير التحقيق. وقدم في النهاية أطيب التحيات إلى زوجته السيدة ويليامز وأنجيلا وليونارد.
ولمدة يومين استرخى جرانت في نوع من السعادة المتسمة بالتلهف انتظارا لرد ويليامز. تفقد نهر تورلي غير الصالح للصيد، بركة تلو بركة، وجلفط القارب الموجود في بحيرة لوخان دهو بمادة عازلة للماء، وعبر التل سيرا بصحبة جراهام الراعي وتونج وزانج في أعقابهما تقريبا، واستمع إلى خطة تومي لإقامة ملعب جولف خاص ذي تسع حفر بين المنزل وسفح التل. وفي اليوم الثالث عاد أدراجه وقت وصول البريد تحدوه لهفة لم يعرفها منذ كان في التاسعة عشرة من عمره، وكان معتادا على إرسال قصائده للمجلات.
ولم يكن عدم تصديقه المشدوه، حين لم يجد أي بريد له، أقل حدة مما كان في سنوات الفتوة تلك.
ذكر نفسه بأنه يتصرف بطريقة غير عقلانية. (الخطيئة التي لا تغتفر، دائما، في تقدير جرانت.) لم يكن التحقيق ذا صلة بالإدارة. ولم يكن حتى يعرف أي شعبة تولت المهمة. سيتحتم على ويليامز أن يكتشف ذلك. وقد كان لويليامز عمله؛ عمل يومي مدته أربع وعشرون ساعة. لم يكن عقلانيا أن يتوقع منه أن يتخلى عن كل شيء من أجل أن يجيب عن تساؤلات عبثية لزميل يقضي إجازته.
انتظر يومين آخرين، ثم جاءت الرسالة.
كتب ويليامز أنه يأمل أن جرانت لم يكن متلهفا على العمل. كان من المفترض أنه في راحة، وكل من في القسم كانوا يأملون أنه يحصل على راحة فعلا (ليس الجميع! كذلك فكر جرانت، متذكرا برايس) ويشعر بتحسن. كانوا يفتقدونه بشدة. أما عن شارل مارتن، فلم يكن يوجد أي غموض بشأنه. أو بشأن وفاته، إن كان ذلك هو ما كان جرانت يفكر فيه. لقد ارتطم مؤخر رأسه بحافة حوض غسيل اليد المصنوع من البورسلين، ومع أنه استطاع أن يزحف في الأرجاء قليلا على يديه وركبتيه وتمكن في النهاية من الوصول إلى السرير، فإنه توفي جراء نزيف داخلي بعد فترة وجيزة جدا من سقوطه. وحقيقة أنه سقط للخلف من الأساس كانت ترجع إلى كمية الويسكي الصافي التي شربها. لم تكن تلك الكمية كافية لأن تجعله في حالة سكر، لكنها كانت كافية لأن تجعله مشوش الذهن، وقد تكفل ميل العربة، وهي تغير اتجاهها، ببقية الأمر. وكذلك لم يكن يوجد أي غموض بشأن الشاب نفسه. فقد كان بحوزته حزمة الأوراق المعتادة التي تشير إلى هويته الفرنسية، وأهله لا يزالون يعيشون في عنوان منزله بالقرب من مارسيليا. لم يكن أهله قد رأوه منذ سنوات - إذ كان قد غادر المنزل بعد أن وقع في مشكلة بسبب طعنه لفتاته في نوبة غضب ناجمة عن الشعور بالغيرة - لكنهم أرسلوا المال لدفنه حتى لا يدفن في مقابر الفقراء.
أثارت هذه الرسالة شهية جرانت لمعرفة المزيد بدلا من أن تشبعه.
وبحسب تقدير جرانت، فقد انتظر حتى استقر ويليامز برحابة صدر إلى غليونه وصحيفته، بينما كانت السيدة ويليامز تصلح الثياب وأنجيلا وليونارد يؤديان واجباتهما المنزلية، ثم اتصل به هاتفيا. كان يوجد دائما احتمال أن ويليامز كان في الخارج يطارد الأشرار عبر الطرق الملتوية لمساكنهم، لكن كان ثمة احتمال أيضا أنه كان في البيت.
وقد كان في البيت.
وحين شكره جرانت، على النحو الواجب، على رسالته، قال: «قلت إن أهله أرسلوا أموالا لدفنه. ألم يأت أي أحد للتعرف عليه؟» «نعم؛ لقد تعرفوا على صورته الفوتوغرافية.» «صورة فوتوغرافية له عندما كان حيا؟» «لا، لا. صورة فوتوغرافية للجثة.» «ألم يظهر أي أحد للتعرف عليه في لندن؟» «ولا أحد، على ما يبدو.» «هذا غريب.» «ليس غريبا جدا إن كان شابا مخادعا. فالمخادعون لا يريدون المشكلات.» «هل كانت توجد أي إشارة تفيد أنه كان مخادعا؟» «لا، لا أظن ذلك.» «ماذا كان عمله؟» «ميكانيكيا.» «هل كان معه جواز سفر؟» «لا. الأوراق المعتادة فحسب. وخطابات.» «أوه، كان معه خطابات؟» «أجل؛ الخطابان أو الثلاثة خطابات المعتادة التي يحملها الناس. كان أحدها من فتاة تقول إنها ستنتظره. هكذا ستنتظره لبعض الوقت.» «أكانت الخطابات بالفرنسية؟» «أجل.» «أي أموال كان يحملها؟»
فأجاب: «انتظر حتى أجد ملاحظاتي. حسنا. اثنان وعشرون، عشرة على هيئة أوراق نقدية مختلطة؛ وثمانية عشرة وبنسان ونصف بنس من الفضة والنحاس.» «كلها إنجليزية؟» «أجل.» «بناء على عدم وجود جواز سفر والنقود الإنجليزية يبدو أنه كان في إنجلترا لفترة طويلة. أتساءل لماذا لم يأت أحد ليأخذ جثته.» «ربما لم يعرفوا بعد أنه مات. لم ينل الأمر الكثير من الضجة الإعلامية.» «ألم يكن له أي عنوان في بريطانيا؟» «لم يكن يحمل عنوانا. ولم تكن الخطابات في مظاريف: فقط كانت في محفظته فحسب. على الأرجح أن أصدقاءه سيظهرون فيما بعد.» «أيعرف أي أحد إلى أين كانت وجهته؟ أو لماذا؟» «لا، لا يبدو ذلك.» «ما الأمتعة التي كان يحملها؟» «حقيبة رحلات. قميص، وجورب، ومنامة وخف لغرفة النوم. ولا توجد أدلة على غسلها.» «ماذا؟ لماذا؟ هل كانت ثيابه جديدة؟» «لا، أوه، لا.» بدا ويليامز مستمتعا بشك جرانت المفرط. وأردف: «بل ارتداها كثيرا.» «هل اسم صانع الخف مدون عليه؟» «لا، إنه خف جلدي سميك مصنوع يدويا كالذي تجده في أسواق شمال أفريقيا ومواني البحر المتوسط.» «ماذا غير ذلك؟» «في الحقيبة؟ العهد الجديد باللغة الفرنسية، ورواية ذات غلاف ورقي أصفر، وهي باللغة الفرنسية أيضا. وكلاهما ليس جديدا.»
قال موظف مكتب البريد: «لقد انتهت دقائقك الثلاث.»
حظي جرانت بثلاث دقائق أخرى، لكنه لم يحقق أي تقدم نحو الوقوف على توضيح بشأن راكب المقصورة «بي 7». وفيما عدا حقيقة أنه لم يكن له أي سجل جنائي لا في فرنسا (حيث كانت واقعة الطعن مجرد حادثة عنف منزلي) ولا في بريطانيا، لم يكن معروفا عنه أي شيء. كان نمطيا بالفعل أن الأمر الإيجابي الوحيد حياله لا بد أن يكون أمرا قائما على النفي.
قال ويليامز: «بالمناسبة، حين كنت أكتب نسيت تماما أن أجيبك على التذييل الذي أوردته في خطابك.»
فسأله جرانت: «أي تذييل؟» ثم تذكر أنه كان قد كتب فكرة لاحقة نصها ما يأتي: «إن لم يكن لديك شيء أفضل لتفعله فيمكنك أن تسأل رجال فرع الأمن القومي إن كان لديهم أي اهتمام على الإطلاق برجل يدعى أرشيبالد براون. إنه وطني اسكتلندي. اسأل عن تيد هانا وأخبره أنني من يسأل.» «أوه، أجل، بالطبع. بشأن ذلك الوطني. هل كان لديك وقت لتفعل أي شيء حيال الأمر؟ لم يكن بالأمر المهم.» «في الواقع، بالصدفة، قابلت المرجع الذي أشرت إليه على متن حافلة متجهة إلى وايت هول، يوم أول أمس. يقول إنه ليس لديه شيء ضد عصفورك، لكنهم يرغبون كثيرا في معرفة هوية الغربان. هل تعرف عم كان يتحدث؟»
قال جرانت مندهشا: «أظنني أعرف. سأبذل قصارى جهدي لأكتشف حقيقتهم. أخبره أنني سأفعل ذلك كجزء من واجبي أثناء الإجازة.» «رجاء، اصرف ذهنك عن العمل، وتعاف بما يكفي لأن تعود إلى هنا قبل أن ينهار المكان في غيابك.» «الحذاء الذي كان يرتديه: أين صنع؟» «من الذي كان يرتديه؟ أوه. أجل. في كراتشي.» «أين؟» «كراتشي.» «أجل، هذا ما ظننت أنك قلته. يبدو أنه كان يتجول. ولا يوجد اسم على صفحة غلاف العهد الجديد؟» «لا أظن ذلك. لا أظن أنني دونت أي ملاحظات عن ذلك حين قرأت الأدلة. انتظر لحظة. أوه، أجل، لقد فعلت. لا يوجد اسم.» «ولا يوجد أحد في قسم «المفقودين» يشبهه؟» «لا. لا أحد. ولا أحد حتى يقترب منه في الشبه. إنه ليس «مفقودا» من أي مكان.» «حسنا، كان رائعا منك أن تتكبد كل هذا العناء من أجلي بدلا من أن تخبرني أن أصطاد في غديري وألا أتدخل فيما لا يعنيني. يوما ما سأفعل لأجلك مثلما فعلت لأجلي.» «هل الأسماك الموجودة في غديرك تعض؟» «لا يوجد أي غدير، والأسماك تختبئ خوفا في أعمق تجاويف البحيرات المتبقية. ذلك هو السبب الذي يجبرني على الاهتمام بقضايا لا تستحق لمحة اهتمام حقيقي في أماكن مزدحمة مثل المناطق الجنوبية الغربية.»
لكنه كان يعلم أن الأمر لم يكن على هذا النحو. لم يكن الملل هو ما دفعه إلى هذا الاهتمام براكب المقصورة «بي 7». كاد أن يقول «هذا الائتلاف». كان يشعر بشعور غريب من التماثل مع راكب المقصورة «بي 7». ليس بمعنى وجود وحدة بينهما، وإنما بمعنى أن بينهما تماثلا في الاهتمامات. وفي ضوء حقيقة أنه لم يره إلا مرة واحدة ولم يكن يعرف أي شيء عنه، فإن هذا كان أمرا غير معقول للغاية. هل كان تفسير ذلك أنه ربما كان يظن أن راكب المقصورة «بي 7» كان هو الآخر يصارع شياطينه؟ هل بدأ الشعور بالاهتمام الشخصي، أو المناصرة، بهذا الشكل؟
كان قد افترض أن فردوس راكب المقصورة «بي 7» هو غياهب النسيان. كان قد افترض ذلك بسبب جو المقصورة الذي كان مفعما برائحة الويسكي. لكن الشاب في نهاية المطاف لم يكن ثملا للغاية. بالفعل لم يكن في حالة سكر شديد. إنما كان مخمورا قليلا. وسقوطه للخلف وارتطامه بكتلة الحوض المستديرة الصلبة من الأمور التي يمكن أن تحدث لأي أحد. لذا فإن فردوسه المحروس بطريقة غريبة جدا لم يكن في نهاية المطاف هو غياهب النسيان .
ثم استعاد انتباهه لما كان يقوله ويليامز. «ما الأمر؟» «نسيت أن أخبرك أن مضيف عربة النوم يعتقد أن مارتن تلقى زيارة من شخص ما في يوستن.» «ولم تذكر هذا إلا في النهاية؟» «في الواقع، أظن أنه لم يكن ذا نفع كبير على أي حال؛ أعني ذلك المضيف. بدا أنه كان يتعامل مع الأمر برمته على أنه إهانة شخصية له، هكذا قال الرقيب الذي كان هناك.»
بدا أن يوجورت العجوز كان يتصرف حسبما هو متوقع منه. «ماذا قال؟» «قال إنه حين كان يسير في الممر، في يوستن، كان مع مارتن شخص آخر في المقصورة. رجل آخر. ولم ير الرجل لأن مارتن كان يقف في مواجهته، وكان باب المقصورة مواربا؛ لذا فإن كل ما لاحظه هو أن مارتن كان يتحدث مع رجل آخر. كانا يبدوان سعيدين وودودين. وكانا يتحدثان عن سرقة فندق.» «ماذا!» «أترى ما أرمي إليه؟ لقد قال قاضي التحقيق «ماذا!» هو الآخر. قال مضيف عربة النوم إنهما كانا يتحدثان عن «سرقة كالي»؛ وحيث إنه ليس بمقدور أحد أن يسرق فريقا لكرة القدم، فلا بد أنهما كانا يقصدان فندقا. يبدو أن كل الفنادق في اسكتلندا التي لا تسمى ويفرلي تدعى كاليدونيان. والاسم الدارج لها هو «كالي». وقال إنهما لم يكونا جادين في ذلك.» «وذلك هو كل ما رآه وعرفه عن المودع؟» «أجل، ذلك كل شيء.» «ربما لم يكن مودعا على الإطلاق. ربما كان صديقا صادفه على القطار. أو رأى اسمه في قائمة عربات النوم، أو لاحظه أثناء مروره.» «أجل، غير أنك ستتوقع أن يظهر هذا الصديق مرة أخرى في الصباح.» «ليس بالضرورة. خاصة إذا كان في نهاية القطار. كما أن رفع الجثة جرى بتكتم شديد بحيث أشك أن أيا من الركاب علم بموت أحد على متن القطار. وكانت المحطة خالية من الركاب قبل وصول سيارة الإسعاف بوقت طويل. أعرف هذا لأن جلبة وصول سيارة الإسعاف كانت تحدث حين كدت أنتهي من تناول إفطاري.» «أجل. قال مضيف عربة النوم إنه اعتبر أن من المسلم به أن الرجل الآخر كان مودعا لأنه كان واقفا مرتديا قبعة ومعطفا. ويقول إنه في معظم الأحيان حين يذهب الناس لتناول القهوة على متن القطار فإنهم يخلعون قبعاتهم. يقول إن أول شيء يفعلونه هو إلقاء قبعتهم على حمالة. أقصد حين يصلون إلى مقصوراتهم.» «بمناسبة الحديث عن الأسماء في قائمة عربات النوم، كيف حجزت مقصورة النوم؟» «بالهاتف، لكنه أخذ التذكرة بنفسه. أو على الأقل، أخذها رجل نحيل داكن البشرة. وحجزت قبل أسبوع من موعد القطار.» «حسنا. أكمل بشأن يوجورت.» «بشأن من؟» «بشأن مضيف عربة النوم.» «أوه، حسنا. قال إنه حين كان يسير على متن القطار يجمع التذاكر، قبل بلوغ يوستن بعشرين دقيقة، كان مارتن قد ذهب إلى المرحاض، لكن تذكرة مقصورة النوم وقسيمة الذهاب من تذكرته إلى سكون كانتا جاهزتين على الرف الصغير تحت المرآة. فأخذهما ووضع عليهما علامة في سجله، وبينما كان يمر بالمرحاض طرق على الباب وقال: «هل أنت الذي في المقصورة «بي 7» يا سيدي؟» فرد مارتن بالإيجاب. فقال المضيف: «لقد أخذت تذكرتيك، شكرا لك يا سيدي. هل سترغب في تناول الشاي صباحا؟» فقال مارتن: «لا، شكرا لك، طابت ليلتك.»» «إذن كانت معه تذكرة عودة.» «أجل. كانت تذكرة العودة في محفظته.» «حسنا، كل شيء واضح بما فيه الكفاية، على ما يبدو. فحتى عدم وجود شخص يسأل عنه أو يطالب بجثته قد يكون لأنه انطلق في رحلة ولم يتوقع الناس أن يسمعوا أخبارا عنه.» «وإلى جانب ذلك عدم الإعلان عن الأمر. لا أظن أن أهله حتى كلفوا أنفسهم عناء وضع إعلان عنه في صحيفة إنجليزية؛ فقد يعلنون عن الأمر محليا فقط حيث كان يعرفه الناس.» «ماذا قال تقرير تشريح ما بعد الوفاة؟» «أوه، المعتاد. تناول وجبة خفيفة قبل ما يقرب من ساعة من موته، وتوجد كمية كبيرة من الويسكي في معدته وكمية لا بأس بها في دمه. وهو ما يكفي لجعله ثملا.» «ألا توجد إشارة إلى أنه أسرف في الشراب؟» «أوه، لا. لا توجد أي مشكلة من أي نوع. كانت إصابات الرأس والكتف قد وقعت له في وقت أسبق، لكنه بخلاف ذلك كان يتمتع بصحة جيدة. ناهيك عن كونه صلب العود.» «إذن فقد حدثت له إصابات أسبق؟» «أجل، لكن قبل وقت طويل. أقصد، ليست ذات صلة بهذه المسألة. في وقت ما كان قد أصيب بشرخ في الجمجمة وكسر في الترقوة. هل سيكون سوء سلوك أو فضولا من جانبي أن أسألك عن سبب كل هذا الاهتمام بحادثة بسيطة؟» «أقسم أيها الرقيب، لو كنت أعلم لأخبرتك. أظن أنه لا بد أنني أصبحت أتصرف تصرفات صبيانية.»
قال ويليامز بتعاطف: «المرجح أكثر أنك تشعر بالضجر فحسب. لقد ترعرعت في الريف ولم أكن يوما شخصية مملة تحب الرتابة. الريف مكان مبالغ في تقديره. كل شيء بعيد للغاية. حين يبدأ غديرك ذاك يفيض ستنسى أمر السيد مارتن. إنها تمطر بغزارة شديدة هنا؛ لذا من المرجح أنك لن تنتظر طويلا حتى يأتي المطر.»
في واقع الأمر، لم تمطر تلك الليلة في وادي نهر تورلي، ولكن حدث شيء آخر. حلت ريح خفيفة محل السكون البارد الأبلج. كانت الريح لطيفة ودافئة، وبين هبات الريح كان الهواء رطبا ثقيلا، والأرض رطبة وزلقة، ومن فوق القمم المرتفعة أتت المياه المثلجة تملأ مجرى النهر ما بين ضفتيه. وعلى الماء البني المتسارع في جريانه أتى السمك يومض بألوان فضية تحت الضوء، بينما يتقافز فوق حواف الصخور المكسورة ومع التيار المتدفق المحدود بين الجلاميد. أخذ بات اختراعه الثمين من حقيبته التي تحتوي على طعوم الصيد (حيث كان له مقصورة خاصة به)، وقدمه إلى جرانت في دماثة رسمية لناظر مدرسة يقدم شهادة. وقال: «ستعتني به، أليس كذلك؟ لقد استغرقت وقتا طويلا في صنعه.» كان الشيء، كما قالت أمه، مخيفا. فكر جرانت أنه ربما كان نوعا ما يشبه شيئا يوضع في قبعة امرأة، لكنه كان يدرك أنه اختص من بين الرجال بأن يكون المتلقي الوحيد الجدير بمثل هذا الشرف، فقبل به بالامتنان الواجب. وضعه جانبا في مأمن في حقيبته الخاصة، وكان يأمل أن بات لن يشرف على جهوده إلى حد جعله يستخدمه. لكن في كل مرة كان يختار طعما صناعيا جديدا في الأيام التالية، كان يلمح الشيء المخيف ويثلج صدره رضا قريبه الصغير عنه.
أمضى أيامه بجوار نهر تورلي سعيدا ومسترخيا فوق المياه البنية المتدفقة. كانت المياه صافية كشراب الشعير وزبدها أبيض رغويا؛ وقد ملأت أسماعه بالموسيقى وأيامه بالبهجة. وبلل الهواء الرطب الخفيف قماش سترته الصوفية بندى ناعم، وسقطت قطرات الماء من أغصان البندق على مؤخرة عنقه.
وطيلة أسبوع تقريبا لم يكن يفكر إلا في السمك، ولا يتحدث إلا عنه، ولا يأكل غيره.
ثم ذات مساء، أثناء جلوسه عند بركته المفضلة تحت الجسر المتأرجح، حدث ما أذهله وأخرجه من حالة الرضا عن الذات.
رأى وجه رجل في الماء.
ارتعدت فرائصه طويلا قبل أن يدرك أن الوجه لم يكن تحت سطح الماء، إنما في عينيه. كان الوجه الذي يراه هو ذلك الوجه الميت الشاحب ذو الحاجبين الجامحين.
أطلق لعنة، وأطلق طعم جوك سكوت نحو أقصى البركة، مصدرا صفيرا حادا. كان قد انتهى من أمر راكب المقصورة «بي 7». كان قد اهتم براكب المقصورة «بي 7» في ظل سوء فهم تام للموقف. إذ كان قد ظن أن راكب المقصورة «بي 7» تطارده الشياطين هو الآخر. وكان قد رسم لنفسه صورة مغلوطة تماما عن راكب المقصورة «بي 7». اختزل فردوس ذلك السكير في المقصورة «بي 7» إلى زجاجة ويسكي مقلوبة. زال عنه اهتمامه براكب المقصورة «بي 7»؛ فهو شاب عادي تماما، يتفجر صحة وقوة إلى حد صلابة العود، وكان قد أفرط في شرب الكحوليات أثناء رحلة ليلية، وأنهى حياته بطريقة مهينة للغاية؛ حيث سقط على ظهره ثم راح يزحف على يديه وركبتيه حتى توقف عن التنفس.
قال له صوت من داخله: «لكنه كتب تلك الأبيات عن الفردوس.»
فرد على الصوت قائلا: «لم يفعل. لا يوجد أدنى دليل على أنه فعل أي شيء من هذا القبيل.» «لدينا وجهه. إنه وجه غير عادي. كان الوجه الذي استسلمت له في البداية. قبل أن تبدأ في التفكير في فردوسه من الأساس بوقت طويل.»
فقال: «لم أستسلم. في عملي يهتم المرء بالناس بصورة تلقائية.» «حقا؟ أتقصد أنه لو كان شاغل تلك المقصورة التي تعج برائحة الويسكي بائعا متجولا بدينا، ذا شارب يشبه سياجا لا يلقى العناية الكافية، ووجه كحلوى بودنج مغلية، كنت ستظل مهتما به؟» «ربما.» «أيها الوغد الكاذب المخادع. كنت بطل راكب المقصورة «بي 7» في اللحظة التي رأيت وجهه فيها ولاحظت الخشونة التي كان يوجورت يعامله بها. لقد انتزعته من قبضة يوجورت وعدلت سترته كأم حنون تغطي وليدها بشالها.» «اخرس.» «لقد أردت أن تعرف عنه المزيد ليس لأنك ظننت أنه كان ثمة شيء غريب بشأن وفاته، وإنما لأنك، ببساطة شديدة، أردت أن تعرف عنه المزيد. كان يافعا وميتا، وقد كان قبلها متهورا وعلى قيد الحياة. أردت أن تعرف كيف كانت حياته حين كان متهورا وعلى قيد الحياة.» «حسنا، كنت أريد أن أعرف. وأريد أيضا أن أعرف من سيركب جواد لينكولنشاير المفضل، والسعر الذي وصلت إليه أسهمي في سوق اليوم، ولوحة جون كاي التالية؛ لكن النوم لا يجافيني بشأن أي من هذه الأمور.» «صحيح، كما أنك لا ترى وجه جون كاي بينك وبين الماء.» «ليس لدي أي نية لرؤية وجه أحد بيني وبين النهر. «لا شيء» سيحول بيني وبين النهر. لقد أتيت إلى هنا من أجل صيد السمك، ولن يفسد أي شيء علي ذلك.» «لقد أتى راكب المقصورة «بي 7» إلى الشمال ليفعل شيئا هو الآخر. ماذا كان ذلك يا ترى؟» «كيف لي أن أعرف؟» «لا يمكن أن يكون هذا الشيء هو صيد السمك، على أي حال.» «ولم لا؟» «لا يمكن لشخص يقطع خمسمائة أو ستمائة ميل من أجل صيد السمك ألا تكون معه تجهيزات صيد من نوع ما. لو كان حريصا على ذلك بهذا القدر فعلى الأقل كان سيحمل معه طعومه المفضلة، حتى ولو كان سيستأجر صنارة.» «أجل.» «ربما كانت فردوسه هي «تير نان أوج» الأسطورية. كما تعلم: «تير نان أوج» الغيلية. سيكون ذلك مناسبا.» «كيف سيكون مناسبا ؟» «من المفترض أن «تير نان أوج» تقع بعيدا نحو الغرب، خلف الجزر الخارجية. أرض اليافعين. أرض الشباب الأبدي، تلك هي الفردوس الغيلية. وما الذي «يحرس الطريق» إليها؟ جزر بها رمال تغني، على ما يبدو. جزر بها صخور منتصبة تشبه رجالا يسيرون.» «والوحوش المتكلمة؟ هل تجدها في الجزر الخارجية أيضا؟» «أجل.» «أجل؟ ما هي؟» «الفقمات.» «أوه، اغرب عن وجهي ودعني وحدي. أنا مشغول. إنني أصطاد.» «ربما تصطاد، لكنك لا تمسك بأي شيء على الإطلاق. وربما أيضا يكون طعمك عالقا في قبعتك. والآن ستصغي لي.» «لن أصغي لك. فليكن، توجد رمال تغني في تلك الجزر! وتوجد أحجار تسير! وتوجد فقمات تتحدث! لا شأن لي بذلك. ولا أظن أن راكب المقصورة «بي 7» كان له شأن بذلك.» «حقا؟ لماذا إذن كان متجها إلى الشمال؟» «ليدفن أحد أقاربه، ليضاجع امرأة، ليتسلق صخرة! أنى لي أن أعرف؟ ولماذا أهتم؟» «كان سيمكث في فندق كاليدونيان في مكان ما.» «لا أظن أنه كان سيفعل.» «كيف تعرف المكان الذي كان سيمكث فيه؟» «لا أعرف. ولا أحد يعرف.» «لماذا تمازح أحدهما مع الآخر بشأن «سرقة كالي» إن كان سيمكث في أحد فنادق ويفرلي؟» «لو أنه كان ذاهبا إلى كلادا - وأراهن أنه لا يوجد نزل في كلادا يحمل اسما كريها من أسماء البر الرئيسي كاسم كاليدونيان - لو أنه كان ذاهبا إلى كلادا كان سيذهب عن طريق جلاسكو وأوبان.» «ليس بالضرورة. فالرحلة من بلدة سكون قصيرة ومريحة بنفس القدر. ربما كان يمقت جلاسكو. كثيرون يمقتونها. لماذا لا تتصل بفندق كاليدونيان في سكون حين تعود إلى المنزل الليلة وتعرف ما إن كانوا يتوقعون قدوم نزيل يحمل اسم شارل مارتن هناك؟» «لن أفعل شيئا كهذا.» «إن لطمت الماء بهذه الطريقة ستخيف كل سمكة في النهر.»
عاد إلى المنزل بحلول وقت العشاء في حالة مزاجية سيئة للغاية. لم يكن قد اصطاد أي شيء، وفقد سلامه الداخلي.
وفي أثناء الصمت الداعي إلى النعاس الذي عم غرفة الجلوس بعد انتهاء الأعمال اليومية وخلود الطفلين إلى فراشيهما ، انتبه إلى عينيه وهما تنتقلان عن كتابه إلى الهاتف في الجهة المقابلة من الغرفة. كان الهاتف على مكتب تومي، يستفزه بإيحائه بوجود قوة كامنة فيه، وبوعوده اللانهائية النابعة من وجوده الصامت. لم يكن عليه سوى أن يرفع تلك السماعة ويمكنه أن يحادث رجلا على ساحل المحيط الهادي في أمريكا، أو يمكنه أن يحادث رجلا في قفار المحيط الأطلنطي، أو يمكنه أن يحادث رجلا يقبع في مكان على ارتفاع ميلين فوق سطح الأرض.
يمكنه أن يحادث رجلا في فندق كاليدونيان في بلدة سكون.
قاوم الفكرة مدة ساعة، مع شعور متزايد بالانزعاج. ثم ذهبت لورا لتحضر مشروبات النوم، وذهب تومي ليخرج الكلاب، وبلغ جرانت الهاتف في انقضاضة كانت أشبه باعتراض خصم في لعبة الرجبي من أي طريقة متحضرة للسير نحو الجهة المقابلة من الغرفة.
كان قد رفع السماعة قبل أن يدرك أنه لم يكن يعرف الرقم. فأعاد السماعة إلى مهدها وشعر بأنه نال الخلاص. واستدار ليعود إلى كتابه لكنه أمسك بسجل الهاتف بدلا من الكتاب. لن يشعر بأي هناء أو سلام حتى يتصل بفندق كاليدونيان في بلدة سكون؛ فتكلفة شعور المرء بالسلام زهيدة جدا إن كانت مقابل أن يكون سخيفا بعض الشيء. «سكون 1460 ... فندق كاليدونيان؟ أيمكنك أن تخبرني: هل حجز شخص يدعى السيد شارل مارتن غرفة لديكم في أي وقت في الأسبوعين المنصرمين؟ ... أجل، شكرا لك، سأنتظر ... لا؟ لا أحد بهذا الاسم ... أوه ... شكرا جزيلا لك. آسف جدا على إزعاجك.»
فكر جرانت، وهو يضع السماعة من يده في عنف، أن هذه كانت نهاية الأمر. بقدر ما كان يهمه الأمر، كانت هذه بكل تأكيد نهاية راكب المقصورة «بي 7».
شرب شراب النوم اللطيف المهدئ وذهب إلى الفراش، ورقد مستيقظا يحدق في السقف. ثم أطفأ الأنوار وعاد إلى علاج الأرق الخاص به، وهو أن يتظاهر أمام نفسه أن عليه أن يظل مستيقظا. لقد استنبط هذه الطريقة منذ فترة طويلة استقاء من المبدأ البسيط القائل بأن الطبيعة البشرية تريد أن تفعل ما هي ممنوعة من فعله . وحتى الآن لم تخذله هذه الطريقة. كل ما كان عليه فعله هو أن يبدأ في التظاهر بأنه لم يكن مسموحا له أن ينام، وسرعان ما يطبق جفناه. كان التظاهر يخلصه في خطوة واحدة من العائق الأكبر أمام النوم؛ وهو الخوف من أن المرء لن ينام؛ وهكذا ترك الشاطئ خاليا أمام أمواج المد الكاسحة.
الليلة أطبق جفناه كالمعتاد، لكن جرسا كان يدق في أرجاء عقله مثل جرذ محبوس في قفص:
الوحوش المتكلمة،
والأنهار الراكدة،
والأحجار السائرة،
والرمال المغنية ...
ما الأنهار الراكدة؟ هل يوجد في الجزر الغربية شيء يتوافق مع هذا؟
لم يكن المقصود أنهارا متجمدة. كان يوجد القليل من الثلج أو البرد في هذه الجزر. إذن، ماذا؟ الأنهار التي تجري حتى الرمال ثم تتوقف؟ لا. هذا خيالي. الأنهار التي تتوقف عن الجريان. الأنهار التي تتوقف عن الجريان؟
ربما كان أحد أمناء المكتبات يعرف. لا بد أنه توجد مكتبة عامة لا بأس بها في بلدة سكون.
قال الصوت: «كنت أظن أنك لم تعد مهتما بالأمر، فماذا حدث؟» «اذهب إلى الجحيم.»
كان ميكانيكيا. ماذا يعني ذلك بالفرنسية؟ «ميكانيسيان». كانت تندرج تحت ذلك احتمالات لا حصر لها.
أيا ما كان يفعله، فقد كان ناجحا فيه بما يكفي لأن يتمكن من السفر في عربات الدرجة الأولى في خطوط السكك الحديدية الإنجليزية. الأمر الذي يجعل المرء عمليا من أصحاب الملايين في هذه الآونة. وكان قد أنفق كل ذلك المال على ما كان زيارة سريعة للغاية، استنادا إلى حقيبة سفره الصغيرة.
ربما كانت فتاة؟ الفتاة التي وعدت بأن تنتظره؟
لكنها كانت فرنسية.
امرأة؟ ما من إنجليزي سيقطع خمسمائة ميل من أجل امرأة، لكن الفرنسي قد يفعل. خاصة لو كان فرنسيا طعن فتاته بسكين لأنها سمحت لعينها بأن تحيد عنه إلى غيره.
الوحوش المتكلمة،
والأنهار الراكدة ...
أوه، يا إلهي! ليس مجددا. جلست الآنسة مافن الصغيرة على عشبة تأكل خثارة اللبن وشرشه. هيكوري ديكوري دوك. التقى سايمن البسيط ببائع شطائر وهو ذاهب إلى السوق، فقال سايمن البسيط لبائع الشطائر دعني أتذوق بضاعتك. امتط حصانا قويا إلى تقاطع بانبيري ... لا بد من كبح جماح مخيلتك قبل أن تستعر فيك الرغبة في كتابة شيء. إن كانت مخيلتك نشطة، فاذهب إلى المسرح حين تكون أسير فكرة ما. حين تصبح «فكرة متسلطة». يمكن أن يبهجك تخيل جمال وزخرفة درجات معبد ما فتعمل لسنوات من أجل أن تجمع المال وتحظى بوقت الفراغ الذي سيتيح لك أن تذهب إلى هناك. وفي الحالات القصوى يصبح الأمر دافعا قسريا لا يقاوم، فتتخلى عن كل شيء وتذهب إلى الشيء الذي استهواك مثل: جبل، أو رأس حجري أخضر في أحد المتاحف، أو نهر مجهول، أو قطعة من قماش شراع.
فإلى أي مدى عصفت مخيلة راكب المقصورة «بي 7» به؟ ما يكفي لترسله يبحث؟ أم مجرد ما يكفي لحمله على كتابتها؟
لأنه كان «قد» كتب تلك الكلمات المكتوبة بقلم رصاص.
بالطبع كتبها.
كانت تلك الكلمات تخص راكب المقصورة «بي 7» بقدر ما كان حاجباه. بقدر تلك الأحرف الكبيرة المكتوبة بخط صبياني.
قال الصوت في رأسه بطريقة استفزازية: «تلك الأحرف «الإنجليزية» الكبيرة؟» «أجل، تلك الأحرف الإنجليزية.» «لكنه كان من مارسيليا.» «ربما تلقى تعليمه في إنجلترا، أليس كذلك؟» «بعد قليل ستقول لي إنه لم يكن فرنسيا من الأساس.» «بعد قليل سأفعل.»
لكن ذلك، بالطبع، كان يعني دخول عالم الخيال. لم يكن ثمة شيء غامض بشأن راكب المقصورة «بي 7». كانت له هوية، ووطن وأهل، وفتاة تنتظره. كما كان فرنسيا بوضوح، وحقيقة أنه يكتب شعرا إنجليزيا بخط يد إنجليزي كانت أمرا عرضيا تماما.
قال في خبث للصوت: «ربما ذهب إلى مدرسة في كلابام»؛ وغط في النوم في الحال.
الفصل الخامس
في الصباح استيقظ وهو يشعر بآلام الروماتيزم في كتفه اليمنى. فظل راقدا يفكر في هذا الأمر في اندهاش متسم بالتمهل. لا يوجد حد لما يمكن أن يحققه عقلك الباطن وجسدك معا. يمكنهما أن يوفرا لك أي ذريعة تريد. ذريعة جيدة وصادقة على نحو مثالي. عرف أزواجا كانت درجة حرارتهم ترتفع وتظهر عليهم أعراض الإنفلونزا في كل مرة تكون فيها زوجاتهم على وشك أن يغادرن لزيارة الأقارب. وعرف نساء كن يتسمن بالصلابة لدرجة أنه كان يمكنهن أن يشاهدن عراكا بالموسى دون أن يرمش لهن جفن، ومع ذلك كن يفقدن الوعي في إغماءات شديدة حين يطرح عليهن سؤال محرج أو صعب. («هل انهارت المتهمة بفعل استجواب الشرطة لها لدرجة أنها فقدت الوعي مدة خمس عشرة دقيقة؟» «لقد غابت عن الوعي بلا شك.» «لا شك في أنها تظاهرت بفقدان الوعي، أليس كذلك؟ يقول الطبيب إنه رآها وقت الواقعة، وكانت توجد صعوبة كبيرة في إفاقتها. وهذا الانهيار كان نتيجة مباشرة لاستجواب الشرطة الذي كان ...» وما إلى ذلك.) أوه، أجل. لا يوجد حد لما يمكن أن يدبره كل من عقلك الباطن وجسدك معا. واليوم كانا قد دبرا شيئا سيبعده عن النهر. كان عقله الباطن يريد الذهاب إلى سكون اليوم والتحدث مع أمين المكتبة العامة. وعلاوة على ذلك، كان عقله الباطن قد تذكر أن اليوم هو يوم السوق، وأن تومي سيأخذ السيارة إلى سكون. لذا فقد شرع عقله الباطن في العمل مع جسده المتملق دائما ومعا حولا عضلات كتفه المتعبة إلى مفصل لا يعمل.
كم هذا دقيق!
نهض وارتدى ملابسه، وكان يجفل في كل مرة يرفع فيها ذراعه، ثم نزل إلى الأسفل ليتسول توصيلة من تومي. حزن تومي على إصابته لكنه كان مسرورا بصحبته، فكان كلاهما مغتبطا في هذا الصباح الربيعي الدافئ، وكان جرانت مفعما بالسرور حتى إن استنباط المعلومات دائما ما كان يكفيه، لدرجة أنهما كانا يمران بالسيارة عبر ضواحي سكون الخارجية قبل أن يتذكر أنه كان في سيارة. إنه كان حبيس سيارة مغلقة.
كان في غاية السرور.
قطع وعدا بأن يلتقي تومي على الغداء في فندق كاليدونيان، وذهب يبحث عن المكتبة العامة. لكن وقبل أن يبتعد واتته فكرة جديدة. كان قطار «فلاينج هايلاندر» قد مر يطقطق فوق فواصل السكة في سكون قبل بضع ساعات فقط. فكل أربع وعشرين ساعة من بداية العام وحتى نهايته، كان قطار «فلاينج هايلاندر» يقوم بتلك الرحلة الليلية ويصل إلى سكون صباحا. وحيث إن أطقم القطارات غالبا ما تكون عالقة في الرحلة نفسها، متناوبة فيما بين أفرادها أيام العمل والإجازات، كان يوجد احتمال أن واحدا من الطاقم الذي كان وصل إلى سكون على متن القطار «فلاينج هايلاندر» هذا الصباح هو موردو جالاتشر.
لذا غير اتجاهه وذهب إلى المحطة بدلا من المكتبة.
سأل أحد الحمالين: «هل كنت في مناوبتك حين وصل قطار بريد لندن هذا الصباح؟»
قال الحمال: «لا، لكن لاتشي كان في مناوبته.» ثم مط الرجل شفتيه وأطلق صافرة كان من شأنها أن تكون مدعاة فخر لقطار، وأمال رأسه إلى الخلف قليلا لينادي على زميل بعيد مستدعيا إياه، وعاد إلى قراءة صفحة سباق الخيل في صحيفة «كلاريون».
مضى جرانت ليلتقي بلاتشي الذي كان يتقدم ببطء وطرح عليه السؤال نفسه.
أجل، كان لاتشي في الخدمة. «أيمكنك أن تخبرني إن كان موردو جالاتشر هو أحد المضيفين القائمين على عربات النوم؟»
رد لاتشي بالإيجاب، وأن ذلك العجوز النكد كان على متن القطار.
هل يمكن أن يخمن لاتشي مكان وجود ذلك العجوز النكد الآن؟
رفع لاتشي ناظريه إلى ساعة المحطة. كانت قد تخطت الحادية عشرة.
أجل، يمكن أن يخمن لاتشي مكانه. سيكون في حانة إيجل بار ينتظر أن يبتاعه شخص شرابا.
وهكذا ذهب إلى حانة إيجل بار الواقعة خلف محطة سكون، ووجد أن لاتشي كان مصيبا بالإجمال. كان يوجورت هناك بالفعل، يتوق إلى نصف كوب من الجعة. فطلب جرانت مشروب ويسكي لنفسه ولاحظ أن يوجورت صر أذنيه بانتباه شديد.
فقال ليوجورت بنبرة ودودة: «صباح الخير. لقد اصطدت خيرا وفيرا مذ رأيتك آخر مرة.» وسر لرؤية إشراقة الأمل تتزايد على وجه يوجورت.
وقال مدعيا بأنه يتذكر جرانت: «أنا مسرور لذلك يا سيدي، في غاية السرور. أنت الذي ذهبت إلى نهر تاي، صحيح؟» «لا، إلى نهر تورلي. بالمناسبة، ما الذي تسبب في وفاة ذاك الشاب؟ ذاك الذي تركتك وأنت تحاول إيقاظه.» بدأ النفور يحل محل اللهفة البادية على وجه يوجورت. فأضاف جرانت : «ألن تنضم إلي؟ أتريد ويسكي؟» فهدأ يوجورت بالا.
بعد ذلك كان الأمر سهلا. كان الاستياء لا يزال يسيطر على يوجورت بسبب تلك الحادثة المزعجة التي مر بها. كان يتحتم عليه حتى أن يحضر التحقيق في وقت فراغه. فكر جرانت قائلا لنفسه إن الأمر سهل كالتعامل مع رضيع تعلم الركض لتوه. كان الأمر يتطلب لمسة صغيرة فحسب من أجل توجيهه في الاتجاه المطلوب.
لم يبغض يوجورت ضرورة حضور التحقيق فحسب، بل كان يبغض التحقيق نفسه وكل شخص ذي صلة به. وبين بغضه للتحقيق وكأسين مزدوجتين من الويسكي كان قد أمد جرانت برواية في غاية التفصيل عن كل شخص وكل شيء. كان ما أدلى به يوجورت له هو أفضل مردود في مقابل أي مال دفعه جرانت من قبل. لقد «ظل» يحكي المسألة كلها من بدايتها وحتى نهايتها، منذ أول ظهور لراكب المقصورة «بي 7» في يوستن وحتى حكم محقق الوفيات. من ناحية كونه مصدرا للمعلومات كان يوجورت المصدر الأكثر وثوقا، وكان يصب المعلومات صبا وكأنه «صنبور جعة».
سأله جرانت: «هل سافر معك من قبل؟»
لا، لم يكن يوجورت قد رآه من قبل مطلقا، وكان مسرورا أنه لن يراه مرة أخرى.
وهنا تحول فجأة شعور جرانت بالرضا إلى شعور بالتشبع. لو أمضى نصف دقيقة أخرى مع يوجورت فسيصاب بالغثيان. دفع بنفسه بعيدا عن منضدة حانة إيجل بار، وذهب يبحث عن المكتبة العامة.
كانت المكتبة مخيفة بما يفوق الوصف؛ إذ كانت شيئا ضخما قبيحا أحجاره بلون الكبد، لكنها بعد يوجورت بدت زهرة الحضارة الجميلة. كانت مساعدات المكتبة لطيفات فاتنات، وكان أمينها رجلا نحيلا صغير الحجم أنيقا أناقة ذابلة، ويرتدي ربطة عنق ليست أعرض من الشريط الحريري الأسود المعلقة فيه نظارته. كترياق لقضاء وقت أكثر من اللازم مع موردو جالاتشر لم يكن يمكن أن يكون أفضل من ذلك.
كان السيد تاليسكر القصير اسكتلنديا من جزر أوركني - التي، كما أوضح، لم تكن اسكتلندية على الإطلاق - وكان الرجل مهتما بالجزر الغربية، وكذلك على معرفة واطلاع بها. كان يعرف كل شيء عن الرمال المغنية في منطقة كلادا. وكان ثمة زعم بأنه توجد رمال مغنية أخرى (فكل جزيرة كانت تريد أن يكون لديها ما لدى جيرانها بمجرد أن تسمع عن وجود أي مقتنى جديد، سواء كان ميناء أو أسطورة)، لكن رمال كلادا كانت هي الرمال الأصلية. تمتد تلك الرمال، مثل معظم رمال الجزر الغربية، ناحية المحيط الأطلنطي، مواجهة المحيط الشاسع. ومطلة على تير نان أونج. وهي، كما قد يعرف السيد جرانت، الفردوس الغيلية. أرض الشباب الأبدي. كان من المشوق حقا أن كل شعب طور فكرته الخاصة عن الفردوس، أليس كذلك؟ إحداها أنها مهرجان من النساء الجميلات، وأخرى أنها غياهب النسيان، وثالثة أنها موسيقى متواصلة ولا عمل، ورابعة أنها مناطق صيد جيدة. كان السيد تاليسكر يرى أن الغيليين قد كونوا الفكرة الأفضل عن الفردوس. وهي أنها أرض الشباب الأبدي.
ما الذي كان يغني؟ سأله جرانت هذا السؤال مقاطعا ذلك التحليل للمقارنات بين صور النعيم.
قال السيد تاليسكر إن هذه نقطة خلافية. يمكنك، بالطبع، أن تنظر للأمر بإحدى طريقتين. فقد سار على تلك الرمال بنفسه. وهي أميال لا نهائية من رمال بيضاء صافية على شاطئ بحر رائع. كانت الرمال «تغني» بالفعل حين يطؤها المرء، لكن تاليسكر نفسه كان يرى أن كلمة «صرير» وصف أفضل. وعلى الجانب الآخر وفي أي يوم تكون فيه الرياح ثابتة - ومثل هذه الأيام لم يكن حدثا غير معتاد في الجزر الغربية - تجد الرمال السطحية الناعمة، والتي تكاد تكون غير مرئية، تنجرف على طول الشواطئ الرحبة بحيث «تغني» بالفعل.
ومن الرمال قاده جرانت إلى الفقمات (بدا أن الجزر الغربية كانت تعج بالحكايات عن الفقمات، وتحويل الفقمات إلى الرجال والعكس؛ ولو صدقت هذه الحكايات لكانت تجري في عروق نصف سكان تلك الجزر بعض دماء الفقمات)، ومن الفقمات انتقل به إلى الحديث عن الأحجار التي تسير، وفي كل المواضيع كان السيد تاليسكر ممتع الحديث غزير المعلومات. لكنه أخفق في تلبية التوقعات أثناء الحديث عن الأنهار. بدا أن الأنهار هي الشيء الوحيد في كلادا الذي يشبه تماما نظراءه في أي مكان آخر. وفيما عدا أنها كانت تنبسط لتتحول إلى بحيرات صغيرة أو تغيض فتصير مستنقعا، كانت الأنهار في كلادا مجرد أنهار؛ مياه تعكف على أن تكون منبسطة مسطحة.
فكر جرانت، وهو يغادر للقاء تومي على الغداء، أنها كانت «تقف» بطريقة ما. إذ تجري المياه لتصب في مياه راكدة؛ إلى مستنقع. ربما يكون راكب المقصورة «بي 7» قد استخدم الكلمة لأنه كان في حاجة إلى قافية. كان في حاجة لشيء تتناغم قافيته مع كلمة رمال.
استمع بشرود إلى حديث مربيي الأغنام اللذين أحضرهما تومي إلى الغداء، وكان يغبطهما على أعينهما المطمئنة ومظهرهما الذي كانت تبدو عليه الراحة غير المحدودة. لم يكن يوجد شيء يقلق هذين المخلوقين الضخمين الهادئين. كان الجزء الأكبر من قطعان هذين الرجلين يهلك بين الحين والآخر بفعل ضربات القدر، كالعواصف الثلجية الهائلة أو الأمراض السريعة الانتشار. لكنهما كانا يظلان هادئين رزينين، كالتلال التي تربيا عليها. كانا رجلين كبيرين بطيئين، زاخرين بالطرائف الصغيرة، وتسعدهما أشياء بسيطة. كان جرانت واعيا جدا إلى أن هوسه براكب المقصورة «بي 7» كان أمرا غير منطقي؛ أمرا شاذا، وأنه كان جزءا من مرضه. وأنه في حالته العقلية المتزنة ما كان سيفكر مرة أخرى بشأن راكب المقصورة «بي 7». كان مستاء من هوسه ومتعلقا به. كان بلاؤه وملاذه في الوقت نفسه.
لكنه عاد مع تومي بالسيارة إلى البيت، وكان أكثر ابتهاجا مما كان عليه حين غادر. لم يكن يوجد تقريبا أي شيء يخص التحقيق بشأن شارل مارتن، الميكانيكي الفرنسي، لم يكن يعرفه. كان قد أصبح ملما بقدر أكبر من المعلومات حول الأمر. وكان ذلك كثيرا.
بعد تناول العشاء نحى جانبا الكتاب الذي يتناول السياسات الأوروبية، الذي كان قد شهد مع هاتف تومي ما كان يشغله في الأمسية السابقة، وذهب يبحث على أرفف الكتب عن كتاب حول الجزر الغربية.
سألته لورا وهي ترفع ناظريها عن صحيفة «ذا تايمز»: «هل تبحث عن شيء محدد يا ألان؟» «أبحث عن شيء حول الجزر الغربية .» «جزر هيبريديز؟» «أجل. أظن أنه يوجد كتاب عنها.»
قالت لورا في سخرية ودهشة: «هاه! يوجد كتاب عنها! توجد مؤلفات أدبية كاملة عنها يا عزيزي. الاستثناء في اسكتلندا ألا تكون قد كتبت كتابا عن هذه الجزر.» «هل لديك أي منها؟» «لدينا الكتب كلها تقريبا. كل من أتى ليمكث هنا أحضر معه كتابا عنها.» «ولماذا لم يأخذوا الكتب معهم؟» «ستعرف السبب حين تتصفحها. ستجد هذه الكتب على الرف السفلي. يوجد صف كامل منها.»
بدأ يستعرض الكتب التي في الصف، مستخرجا موضوعاتها الرئيسية بعينين متمرستين سريعتين.
سألته لورا: «لماذا هذا الاهتمام المفاجئ بالجزر الغربية؟» «تلك الرمال المغنية التي تحدث عنها وي آرتشي عالقة في ذهني.» «لا بد أن تلك هي المرة الأولى التي يقول فيها وي آرتشي شيئا ويعلق في ذهن أحدهم.»
فأضاف تومي من خلف صحيفة «كلاريون»: «أتوقع أن أمه لا تزال تتذكر كلمته الأولى.» «يبدو أن «تير نان أوج» تقع على بعد مسافة قليلة جدا غربا من الرمال المغنية.»
قالت لورا: «وكذلك أمريكا. وهي أقرب كثيرا إلى تصور سكان الجزر للفردوس من «تير نان أوج».»
فقال جرانت، مكررا كلام السيد تاليسكر عن التصورات المقارنة عن الفردوس، إن الغيليين كانوا هم العرق الوحيد بين البشر الذي تخيل الفردوس على أنها بلاد للشباب؛ الأمر الذي كان محببا من جانبهم.
قالت لورا بنبرة جافة: «إنهم العرق البشري الوحيد المعروف الذي ليس لديه في مفرداته اللغوية كلمة «لا». وتلك سمة مميزة كاشفة أكثر من فكرتهم عن الخلود.»
عاد جرانت قرب المدفأة بملء ذراعيه من الكتب، وبدأ يستعرضها على مهل.
فقالت لورا بعد تفكير: «من الصعب أن نتخيل عقلا لم يستنبط كلمة بمعنى «لا»، أليس كذلك؟» ثم عادت إلى مطالعة صحيفة «ذا تايمز».
تنوعت الكتب ما بين العلمي والعاطفي والخيالي البحت. ومن تقليد حرق عشب البحر إلى القديسين والأبطال. ومن مراقبة الطيور إلى الحج لخلاص الروح. وكانت الكتب تتنوع أيضا ما بين المثير للإعجاب والممل في الوقت ذاته، والسيئ على نحو لا يصدق. بدا أنه لا أحد ممن زاروا تلك الجزر أحجم عن الكتابة عنها. وكانت قوائم المراجع الموجودة في الصفحات الأخيرة من أكثر الكتب رزانة تنصف الإمبراطورية الرومانية. لكن اتفقت جميع الكتب على شيء واحد: وهو أن هذه الجزر كانت ساحرة. كانت الجزر الملاذ الأخير للحضارة في عالم أصيب بالجنون. كانت الجزر جميلة جمالا يفوق التصور؛ عالم مفروش بزهور برية وحدوده بحر يفتت الياقوت ويلفظه على شواطئ فضية. أرض نور شمسها ساطع متلألئ، وأهلها يتسمون ببهاء الطلعة، وموسيقاها تنفذ إلى الروح. تنزلت الموسيقى الجامحة والمحبوبة منذ بدء الزمان، منذ عصر كانت فيه الآلهة يافعة. وإن أردت الذهاب إلى هناك، فانظر جدول مواعيد عبارات ماكبراين في الصفحة الثالثة من الملحق.
أبقت الكتب جرانت منشغلا في سعادة حتى جاء وقت النوم. وبينما كانوا يشربون مشروبهم الليلي قال: «أود أن ألقي نظرة على الجزر الغربية.»
قال تومي موافقا إياه: «ضع خطة لفعل ذلك في العام المقبل. توجد رحلات صيد جيدة جدا على جزيرة لويس.» «لا، بل أقصد الآن.»
فقالت لورا: «تذهب الآن! لم أسمع مطلقا قولا بهذا الجنون.» «لماذا؟ لا يمكنني أن أذهب للصيد إلا بعد أن يتعافى كتفي؛ لذا ربما يكون من الأفضل أن أذهب للاستكشاف.» «سيكون كتفك على ما يرام في غضون يومين بمعالجتي له.» «كيف يذهب المرء إلى كلادا؟»
قال تومي: «من أوبان، على ما أظن.» «ألان جرانت، لا تكن أحمق. إن لم تكن تستطيع الصيد ليوم أو اثنين فتوجد مئات الأشياء الأخرى التي يمكنك فعلها بدلا من عبور مضيق منش في قارب تعصف به الرياح في شهر مارس.» «يقولون إن الربيع يحل مبكرا على الجزر.» «لكنه لا يحل مبكرا على مضيق منش، صدقني.»
قال تومي، وهو ينظر في الموضوع كما ينظر في كل شيء يطرح أمامه، برصانة متسمة باللطف: «يمكنك الذهاب بالطائرة بالطبع. يمكنك أن تذهب بالطائرة في يوم وتعود في اليوم التالي، إن شئت. إنها خدمة نقل جيدة جدا.»
ساد الصمت قليلا بينما التقت عينا جرانت بعيني قريبته. كانت تعرف أنه لا يستطيع ركوب الطائرات، وكانت تعرف السبب.
فقالت بنبرة ألطف: «تخل عن الفكرة يا ألان. ثمة أشياء تفعلها أفضل بكثير من أن تنقلب رأسا على عقب في منتصف مضيق منش في شهر مارس. إن كنت تريد الابتعاد عن كلون لبعض الوقت فلم لا تستأجر سيارة - يوجد مرأب جيد للغاية في بلدة سكون - وتذهب لاستكشاف البر الرئيسي لأسبوع أو نحو ذلك؟ والآن إذ صار الجو ألطف ستحل الخضرة في الغرب.» «ليس الأمر أنني أريد الابتعاد عن كلون. على العكس تماما. لو كنت أستطيع أن آخذ كلون كلها معي لفعلت. كل ما في الأمر أنني لا أستطيع التخلص من فكرة الرمال المغنية.»
رأى أن لورا بدأت تنظر إلى الفكرة من زاوية جديدة، وكان بإمكانه أن يرى جيدا جدا فيم تفكر. إن كان هذا هو ما يريده عقله المريض، فسيكون من الخطأ أن تحاول إثناءه. فاهتمامه بمكان لم يره من قبل لا بد أن يكون رد فعل مثاليا على تأمل مهووس متواصل نابع من وعي ذاتي. «أوه، في الواقع، أظن أن دليل برادشو هو ما تحتاجه. لدينا واحد، لكننا نستخدمه في الغالب عتبة للباب أو درجة للوصول إلى رف الكتب العلوي؛ لذا فهو متقادم قليلا.»
قال تومي: «فيما يخص خدمات النقل إلى الجزر الغربية الخارجية، لن يهمني تاريخه. فجداول مواعيد عبارات ماكبراين غير قابلة للتغيير شأنها في ذلك شأن شرائع الميديين والفرس. وكما قال أحدهم، هي لا تتخطى الأبدية بالضبط، لكنها تكاد أن تصمد أطول من الزمن.»
وهكذا وجد جرانت دليل برادشو وأخذه معه إلى الفراش.
وفي الصباح استعار حقيبة صغيرة من تومي، ووضع فيها الاحتياجات الحياتية الضرورية للغاية التي تكفي مدة أسبوع أو نحو ذلك. كان يحب دائما السفر بمتاع قليل، ودائما ما كان يسعده أن يخلو بنفسه بعيدا، حتى عن الأشخاص الذين كان يحبهم (وهي صفة كان لها دور كبير في بقائه أعزب)، وانتبه إلى نفسه فوجد أنه كان يصفر صفيرا خافتا وهو يضع بضعة أشياء في الحقيبة الصغيرة. لم يكن قد صفر فيما بينه وبين نفسه منذ امتدت عتمة الجنون وسلبته الإشراق والأمل.
كان على وشك أن يعود حرا طليقا بلا التزامات ولا قيود؛ حرا طليقا بلا التزامات ولا قيود. كانت تلك فكرة جميلة.
كانت لورا قد وعدته بأن توصله إلى بلدة سكون في الوقت المناسب للحاق بالقطار إلى أوبان، لكن جراهام كان قد تأخر في العودة بالسيارة من قرية مويمور؛ لذا لم تكن مسألة لحاقه بالقطار محسومة على الإطلاق. ونجحا في اللحاق بالقطار قبل ثلاثين ثانية فقط من تحركه، فدفعت له لورا وهي تلهث بحزمة أوراق من نافذة القطار المفتوحة بينما كان القطار يبدأ في التحرك، وقالت لاهثة: «استمتع يا عزيزي. فدوار البحر يصنع الأعاجيب بالكبد.»
جلس وحيدا في المقصورة، تغشته حالة ذهول مختلطة برضا، والمجلات مبعثرة إلى جواره على الكرسي. راح يشاهد منظر الطبيعة الجرداء الخالية وهي تمر أمام ناظريه ويزداد اخضرارها شيئا فشيئا وهم ماضون نحو الغرب. لم يكن لديه أدنى فكرة عن سبب ذهابه إلى كلادا. الأمر المؤكد أنه لم يكن ذاهبا لجمع المعلومات بالمعنى الشرطي للكلمة. كان ذاهبا من أجل العثور على راكب المقصورة «بي 7». كان ذلك هو أقرب تعبير يمكن صوغه بالكلمات. كان يريد الذهاب لرؤية هذا المكان الذي كاد أن يكون استنساخا للطبيعة الموصوفة في القصيدة. راح يتساءل، وهو منغمس في سعادة يخالطها النعاس، عما إن كان راكب المقصورة «بي 7» قد تحدث من قبل إلى أي شخص بشأن جنته هذه. تذكر خط اليد وقال في نفسه إنه لا يظن أنه قد فعل. فحروف
m
و
n
المقنطرة بإحكام كانت توحي بطبيعة دفاعية مفرطة تدل على أن من كتبها لم يكن كثير الكلام. على أي حال، لم يكن مهما عدد أولئك الذين تحدث إليهم راكب المقصورة «بي 7» عن الأمر، ما دامت لا توجد طريقة للتواصل معهم. فلا يمكنه أن يضع إعلانا في الصحف يقول: اقرأ هذه القصيدة وأخبرني إن كنت تعرفها.
أو ... ولماذا لا يمكنه ذلك؟
جفاه النوم وهو يفكر في هذه الزاوية الجديدة.
راح جرانت يفكر فيها طوال الطريق حتى أوبان.
وفي أوبان ذهب إلى فندق، وطلب مشروبا يهنئ به نفسه، وبينما كان يتناوله كتب إلى كل الصحف اللندنية اليومية مرفقا شيكا وطالبا منهم أن يضعوا نفس الإعلان في عمودهم المخصص لذلك. وكان نص الإعلان: «الوحوش المتكلمة، والأنهار الراكدة، والأحجار السائرة، والرمال المغنية ... من يتعرف على هذه الكلمات يتواصل رجاء بألان جرانت، عناية مكتب البريد، مويمور، كومريشاير.»
كانت الصحيفتان اليوميتان الوحيدتان اللتان لم يرسل إليهما هذا الإعلان هما صحيفتا «كلاريون» و«ذا تايمز». لم يرد أن يظن الناس في كلون أنه قد فقد عقله.
وبينما كان يسير نحو مقدمة القارب الصغير الذي سيعبر فيه مضيق منش، فكر قائلا في نفسه: «سأكون مستحقا لما حدث لي لو أن أحدا كتب لي يقول إن هذه الكلمات من أشهر الأبيات عن مدينة زانادو التي ابتدعتها قريحة الشاعر كولريدج، وإنه لا بد أنني أمي لأنني لا أعرفها!»
الفصل السادس
كان ورق الحائط يتألف من أزهار ثقيلة للغاية تتدلى من تعريشة هزيلة للغاية، وزاد من صفة التزعزع التي اتسم بها الشيء كله أن الورق لم يكن معلقا بعيدا عن الحائط وحسب، بل كان يتحرك بفعل تيار الهواء. ولم يكن المصدر الذي كان يأتي منه تيار الهواء واضحا تماما؛ لأن النافذة الصغيرة لم تكن مغلقة بإحكام وحسب، وإنما كانت مغلقة بإحكام منذ تصنيعها وتركيبها في هيكل المنزل منذ مطلع القرن. كانت المرآة المتأرجحة الصغيرة الموضوعة على خزانة الأدراج تؤدي عملها على أكمل وجه فيما يتعلق بالتأرجح وليس فيما يتعلق بوظيفتها كمرآة. كان يمكن للمرآة أن تتأرجح في سلاسة تصل إلى حد الدوران بزاوية ثلاثمائة وستين درجة، لكنها لم تكن تعكس أي شيء بأي درجة ملحوظة. وكبح تقويم للعام الماضي، مصنوع من الورق المقوى المطوي أربع طيات، جماح مواهب المرآة في الدوران حول المحور الرأسي، لكن لم يكن يوجد بالطبع ما يمكن فعله لزيادة قدراتها على عكس الصورة.
كان يمكن فتح درجين من الأدراج الأربعة في خزانة الأدراج. أما الثالث فلم يكن يفتح لأن مقبضه فقد، ولم يكن يمكن فتح الرابع لأنه فقد الرغبة. وفوق المدفأة الحديدية السوداء بأهدابها المصنوعة من ورق مجعد أحمر استحال لونه بنيا من أثر الزمن، كان يوجد نقش لفينوس شبه عارية تهدهد كيوبيد العاري تماما. وفكر جرانت في نفسه أنه لو لم يكن البرد قد تسلل بالفعل إلى عظامه لكانت هذه الصورة أدت تلك المهمة.
أطل من النافذة الصغيرة على الميناء الصغير وقوارب الصيد المتنوعة التي يضمها، وعلى البحر الرمادي الذي أخذ يلطم حاجز الأمواج برتابة، وإلى المطر الرمادي وهو يقرع الحصى، وفكر في نار المدفأة في غرفة الجلوس في منزل كلون. دارت في رأسه فكرة أن الذهاب إلى الفراش هي أسرع طريقة للحصول على الدفء، لكن نظرة ثانية على الفراش أثنته عن ذلك. كان السرير نحيفا كالصحن، وازداد شبها بالصحن بفعل غطاء قطني نحيل أبيض على شكل قرص العسل. وفي آخر السرير، كان يوجد لحاف قطني أحمر زاه يناسب عربة دمية، مطوي بإتقان. وفوقه مجموعة لا نظير لها من مقابض السرير النحاسية التي كان من حظ جرانت أن يجدها دائما.
فندق كلادا. بوابة جنة «تير نان أوج».
نزل الدرج ونكز النار التي ينبعث منها الدخان في غرفة الجلوس. كان أحد ما قد كوم قشر البطاطا المتبقي من طعام الغداء على النار؛ لذا لم تكن جهود جرانت ناجعة جدا. هب شعوره بالغضب لنجدته فراح يدق الجرس بكل ما أوتي من قوة. صلصلت الأسلاك متراقصة بطريقة جنونية في مكان ما في الجدران، لكن لم يدق أي جرس. فخرج إلى البهو حيث كان صوت أنين الرياح يأتي من تحت الباب الأمامي وراح ينادي بصوت عال. لم يسبق مطلقا أن استخدم جرانت صوته بمثل هذا الحماس والتصميم ليخرج بأي نتيجة، حتى في أفضل حالاته حين كان في «الميدان». أتت إليه مخلوقة يافعة من المناطق الخلفية وراحت تحدق فيه. كان وجهها يشبه نوعا ما صورة السيدة العذراء وقد اكتست ملامحها بنظرة عملية، وسيقانها بنفس طول جسدها.
وسألته قائلة: «هل كنت تصرخ؟» «لا، لم أكن أصرخ. ذلك الصوت الذي سمعته كان صوت أسناني وهي يصطك بعضها ببعض. في بلدي نار مدفأة غرفة الجلوس مصممة لتزودنا بالحرارة وليس للتخلص من القمامة.»
أطالت الفتاة النظر إليه قليلا وكأنها تترجم حديثه إلى لغة مفهومة أكثر، ثم تحركت من جانبه لتلقي نظرة على نار المدفأة.
وقالت: «يا إلهي، ذلك لن يجدي نفعا على الإطلاق. انتظر وسآتيك بجذوة نار.»
ثم غادرت وعادت بما بدا أنه معظم نار المطبخ التي كانت تستعر على رفش. وقبل أن يتمكن جرانت من إزالة بعض الخبث والخضراوات من المدفأة، كانت قد ألقت بالكتلة المشتعلة فوق كل شيء.
وقالت: «سأحضر لك بعض الشاي ليدفئك. السيد تود عند الميناء ينظر فيما آلت إليه الأمور على القارب. سيعود عما قريب.»
قالت ذلك بطريقة تنطوي على التطمين، وكأن وجود المالك سيشعره بالدفء تلقائيا. وافترض جرانت أنها كانت تعتذر عن عدم وجود ترحيب رسمي بأحد الضيوف.
جلس وراح يرقب نار المدفأة وهي تفقد جذوتها تدريجيا؛ إذ أدركت وجود طبقة قشر البطاطا التي طرحت عليها. وقد بذل قصارى جهده من أجل إشعال بعض من الكتلة السوداء الرطبة تحت النار من أجل توفير شيء جاف مشجع على اشتعال النار، لكن كل شيء انتهى به الحال في مجرد كومة حزينة. راقب وهج النار وهو يخبو حتى لم يتبق سوى توهج أحمر صغير دودي راح يتردد جيئة وذهابا عبر سطح الفحم الأسود، بينما كانت الرياح المارة تسحب الهواء من الغرفة إلى داخل المدخنة. فكر في ارتداء معطفه المضاد للماء والسير تحت المطر؛ يمكن أن يكون السير تحت المطر شيئا باعثا على السرور. لكن فكرة تناول الشاي الساخن جعلته لا يراوح مكانه.
وبعد ساعة تقريبا ظل فيها يراقب النار، لم يأته أي شاي. لكن «السيد تود؛ المالك» عاد من الميناء وبصحبته صبي يرتدي قميصا صوفيا أزرق داكنا ويدفع عربة محملة بكراتين كبيرة من الورق المقوى، ودخل لتحية ضيفه. قال إنهم لم يتوقعوا زوارا في هذا الوقت من العام، وظن حين رآه يغادر القارب أنه سيمكث مع شخص ما من الجزيرة. ينظمان الأغاني، أو شيئا من هذا القبيل.
كان ثمة شيء ما في الطريقة التي قال بها «ينظمان الأغاني» - نبرة محايدة تكاد تكون تعليقا - جعل جرانت واثقا من أنه لم يكن من السكان الأصليين.
وحين سئل، قال السيد تود إنه لم يكن ينتمي للمكان. كان يملك فندقا تجاريا صغيرا في منطقة الأراضي المنخفضة، لكن هذا الفندق يروق له أكثر. وعندما رأى أمارات الدهشة على وجه ضيفه أضاف قائلا: «أصدقك القول يا سيد جرانت، كنت قد سئمت من الدقاقين على منضدة الاستقبال. كما تعلم: إنهم أولئك الشبان الذين لا يطيقون الانتظار لدقيقة واحدة. هنا لا يفكر أي أحد مطلقا في الدق على المنضدة. لا فارق بين اليوم أو غد أو الأسبوع القادم لمن يعيش في جزيرة. الوضع يبعث على الجنون بعض الشيء أحيانا، حين تريد إنجاز شيء ما، لكنه لا بأس به ومريح أغلب الوقت. إن ضغط دمي منخفض كثيرا.» ثم لاحظ النار. «تلك النار التي أعدتها لك كاتي آن رديئة. من الأفضل أن تأتي إلى مكتبي وتدفئ نفسك.»
في هذه اللحظة أطلت كاتي آن برأسها من الباب، وقالت إنها استغرقت كل هذا الوقت في غلي الماء في الغلاية لأن نار المطبخ انطفأت، وسألت إن كان السيد جرانت يرى الآن أنه من الجيد أن يتناول الشاي ووجبة الشاي دفعة واحدة وفي نفس الوقت. رأى جرانت بالطبع أن هذا أمر جيد، وبينما كانت تغادر لتعد طعام تلك الأمسية طلب من مضيفه شرابا. «لقد سحب القضاة الرخصة من المالك السابق لي، ولم أستعدها بعد. سأستعيدها من محكمة إصدار التراخيص القادمة. لذا لا يمكنني أن أبيع لك شرابا. لا يوجد مكان يملك رخصة لبيع الخمور على الجزيرة. لكن إذا أتيت إلى داخل مكتبي فسيسرني أن أقدم لك الويسكي مجانا.»
كان المكتب عبارة عن مكان صغير للغاية، جوه استوائي بفعل حرارته المكتومة. استمتع جرانت بالجو الدافئ كثيرا، وشرب الويسكي السيئ دون تخفيف، كما قدم له. وجلس على الكرسي الذي أشير إليه أن يجلس عليه، وفرد قدميه نحو النار.
وقال: «إذن أنت لست ذا سلطة على الجزيرة.»
ابتسم السيد تود. وقال بخبث: «أنا كذلك بطريقة ما. ولكن على الأرجح ليس بالطريقة التي تعنيها.» «إلى من ينبغي أن أذهب لأتعرف على المكان؟» «في الواقع، يوجد شخصان لديهما سلطة هنا. الأب هيسلوب والقس السيد ماكاي. وعموما ربما يكون الأب هيسلوب أفضل.» «أتظن أنه الأكثر دراية؟» «لا، إنهما متساويان تقريبا في هذه النقطة. لكن ثلثي سكان الجزيرة من الرومان الكاثوليك. وإن ذهبت إلى الأب، فسيكون ثلث السكان فقط ضدك، بدلا من أن يكون ثلثان ضدك. بالطبع الثلث التابع للكنيسة المشيخية عبارة عن زبائن أسوأ في عداوتهم، لكن إذا كانت الأرقام تهمك فمن الأفضل أن تذهب لمقابلة الأب هيسلوب. من الأفضل أن تذهب للأب هيسلوب على أي حال. أنا ملحد؛ لذا فإنني منبوذ من كلتا الجماعتين، لكن الأب هيسلوب مؤيد للحصول على رخصة لبيع الخمور، والسيد ماكاي يرفض ذلك رفضا قاطعا.» ثم ابتسم مرة أخرى وأعاد ملء كأس جرانت. «أظن أن الأب سيفضل أن يرى الشراب يباع علنا بدلا من أن يشربه الناس سرا.» «بالضبط.» «هل سبق أن استقبلت زائرا أقام هنا اسمه شارل مارتن؟» «مارتن؟ لا. ليس أثناء مدة إدارتي. لكن لو وددت أن تلقي نظرة على سجل الزوار، فهو موضوع على الطاولة في البهو.» «إذا لم يقم أحد الزوار في الفندق، فأين من المرجح أن يقيم؟ في غرف للإيجار؟» «لا، لا أحد يؤجر الغرف على الجزيرة. المنازل صغيرة للغاية على ذلك. إما أن يمكث مع الأب هيسلوب أو في منزل القس.»
وبحلول الوقت الذي أتت فيه كاتي آن لتقول إن الشاي في انتظاره في غرفة الجلوس، كان الدم قد عاد يتدفق بحرية عبر جسد جرانت، الذي كان قبل قليل في حالة جمود وكان جائعا. كان يتطلع إلى وجبته الأولى في «واحة الحضارة الصغيرة وسط عالم همجي» (انظر «جزر الأحلام» بقلم إتش جي إف بينش-ماكسويل، بيل وباتر، 15 / 6). وكان يتمنى ألا يكون الطعام إما سلمون وإما سلمون مرقطا؛ إذ كان قد اكتفى تماما من كليهما في الأيام الثمانية أو التسعة الماضية. ما كان سيترفع عن قطعة سلمون مرقط مشوية إن كانت كذلك. مشوية ببعض الزبد المحلي. لكنه كان يأمل في سلطعون - إذ كانت الجزيرة تشتهر بالسلطعون - وإن تعذر ذلك فسمكة رنجة من البحر، مقسومة ومقلية بعد غمسها في دقيق الشوفان.
تكونت وجبته الأولى في جزر البهجة من سمكتي رنجة مدخنتين برتقاليتين لامعتين مملحتين تمليحا غير كاف ومخضبتين بوفرة في أبردين، وخبز معد في جلاسكو، وكعك شوفان مخبوز في مصنع في إدنبرة ولم يحمص منذ ذلك الحين، ومربى مصنوعة في دندي، وزبد مصنوع في كندا. وكان المنتج المحلي الوحيد هو جبن كرودي مصفر على هيئة بيضة؛ وهو منتج ثانوي أبيض مفتت لا رائحة له ولا طعم.
كانت غرفة الجلوس في ضوء المصباح غير المظلل أقل فتحا للشهية مما كانت عليه في ضوء فترة ما بعد الظهيرة الرمادي، وهرب جرانت إلى حجرة نومه الصغيرة الشديدة البرودة. طلب زجاجتي مياه ساخنة واقترح على كاتي آن أن تأخذ الأغطية من جميع غرف النوم الأخرى في المكان وتضعها تحت تصرفه بما أنه هو النزيل الوحيد. وفعلت ذلك بكل استمتاع كلتي فطري بالأمور غير المعتادة، فكومت على سريره وسائل الترف المستعارة وهي تختنق من الضحك.
رقد تحت خمس قطع محشوة هزيلة، يعلوها معطفه الخاص ومعطف واق من المطر من ماركة بربري، وتظاهر بأن كل ذلك لحاف إنجليزي واحد جيد محشو بزغب الطيور. وبينما كان شعوره بالدفء يزداد، صار واعيا لجو الغرفة السيئ التهوية البارد. كانت هذه هي القشة الأخيرة، وفجأة راح يضحك. كان راقدا في مكانه ويضحك كما لم يضحك منذ قرابة سنة. ضحك حتى دمعت عيناه، وحتى أنهك تماما ولم يعد يقوى على المزيد من الضحك، ورقد منهوك القوى خالي البال سعيدا تحت مجموعة أغطية الفراش المتنوعة الرائعة.
فكر قائلا لنفسه إن ضحك المرء يصنع أشياء لا توصف بالغدد الصماء، فيشعره بفيضان من الصحة يغمره بمد باعث على الحياة . وربما بالأخص حين يكون ضحك المرء على نفسه. على سخافته وعبثيته الرائعة المجيدة فيما يتعلق بالعالم. كان الانطلاق نحو أعتاب «تير نان أوج» والوصول إلى فندق كلادا يتسم بعبثية شديدة. وإن لم تمنحه الجزر الغربية شيئا سوى ذلك فسيعتبر أنه قد تلقى مكافأة مجزية.
توقف عن الاهتمام بأن تهوية الغرفة سيئة وأن الأغطية غير مستقرة. تمدد ينظر إلى ورق الحائط المثقل بالورود، وتمنى لو كان يستطيع أن يريه للورا. تذكر أنه لم يكن قد نقل بعد إلى غرفة النوم المجددة حديثا في كلون، التي كانت دائما، وحتى الآن، غرفته. هل كانت لورا تنتظر زائرا آخر؟ أيحتمل أنها كانت ستستضيف أحدث اللواتي ترشحن له للزواج تحت سقف المنزل نفسه؟ حتى الآن كان سعيدا وهو بمنأى عن مجتمع الإناث؛ كانت الأمسيات في كلون أمسيات عائلية، هادئة وطويلة. فهل كانت لورا تساعده فحسب حتى يتمكن من ملاحظة أهمية مسألة الزواج؟ كانت متحسرة لدرجة تثير الشك بأنه كان سيفوت افتتاح القاعة الجديدة في مويمور. وهي مناسبة ما كانت لورا في حالتها العقلية الطبيعية ستتوقع منه أن يحضرها على الإطلاق. فهل كانت تنتظر ضيفا في الافتتاح؟ لا يمكن أن يكون الغرض من غرفة النوم هو تجهيزها لليدي كينتالين؛ لأنها ستأتي من أنجوس وستعود بعد ظهر اليوم نفسه. إذن من أجل من أعيد تجهيز هذه الحجرة وأبقيت فارغة؟
كان لا يزال يفكر في هذا السؤال البسيط حين غلبه النوم. ولم يخطر على باله إلا في الصباح أنه كان يكره النافذة المغلقة لأنها جعلت الغرفة سيئة التهوية وليس لأنها كانت مغلقة.
اغتسل بجالوني الماء الفاتر اللذين أحضرتهما كاتي آن ونزل إلى الطابق السفلي مبتهجا. كان يشعر بأنه في غاية السعادة. تناول خبز جلاسكو الذي ازداد عمره يوما آخر هذا الصباح، وكعك شوفان إدنبرة، ومربى دندي، والزبد الكندي، إلى جانب بعض النقانق من وسط إنجلترا، واستمتع بتناول كل ذلك. وبعد أن تخلى عن توقعاته عن البهاء البدائي، كان مستعدا لتقبل الوجود البدائي.
سر عندما وجد أن آلام الروماتيزم قد اختفت تماما على الرغم من الريح الباردة والسرير الخشن المغطى بأغطية هزيلة؛ إذ لم يعد عقله الباطن بحاجة إليها لتمثل ذريعة. كانت الريح لا تزال تعوي في المدخنة، والمياه تتفجر متصاعدة من حاجز الأمواج، لكن المطر كان قد توقف. ارتدى معطف المطر وانعطف حول مقدمة الميناء إلى المتجر. كان يوجد مكانا عمل فقط في صف المنازل التي تحف بالميناء، وهما مكتب للبريد ومتجر لبيع المواد الغذائية. كان هذان المكانان معا يمدان الجزيرة بكل ما تحتاج إليه. إذ كان مكتب البريد يبيع الصحف أيضا، وكان متجر المواد الغذائية مزيجا من بائع خضر، وخردواتي، وصيدلاني، وبائع أقمشة، ومتجر أحذية، وبائع تبغ، وبائع خزف، وبائع لمستلزمات القوارب والسفن. كانت لفات القماش القطني الأبيض المزين بأنماط ملونة، المستخدم لصناعة الستائر أو الفساتين؛ موضوعة على الأرفف بجوار علب البسكويت، ولحم الخنزير المدخن يتدلى من السقف وسط صفوف من الثياب التحتية المصنوعة من نسيج متداخل. اليوم لاحظ جرانت أنه توجد أيضا طاولة خشبية كبيرة من الكعكعات الرخيصة المخبوزة في أوبان، إن كانت الورقة التي تلتف بها الكعكات الصغيرة صادقة. كانت تلك الكعكات رديئة ومبططة، وكأنها أخذت تتقلب هنا وهناك في إحدى الكراتين المصنوعة من الورق المقوى، التي كانت جزءا لا يتجزأ من الحياة على الجزيرة، وكان يفوح من الكعكات رائحة خافتة جدا للبارافين، لكن جرانت افترض أن تلك الكعكات كانت مختلفة عن خبز جلاسكو.
في المتجر كان هناك عدة رجال من قوارب الصيد في الميناء ورجل قصير بدين يرتدي معطفا أسود واقيا من المطر لا يمكن أن يكون سوى قس. كان هذا من حسن طالعه. إذ شعر أنه حتى الثلث التابع للكنيسة المشيخية لا يملك أن يأخذ عليه لقاء وليد الصدفة في متجر عام. اقترب جرانت من نيافته حتى صار بجواره وانتظر معه، بينما كان الصيادون يتلقون الخدمات التي أتوا من أجلها. بعد ذلك كانت الأمور في غاية السهولة. «تجاذب» القس معه أطراف الحديث ليتعارفا، وكان هناك خمسة شهود على ذلك. وعلاوة على ذلك، أدخل الأب هيسلوب بلباقة صاحب المتجر، المدعو دنكان تافيش، في المحادثة، ومن واقع أن الأب هيسلوب دعاه بالسيد تافيش وليس دنكان، استنتج جرانت أن صاحب المتجر لم يكن أحد رعيته. وهكذا رأى بسرور كبير أنه لم يحسب على أي من الطائفتين في الجزيرة، وما كانت ستدور حرب ضروس للاستحواذ عليه.
ثم خرج إلى الجو المشوب بريح شديدة مع الأب هيسلوب، وسارا معا حتى المنزل. أو بالأحرى صارعا الريح معا، فكانا يتقدمان بضع خطوات في كل مرة، ويتعالى صوت أحدهما بالتعليقات للآخر حتى يعلو صوته فوق ضوضاء ملابسهما التي ترفرف من فعل الرياح. وكان جرانت يحظى بميزة لم يحظ بها رفيقه، وهي أنه لم يكن يرتدي قبعة، لكن الأب هيسلوب لم يكن أقصر فحسب، وإنما كان يحظى بجسد يتسم بانسيابية مثالية للعيش وسط الريح العاتية. لم تكن توجد أي زوايا في جسده.
كان من الجيد أن يأويا من العاصفة إلى دفء نار الخث والسكون.
صاح الأب هيسلوب باتجاه الطرف الأقصى من المنزل: «موراج! بعض الشاي لي ولصديقي هنا. وربما كعكة، أيتها الفتاة الصالحة.»
لكن موراج لم تكن قد خبزت، شأنها في ذلك شأن كاتي آن. قدم لهما بسكويت ماري، وكان طريا بعض الشيء بفعل رطوبة الجزيرة. لكن الشاي كان رائعا.
ولأنه كان يعرف أنه محل فضول الأب هيسلوب، وكذلك كل من في الجزيرة، فقد قال إنه كان يصطاد مع أقاربه في اسكتلندا، لكنه اضطر لأن يتوقف جراء إصابة في كتفه. ولأن فكرة الجزر الغربية كانت تستحوذ عليه، وخاصة الرمال المغنية في كلادا، فقد انتهز فرصة مجيئه لكي يراها، وهي فرصة ربما لن تتاح له مجددا أبدا. وقال إنه يظن أن الأب هيسلوب على دراية تامة بالرمال، أليس كذلك؟
أوه، بلى، بالطبع كان الأب هيسلوب يعرف الرمال. لقد عاش على الجزيرة خمسة عشر عاما. كانت على الجانب الغربي من الجزيرة في مواجهة المحيط الأطلنطي. لم تكن المسافة عبر الجزيرة كبيرة. يمكن لجرانت أن يسير إلى هناك عصر هذا اليوم. «أفضل أن أنتظر جوا صحوا . سيكون من الأفضل رؤيتها في نور الشمس، أليس كذلك؟» «في هذا الوقت من السنة قد تنتظر أسابيع طويلة قبل أن تراها في ضوء الشمس.» «ظننت أن الربيع حل مبكرا على الجزر، أليس ذلك صحيحا؟» «أوه، في رأيي أن هذه فكرة مصدرها الأشخاص الذين يؤلفون كتبا عن تلك الجزر. هذا هو الربيع السادس عشر لي على جزيرة كلادا، ولم يحدث بعد أن حل الربيع قبل موعده.» ثم أضاف بابتسامة خفيفة: «الربيع من سكان الجزر هو الآخر.»
تبادلا الحديث عن الطقس، والعواصف الشتوية (التي تعتبر ريح اليوم نسيما عليلا مقارنة بها، بحسب رأي الأب هيسلوب)، وعن الرطوبة التي تخترق العظام، وعن أيام الصيف المثالية التي تأتي لماما.
كان جرانت يريد أن يعرف السبب الذي يجعل مكانا كهذا به معالم قليلة يسلب لب الكثير من الناس.
في الواقع، يعود السبب من ناحية إلى أنهم رأوا الجزيرة في ذروة الصيف، ومن ناحية أخرى إلى أن أولئك الذين أتوا وأصيبوا بخيبة أمل أحجموا عن الاعتراف بخيبة أملهم، سواء لأنفسهم أو لأصدقائهم في الديار. كانوا يعوضون أنفسهم بالتفاخر. لكن كان من وجهة نظر الأب هيسلوب أن معظم من أتوا كانوا يهربون من الحياة بغير وعي منهم، ووجدوا ما أعدت لهم مخيلتهم. لذا كانت الجزر الغربية جميلة في أعينهم.
فكر جرانت مليا في هذا، ثم سأله إن كان قد عرف من قبل أحدا يدعى شارل مارتن كان مهتما بالرمال المغنية.
لا، لم يلتق الأب هيسلوب من قبل بشخص يدعى شارل مارتن، بحسب ما يتذكر. هل أتى إلى كلادا؟
لم يكن جرانت يعرف ذلك.
خرج جرانت إلى العاصفة، وظلت تدفعه عائدا إلى الفندق في هرولة مهينة، مترنحا على أطراف أصابعه مثل عجوز سكير. كانت تفوح من بهو الفندق الخاوي رائحة طعام ساخن لا يمكن تحديده، ويسمع فيها صوت كأنه جوقة تغني؛ إذ أقبلت الرياح تصطرخ من تحت الباب الخارجي. لكنهم كانوا قد تمكنوا من إعداد نار تبدو كالنار في غرفة الجلوس. وعلى صراخ الريح في الممر وعوائها في المدخنة تناول لحما من أمريكا الجنوبية، وجزرا معلبا في لينكولنشاير، وبطاطا مزروعة في موراي، وبودنج الحليب المعبأ في شمال لندن، وفاكهة معبأة في وادي إيفيشام. والآن إذ لم يعد جرانت مرهونا بالسحر، ملأ معدته بما يوضع أمامه شاكرا. وإذا كانت كلادا قد حرمته البهجة الروحية فقد منحته شهية جسدية رائعة.
قال جرانت حين كان يرتب موعد تناوله وجبة الشاي: «ألا تخبزين قريصات الكعك مطلقا يا كاتي آن؟»
فقالت مدهوشة: «أتريد قريصات كعك؟ بالطبع أفعل، سأخبز لك بعضا منها. لكن لدينا كعكات مصنوعة عند الخباز لتتناولها مع الشاي. وبسكويت، وقطع الزنجبيل. أتفضل قريصات الكعك بدلا من ذلك؟»
تذكر جرانت «الكعكات المصنوعة عند الخباز»، فقال في حماسة إنه يفضل قريصات الكعك، يفضلها بكل تأكيد.
فقالت بنبرة لطيفة: «حسن إذن، بالطبع، سأخبز لك قريصة كعك.»
ظل جرانت يسير مدة ساعة على طريق رمادي مستو وقفار رمادية ممتدة. على يمينه، بعيدا وسط الضباب، كان هناك تل، وكان المرتفع الوحيد الذي يمكن رؤيته. كان الأمر برمته يحرك في النفس إحساس المسير في هور في يوم من أيام شهر يناير الرطبة. وبين الحين والآخر كانت الريح القادمة من جانبه الأيسر تخرجه عن الطريق تماما وهو يدور جانبيا حول نفسه، فكان يجاهد للعودة إلى الطريق، يخالجه إحساس باستمتاع مختلط بالسخط. وعلى مسافات بعيدة، كانت أكواخ غريبة تجثم منكمشة على مقربة من الأرض، وكانت مصمتة وتشبه البطلينوس في هيئتها، وليس فيها أي إشارة على وجود بشر. كان لبعض هذه الأكواخ حجارة تتدلى بحبال من السقف لتعطي ثقلا للبناء في مواجهة الرياح المستمرة. لم يكن لأي من تلك الأكواخ سور أو مبنى إضافي أو حديقة أو شجرة. كانت حياة بدائية للغاية؛ بين أربعة جدران، وكل شيء بمنأى عن الأعين ومعد لمواجهة مصاعب محتملة.
وفجأة صارت الريح برائحة الملح.
وفي أقل من نصف ساعة وصل إلى مبتغاه. وصل دون سابق إنذار، عبر أرض قفر شاسعة مكسوة بعشب أخضر رطب، لا بد أنها تكون مرصعة بالأزهار في فصل الصيف. لم يكن يوجد سبب واضح يفسر عدم امتداد هذه المستويات الطويلة من الأرض العشبية بلا نهاية حتى الأفق؛ كان كل شيء جزءا من هذا العالم الرمادي المنبسط من الأرض السبخة. كان قد استعد لمتابعة السير حتى إلى الأفق؛ لذا فقد ذهل حين وجد أن الأفق يمتد لمسافة عشرة أميال في البحر. كان المحيط الأطلنطي منبسطا أمامه، ومع أنه لم يكن جميلا فقد كان مثيرا للإعجاب في امتداده وبساطته. كانت المياه القذرة الخضراء - القذرة وغير المستوية - تزأر على الشاطئ وترتطم به محدثة وميضا أبيض رهيبا. عن يمينه وعن شماله، كانت خطوط الأمواج المتلاطمة الطويلة والرمال الشاحبة تمتد على مرمى البصر. لم يكن يوجد شيء آخر في العالم سوى البحر الأخضر الهائج والرمال.
وقف في مكانه ينظر إلى البحر ويتذكر أن أقرب بر على الجانب الآخر هو أمريكا. لم يكن قد اختبر من قبل ذلك الشعور العجيب الذي يتولد عن المساحات غير المحدودة منذ وقف في صحراء شمال أفريقيا. ذلك الشعور بالتضاؤل.
كان وجود البحر مفاجئا للغاية، وكان غضبه وامتداده غامرين، حتى إنه وقف مكانه كأن على رأسه الطير لحظات طويلة قبل أن يدرك أن الرمال التي أحضرته إلى حافة العالم الغربي في شهر مارس كانت موجودة هنا. كانت هذه الرمال هي الرمال المغنية.
لم يكن هناك شيء يغني اليوم سوى الرياح والمحيط الأطلنطي. كانا معا يحدثان جلبة كأنها موسيقى فاجنر، كانت تكاد تصدم المرء جسديا مثلما تفعل العاصفة ورذاذ الموج. كان العالم أجمع ضجة جنونية من اللونين الأخضر الرمادي والأبيض والضوضاء الجامحة.
سار على الرمال البيضاء الناعمة إلى حافة المياه، وسمح لذلك الهدير أن يغشاه. من مسافة قريبة كانت له ميزة لا شعورية بددت شعوره غير المريح بالتضاؤل وجعلته يشعر بإنسانيته وتفوقه. أدار ظهره له على نحو يكاد يتسم بالازدراء، مثلما يفعل المرء مع طفل غير مهذب تصرف بطريقة حمقاء أو محرجة على مرأى ومسمع من الجميع. شعر بالدفء وبالحياة تدب في جسده وبأنه سيد نفسه؛ شعر بأنه ذكي ذكاء مثيرا للإعجاب ، وأنه واع على نحو يثلج الصدر. عاد أدراجه سائرا على الرمال، وهو مغتبط غبطة غير منطقية ومفرطة بأنه بشر وعلى قيد الحياة. حين أدار ظهره للرياح المالحة الناضبة القادمة من البحر، كان الهواء الذي أتاه من اليابسة لطيفا ودافئا. كان أشبه بالهواء الذي تلقاه حين انفتح باب المنزل. تابع مسيره على الأرض العشبية من دون أن يلتفت خلفه مرة واحدة. لاحقته الرياح على طول الأراضي السبخة المنبسطة، لكنها لم تعد في وجهه ولم تعد رائحة الملح في أنفه. كان أنفه ممتلئا برائحة الأرض الرطبة الطيبة؛ رائحة الأشياء التي تنمو وتزدهر.
كان سعيدا.
وحين وصل أخيرا أسفل المنحدر إلى الميناء رفع بصره إلى التل الواقف وسط الضباب، وقرر أنه سيتسلقه غدا.
عاد إلى الفندق جائعا، وشعر بالامتنان حين لم يقدم له في وجبة الشاي سوى شيئين من صناعة محلية. أحدهما كان طبقا من قريصات الكعك أعدته كاتي آن، والآخر كان «سليشاكس»؛ وهو طعام شهي كان يعرفه منذ زمن طويل. كان سليشاكس عبارة عن بطاطا مهروسة ومقلية في شكل شرائح؛ ولا شك في أنها ساعدته في فتح شهيته لما تبقى من اللحم البارد المتبقي من طعام الغداء، والذي كان الطبق الرئيسي في الوجبة. لكن وبينما كان يتناول طبقه الأول ظلت تداعب أنفه رائحة ذكرته بأيام منطقة ستراثسبي الخوالي، وكانت أكثر إثارة للعواطف والذكريات حتى من طبق سليشاكس. كانت الرائحة حادة وخفيفة في نفس الوقت، وكانت تجوب أرجاء ذهنه في نشوة مثيرة من الحنين إلى الماضي. ولم يعرف ماهية تلك الرائحة إلا حين غرس سكينه في إحدى الكعكات التي أعدتها كاتي آن. كان الكعك مصفرا بفعل الصودا وغير صالح للأكل إلى حد كبير. وبتحية، متسمة بالحسرة، لكاتي آن من أجل الذكرى التي أحيتها (طبق مليء بالكعك المصفر المشبع بالصودا، موضوع على طاولة مطبخ المنزل الريفي لتناوله مع الشاي، أوه، «تير نان أوج»!) دفن كعكتين من كعكات كاتي آن تحت الفحم الملتهب في المدفأة واكتفى بخبز جلاسكو.
وفي تلك الليلة خلد جرانت إلى الفراش من دون أن ينظر إلى ورق الحائط أو يتذكر النافذة المغلقة على الإطلاق.
الفصل السابع
في الصباح تقابل مصادفة مع نيافة القس السيد ماكاي في مكتب البريد وشعر بأنه يوزع أفضاله بنجاح كبير. كان السيد ماكاي في طريقه إلى الميناء ليرى ما إذا كان طاقم قارب صيد سويدي قابع هناك يرغب في المجيء إلى الكنيسة إن كانوا سيظلون موجودين حتى يوم بعد غد. وعرف أنه توجد أيضا سفينة هولندية، يفترض أنها تتبع مذهب الكنيسة المشيخية. وإن أظهروا أمارات على الرغبة في المجيء فسيقوم بإعداد عظة بالإنجليزية من أجلهم.
تبادل مع جرانت حديثا عن الطقس السيئ. كان الوقت من العام لا يزال مبكرا على المجيء إلى الجزر الغربية، لكنه رأى أن على المرء أخذ إجازات حين تسنح له الفرصة لذلك. «لعلك مدرس في مدرسة يا سيد جرانت.»
أجاب جرانت بالنفي، وقال إنه موظف حكومي. كانت تلك هي إجابته المعتادة على الأسئلة بشأن مهنته. كان الناس على استعداد لتصديق أن موظفي الحكومة هم كائنات بشرية، لكن لم يصدق أحد من قبل أن رجل الشرطة كذلك. كانوا يتعاملون مع رجال الشرطة على أنهم شخصيات كرتونية مرسومة ترتدي أزرارا فضية وتمسك بمفكرة. «ستندهش إن رأيت الحال الذي تبدو عليه الجزر في شهر يونيو يا سيد جرانت؛ إذ لم يسبق لك أن جئت إلى هنا. لا توجد غيمة واحدة في السماء، يوما تلو الآخر، والهواء ساخن لدرجة أنك تراه يتراقص أمامك. والسراب جامح كما هو حاله دوما في الصحراء.» «هل ذهبت إلى شمال أفريقيا؟»
أجل، ذهب السيد ماكاي إلى شمال أفريقيا مع الاسكتلنديين. قال: «وصدقني يا سيد جرانت، رأيت أشياء من نافذتي في منزل القس هناك أغرب من أي شيء رأيته بين مدينتي العلمين وطرابلس. رأيت المنارة هناك تقف في الهواء. أجل، في السماء. رأيت التلال هناك تغير أشكالها حتى بدت كفطر عيش غراب عظيم. أما الأحجار على ساحل البحر؛ تلك الأعمدة الحجرية العظيمة، فيمكنها أن تصير خفيفة وشفافة وتتحرك في الأرجاء وكأنها تسير على نهج خطوات رقصة «لانسرز».»
فكر جرانت في ذلك باهتمام، وتوقف عن الإصغاء لبقية حديث السيد ماكاي. وحين ترك السيد ماكاي بجوار قارب الصيد السويدي «آن لوفكويست» من جوتبرج، أبدى أمله في أن يأتي جرانت إلى سهرة «كايلي» الليلة. ستكون الجزيرة كلها هناك، وسيستمع إلى بعض الغناء الجميل.
وحين سأل مضيفه عن سهرة «كايلي» وعن مكان إقامتها، قال السيد تود إنها ستشمل المزيج المعتاد من الغناء والحديث، وستنتهي بالرقصة المعتادة، وإنها ستقام في المكان الوحيد الملائم على الجزيرة لمثل هذه التجمعات؛ قاعة بيريجرين. «لماذا اسم بيريجرين؟» «ذاك هو اسم السيدة التي تبرعت بها. كانت معتادة على المجيء إلى الجزيرة صيفا، وكانت تساند مساندة كاملة تحسين التبادل التجاري وتحقيق الاكتفاء الذاتي لسكان الجزيرة؛ لذا شيدت كوخا طويلا جميلا بنوافذ كبيرة وكوات في سقفه حتى يتسنى لسكان الجزيرة أن ينسجوا الصوف برفقة بعضهم بعضا دون أن يتلفوا أعينهم على النول في غرف صغيرة مظلمة. قالت إن عليهم أن يتعاونوا وينشئوا علامة تجارية خاصة بجزيرة كلادا لأنسجة الصوف ويجعلوها مطلوبة كثيرا، كأنسجة هاريس. كان بإمكان تلك المسكينة أن توفر على نفسها العناء والمال. فلا أحد من ساكني الجزيرة على استعداد لأن يمشي ولو ياردة واحدة للذهاب إلى العمل. إنهم يفضلون العمى على أن يخرجوا ويغادروا بيوتهم. لكن هذا الكوخ مفيد جدا لتجمعات الجزيرة. لماذا لا تأتي اليوم وتلقي نظرة حين يبدأ التجمع؟»
قال جرانت بأنه سيفعل ذلك، وغادر ليقضي بقية اليوم في تسلق تل كلادا الوحيد. لم يكن ثمة ضباب اليوم رغم أن الرياح كانت لا تزال مشبعة بالرطوبة، وفيما كان يصعد التل كان البحر ينبسط ويمتد من تحته، تتناثر فيه الجزر ويتخلله المد والجزر. وفي مواضع مختلفة تجد خطا منفردا، مستقيما استقامة غير طبيعية في نسق الطبيعة هذا، دالا على مسار إحدى السفن. من أعلى كان عالم الجزر الغربية كله تحت قدميه. جلس هناك يفكر في الأمر؛ ذلك العالم القاحل المحاط بالمياه، وبدا له أنه أكثر العوالم عزلة. عالم انبثق، في جانب منه ، من الفوضى، أرض خربة وخالية. أطرق بعينيه إلى كلادا نفسها، وكان من المستحيل أن يميز ما إذا كان ينظر إلى يابسة تعج بالبحيرات أم إلى بحر يعج بالجزر؛ ذلك أن البحر واليابسة كانا مختلطين جدا. كان مكانا من الأفضل أن يترك للإوز الرمادي والفقمات.
لكنه كان سعيدا في موقعه هناك بالأعلى؛ إذ كان يرقب الأنماط المتغيرة على سطح البحر، بألوان الرمادي والأخضر والبنفسجي، ويراقب طيور البحر التي تحلق لتتفقده، ورفرفة طيور الزقزاق الساكنة للأعشاش في السهل. أخذ يفكر في السراب الذي تحدث عنه السيد ماكاي والأحجار التي تسير. أخذ يفكر، ولم يتوقف قط عن التفكير لأي فترة من الوقت، في راكب المقصورة «بي 7». هنا كان عالم راكب المقصورة «بي 7»، بحسب المواصفات التي ذكرها. الرمال المغنية، الوحوش المتكلمة، والأحجار السائرة، والأنهار الراكدة. ما الذي كان ينوي راكب المقصورة «بي 7» فعله هنا؟ مجرد أن يأتي ويشاهد كما فعل هو؟
انطلاق بسرعة البرق، مع حقيبة سفر صغيرة. كان ذلك بالتأكيد ينذر بأحد أمرين؛ مقابلة أو تحقيق. ولأن أحدا لم يفتقده بعد، فلا يمكن أن تكون تلك مقابلة. لذا كان هذا تحقيقا. ويمكن للمرء أن يتحقق من الكثير من الأشياء؛ منزل، أو احتمالية ما، أو لوحة فنية. لكن إذا كان المرء مدفوعا لكتابة الشعر وهو في الطريق، فالشعر إذن كان مؤشرا إلى الشيء موضوع التحقيق.
فما الذي قيد راكب المقصورة «بي 7» بهذا العالم الكئيب؟ هل كان يفرط في قراءة كتب إتش جي إف بينش-ماكسويل وأمثاله؟ هل نسي أن الرمال الفضية والأزهار البرية والبحار ذات اللون الأزرق الياقوتي هي أشياء موسمية تماما؟
من على قمة التل في كلادا، بعث جرانت بتحية إلى راكب المقصورة «بي 7» وترحم عليه. فلولا راكب المقصورة «بي 7» ما كان سيجلس فوق هذا العالم المشبع بالمياه شاعرا وكأنه ملك. كان يشعر وكأنه ولد من جديد وبأنه يملك زمام نفسه. كان الآن أكثر من مجرد مناصر لراكب المقصورة «بي 7»: كان مدينا له. كان خادمه.
وبينما كان يغادر المأوى الذي وجده لنفسه ضربته الريح في صدره، فمال للأمام مستقبلا إياها بصدره وهو ينزل التل كما اعتاد أن يفعل حين كان صبيا، فكانت بمثابة دعامة له، وكان يمكن أن ينزل التل وهو يكاد يتردى بطريقة مذهلة للغاية ويظل آمنا.
سأل جرانت مضيفه وهما يترنحان في الظلام بعد العشاء في طريقهما نحو تجمع «كايلي»: «كم تدوم العواصف في هذا الجزء من العالم عادة؟»
قال السيد تود: «ثلاثة أيام على الأقل، لكن ذلك لا يحدث كثيرا. ففي الشتاء الماضي ظلت العاصفة تهب طيلة شهر كامل. إنك تعتاد على هديرها حتى إنه لو اختفى لحظة تحسب أنك أصبت بالصمم. من الأفضل لك أن تعود بالطائرة حين تغادر بدلا من عبور مضيق منش في هذا الطقس. معظم الناس يستخدمون الطائرات الآن، حتى كبار السن الذين لم يروا قطارا في حياتهم. إنهم يثقون بالطائرات ثقة عمياء.»
فكر جرانت في أنه قد يعود بالطائرة بالفعل. وأنه لو انتظر عدة أيام أخرى، إن تسنى له مزيد من الوقت ليزداد اعتيادا على سعادته التي اكتشفها حديثا، فقد يستخدم الرحلة الجوية كاختبار. سيكون اختبارا شديدا جدا؛ أشد اختبار يمكن أن يضع نفسه فيه. إن احتمالية أن يحشر أي شخص مصاب برهاب الأماكن المغلقة في مساحة صغيرة ويعلق بلا حول ولا قوة في الهواء هي بمثابة رعب محض. وإذا واجه ذلك من دون أن يجفل، واجتازه من دون كارثة، فيمكنه أن يعلن أنه قد شفي. سيعود رجلا كما كان.
لكنه سيتمهل قليلا؛ كان الوقت لا يزال مبكرا على أن يسأل نفسه هذا السؤال.
كان تجمع «كايلي» قد بدأ منذ عشرين دقيقة حين وصلا، فوقفا مع بقية الحضور من الرجال في الخلف. ولم يكن يجلس على الكراسي في القاعة سوى النساء والعجزة. كان الحضور من الرجال يصطفون على الحائط في الخلف ويتجمعون حول المدخل، عدا صف من الرجال يجلسون في المقدمة، حيث جلست الشخصيات المهمة في الجزيرة (دنكان تافيش، التاجر الذي كان بمثابة ملك غير متوج في كلادا، وممثلا الكنيستين، وبعض الشخصيات الأقل أهمية). لاحظ جرانت أن هذا التجمع كان ذا طابع عالمي غير عادي، وذلك حيث كان الحضور من خارج الجزيرة يفسحون لهما الطريق؛ وكان كل من السويديين والهولنديين قد أتوا بأعداد كبيرة، وكان توجد لهجات تنتمي إلى ساحل أبردينشاير.
كانت فتاة تغني بطبقة سوبرانو رفيعة. وكان صوتها عذبا وصادقا لكنه خال من التعبير. كان أشبه بمحاولة شخص أن يمرر الهواء في ناي. تلاها شاب واثق من نفسه تلقى تصفيقا وترحيبا، وأخذ يتباهى بذلك بطريقة واضحة وصار الأمر مضحكا، حتى إن المرء لينتظر أن ينفش ريش صدره وكأنه طائر. بدا أنه شخصية محبوبة كثيرا لدى الحضور من الغيليين المنفيين على البر الرئيسي، وقد أمضى الجمهور وقتا في مطالبته بالغناء مجددا أطول مما أمضى في حقله المهمل. غنى أغنية حماسية قصيرة بدرجة صوت خشنة مرهقة وتلقى تصفيقا حادا. مما أدهش جرانت قليلا أن هذا الشاب لم يكلف نفسه من قبل عناء أن يتعلم أساسيات الغناء. لا بد أنه قد التقى أثناء رحلاته القصيرة إلى البر الرئيسي بمغنين حقيقيين تعلموا كيفية استخدام أصواتهم؛ كان من المذهل حتى في حالة شخص مغرور وتافه مثله أنه لم يفكر قط في تعلم أسس الفن الذي امتهنه.
غنت امرأة أخرى أغنية أخرى خالية من التعبير بمقام كونترالتو، وقص رجل قصة طريفة. وعدا العبارات القليلة التي كان قد تعلمها من المسنين في ستراثسبي حين كان طفلا، لم يكن جرانت يفهم اللغة الغيلية مطلقا، وكان يستمع كما لو كان يستمع إلى شيء مسل بالإيطالية أو التاميلية. كان الأمر كله مملا جدا، باستثناء البهجة التي وجدها الناس أنفسهم في ذلك الأمر. كانت الأغاني متواضعة على الصعيد الموسيقي، بل إن بعض الأغاني كانت سيئة إلى درجة مستهجنة. وإن كان هذا هو الشيء الذي يأتي الناس إلى جزر هيبريديز ويتجمعوا لأجله، فإن الأمر لم يكن يستحق التجمع. لقد جابت الأغاني الملهمة القليلة سائر أنحاء العالم بأجنحتها الخاصة، شأنها في ذلك شأن كل ثمار الإلهام. لذا كان من الأفضل أن تنبذ محاولات التقليد الضعيفة هذه حتى تخمد .
وطوال الحفل كانت ثمة حركة مستمرة من الدخول والخروج بين الرجال في الجزء الخلفي من القاعة، لكن جرانت كان يعلم ذلك ويلاحظه فقط باعتباره أمرا لا بد منه، إلى أن ضغط أحدهم على ذراعه وسمع في أذنه شخصا يقول له: «أتود أن تحصل على بعض من الشراب؟» فأدرك أن ضيافة الجزيرة تعرض عليه حصة من أندر سلعة في اقتصادها. وحيث إنه كان من غير اللائق أن يرفض، شكر جرانت فاعل الخير، وتبعه إلى العتمة في الخارج. وعلى جدار قاعة الاجتماع المدابر للريح كانت أقلية ممثلة لرجال كلادا تستند عليه في صمت قانع. دفع أحدهم في يده بزجاجة مسطحة سعتها تعادل فنجاني شاي. فقال: «في صحتك!» وأخذ منها جرعة كبيرة. استعادت يد أخرى الزجاجة منه مسترشدة بعين متمرسة في الظلام أكثر من عينه، وتمنى له صوت دوام الصحة. ثم تبع صديقه المجهول عائدا إلى القاعة المضاءة. وبعد قليل رأى السيد تود أحدهم يضغط على ذراعه خلسة، فمضى السيد تود أيضا إلى الخارج في العتمة ليحظى بشيء من تلك الزجاجة. فكر جرانت في أن هذا لا يمكن أن يحدث في أي مكان آخر. عدا الولايات المتحدة أثناء فترة حظر الكحوليات. لا عجب كثيرا في أن الاسكتلنديين كانوا حمقى وماكرين ومتظاهرين بالخجل فيما يتعلق بالويسكي. (عدا في ستراثسبي بالطبع، حيث يصنع الويسكي. في ستراثسبي كانوا يضعون الزجاجة في منتصف الطاولة كما يفعل الإنجليز في واقع الأمر وإن كانوا يفعلون ذلك بقدر أكبر قليلا من الفخر.) ولا عجب كثيرا في أنهم كانوا يتصرفون وكأن الحصول على شراب الويسكي أمر يتسم بالجرأة، ناهيك عن وصفه بأنه مجازفة. الأمر المثير للدهشة أن النظرة الخبيثة المتسمة بالدراية التي يشير بها الشخص الاسكتلندي العادي إلى مشروبه الوطني لا يمكن إلا أن تأتي من معرفة متوارثة بالحظر، إما من الكنيسة أو من القانون.
أخذ جرانت، مستدفئا بالشربة التي أخذها من الزجاجة المسطحة، يستمع بأناة إلى دنكان تافيش وهو يتحدث بثقة ويسهب في الحديث باللغة الغيلية. كان يقدم ضيفا أتى من مكان بعيد ليتحدث إليهم. ضيف لم يكن في حاجة لتقديم منه أو من أي أحد؛ ضيف تتحدث إنجازاته عن نفسها. (ومع ذلك راح دنكان يتحدث عنها مطولا.) لم تلتقط أذنا جرانت اسم الضيف باللغة الغيلية، لكنه أدرك أن المارقين أتوا من الخارج متجمعين عند سماعهم صوت التصفيق والهتاف الذي أعقب خطبة تافيش المنمقة. إما أن المتحدث هو محور الاهتمام الحقيقي للأمسية وإما أن مفعول الويسكي قد تبدد.
راح يراقب في فضول يتسم بالسكون الجسد الصغير وهو ينفصل عن الصف الأول، ويصعد بصعوبة على المسرح بمساعدة البيانو، ويخطو نحو منتصفه.
كان الضيف هو وي آرتشي.
بدا وي آرتشي أكثر غرابة في كلادا مما كان عليه في أرض كلون السبخة؛ فقد كانت قامته غير ملائمة أكثر، ومظهره البهي الشبيه ببهاء ببغاء الكوكاتو أكثر مدعاة للنفور. لم تكن التنورة الاسكتلندية هي رداء سكان الجزر الغربية، ووسط كل هؤلاء الذكور بالألوان الرصينة لملابسهم السميكة الخشنة بدا وي آرتشي أكثر من ذي قبل مثل «دمية تذكارية». ومن دون قلنسوته الجريئة ذات اللون الأخضر الفاقع بدا بطريقة ما عاريا، كرجل شرطة من دون خوذته. كان شعره قليلا جدا ومسحوبا في شكل خيوط رفيعة إلى أعلى رأسه ليخبئ به البقعة الخالية من الشعر. كان يبدو مثل هدية رخيصة من هدايا عيد الميلاد.
ومع ذلك، لم يكن يوجد تصنيف للترحيب الذي حظي به. فباستثناء العائلة المالكة، بصفة شخصية أو بكاملها، لم يستطع جرانت أن يفكر في أي شخص يمكن أن يتلقى ترحيبا واستقبالا مكافئا لما كان وي آرتشي يتلقاه الآن. حتى مع استقطاع تأثير تناول الشراب عند الجزء المدابر للريح من المبنى، كان الأمر مثيرا للذهول. وكان الصمت الذي تبع هذا الترحاب، حين بدأ حديثه، مثيرا للإطراء. تمنى جرانت لو كان بإمكانه رؤية الوجوه. تذكر أن بيلا من جزيرة لويس لم تعجبها محاولاته لإقناعها بفكره عند الباب الخلفي للمنزل، أما رأي بات رانكن فيه فغير قابل للنشر. ولكن سكان الجزيرة هؤلاء، المعزولين عن العالم وعن التنوع الذي يمكن له وحده أن يعلم الرجل كيف يفرق بين هذا وذاك، ما رأيهم فيه؟ هنا كانت توجد المادة الخام لأحلامه؛ السذاجة والنهم والانشغال بالذات والتبجح. لا يمكن تحويل سكان الجزيرة إلى حكم آخر؛ لأن أحدا لم يحكمهم بأي معنى حقيقي للكلمة. من وجهة نظر سكان الجزيرة أن الحكومة موجودة من أجل استنزاف منافعها وخداعها بعدم سداد مستحقاتها. ولكن يمكن اللعب على طبيعتهم الانفصالية من أجل تنفيرهم من مشاعر التعاطف؛ يمكن شحذ سمة الانتهازية لديهم بإغرائهم بالمنافع. في كلادا، لم يكن وي آرتشي هو التافه المثير للخجل الذي كان عليه في بحيرة لوخان دهو؛ في كلادا كان وي آرتشي مصدر نفوذ محتمل. كانت كلادا وكل الجزر المصاحبة لها تمثل، في التقدير النهائي، قواعد غواصات، ونقاط تهريب، وأماكن انطلاق، وأبراج مراقبة، ومهابط للطائرات، وقواعد دوريات. ماذا كان رأي سكان الجزيرة في جيلسبوج ماك أبروثين وعقيدته؟ تمنى لو كان باستطاعته رؤية وجوه الحاضرين.
أخذ وي آرتشي يتحدث إليهم مدة نصف ساعة بصوته الرفيع الغاضب، بحماسة وحرارة ومن دون توقف، وأنصتوا له من دون صوت. ألقى جرانت نظرة على صفوف المقاعد الموجودة أمامه، وفكر في أنها تبدو أقل امتلاء مما كانت عليه في بداية الأمسية. وكان هذا الأمر مستبعدا جدا حتى إنه صرف انتباهه عن وي آرتشي ليفكر فيه. ولمح حركة خفية فيما بين الصفين الخامس والسادس فتتبعها بعينيه حتى وصلت نهاية الصف. انتصب الشخص صاحب الحركة فظهر أنه كاتي آن. ومن دون إحداث جلبة، وبعينين جادتين مثبتتين على المتحدث، تلاشت كاتي آن نحو الخلف عبر صفوف الرجال واختفت في الخارج.
ظل جرانت يراقب لمدة أطول قليلا فوجد أن عملية الذوبان هذه مستمرة، بين الجالسين من الجمهور وبين الواقفين حول الجدران. كان الجمهور يتسرب خفية أمام ناظري آرتشي. كان هذا غير معتاد على الإطلاق - فالجمهور الريفي سينتظر دائما حتى نهاية العرض مهما كان مملا - حتى إن جرانت التفت إلى السيد تود وهمس سائلا: «لماذا يغادرون؟» «إنهم ذاهبون لمشاهدة الباليه.» «الباليه؟» «التلفزيون. إنها متعتهم الكبرى . كل شيء آخر يرونه على التلفزيون ما هو إلا نسخة من شيء رأوه بالفعل. المسرحيات والغناء، وكل شيء. لكن الباليه شيء لم يروه من قبل. لن يفوتوا على أنفسهم مشاهدة الباليه لقاء أي شيء أو من أجل أي أحد ... ما المضحك كثيرا في ذلك؟»
لكن جرانت لم يكن يضحك على شغف كلادا بالباليه. كان مبتهجا بالتجريد المستبعد لآرتشي من فاعليته. مسكين آرتشي. مسكين ذلك المغرور الواهم وي آرتشي. لقد تغلبت عليه وضعية «أرابيسك»، وأحبطته «وثبة تصالبية»، وهزمته حركة «بلي». كان الأمر ملائما ومناسبا بصورة مذهلة. «هل ذهبوا بلا عودة؟» «أوه لا، سيعودون من أجل الرقص.»
وقد عادوا بالفعل بأعداد كبيرة. كان كل شخص على الجزيرة حاضرا في الرقصة؛ فالعجزة كانوا يجلسون في حلقة، والمشاركون يصيحون في حماسة بالغة. كان الرقص أقل رشاقة مما كان جرانت معتادا عليه في البر الرئيسي، وأقل جمالا؛ كان المرء يحتاج في الرقص الخاص بمنطقة المرتفعات إلى التنورة الاسكتلندية، والحذاء الجلدي الناعم الذي لا يحدث أي صوت على الأرض، ويجعل الرجل يرقص كشعلة بين ذؤابات السيوف. كان الرقص على الجزيرة يشبه كثيرا الرقص الأيرلندي؛ الكثير من الجمود الأيرلندي المحزن الذي جعل الرقص مجرد حركات قدمين، وليس دفقة من المرح تملأ الإنسان حتى نهاية أطراف أصابع يديه المرفوعتين لأعلى. لكن إن كان الرقص نفسه يفتقر إلى الفن والابتهاج، فقد كانت توجد حالة فرح جماعية رائعة في هذا الأداء الإيقاعي. كانت توجد مساحة كافية، مع بعض الضغط، لثلاث مجموعات، كل واحدة منها من ثمانية أفراد، وعاجلا أو آجلا انجرف الجميع، بمن في ذلك السويديون والهولنديون، في هذا الأداء الجماعي. أطلق كمان وبيانو إيقاعا حرا جميلا (ولأن تلك الرقصة كانت بحاجة إلى فرقة منضبطة، هكذا فكر جرانت وهو يرسل كاتي آن إلى ذراعي رجل سويدي مسرور، كان المرء في حاجة إلى قرع طبول مزدوج ووقفة؛ قد لا يكون هذا إيقاعا أصوليا، ولكنه كان فعالا بلا شك)، وكانت تتزامن حركات أيدي أولئك المستريحين مع الموسيقى. أخذت الريح تعوي على امتداد الكوات في السقف، وصرخ الراقصون، وعزف الكمان أنغاما شاذة، وصدح البيانو بأصوات عالية، وقضى الجميع وقتا رائعا.
بما في ذلك ألان جرانت.
عاد إلى المنزل يترنح وسط ضربات البرد اللاذعة التي أحدثتها الرياح الجنوبية الغربية التي لا ترحم، وارتمى على الفراش ثملا من المجهود والهواء الطلق. كان يوما مبهجا.
كما كان مفيدا أيضا. سيكون لديه ما يحكيه لتيد هانا حين يعود إلى البلدة. كان يعرف الآن من هم «غربان» آرتشي براون.
هذه الليلة لم ينظر جرانت إلى النافذة المغلقة بتوجس. وأيضا لم ينسها تماما. بل نظر إلى النافذة المغلقة وكان مسرورا بها. لقد استوعب وجهة نظر الجزيرة في وجود نافذة لتمنع وصول طقس الخارج إلى الداخل.
تدثر في عشه القطني المحشو، بعيدا عن الرياح والعواصف، وغط في سبات عميق خال من الأحلام.
الفصل الثامن
رحل وي آرتشي صباح اليوم التالي حين أطلق «المركب» نداءه في طريقه لنشر النور في كل الأماكن المظلمة الأخرى في مجموعة الجزر. كان قد مكث لدى نيافة القس السيد ماكاي، كما اتضح، وتساءل جرانت عما سيظنه ذلك الأب طاهر الذيل المبعوث إلى أحد أجزاء منطقة المرتفعات إن علم حقيقة ما كان يأويه تحت سقف منزله. أم إن نيافة القس السيد ماكاي أيضا كان مصابا بمرض آرتشي براون؟
في العموم لم يكن جرانت يظن ذلك.
كان السيد ماكاي يتمتع بالسلطة التي يسعى إليها أي رجل فان؛ إذ كان يحصل على ترضية لغروره صباح كل يوم أحد؛ لقد رأى العالم، ورأى الحياة والموت، وأرواح الناس فيما يتعلق بكليهما، وكان مستبعدا أن يكون لديه توق إلى أمجاد خفية. كان ببساطة مضيفا لشخصية اسكتلندية شهيرة. ذلك لأنه في بلد صغير مثل اسكتلندا كان آرتشي يصنف شخصية شهيرة، ولا شك في أن السيد ماكاي كان مسرورا للغاية باستضافته.
لذا استحوذ جرانت على الجزيرة لنفسه، وطيلة خمسة أيام في صحبة الرياح الناعقة أقام في مملكته الموحشة. كان الأمر أقرب الشبه بالسير بكلب مشاكس؛ كلب يهرع ويسبقك في الممرات الضيقة، ويقفز عليك بنشوة حتى يكاد يسقطك على ظهرك، ويجرك بعيدا عن الاتجاه الذي تريد أن تسلكه. أمضى أمسياته وقدماه ممدودتان نحو نار غرفة المكتب وهو يستمع إلى قصص السيد تود عن امتلاك حانة في منطقة الأراضي المنخفضة. وكان يأكل بشراهة. فازداد وزنه بصورة واضحة. وكان ينام بمجرد أن يضع رأسه على الوسادة، ولا يستيقظ إلا في الصباح. وبحلول نهاية اليوم الخامس كان مستعدا لأن يواجه مائة رحلة جوية ولا يمضي اثنتي عشرة ساعة أخرى في هذا المكان.
وهكذا في صباح اليوم السادس وقف جرانت على مسطح واسع من الرمال البيضاء في انتظار طائرة صغيرة تقله في طريق عودتها من ستورنواي. وكان الشك الذي بدأ يدب في أعماق نفسه يختلف تمام الاختلاف عن شعور التوجس المتغلغل الذي توقع أنه سيجتاحه في هذه اللحظة. وقف السيد تود معه، وإلى جواره على الرمال كانت توجد حقيبته الصغيرة. وعلى العشب، حيث ينتهي الطريق، كانت تقف سيارة فندق كلادا، الوحيدة على الجزيرة والوحيدة في فئتها في أي مكان في العالم. وقفوا هناك، أربعة أشياء ضئيلة قاتمة وسط الفراغ اللامع تراقب الشيء الصغير الذي يشبه الطائر وهو يهبط عليهم من السماء.
فكر جرانت في أن هذا المشهد كان أقرب إلى الفكرة الأصلية التي تواتي المرء في هذه الآونة حين يفكر في أمر الطيران. وكما كان شخص ما قد أشار سابقا، حين راود حلم الطيران الإنسان للمرة الأولى، رأى نفسه يرتفع بجناحيه الفضيين نحو القبة السماوية، لكن تبين أن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق. ففي البداية نقل بتثاقل إلى قاعدة عسكرية، ثم أغلق عليه صندوق؛ فشعر بالذعر، ثم أصيب بالإعياء، ثم وصل إلى باريس. كان التقاطه من على الرمال من على حافة العالم القريبة من البحر بواسطة طائر يهبط هبوطا غير متقن أقرب ما يمكن أن يصل إليه المرء لرؤية الإنسان الأصلية للتحليق الحر.
توقف الطائر الكبير أمامهم على الرمال، وشعر جرانت بالذعر للحظة. كان الطائر عبارة عن صندوق في نهاية المطاف. فخ ضيق مغلق. لكن عفوية كل شيء خففت من تيبس عضلاته تقريبا بمجرد أن بدأت تتصلب. ربما كان الذعر سيتغلب عليه لو كان يمر بنظام وتعليمات المطار العملية حيث يكون موجها ومجبرا. لكن هنا، على هذه المساحة المفتوحة من الرمال، حيث يقف الطيار على الدرجة العلوية من سلالم الطائرة بينما كان جرانت يتحدث إلى السيد تود، ووسط نعيق طيور النورس ورائحة البحر، كان الأمر شيئا إما أن يقبل به المرء وإما أن يرفضه. لم يكن ثمة إجبار يخشاه.
لذا حين حانت اللحظة وضع جرانت قدمه على الدرجة الأخيرة، ولم يكن يعتريه شيء سوى تسارع خفيف في نبضات قلبه. وقبل أن يتمكن من تحليل ردة فعله تجاه إغلاق الباب جذب شيء آخر انتباهه. فأمامه، في الجانب الآخر من الممر، كان وي آرتشي يجلس.
بدا وي آرتشي وكأنه قد نهض من الفراش لتوه، وكأنه فعل ذلك أيضا على عجل. كانت ملابسه غير المهندمة تبدو أكثر من ذي قبل، وكأنها ملابس شخص آخر تماما. بدا وكأنه هيكل مهمل ملقى عليه بعض دعائم أحد الاستوديوهات. حيا وي آرتشي جرانت كصديق قديم له، وتعالى عليه فيما يتعلق بجهله بالجزر الغربية، ونصحه بتعلم اللغة الغيلية باعتبارها لغة سيفيده تعلمها، ثم عاد إلى نومه. فجلس جرانت وأخذ ينظر إليه.
فكر في نفسه، يا لهذا الوضيع الضئيل. هذا الوضيع الضئيل التافه.
انفغر فم آرتشي وهو نائم، ولم تعد خصلات الشعر تغطي المنطقة العارية من رأسه. أما ركبتاه فوق الجورب السميك الملون فكانتا أشبه بعينات تشريحية أكثر من أي آلية مصممة لتسيير كائن حي. لم تكونا ركبتين، بل كانتا «مفصلي ركبة». كان التعبير عنهما باستخدام كلمة «شظية» مثيرا للاهتمام بصورة خاصة.
ذلك الوضيع الضئيل الخبيث المختال. كانت لديه مهنة تكفيه كمصدر للرزق، مهنة كانت ستجعله يحظى باحترام كبير، مهنة كان سيظفر من ورائها بمثوبة روحية. لكن هذا لم يرض نفسه الأنانية. كان في حاجة لأن يكون محط الأنظار. لم يكن آرتشي يهتم بمن يدفع لقاء دعوته ما دام بوسعه أن يتبختر تحت الأضواء.
كان جرانت لا يزال يفكر في الدور الأساسي الذي لعبته الخيلاء والغرور في صناعة المجرم حين تفتح تحته نمط هندسي وكأنه زهرة يابانية تتفتح في الماء. فأبعد أفكاره عن الأمور النفسية من أجل أن يفكر في هذه الظاهرة الهندسية الإقليدية في عالم الطبيعة، ووجد أنها كانت تحيط بالمطار الموجود في البر الرئيسي. لقد استقل الطائرة عائدا من كلادا، وبالكاد لاحظ وجودها.
نزل جرانت سلالم الطائرة إلى المدرج وتساءل عما سيحدث لو رقص رقصة الحرب من الفرح في التو واللحظة. أراد أن يتجول في المطار راقصا مبتهجا كطفل يمتطي جواده اللعبة للمرة الأولى. بدلا من ذلك، توجه إلى أكشاك الهاتف واتصل بتومي سائلا إياه إن كان بإمكانه أن يقله من فندق كاليدونيان في بلدة سكون بعد ما يقرب من ساعتين. كان ذلك في وسع تومي، وكان سيفعل.
وكان مذاق الطعام في مطعم المطار مثل مذاق الطعام في مطاعم لوكاس كارتون، وتور دا أرجنت، ولا كريميلير مجتمعة. لكن الرجل الجالس في الطاولة المجاورة له كان يشتكي بشدة بشأن الطعام. لكنه بالطبع لم يكن قد ولد من جديد بعد خمسة أشهر من المعاناة وبعد سبعة أيام مع كاتي آن.
بدا وجه تومي المستدير الودود في استراحة فندق كاليدونيان أكثر استدارة وودا مما بدا عليه وجهه من قبل.
لم تكن توجد رياح.
لم تكن توجد رياح على الإطلاق.
كان عالما جميلا.
فكر جرانت في أنه كم ستكون خيبة أمل بغيضة لو اجتاحه الذعر القديم حين يستقل السيارة مع تومي. ربما كان الذعر ينتظره في السيارة وهو يلعق شفتيه مترقبا.
لكن لم يكن ثمة شيء في السيارة. فقط هو وتومي والجو اللطيف الهادئ لمحادثتهما المعتادة. مضيا بالسيارة عبر الريف، ريف أكثر خضرة بقدر ملحوظ مما كان عليه قبل عشرة أيام، وكانت شمس المغيب ترسل أصابعها الذهبية الطويلة المتمثلة في الضوء عبر الحقول الهادئة.
سأل جرانت قائلا: «ماذا حدث في مراسم مويمور؟ أعني تقديم باقة الزهور.»
قال تومي وهو يقوم بحركات وكأنه يمسح جبهته: «أوه يا إلهي: تقصد ذلك !» «هل قدم الباقة؟» «إن كان تركها تأخذ الباقة يكافئ تقديمها، فأظن أنه عمليا قد قدمها. لقد سلمها لها مع خطبة ألفها بنفسه.» «أي خطبة؟» «أظن أنه كان يتدرب على إيجاد مخرج ما من هذا الموقف منذ أقنعناه بالأمر بجعل زوي كينتالين متمردة من نوع ما. بالمناسبة، كانت هذه فكرة لورا وليست فكرتي. ما حدث هو أنها حين انحنت لتأخذ منه باقة زهور القرنفل الكبيرة - فهي فارعة الطول - أبعدها عن متناولها للحظة وقال بحزم: «ليكن في علمك أنني أقدم لك هذه الباقة لأنك رفيقة ثائرة». فأخذتها دون أن يرمش لها جفن. وقالت: «أجل بالطبع. هذا لطف كبير منك»، رغم أنها لم يكن لديها أدنى فكرة عما كان يتحدث بشأنه. لقد تركت فيه تأثيرا كبيرا بالمناسبة.» «كيف ذلك؟» «بالطريقة الأنثوية القديمة الناجعة. إن بات الآن يخوض غمار افتتانه الأول.»
تطلع جرانت لرؤية تلك الظاهرة.
كانت كلون تمتد أمامه في سلام وسكينة في غورها الأخضر، فنظر جرانت إليها مثل بطل ظافر في الحرب عائد إلى وطنه. آخر مرة استقل فيها السيارة على ذلك الطريق الرملي كان عبدا، والآن صار رجلا حرا. لقد ذهب يبحث عن راكب المقصورة «بي 7» فوجد نفسه.
خرجت لورا تقابله عند عتبة الباب وقالت: «ألان، هل امتهنت بيع النصائح فيما يتعلق بسباقات الخيل مهنة جانبية؟» «لا، لماذا؟» «أم تكتب في أحد تلك الأعمدة التي تحمل أسماء مثل «القلوب الوحيدة»، أو شيء من هذا القبيل؟» «لا.» «لأن السيدة مير تقول إنه يوجد ملء حقيبة كبيرة من الخطابات في انتظارك في مكتب البريد.» «أوه، وكيف عرفت السيدة مير أن تلك الخطابات لي؟» «قالت إنك الوحيد الذي يدعى إيه جرانت في المنطقة. أفهم من هذا أنك لم تنشر إعلانا تطلب فيه زوجة؟»
فقال وهو يدخل معها إلى حجرة الجلوس: «لا، طلبت بعض المعلومات فحسب.»
في وقت مبكر من الغسق كانت الغرفة تعج بضوء نار المدفأة وبظلال متمايلة. ظن أن الغرفة خالية حتى لاحظ أن شخصا ما كان يجلس على الكرسي المنجد ذي الذراعين الكبير بجوار المدفأة. كان امرأة؛ طويلة ورفيعة بحيث بدت رشيقة كالظلال، وتعين عليه أن ينظر مرة أخرى إليها ليتأكد من أنها لم تكن في واقع الأمر ظلا.
جاء صوت لورا من خلفه يقول بنبرة تقديم: «الليدي كينتالين. لقد عادت زوي إلى كلون من أجل صيد السمك لبضعة أيام.»
مالت المرأة إلى الأمام لتصافحه ورأى أنها كانت شابة صغيرة.
فقالت تحييه: «سيد جرانت، تقول لورا إنك تحب أن يناديك الناس بلقب سيد.» «أجل. أجل، أحب ذلك. فلقب «مفتش» غير جذاب في الحياة الخاصة.»
فقالت بصوتها الرقيق الناعم: «ومصطنع بعض الشيء أيضا. كشيء مأخوذ من قصة بوليسية.» «أجل؛ الناس يتوقعون من المرء أن يقول: «أين كنت في مساء ليلة معينة من الشهر الحالي؟»» كيف يمكن لهذا المخلوق الملائكي أن يكون أما لثلاثة أبناء أحدهم يكاد يكون كبيرا بما يكفي للانتهاء من المدرسة؟ «هل صادفك حظ سعيد في النهر؟» «اصطدت سمكة سلمون لا بأس بها صباح اليوم. ستتناولها على العشاء.»
كانت تتمتع بذلك النوع من الجمال الذي يتيح لامرأة أن تفرق شعرها من منتصف رأسها وينسدل عليها بسلاسة. رأس صغير داكن الشعر على رقبة طويلة ممشوقة.
تذكر فجأة غرفة النوم التي كانت قد جددت حديثا. إذن كان الدهان الجديد من أجل زوي كينتالين، وليس من أجل آخر مرشحات لورا له. كان هذا مبعث ارتياح كبير. كان من السيئ جدا أن يواجه بالنساء اللواتي كانت لورا ترشحهن للزواج، لكنه أن يشاطر سقف المنزل نفسه مع آخر ترشيحاتها كان سيصبح أمرا شاقا، وهذا أقل ما يقال عن ذلك.
قالت لورا معلقة على وصوله المبكر: «لا بد أن قطار أوبان وصل في موعده لأول مرة.»
فقال تومي وهو يلقي بقطعة حطب أخرى في النار: «أوه، لقد عاد بالطائرة.» قالها توم بعفوية، بغير إدراك مدى أهمية ذلك الحدث.
نظر جرانت إلى لورا، ورأى وجهها وقد أشرق من السعادة. أدارت رأسها لتجده بين الظلال، ورأت أنه كان ينظر إليها، فابتسم. هل كان الأمر يعني لها الكثير إذن ؟ يا عزيزتي لالا. عزيزتي لالا الحنونة المتفهمة.
شرعوا يتحدثون عن الجزر الغربية. وقص تومي قصة لطيفة عن رجل طارت قبعته بينما كان يصعد على متن قارب في بارا، ووجدها تنتظره على رصيف ميناء ماليج. وكانت لورا تلقي بالطرف حول استحالة الحديث بلغة لا تحتوي على كلمات عمرها أقل من مائتي عام، وقدمت سردا تخيليا لحادثة طريق. («كذا وكذا دراجة، كذا وكذا سبيند، كذا وكذا مكابح، كذا وكذا محرك جر، كذا وكذا سيارة إسعاف، كذا وكذا نقالة، كذا وكذا مخدرا، كذا وكذا عنبرا خاصا، كذا وكذا مخطط درجة حرارة، كذا وكذا زهور الأقحوان، زهرة فريزيا حوذان النرجس القرنفل ...») كانت زوي قد أقامت في الجزر الغربية وهي طفلة، وكانت عليمة بصيد السلمون؛ وهو فن تعلمته على يد موهبة محلية تحت أعين مراقب الصيد الخاص بمضيفها.
كان جرانت مسرورا؛ إذ إن وجود هذه الضيفة لم يعكر صفو الجو الأسري في كلون بأي شكل من الأشكال. بدت المرأة غير مدركة لمدى جمالها، ولا تتوقع الاهتمام من أحد. ولم يندهش جرانت أن بات أصبح مفتونا بها.
ولم يذهب عقله إلى التفكير في حقيبة الخطابات التي تنتظره في مكتب البريد في مويمور إلا حين أغلق عليه باب غرفته وأصبح وحيدا. حقيبة من الخطابات! حسنا، في نهاية المطاف لم يكن ذلك مفاجئا بصورة لا يمكن تحملها. إن حياة المرء في دائرة المباحث الجنائية كيفت المرء على وجود هواة كتابة الخطابات. كان يوجد أشخاص أكثر ما يهمهم في الحياة هو كتابة الخطابات. إلى الصحف، إلى الكتاب، إلى الغرباء، إلى مجالس المدن، إلى الشرطة. لم يكن يهم كثيرا المرسل إليه الخطاب؛ إذ بدا أن الرضا الناتج عن الكتابة هو كل ما يهم. سبعة أثمان تلك الكومة من الخطابات ستكون نتاج أولئك الذين هوايتهم كتابة الخطابات.
لكن كان لا يزال هناك الثمن الأخير.
عم سيفصح الثمن الأخير؟
في الصباح شاهد الضيفة وهي تجهز أدواتها من أجل الذهاب إلى النهر، وتمنى لو كان ذاهبا معها، ولكن كانت رغبته في الذهاب إلى مكتب البريد في مويمور أكبر. انطلقت من دون إثارة جلبة، مكتفية بذاتها ومتوارية عن الأنظار، وحين كان جرانت يشاهدها وهي تسير على طول الطريق فكر أنها كانت أشبه بصبي مراهق منها بأرملة نبيلة منتظرة. كانت ترتدي بنطالا في غاية الأناقة وسترة قديمة بالية كتلك التي يرتديها الحطابون، وعلق قائلا لتومي إنها إحدى النساء القلائل اللائي يبدون جميلات حقا وهن يرتدين البنطال.
فقال تومي: «إنها المرأة الوحيدة في «العالم» التي تبدو جميلة وهي ترتدي بنطال التخويض.»
وهكذا غادر جرانت للقاء السيدة مير في مويمور. كانت السيدة مير تأمل في أن يكون لدى جرانت سكرتير، وقدمت له فتاحة خطابات. كانت الفتاحة فضية رفيعة، وملطخة للغاية بحيث فقدت بريقها ولمعانها، وكانت لها رأس شائك مصنوع من حجر الجمشت. وحين أشار إلى أن الفتاحة مميزة وذات قيمة عالية في هذه الأيام، وأنه لا يمكنه أن يقبل هدايا ثمينة من نساء غريبات، قالت له: «سيد جرانت، ذلك الشيء موجود في متجري منذ خمسة وعشرين عاما. صنع ليباع هدية تذكارية أيام ما كان الناس يقرءون. والآن كل ما يفعلونه هو أنهم يشاهدون ويستمعون. وأنت أول شخص أقابله طوال ربع قرن يكون «في حاجة» إلى فتاحة خطابات. بالتأكيد، عندما تنتهي من فتح كل الخطابات الموجودة في تلك الحقيبة، ستكون في حاجة لما هو أكثر من فتاحة خطابات، على ما أظن. على أي حال، هذه هي المرة الأولى والأخيرة في هذا المكتب التي يصلني فيها حقيبة بريد مرسل لشخص واحد، وأريد أن أجعل هذه المناسبة مميزة. لذا خذ الفتاحة الصغيرة!»
أخذها شاكرا، ورفع الحقيبة في السيارة وعاد إلى كلون.
فقالت في إثر مغادرته: «الحقيبة من ممتلكات مكتب البريد؛ لذا عليك أن تعيدها!»
أخذ جرانت الحقيبة إلى غرفته الخاصة، وراح ينظف الفتاحة الصغيرة حتى صارت تلمع، في سعادة وامتنان، وكأنها مسرورة أنها حظيت بالاهتمام بعد كل تلك السنوات، ثم أفرغ جرانت محتويات الحقيبة على الأرض ودس الفتاحة في أول خطاب تصل إليه يده. سألته صاحبة الخطاب الأول كيف تجرأ على لفت أنظار العامة إلى الكلمات التي كتبتها، وسط الكثير من الألم والتنقيب في النفس، في ربيع عام 1911، بأوامر من مرشدها الروحي أزول. كان الأمر يشبه أن يتعرى المرء أمام العامة، أن ترى أبياتها العزيزة مستباحة بهذا الطيش والاستهتار.
وفي ثلاثة عشر خطابا أخرى ادعى أصحابها أنهم هم من كتبوا هذه الكلمات (بدون إرشاد روحي) وسألوا عن الأمر. وأرسل خمسة أشخاص القصيدة الكاملة - خمس قصائد مختلفة - وادعى كل منهم أنه مؤلفها. واتهمه ثلاثة بالتجديف والاستخفاف بالمقدسات، وقال سبعة إنه كان يسرق من سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي. وقال أحدهم: «أشكرك كثيرا على تسلية هذا المساء أيها العجوز، وكيف هو حال الصيد في نهر تورلي هذا العام؟» ودله أحدهم على كتب الأبوكريفا، وآخر على كتاب «ألف ليلة وليلة»، وثالث إلى كتب رايدر هاجارد، ورابع إلى عقيدة التصوف، وخامس إلى الأخدود العظيم، وخمسة آخرون إلى مناطق متفرقة من أواسط وجنوبي أمريكا. وأرسل إليه تسعة أشخاص علاجات للإدمان على الكحول، كما أرسل إليه اثنان وعشرون شخصا منشورات حول جماعات طائفية سرية. كما قدم له شخصان اشتراكات في مجلات الشعر، وعرض عليه واحد تعليمه كيفية كتابة الشعر الرائج. وقال أحدهم: «إن كنت إيه جرانت الذي جلست معه أثناء هبوب الرياح الموسمية في بيشنوبور، فهذا هو عنواني الحالي.» وقالت إحداهن: «إن كنت أنت إيه جرانت الذي أمضيت الليلة معه في الفندق في أمالفي، فإنني أرسل هذا لألقي عليك التحية، وأتمنى لو كان زوجي يضاهيك.» وأرسل أحدهم تفاصيل عن جمعية عشيرة جرانت. تسعة من تلك الخطابات كانت فاحشة وقذرة. وثلاثة منها كانت غير واضحة ولا يمكن قراءتها.
كان يوجد مائة وسبعة عشر خطابا.
أما الخطاب الذي سره كثيرا فكان نصه: «لقد فهمت شفرتك، أيها الخائن اللعين، وسأبلغ الاستخبارات بشأنك.»
لم يحتو خطاب واحد من تلك الخطابات على أي شكل من أشكال العون.
أوه، حسنا. لم يكن حقا يأمل في ذلك. كانت تلك محاولة غير مضمونة النتائج.
على الأقل حظي بشيء من الترويح والتسلية من خلال هذا الأمر . والآن يمكنه أن يهدأ بالا ويتجه للصيد حتى نهاية إجازته المرضية. وتساءل عن المدة التي ستمكثها زوي كينتالين.
كانت الضيفة قد أخذت معها بعض الشطائر ولم تظهر على الغداء، لكن في الظهيرة أخذ جرانت صنارته وتبعها إلى النهر. من المحتمل أنها قد اصطادت في كل أنحاء بحيرة كلون، لكن ربما لم تكن تعرف تلك البحيرة بقدر ما كان يعرفها هو. ربما تسعدها بعض النصائح غير المزعجة. بالطبع لم يكن جرانت ذاهبا إلى النهر من أجل سبب واحد فقط وهو التحدث إليها. كان ذاهبا ليصطاد. لكن سيتعين عليه أن يجد أولا الجزء الذي تصطاد هي فيه. وبعد أن يجدها، يمكنه أن يمر بها ويلوح لها بيده بطريقة عرضية.
بالطبع لم يمر بها مطلقا. إذ جلس على الضفة يراقبها وهي تلقي بطعم جرين هايلاندر فوق تلك السمكة الكبيرة التي ظلت تسعى لصيدها بطعوم مختلفة طوال الساعة المنصرمة. قالت المرأة: «هذه السمكة تستهزئ بي. لقد أصبح الأمر شخصيا بيننا.» كانت المرأة تتعامل مع صنارتها بسهولة كأنها تصطاد منذ نعومة أظفارها، وهي تكاد أن تكون في حالة من الشرود، كما كانت لورا تفعل. كانت مشاهدتها تبعث على الكثير من الرضا.
اصطاد السمكة لها بعد ساعة، وجلسا معا على العشب وتناولا بقية شطائرها. سألته عن عمله، ولم يكن سؤالها بداعي أنه كان أمرا مدهشا، ولكن مثلما قد تسأل عنه لو كان مهندسا معماريا أو سائق قاطرة، وأخبرته عن أولادها الثلاثة وما سيصبحون عليه في المستقبل. كانت بساطتها راسخة، وعدم انشغالها بذاتها كان طفوليا في كماله.
قالت: «سيضطرب نايجل حين يعرف أنني كنت أصطاد في نهر تورلي.» قالتها كما قد تقولها أي فتاة عن رفيق لها في المدرسة، واستنتج جرانت أن هذا يصف علاقتها بأبنائها بدقة كبيرة.
كان لا يزال في النهار ساعات، لكن لم يقدم أي منهما على العودة إلى النهر. جلسا هناك على العشب ينظران إلى المياه البنية ويتحدثان. حاول جرانت أن يجد نظيرا لها في رقعة معارفه الواسعة، وأخفق في ذلك. لم تكن أي من النساء الجميلات اللاتي قابلهن في حياته تتمتع بطابع الأميرة الجنية الذي تتمتع به؛ مسحة الشباب الأبدي لديها. فكر في نفسه أنها ضلت طريقها من «تير نان أوج». كان من المدهش أنها لا بد، حين يفكر المرء في الأمر بعقلانية، أن تكون في نفس عمر لورا. «هل كنت على معرفة وثيقة بلورا في المدرسة؟» «لم نكن أصدقاء مقربين. كنت أشعر بمهابة هائلة منها.» «مهابة؟ من لورا؟» «أجل. كانت ذكية للغاية كما تعلم، وماهرة في كل شيء، ولم يكن بإمكاني جمع اثنين زائد اثنين.»
وإذ كان جزء من ابتهاجه بها كان يتمثل في التباين بين طابعها الذي يشبه رسوم حكايات هانس أندرسن وبين طبيعتها العملية، فقد خلص إلى أن هذه كانت مبالغة منها. لكن ربما كان صحيحا أنها لم تكن تحظى بفروع، إن جاز التعبير. لم يكن لديها أوراق كثيرة لتتنفس جو العالم. كان الجو العام لذهنها يتسم بأنه غير ممحص. كما أن كلامها لم يكن يحتوي على أي شيء من تعليقات لورا المليئة بالتلميحات، لم يكن يحتوي على أي شيء من اهتمام لورا السريع وتحليلاتها.
قالت، حين كانا يتحدثان عن خبرات الصيد الأولى: «إننا محظوظون جدا، أنت ولورا وأنا، أننا عرفنا منطقة المرتفعات حين كنا أطفالا. ذلك أقصى ما أتمناه لطفل. أن ينعم بمناطق ريفية جميلة. حين قتل ديفيد - زوجي - أرادوا مني أن أبيع منزل كينتالين. لم يكن لدينا كثير من المال، كما بددت ضرائب التركات الاحتياطي الذي كان يجعل المكان قابلا للسكن. لكنني أردت أن أتمسك به على الأقل حتى يكبر كل من نايجل وتيمي وتشارلز. سيكرهون فقده، لكن على الأقل سيكونون قد حظوا بعيش السنوات المهمة من حياتهم في ريف جميل.»
نظر إليها وهي تضع أدواتها بعناية في صندوق الأدوات بحرص طفل رصين مهندم، وفكر في أن حل مشكلتها يكمن بلا شك في الزواج مرة أخرى. كانت منطقة غرب لندن، التي يعرفها جيدا، منطقة حقيرة تعج برجال متأنقين يقودون سيارات لامعة، ويمكنهم الإبقاء على كينتالين دون الحاجة إلى بذل جهد أكثر مما يبذلونه في رعاية حديقة يابانية، والتي توجد في إحدى الغرف التي يطلقون عليها اسم غرف جلوس. لكنه رأى أن الصعوبة تكمن في أنه في عالم زوي كينتالين لم يكن المال مدخلا ولا إبراء.
تبددت أشعة شمس الربيع. وازداد سطوع السماء. وابتعدت التلال واستلقت، كما قالت لورا ذات مرة وهي طفلة، واصفة في ثماني كلمات سهلة المنظر والجو العام بأكمله لأمسية ذات طقس مستقر مبشرة بيوم جديد رائع.
قالت زوي: «يجب علينا أن نعود.»
وبينما كان يحمل أدوات الصيد من على الضفة فكر في أن عصر اليوم على ضفة نهر تورلي كان فيه سحر يفوق ما في كل تلك الجزر الغربية التي يروج لها كثيرا.
قالت وهما يصعدان التل نحو كلون: «أنت تحب عملك، أليس كذلك؟ قالت لي لورا إنه كان بإمكانك التقاعد قبل سنوات لو أردت ذلك.»
فقال بقليل من الاندهاش: «أجل، أظن أنه كان بإمكاني التقاعد. لقد تركت لي خالتي إرثا. إذ تزوجت برجل ميسور الحال في أستراليا ولم ترزق بأطفال.» «ماذا ستفعل إن تقاعدت عن عملك؟» «لا أعرف. لم أفكر في الأمر حتى.»
الفصل التاسع
لكن في تلك الليلة حين ذهب جرانت إلى النوم، فكر في الأمر. ليس باعتباره احتمالا، ولكن كضرب من ضروب التكهن. كيف سيكون الحال عند التقاعد؟ أن يتقاعد وهو شاب بما يكفي ليبدأ شيئا آخر؟ وإن بدأ شيئا آخر، فماذا سيكون؟ مزرعة خراف مثل تومي؟ ستكون تلك حياة طيبة. لكن هل بإمكانه أن يحقق النجاح من عيشه في الريف؟ كان يشك في ذلك. وإن لم يكن سيحقق النجاح، فماذا يمكنه أن يفعل غير ذلك؟
راح يلعب بهذه اللعبة الجديدة اللطيفة حتى غلبه النوم وأخذها معه إلى النهر في الصباح التالي. كانت إحدى أوجه اللعبة الساحرة حقا هي فكرة وجه برايس حين يقرأ استقالته. لن يكون لدى برايس نقص في الطاقم لمجرد أسبوع أو اثنين؛ سيجد نفسه محروما منه للأبد، وكذلك جميع المرءوسين الأكثر قيمة له. كانت هذه فكرة ممتعة .
راح يصطاد في بركته المفضلة؛ تحت الجسر المتأرجح، وأجرى محادثات ممتعة مع برايس. لأنه بالطبع سيكون ثمة محادثة. سيمنح نفسه الفرحة التي لا توصف، المتمثلة في وضع تلك الاستقالة المكتوبة على المكتب أمام عيني برايس؛ وضعها على المكتب بنفسه، بشخصه. ثم ستدور محادثة مرضية حقا، وسيخرج إلى الشارع رجلا حرا.
حرا ليفعل ماذا؟
ليكون نفسه، لن يكون طوع بنان أحد.
ليفعل الأشياء التي طالما أراد فعلها ولم يكن لديه متسع من الوقت لها. ليعبث في الأرجاء في قوارب صغيرة، على سبيل المثال.
ليتزوج، ربما.
أجل، ليتزوج. بوجود وقت فراغ سيكون لديه متسع من الوقت ليشارك حياته مع امرأة. متسع من الوقت ليحب ويحب.
أبقته هذه الفكرة سعيدا للغاية طيلة ساعة أخرى.
وقرب الظهيرة أدرك أنه لم يكن وحيدا. رفع ناظريه فرأى أن رجلا كان يقف على الجسر يراقبه. كان يقف بعيدا عن الضفة ببضع ياردات فقط، وحيث إن الجسر لم يكن يتحرك، فلا بد أنه كان هناك لبعض الوقت. كان الجسر عبارة عن ممر أسلاك عادي أرضيته من ألواح خشبية، وله هيكل خفيف جدا لدرجة أنه حتى الرياح كانت قادرة على تحريكه. كان يشعر بالعرفان للغريب لأنه لم يمش إلى منتصف الجسر ويتأرجح به فيربك الأسماك الموجودة في الجوار كلها.
أومأ إلى الرجل برأسه على سبيل التعبير عن استحسانه.
فسأله الرجل: «اسمك جرانت؟»
بعد الإسهاب والإطناب الملازمين لشعب يتصف بالمراوغة والمواربة؛ بحيث لم يكن لديه في لغته كلمة مكافئة لكلمة «لا»، كان من السار لجرانت أن يطرح عليه سؤال مباشر بلغة إنجليزية بسيطة.
فقال جرانت متحيرا بعض الشيء: «أجل.» بدا من لهجة الرجل أنه قد يكون أمريكيا. «أنت من نشر ذلك الإعلان في الصحيفة؟»
هذه المرة لم يكن لديه شك حيال جنسية الرجل. «أجل.»
أزاح الرجل قبعته بأطراف أصابعه نحو الخلف من رأسه قليلا، وقال بنبرة إذعان: «أوه، حسنا. أظن أنني أنا الآخر مجنون، وإلا ما أتيت إلى هنا.»
هنا بدأ جرانت يستدرجه. «ألن تأتي إلى هنا سيد ...؟»
ابتعد الرجل عن الجسر ونزل إلى الضفة نحوه.
كان شابا يافعا، حسن الملبس، لطيف المظهر.
قال: «اسمي كولين. تاد كولين. وأنا أعمل طيارا. إذ أطير بالبضائع لصالح شركة أوه سي إيه إل. شركة أورينتال كوميرشال إيرلاينز ليمتد، كما تعرف.»
كان يقال إن كل ما تحتاجه من أجل الطيران لصالح هذه الشركة هو شهادة بأنك تستطيع الطيران، وألا تبدو عليك أي علامة من علامات مرض الجذام. لكن تلك كانت مبالغة. بالفعل، كان هذا تشويها. كان يتعين أن تكون ماهرا حتى تعمل طيارا في هذه الشركة. ففي خطوط طيران الركاب الكبيرة المميزة، إن ارتكبت خطأ ستتعرض للوم والتوبيخ. أما في شركة أورينتال كوميرشال، فإن ارتكبت خطأ فستطرد من العمل. كانت شركة أورينتال كوميرشال تحظى بعدد هائل من الموظفين. ولم تكن الشركة تلتفت مطلقا إلى مهارتك في التحدث بقواعد النحو، أو إلى لون بشرتك، أو أسلافك، أو أخلاقك، أو جنسيتك، أو مظهرك؛ ما دمت تستطيع الطيران. يتحتم على المرء أن يكون قادرا على الطيران في هذه الشركة. نظر جرانت إلى السيد كولين باهتمام مضاعف. «اسمع يا سيد جرانت، أعرف أن ذلك الإعلان - تلك الكلمات التي نشرتها في الصحيفة - أعرف أنها كانت مجرد اقتباس من نوع ما كنت تريد معرفة مصدره، أو شيئا من هذا القبيل. وبالطبع لا أستطيع أنا أن أحدد مصدره. لم أكن بارعا قط فيما يتعلق بالكتب. لم آت إلى هنا لأكون ذا نفع لك. بل في ظني أن الأمر على العكس من ذلك تماما. لكنني كنت قلقا كثيرا، وفكرت حتى إن قطع مسافة طويلة كهذه قد يستحق المحاولة. لقد ذكر بيل - وهو صديقي - كلمات كهذه في إحدى الليالي حين كان منتشيا قليلا، وفكرت أنها قد تشير إلى مكان ما. أقصد أن الوصف قد يشير إلى مكان بعينه. حتى ولو كان اقتباسا. أخشى ألا يكون ما أقوله واضحا.»
ابتسم جرانت وأجاب بأنه ليس واضحا، حتى الآن، لكن اقترح أن يجلسا معا ويسويا الأمر. «هل أفهم من هذا أنك أتيت إلى هنا بحثا عني ؟» «أجل ، في الواقع أتيت ليلة أمس. لكن مكتب البريد كان مغلقا؛ لذا حصلت على سرير في النزل. يطلقون عليه اسم مويمور. ثم ذهبت إلى مكتب البريد هذا الصباح وسألتهم أين يمكنني أن أجد إيه جرانت الذي وصله الكثير من الخطابات. كنت واثقا من أنك ستتلقى كثيرا من الخطابات، كما ترى، بعد نشر ذلك الإعلان. وقالوا لي إنني إن كنت أريد السيد جرانت فسأجده في مكان ما عند النهر. في الواقع، أتيت إلى هنا لأبحث، ولم أجد أحدا آخر عند النهر سوى امرأة؛ لذا خمنت أنك لا بد أن تكون السيد جرانت. كما ترى، لم يكن من المجدي أن أرسل لك خطابا لأنني حقا لم يكن لدي شيء يبدو مستحقا لأن أخطه على الورق. أقصد، كان الأمر مجرد أمل سخيف. ويمكنك ألا تتكبد عناء الإجابة على أي حال؛ أقصد أن الأمر لم يكن له علاقة بك.». سكت الرجل لحظة، ثم أضاف بنبرة تنم عن التعلق بالأمل وعدم الاعتماد عليه في الوقت ذاته: «ليس ملهى ليليا، صحيح؟»
سأله جرانت مندهشا: «ما الذي ليس كذلك؟» «ذلك المكان الذي على بابه وحوش متكلمة. والمشهد الغريب. بدا مثل مدينة ترفيهية. كما تعلم: من نوعية الأماكن التي تمضي فيها عبر أنفاق وأنت على متن قارب في الظلام، وترى أشياء سخيفة ومخيفة فجأة. لكن بيل ما كان سيبدي اهتماما بمكان كهذا. لذا فكرت في أنه ملهى ليلي. كما تعرف؛ أحد تلك الأماكن التي تصنع أشياء غريبة لإبهار الزبائن. يبدو ذلك أقرب كثيرا إلى توليفة بيل. خاصة في باريس. وكنت سألتقي به في باريس.»
للمرة الأولى ظهر شعاع أمل. «أتقصد أنك كنت على موعد مع بيل هذا لتلتقيا؟ ولم يأت في موعده؟» «لم يأت على الإطلاق. وذلك ليس من شيم بيل على الإطلاق. إن قال بيل إنه سيفعل شيئا، أو سيكون في مكان ما، أو سيتذكر شيئا، صدقني إنه سينفذ ما قاله. ذلك هو السبب في شعوري بالقلق البالغ. ولم يترك أي تفسير. لم يترك رسالة في الفندق أو أي شيء. بالطبع ربما يكونون قد نسوا أن يسجلوا الرسالة؛ فهذه هي طبيعة الفنادق. لكن، حتى لو نسوا، كان بيل سيتابع الأمر معهم. أقصد أنني إذا لم أبد ردة فعل، كان بيل سيتصل هاتفيا مرة أخرى ليقول: ماذا ستفعل أيها العجوز كذا وكذا، ألم تصلك رسالتي؟ لكن لم يكن يوجد أي شيء كهذا. الأمر غريب، أليس كذلك، أن يحجز غرفة ولا يأتي ليشغلها ولا يرسل كلمة واحدة تفسر ذلك؟» «غريب جدا بالفعل. وخاصة أنك تقول إن صديقك من النوع الذي يعتمد عليه. لكن لماذا أبديت اهتماما بالإعلان الذي نشرته؟ أقصد: فيما يتعلق ببيل؟ اسمه بيل ماذا، بالمناسبة؟» «بيل كينريك. إنه طيار مثلي. يعمل لحساب شركة أورينتال كوميرشال. نحن صديقان منذ عام أو عامين. لا أمانع أن أقول إنه أفضل صديق حظيت به على الإطلاق. كان الأمر معي كالتالي يا سيد جرانت. حين لم يظهر، وحين لم يبد أن أحدا يعرف عنه شيئا أو سمع بأخباره - ولم يكن لديه معارف في إنجلترا يمكنني أن أكتب إليهم - فكرت في الطرق الأخرى المتاحة للتواصل بين الناس. بخلاف مكالمات الهاتف والخطابات والبرقيات وما إلى ذلك. وهكذا هداني تفكيري إلى ما تطلقون عليه عمود الشكاوى. في الصحف كما تعلم. لذا حصلت على طبعة باريس من صحيفة «كلاريون» - أقصد ملفاتهم في مكتبهم بباريس - واطلعت عليها ولم يكن يوجد أي شيء. ثم حاولت مع صحيفة «ذا تايمز»، ولم أجد بها شيئا أيضا. كان هذا بعد مرور بعض الوقت بالطبع؛ لذا اضطررت أن أراجع الملفات القديمة، لكن لم يكن يوجد أي شيء. كنت على وشك أن أتخلى عن الأمر لأنني كنت أظن أن هاتين هما فقط الصحيفتان الإنجليزيتان اللتان تصدران طبعات دورية لباريس، لكن قال لي أحدهم لم لا أطلع على صحيفة «مورنينج نيوز». فذهبت إليها، ولم يبد أن بها أي شيء من بيل، لكن كان بها إعلانك الذي ذكرني بشيء ما. إن لم يكن بيل مفقودا، فلا أظن أنني كنت سأعيد التفكير في الأمر، لكن إذ كنت قد سمعت بيل يتمتم بشيء ما يتماشى مع تلك الأبيات، لاحظت الأمر وأصبحت مهتما. كما يقول بيل، هل أنت معي؟» «معك تماما. أكمل. متى تحدث بيل عن ذلك المشهد الغريب؟» «لم يتحدث عنه على الإطلاق. كل ما في الأمر أنه ثرثر في إحدى الليالي حيث كنا ثملين قليلا. بيل لا يعاقر الكحوليات يا سيد جرانت. لا أريدك أن تكون فكرة خاطئة. أقصد: يعتاد شرب الكحوليات. قلة من الرجال في مجموعتنا يفعلون، أعترف بذلك، لكنهم لا يستمرون طويلا في الشركة. لا يستمرون طويلا على أي حال. هذا هو سبب طرد شركة أورينتال كوميرشال لهم. إن الشركة لا تمانع إن قتلوا أنفسهم، لكن البضائع التي ننقلها في الصناديق غالية الثمن. لكننا نحظى بفرصة الخروج لليلة بين الحين والآخر مثل الأناس الآخرين. وفي إحدى تلك الليالي التي خرجنا فيها أخذ بيل يثرثر. كنا جميعا ثملين قليلا؛ لذا لا أتذكر أي شيء بالتفصيل. أعرف أننا كنا نشرب أنخابا، وكانت مواضيع الحديث قد نفدت في ذلك الوقت. فكنا نتناوب التفكير في نخب لأشياء غير محتملة. مثل: «الابنة الثالثة لعمدة بغداد» أو «إصبع قدم جون كاي الأيسر الصغير». فقال بيل: «نخب الفردوس!» ثم ثرثر بشيء عن وحوش متكلمة ورمال مغنية وما إلى ذلك.» «ألم يسأله أي أحد عن فردوسه هذا؟» «لا! كان الشخص التالي ينتظر دوره ليدلي بدلوه. لم يكن أي أحد ينتبه لأي شيء. لقد ظنوا فقط أن النخب الذي اقترحه بيل كان مملا. ما كنت سأتذكره أنا نفسي لو لم أصادف الكلمات في الصحيفة حين كان ذهني مشغولا على بيل.» «ولم يذكره مجددا أبدا؟ لم يتحدث قط عن أي شيء كهذا في الأوقات التي كان فيها واعيا.» «لا. إنه ليس كثير الكلام غالبا.» «أتظن أنه ربما كان سيحتفظ بالشيء لنفسه لو كان مهتما به اهتماما كبيرا؟» «أوه، أجل، إنه يفعل ذلك، يفعله بالفعل. إنه ليس منغلقا، إنما هو حذر بعض الشيء. في معظم الأحوال هو أكثر شخص منفتح يمكنك أن تتخيله. إنه كريم مع القريبين منه، ولا يبالي بأشيائه، وعلى استعداد لفعل أي شيء لأي شخص. لكن في الأمور التي ... في الأمور الشخصية، إن كنت تعرف ما أقصد، يغلق الباب في وجهك نوعا ما.» «هل كان مرتبطا بفتاة؟» «حاله لا يختلف عن حال أي منا في ذلك. لكن ذلك مثال جيد جدا على ما أقصد. فحين يخرج بقيتنا من أجل قضاء أمسية، فإننا نرضى بما هو موجود. لكن بيل سيذهب وحده إلى جزء آخر من المدينة حيث يكون قد حصل لنفسه على شيء أقرب إلى ما يريد.» «أي مدينة تقصد؟» «أي مدينة نكون فيها. الكويت، مسقط، القطيف، المكلا. أي مدينة من عدن إلى كراتشي، إن تطلب الأمر. فمعظمنا يطير في مسارات مجدولة، لكن البعض يطير في رحلات غير منتظمة. يأخذ أي شيء لأي مكان.» «أين كان ... أين يطير بيل؟» «لقد طار في الأنحاء كافة. لكن مؤخرا كان يطير بين الخليج والساحل الجنوبي.» «تقصد شبه الجزيرة العربية.» «أجل. إنه مسار كئيب ملعون، لكن يبدو أن بيل كان يحبه. أظن أنه أمضى فيه وقتا طويلا. فإن أمضيت وقتا طويلا على مسار واحد تصبح مبتذلا.» «لم تظن أنه أمضى فيه وقتا طويلا؟ هل تغير بأي شكل؟»
هنا تردد السيد كولين. وقال: «ليس بالضبط. كان بيل الذي نعرفه، لين العريكة ولطيفا. لكنه انغمس بحيث لم يستطع أن يرمي الأمر وراء ظهره.» «أتقصد يرمي عمله وراء ظهره؟» «أجل. معظمنا - في الواقع، كلنا - يرمي العمل وراء ظهره حين نسلم الطائرة إلى الطاقم الأرضي. ولا نتذكر عنها شيئا حتى نلقي التحية في الصباح التالي على الميكانيكي المسئول. لكن بيل كان منغمسا في العمل حتى إنه كان ينكب على خرائط المسارات وكأنه لم يطر الرحلة من قبل.» «في رأيك، ما سبب هذا الاهتمام بالمسار؟» «في الواقع، ظننت أنه كان يحاول إيجاد طريقة لتجنب المناطق السيئة الطقس. لقد بدأ الأمر - وبالأمر هنا أقصد اهتمامه بالخرائط - ذات مرة حين وصل في ساعة متأخرة جدا بعد أن قذفه أحد تلك الأعاصير المرعبة، التي تظهر من العدم في تلك البلاد، عن مساره. كنا قد كدنا نفقد الأمل في عودته في ذلك الوقت.» «ألا تطيرون على ارتفاعات أعلى من أحوال الطقس؟» «في الرحلات الطويلة بالطبع نفعل. لكن حين تطير بطائرات الشحن فإنه يتعين عليك أن تحط في أغرب الأماكن. لذا أنت دائما تحت رحمة الطقس بطريقة أو بأخرى.» «فهمت. وهل تظن أن بيل تغير بعد تلك التجربة؟» «في الواقع، أظن أنها تركت فيه أثرا. كنت موجودا حين وصل. أقصد بالطائرة. كنت أنتظره، في المهبط. وبدا لي مهزوزا بعض الشيء، إن كنت تفهم ما أعنيه.» «يعاني صدمة.» «أجل. كان لا يزال يخوض تلك التجربة، إن كنت تعرف ما أقصد. لا يصغي حقا لما يقال له.» «وبعد ذلك بدأ يدرس الخرائط. ليخطط لمساره، كما تظن.» «أجل. منذ تلك اللحظة وهذه التجربة هي الشغل الشاغل لذهنه بدلا من أن تكون شيئا تصرف ذهنك عنه وأنت تخلع عنك ملابس العمل. بل إنه أصبح معتادا على الوصول بالطائرة متأخرا. وكأنه خرج عن طريقه ليبحث عن مسار أسهل.» توقف الرجل لحظة، وأضاف بنبرة تحذيرية سريعة: «أرجوك، افهم يا سيد جرانت، أنا لا أقول إن بيل فقد شجاعته.» «لا، بالطبع لا.» «فقدانك لشجاعتك لا يأخذك في هذا الطريق على الإطلاق، صدقني. بل تصبح على العكس تماما. لا تريد أن تفكر في الطيران مطلقا. ويصبح مزاجك حادا، وتفرط في معاقرة الشراب وفي أوقات مبكرة للغاية من اليوم، وتحاول أن تتحايل للحصول على رحلات قصيرة، وتدعي أنك مريض بينما ليس بك أي خطب. لا يوجد غموض بشأن فقدان الشجاعة يا سيد جرانت. بل إنه يعلن عن نفسه وكأنه اسم على سرادق. لم يظهر على بيل أي شيء مشابه لذلك ... ولا أظن أنه سيظهر أبدا. الأمر فقط أنه لم يستطع أن يترك الأمر وراءه.» «أصبح هوسا لديه.» «هكذا تقريبا، على ما أظن.» «هل كانت لديه اهتمامات أخرى؟»
قال السيد كولين بنبرة آسفة، مثل شخص يعترف بشيء ذي غرابة ما في صديق له: «إنه يقرأ الكتب، وقد ظهر هذا عليه حتى في قراءته للكتب.» «كيف ظهر؟» «أقصد، بدلا من أن تكون الكتب هي الروايات القصصية المعتادة، كان من المرجح أن تكون عن شبه الجزيرة العربية.»
قال جرانت وهو غارق في التفكير: «حقا؟» منذ أتى الغريب لأول مرة على ذكر شبه الجزيرة العربية، كان جرانت «يتفق معه» تماما. كانت شبه الجزيرة العربية تعني للعالم كله شيئا واحدا؛ الرمال. وعلاوة على ذلك، أدرك أنه حين خالجه ذلك الشعور، في ذلك الصباح الذي قضاه في فندق بلدة سكون، بأن «الرمال المغنية» موجودة بالفعل في مكان ما، كان ينبغي عليه أن يربط بينها وبين شبه الجزيرة العربية. في مكان ما في شبه الجزيرة العربية كانت توجد في الواقع رمال يزعم أنها تغني.
قال السيد كولين: «لذا كنت مسرورا حين أخذ «إجازته» في وقت أبكر مما كان يريد. كنا قد خططنا للذهاب معا وقضاء إجازتنا في باريس. لكنه غير رأيه وقال إنه يريد قضاء أسبوع أو أسبوعين في لندن أولا. فهو إنجليزي. لذا رتبنا أن نلتقي في فندق سانت جاك في باريس. كان من المقرر أن يقابلني هناك في الرابع من شهر مارس.»
قال جرانت: «متى؟» وسكن فجأة. سكن عقله وسكن جسده، وكأنه كلب صيد يرى طريدته أمام ناظريه، وكأنه رجل هدفه أمام ناظريه. «الرابع من مارس. لماذا؟»
كانت الرمال المغنية مبعث اهتمام أي أحد. إن الرجال الذين يطيرون لحساب شركة أورينتال كوميرشال كانوا كثر. لكن المسألة المتشعبة المبهمة غير المحددة المتعلقة ببيل كينريك، الذي كان مهووسا بالجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية ولم يأت في موعده إلى باريس، انحصرت فجأة في نقطة مركزة واحدة. انحصرت في تاريخ.
في الرابع من مارس، حين كان ينبغي على بيل كينريك أن يظهر في باريس، كان قطار بريد لندن قد أتى إلى سكون يحمل جثة شاب كان مهتما بالرمال المغنية. شاب ذو حواجب جامحة. شاب كان يبدو من مظهره أنه كان من المرجح جدا أنه كان سيصبح طيارا ماهرا. تذكر جرانت أنه كان قد حاول في مخيلته أن يضعه على برج قيادة سفينة صغيرة؛ سفينة صغيرة سريعة، جهنمية في أي بحر. بدا أنه ينسجم مع هذه الصورة. لكنه سيبدو ملائما بالمثل أمام لوحة التحكم في طائرة. «لماذا اختار بيل باريس؟» «لماذا يختارها أي أحد؟!» «ألم يكن هذا لأنه فرنسي؟» «بيل؟ لا، بيل إنجليزي. حتى النخاع.» «هل رأيت جواز سفره من قبل؟» «ليس بحسب ما أتذكر. لماذا؟» «ألا تظن أنه ربما كان فرنسي المولد؟»
لم يكن الأمر سينجح على أي حال. كان الرجل الفرنسي يدعى مارتن. إلا إذا كانت تربيته الإنجليزية جعلته يتبنى اسما إنجليزيا؟ «ألا يتصادف أنك تحمل صورة لصديقك؟»
لكن انتباه السيد كولين كان منصبا على شيء آخر. التفت جرانت لينظر، ووجد أن زوي كانت قادمة نحوهما على ضفة النهر. فنظر إلى ساعته.
وقال: «بحق الجحيم! لقد وعدت أن أشعل نار الموقد!» ثم التفت إلى حقيبته وأخرج منها موقد الكيروسين.
سأله السيد كولين بصراحة غير معتادة: «أهي زوجتك؟» في الجزر الغربية، كان الأمر سيتطلب محادثة مدتها خمس دقائق لاستخراج تلك المعلومة منه. «لا. تلك الليدي كينتالين.» «ليدي؟ أهذا لقب؟»
قال جرانت وهو مشغول بالموقد: «أجل. إنها الفيكونتيسة كينتالين.»
أخذ السيد كولين يفكر في ذلك في صمت لوقت قصير. «أظن أنها كونتيسة من مستوى متدن نوعا ما.» «لا. على العكس. إنها ذات مقام رفيع جدا. فهي عمليا ماركيزة. اسمع يا سيد كولين، لنؤجل أمر صديقك هذا بعض الوقت. إنه أمر يثير اهتمامي أكثر مما يمكنني أن أصف، لكن ...» «أجل، بالطبع سأغادر. متى يمكنني أن أتحدث معك مرة أخرى بشأن هذا الأمر؟» «بالطبع لن تغادر! ستبقى وستتناول معنا شيئا من الطعام.» «أتقصد أنك تريدني أن أقابل هذه الماركيزة، هذه ... الفيكونتيسة كما تطلق عليها؟» «ولم لا؟ إنها شخص من اللطيف جدا مقابلته. أحد ألطف الأشخاص الذين أعرفهم.» «حقا؟» ونظر السيد كولين باهتمام إلى زوي وهي تقترب. «من المؤكد أنها بهية الطلعة جدا. لم أكن أعرف أن أعضاء طبقتها يتصفون بهذا. لقد تخيلت بطريقة ما أن كل الأرستقراطيين لهم أنوف طويلة.» «أظن أنهم حصلوا عليها خصوصا من أجل النظر إلى الناس باستعلاء.» «شيء من هذا القبيل.» «لا أعرف إلى أي مدى على المرء أن يتعمق في التاريخ الإنجليزي من أجل أن يجد أنفا أرستقراطيا لم ينظر صاحبه إلى أحد باستعلاء. أشك أن المرء سيجد واحدا على الإطلاق. المكان الوحيد الذي تجد فيه أنفا لم ينظر صاحبه إلى أحد باستعلاء هو الضواحي. فيما يعرف بالدوائر الدنيا من الطبقة المتوسطة.»
بدا السيد كلوين متحيرا. «لكن الأرستقراطيين منعزلون وينظرون إلى بقية الناس باستعلاء، أليس كذلك؟» «لم يكن من الممكن قط في إنجلترا لأي طبقة أن تنعزل، على حد وصفك. إنهم يتزوجون من طبقات أخرى على كل المستويات طيلة ألفي عام. لم توجد قط طبقات منفصلة ومتمايزة - أو طبقة أرستقراطية على الإطلاق بالمعنى الذي تقصده.»
فأشار السيد كولين قائلا، غير مصدق بعض الشيء: «أظن أن الكفات آخذة في التوازن في هذه الآونة.» «أوه، لا. إن هذه المسألة دائما ما كانت مائعة. حتى العائلة الملكية لدينا. لقد كانت إليزابيث الأولى حفيدة لأحد حكام المدن. وستجد أن الأصدقاء الشخصيين للعائلة الملكية لا يحملون ألقابا على الإطلاق؛ أقصد الأشخاص الذين يتسنى لهم الاتصال بقصر بكنجهام. في حين أنه ربما يكون البارون الأصلع الخبيث، الذي يجلس إلى جوارك في مطعم باهظ الثمن، قد بدأ حياته كمصفح للصفائح المعدنية في السكك الحديدية. لا يوجد في إنجلترا انعزال طبقي، وهذا فيما يتعلق بالطبقات الاجتماعية. لا يمكن أن يحدث هذا. يمكن فقط أن تفعله السيدة جونز التي تستخف بجارتها السيدة سميث وتقلل من شأنها؛ لأن ما تجنيه السيدة جونز في الأسبوع أكثر بجنيهين مما تجنيه السيدة سميث.»
أشاح بجسده عن الأمريكي المتحير ليلقي التحية على زوي. «أنا آسف حقا بشأن الموقد. أخشى أنني أوقدته متأخرا جدا وليس جاهزا. كنا نخوض محادثة شيقة للغاية. هذا هو السيد كولين، وهو يطير بطائرات بضائع لصالح شركة أورينتال كوميرشال.»
صافحته زوي، وسألته عن نوع الطائرة التي يقودها.
ومن نبرة صوته حين أخبرها، استنتج جرانت أن السيد كولين ظن أن زوي إنما تبدي اهتماما متعاليا ليس غير. فالتعالي هو ما يتوقعه من شخص «أرستقراطي».
علقت زوي بتعاطف: «إن التحكم في ذلك النوع من الطائرات صعب جدا، أليس كذلك؟ كان أخي يقود واحدة حين كان في جولة أستراليا. كان دائما ما يلعنها.» ثم بدأت تفتح أكياس الطعام. وتابعت: «لكن بعد أن أصبح يعمل في مكتب في سيدني صار يمتلك طائرة صغيرة. من طراز بيمش 8. إنها طائرة جميلة. كنت أطير بها حين اشتراها، قبل أن يأخذها إلى أستراليا. وكنا نحلم أنا وديفيد - زوجي - بأن نمتلك واحدة أيضا، لكننا لم نستطع قط أن نتحمل كلفتها.»
فبادرها السيد كولين: «لكن طائرة من طراز بيمش 8 لا تكلف سوى أربعمائة جنيه.»
لعقت زوي أصابعها التي كانت بها آثار تسريب من فطيرة التفاح، وقالت: «أجل، أعرف، لكننا لم نتمكن مطلقا من توفير أربعمائة جنيه.»
سعى السيد كولين للعودة إلى أرض صلبة بعد أن شعر وكأنه انجرف نحو البحر.
فقال: «لا ينبغي أن أتناول طعامكما بهذه الطريقة. سيكون لديهم كثير من الطعام لي في الفندق. يتعين علي العودة حقا.»
قالت زوي ببساطة أصيلة اخترقت دفاعات السيد كولين: «أوه، لا تذهب. يوجد من الطعام ما يكفي عدة أشخاص.»
وهكذا مكث السيد كولين، وهو ما أسعد جرانت لأكثر من سبب. كانت زوي غير مدركة أنها تقدم عرضا منقحا للجنس الإنجليزي الأرستقراطي في أعين الولايات المتحدة، فأخذت تأكل كتلميذ مدرسة جائع، وتتحدث إلى الغريب بصوتها الرقيق وكأنها تعرفه طيلة حياتها. وبحلول مرحلة تناول فطيرة التفاح، كان السيد كولين قد تحرر من تحفظه. وبحلول الوقت الذي كانوا يوزعون فيه على بعضهم الشوكولاتة، التي كانت لورا قد وضعتها، كان قد استسلم بلا قيد أو شرط.
جلسوا معا تحت أشعة شمس الربيع، ممتلئي البطون ومسرورين. كانت زوي مستلقية تسند ظهرها إلى الضفة العشبية وقدماها متقاطعتان، ويداها خلف رأسها، وعيناها مغلقتان في مواجهة الشمس. وكان ذهن جرانت مشغولا براكب المقصورة «بي 7»، وبالمعلومات التي أمده بها تاد كولين. أما السيد كولين فقد جثم على صخرة ينظر بامتداد النهر نحو بطن الوادي الأخضر حيث تنتهي الأراضي السبخة وتبدأ الحقول.
وقال: «إنه بلد صغير جميل. إنه يروق لي. إن قررتم يوما ما أن تحاربوا من أجل حريتكم، فأنا معكم.»
قالت زوي وهي تفتح عينيها: «حرية؟ حرية ممن أو من ماذا؟» «من إنجلترا بالطبع.»
بدت زوي عاجزة عن الفهم، لكن جرانت راح يضحك. وقال: «أظن أنه لا بد أنك قد تحدثت إلى رجل أسود ضئيل الحجم يرتدي تنورة اسكتلندية.»
قال السيد كولين: «كان يرتدي تنورة اسكتلندية بالفعل لكنه لم يكن أسمر البشرة.» «لا، كنت أقصد أسود الشعر. لقد تحدثت إلى آرتشي براون.»
سألته زوي: «من هو آرتشي براون؟» «إنه الرجل الذي نصب نفسه مدافعا عن اسكتلندا، وملكنا ومفوضنا ورئيسنا المستقبلي وما إلى ذلك، حين تتحرر اسكتلندا من نير العبودية الإنجليزية المهلك.»
قالت زوي بنبرة معتدلة وهي تتعرف على آرتشي في ذهنها: «أوه، أجل. ذلك الرجل. إنه فاقد لصوابه بعض الشيء، أليس كذلك؟ أيعيش في الجوار هنا؟» «حسب فهمي إنه نزيل في الفندق في مويمور. يبدو أنه انخرط في أعمال تبشير مع السيد كولين.»
ابتسم السيد كولين في خجل بعض الشيء وقال: «في الواقع، كنت أتساءل عما إن كان يبالغ قليلا في التعبير عن الأمور. لقد قابلت في شبابي بعض الاسكتلنديين ولم يبد لي أنهم من نوعية الأشخاص الذين يتحملون المعاملة التي كان السيد براون يصفها. في الواقع، إذا سمحت لي يا سيد جرانت، بدوا دائما من نوعية الأشخاص الذين يحصلون على أفضل ما يمكن من الصفقة التي كانت تجري.»
فقال جرانت لزوي: «هل سمعت من قبل بوصف أفضل للاتحاد؟»
قالت زوي بارتياح: «لم أعرف مطلقا أي شيء عن الاتحاد، عدا أنه حدث عام 1707.»
فسأل السيد كولين: «هل وقعت معركة حينها؟»
فقال جرانت: «لا، لحسن الحظ استقلت اسكتلندا عربة إنجلترا، وورثت كل المنافع والاستحقاقات. المستوطنات، وشكسبير، والصابون، والسعة والغنى، وما إلى ذلك.»
قالت زوي وهي شبه نائمة: «آمل ألا يذهب السيد براون في جولة لإلقاء المحاضرات في الولايات المتحدة الأمريكية.»
فقال جرانت: «سيفعل. سيفعل. كل الأقليات الصاخبة تسافر في جولات لإلقاء المحاضرات في الولايات المتحدة الأمريكية.»
قالت زوي بلطف: «سيقدم لهم هذا أفكارا خاطئة، أليس كذلك؟» فكر جرانت في أي جملة عنيفة كانت لورا ستستخدمها من أجل التعبير عن الفكرة نفسها. «لديهم أغرب الأفكار. فحين كنت هناك أنا وديفيد، في العام السابق لمقتله، كنا دائما ما نسأل عن سبب عدم توقفنا على فرض الضرائب على كندا. وحين قلنا إننا لم نفرض قط الضرائب على كندا كانوا فقط ينظرون إلينا وكأننا نكذب. ولم تكن حتى أكاذيب جيدة.»
من تعبيرات وجه السيد كولين استنتج جرانت أنه هو الآخر كانت لديه أفكار «غريبة» حيال فرض الضرائب على كندا، لكن عيني زوي كانتا مغمضتين. وتساءل جرانت عما إذا كان السيد كولين قد أدرك أن زوي غير مدركة لأنه أمريكي لدرجة أنه لم يخطر ببالها أن تتأمل لكنته وجنسيته وملابسه أو أي شيء شخصي عنه. لقد قبلته بهيئته على ما هي عليه كشخص. كان مجرد طيار كأخيها؛ شخص ظهر في الوقت المناسب ليشاركهم نزهتهم، وكان الحديث معه باعثا على السرور والمتعة. لم يخطر ببالها أن تصنفه وتضعه في فئة خاصة. لو كانت متنبهة بأي حال لطريقة نطقه الضيقة لحرف «إيه»، فلا شك أنها ستدرك أنه مواطن من الشمال.
نظر جرانت إليها وهي مغمضة عينيها تحت الشمس، وفكر في مدى جمالها. ثم نظر إلى السيد كولين ورأى أنه أيضا كان ينظر إلى زوي كينتالين ويفكر في مدى جمالها. التقت نظراتهما فتحاشيا أن يتبادلا النظر.
لكن جرانت، الذي لم يكن يتخيل ليلة أمس أنه توجد سعادة أكبر من الجلوس والنظر إلى زوي كينتالين، كان مدركا الآن أنه يعتريه شيء من نفاد الصبر بشأن زوي، وقد صدمه هذا كثيرا حتى إنه أخرجه ليفحصه بطريقته في التحليل الذاتي. ما العيب الذي يمكن أن يوجد في هذا المخلوق السامي؟ ما نواقص أميرة القصص الخيالية هذه؟
قال الصوت العاق بداخله: «أنت تعرف جيدا ما الخطب . تريدها أن تغادر من هنا حتى يتسنى لك أن تكتشف أمر راكب المقصورة «بي 7».»
ولأول مرة لم يحاول جرانت أن يعارض الصوت. كان بالفعل يرغب بشدة في أن «تغادر» زوي. زوي التي كان وجودها عصر يوم أمس قد حول اليوم إلى شيء ساحر، كانت الآن تمثل عبئا وعائقا. راحت وخزات صغيرة للغاية من شعوره بالسأم تطارد بعضها بعضا في عموده الفقري. هيا يا زوي الجميلة البسيطة الرائعة. يا سر بهجتي وأميرة أحلامي، اغربي عن هنا.
كان يتدرب على الجمل التي سيقولها من أجل أن يغادر، حين تنهدت هي نصف تنهيدة وتثاءبت كالأطفال وقالت: «توجد أسماك تزن سبعة أرطال في بركة كودي، التي لا بد أنها تجد الحياة مملة من دوني.» وكعادتها في عدم إثارة جلبة أو حديث، أخذت أشياءها ورحلت في عصر اليوم الربيعي.
نظر إليها السيد كولين باستحسان، وانتظر جرانت تعليقا. لكن بدا أن السيد كولين هو الآخر كان ينتظر مغادرة «الكونتيسة المنتقص من قدرها». راح يشاهدها من بعيد ثم قال في الحال: «سيد جرانت، لماذا سألتني إن كان لدي صورة فوتوغرافية لبيل؟ أيعني ذلك أنك تظن أنك تعرفه؟» «لا. لا. لكن من شأن هذا أن يستبعد الأشخاص الذين لا يمكن أن يكونوا بيل.» «أوه. أجل. حسنا، ليس لدي صورة معي في جيبي الآن، لكن لدي صورة في الفندق. ليست صورة جيدة جدا، لكن من شأنها أن تعطيك الفكرة العامة. أيمكنني أن أحضرها لك عما قريب؟» «لا. سأسير معك إلى مويمور.» «أحقا؟ بالتأكيد هذا لطف كبير منك يا سيد جرانت. أتظن أنك تعرف شيئا عن هذا الأمر؟ لم تخبرني بماهية تلك الكلمات. ذلك الاقتباس أو أيا كان. في الواقع ذلك ما أتيت أسألك عنه. أتساءل ما هو المغزى من أمر الوحوش المتكلمة. إن كان مكانا كان شغوفا به، فربما يكون قد ذهب إلى هناك، ويمكنني أن أذهب إلى هناك أيضا، وبتلك الطريقة يتقاطع دربي مع دربه.» «يهمك أمر بيل هذا كثيرا، أليس كذلك؟» «في الواقع، نحن معا منذ وقت طويل نوعا ما، وعلى الرغم من أننا مختلفان في معظم الأمور فإننا على وفاق حسن. حسن جدا. لا أحب أن يقع أي مكروه لبيل.»
غير جرانت مسار الحديث وسأل تاد كولين عن حياته. وبينما كانا يسيران على طول الوادي نحو مويمور أخبره عن المدينة الصغيرة النظيفة التي كانا يعيشان فيها في الولايات المتحدة، وأنها بدت مكانا مملا وكئيبا لشاب يمكنه الطيران، وأن الشرق بدا رائعا من بعيد، وغير ممتع عن قرب.
قال السيد كولين: «فقط شارع رئيسي مع وجود بعض الروائح.» «ماذا فعلت في باريس أثناء انتظارك الطويل لظهور بيل؟» «أوه، جبت بعض الأماكن وتصرفت بجموح. لم يكن الأمر ممتعا كثيرا من دون بيل. وقد قابلت شابين كنت أعرفهما في الهند، وذهبنا إلى بعض الأماكن معا، لكنني طوال الوقت كنت أنتظر بفارغ الصبر أن يأتي بيل. ثم انفصلت عنهما بعد قليل، وذهبت أبحث عن بعض الأماكن الواردة في المنشورات السياحية. بعض تلك الأماكن القديمة رائع فعلا. من بينها مكان مبني فوق الماء - أقصد قلعة - على أحجار مقوسة، بحيث يتدفق النهر من أسفل. كان ذلك رائعا. وكان سيلائم الكونتيسة كثيرا. أتلك هي نوعية الأماكن التي تعيش فيها؟»
قال جرانت وهو يفكر في الاختلاف بين شينونسو وكينتالين: «لا. تعيش في منزل مقيت مسطح كئيب ذي نوافذ صغيرة وغرف غير أنيقة ودرج ضيق وباب أمامي ضيق كمخرج أنبوب غسيل. وبه برجان صغيران على مستوى الطابق الرابع، بجوار سطح المنزل، وهذا التصميم في اسكتلندا يجعل منه قلعة.» «يبدو كسجن. لماذا تمكث فيه؟» «سجن! لن تأخذه أي لجنة من لجان السجون بعين الاعتبار ولو للحظة؛ إذ ستطرح في الحال أسئلة في المجلس عن افتقاره إلى الإضاءة والتدفئة والمرافق الصحية، وألوانه، وجماله، ومساحته، وما إلى ذلك. إنها تقيم في ذلك المكان لأنها تحبه. لكني أشك أن بإمكانها أن تقيم وقتا أطول من ذلك. فضرائب التركات كانت ثقيلة عليها جدا لدرجة أنها ستضطر إلى البيع.» «لكن هل سيشتريه أحد؟» «ليس بغرض السكنى. لكن أحد المضاربين سيشتريه، وسيقطع الأشجار . ربما يأتي الرصاص على سطحه بشيء من المال، وسيتحتم عليهم أن يزيلوا السطح على أي حال ليتجنبوا دفع ضرائب على المنزل.»
علق السيد كولين قائلا: «هاه! أمور مماثلة لفترة قصعة الغبار في الولايات المتحدة. ألا يتصادف أن هذا المنزل يحتوي على خندق مائي حوله؟» «لا. لماذا؟» «لا بد أن أرى خندقا مائيا قبل أن أعود إلى شركة أورينتال كوميرشال.» ثم قال بعد برهة من الصمت: «أنا قلق حقا على بيل يا سيد جرانت.» «أجل، الأمر غريب جدا بالتأكيد.»
قال السيد كولين فجأة ومن دون توقع: «كانت هذه لفتة طيبة منك.» «ماذا كانت؟» «إنك لم تقل: «لا تقلق، سيظهر وسيكون على ما يرام!» إنني بالكاد أتحكم في يدي مع الأشخاص الذين يقولون: «لا تقلق، سيظهر.» يمكنني أن أخنقهم.»
كان فندق مويمور نسخة مصغرة من منزل كينتالين، من دون الأبراج. لكن جدرانه كانت مطلية بالأبيض وباعثة على البهجة، وكانت الأشجار خلفها على وشك أن تورق. وفي ردهة الدخول الصغيرة المرصوفة تردد السيد كولين. «ألاحظ في بريطانيا أن الناس لا يطلبون منك أن تصعد معهم إلى غرفتهم. فهل قد ترغب في الانتظار في غرفة الجلوس؟» «أوه، لا، سأصعد. لا أظن أن لدينا أي شعور حيال غرف النوم في الفنادق. ربما الفكرة أن غرف الجلوس في فنادقنا قريبة جدا من غرف النوم فلا يوجد داع للصعود؛ لذا لا نقترح ذلك. وحين تكون غرفة الجلوس العامة على مسافة رحلة يوم من غرفتك، فأظن أن من الأسهل أن تصحب الضيف معك. بهذه الطريقة تكونان في نصف الكرة الأرضي نفسه على الأقل.»
كانت غرفة السيد كولين أمامية، وتطل على الطريق المؤدي إلى الحقول والنهر والتلال من خلفهم. ولاحظ جرانت بعين محترفة أن نار المدفأة كانت مشتعلة، كما لاحظ أزهار النرجس على النافذة؛ كان لفندق مويمور بعض المعايير، وكان ذهنه منشغلا بتاد كولين، الذي قطع إجازته وجاء إلى براري كاليدونيا من أجل أن يعثر على صديق كان يعني له الكثير. ومع كل خطوة كان يخطوها تجاه مويمور كان يتنامى بداخله نذير شؤم لم يستطع أن يتخلص منه، والآن أصبح نذير الشؤم ذلك يملأ نفسه لدرجة كادت تصيبه بالغثيان.
أخرج الشاب حقيبة خطابات من حقيبة سفره وفتحها على طاولة المزينة. كانت الحقيبة تحتوي على كل شيء تقريبا عدا وسائل كتابة الخطابات. وبين فوضى الأوراق والخرائط ومنشورات السفر وما إلى ذلك، كان يوجد شيئان مغلفان بغلاف من الجلد؛ سجل عناوين ودفتر جيب صغير. ومن دفتر الجيب أخرج الشاب بعض الصور وراح يقلب عبر الابتسامات الأنثوية حتى وجد ما كان يبحث عنه. «هاك هي. أخشى أنها ليست صورة جيدة جدا. إنها مجرد لقطة فوتوغرافية. أخذت هذه اللقطة حين كان هناك حشد منا على الشاطئ.»
أخذ جرانت، كرها تقريبا، قطعة الورق التي قدمها له.
كان تاد كولينز يبدأ حديثه قائلا: «ذلك ...» وهو يرفع ذارعه ليشير به.
فقال جرانت موقفا إياه: «لا، انتظر! دعني أنظر إن كنت ... إن كنت أستطيع التعرف على أحد.»
ربما كانت توجد دزينة من الشباب في الصورة، التي كانت قد التقطت على شرفة أحد المنازل الشاطئية. كان الشباب مجتمعين حول الدرج ويلتفون حول الدرابزين الخشبي المتهالك في درجات مختلفة من الاسترخاء. مر جرانت بنظرة سريعة على وجوههم الضاحكة وشعر بارتياح كبير. لم يكن هناك أحد سبق له أن ...
ثم رأى الشاب الجالس على الدرجة السفلية.
كان يجلس فاردا ساقيه على الرمال، ويضيق عينيه في مواجهة الشمس وذقنه مائل إلى الخلف قليلا وكأنه كان يلتفت ليقول شيئا للرجل الذي كان خلفه. كان رأسه ملتفتا بنفس الوضعية تقريبا التي كان بها على الوسادة في المقصورة «بي 7» صباح يوم الرابع من شهر مارس. «ماذا؟»
فقال جرانت وهو يشير إلى الرجل عند الدرجة السفلية: «أهذا صديقك؟» «أجل، هذا بيل. كيف عرفت؟ هل قابلته من قبل في مكان ما إذن؟» «أميل إلى الظن بأنني فعلت. لكن بالطبع، استنادا إلى الصورة، لا يمكنني أن أقسم على ذلك.» «لا أريد منك أن تقسم. فقط أعطني فكرة عامة عن الأمر. أخبرني فقط أين ومتى رأيته ولو بالتقريب وسأقتفي أثره، ولا تشك في هذا على الإطلاق. أتعرف أين قابلته؟ أقصد، هل تتذكر؟» «أوه، أجل. أتذكر. رأيته في مقصورة - مقصورة نوم - في قطار بريد لندن حين كان يدخل إلى سكون مبكرا في صباح يوم الرابع من مارس. كان هذا هو القطار الذي أتيت إلى الشمال على متنه.» «أتعني أن بيل أتى إلى «هنا»؟ إلى اسكتلندا؟ لماذا؟» «لا أعرف.» «ألم يخبرك؟ هل تحدثت معه؟» «لا. لم أستطع ذلك.» «ولم لا؟»
مد جرانت يده ودفع مرافقه برفق إلى الخلف حتى يجلس في الكرسي الذي كان خلفه. «لم أستطع لأنه كان قد فارق الحياة.»
ساد الصمت برهة. «أنا آسف حقا يا كولين. أتمنى لو كنت أستطيع أن أتظاهر أمامك بأنه قد لا يكون بيل، ولكن فيما عدا الوقوف على منصة الشهود تحت القسم أنا على استعداد لأن أدافع عن اعتقادي بأنه هو.»
بعد برهة قصيرة أخرى من الصمت قال كولين: «لماذا مات؟ ماذا حدث له؟» «كان قد احتسى كمية كبيرة من الويسكي وسقط على مؤخرة رأسه على حوض غسيل الوجه الصلب المصنوع من البورسلين. أدى هذا إلى تهشم جمجمته.» «من قال كل هذا؟» «كانت هذه هي النتائج التي توصلت إليها محكمة التحقيق في الوفيات. في لندن.» «في لندن؟ لماذا في لندن؟» «لأنه، طبقا لتشريح الجثة بعد الوفاة، مات بعد برهة قصيرة للغاية من مغادرة يوستن. وبموجب القانون الإنجليزي، يجرى التحقيق في حالات الموت المفاجئ بواسطة قاضي تحقيق وهيئة محلفين.»
فقال كولين وقد بدأ يصاب بفورة من الغضب: «لكن كل هذا مجرد ... مجرد افتراضات. إذا كان بمفرده، فكيف يمكن لأحد أن يتكهن بما حدث له؟» «لأن رجال الشرطة الإنجليزية هم أكثر المخلوقات مثابرة وميلا إلى الشك.» «الشرطة؟ هل تولت الشرطة هذا الأمر؟» «أوه، بكل تأكيد. تجري الشرطة التحقيق وترفع تقريرا علنيا إلى محقق الوفيات ومحلفيه. وفي هذه القضية أجريت تحقيقات واختبارات شاملة للغاية. وفي النهاية عرفوا كم شرب من الويسكي بالجرعات تقريبا ومتى شربه قبل ... قبل وفاته.» «وعن وقوعه على ظهره ... كيف يمكنهم أن يعرفوا ذلك؟» «أخذوا يطوفون بالمجاهر. كانت آثار الزيت والشعر المتقصف لا تزال موجودة على حافة الحوض. والجرح في الجمجمة كان متسقا مع سقطة على الظهر على الحوض.»
هدأ كولين لدى سماعه هذا، لكنه بدا مرتبكا مشوشا.
ثم سأل في إبهام: «كيف تعرف كل هذا؟» ثم أضاف بعد أن تنامى شعور الشك بداخله: «كيف رأيته على أي حال؟» «حين كنت في طريق الخروج صادفت مضيف عربة النوم يحاول إيقاظه. ظن الرجل أنه كان نائما من شدة ثمالته؛ لأن زجاجة الويسكي كانت قد تدحرجت على الأرض، وبدت رائحة المقصورة وكأنه كان يتجرع الشراب طوال الليل.»
لم ترض هذه الإجابة تاد كولين. فسأل: «تقصد أن تلك كانت هي المرة الوحيدة التي رأيته فيها؟ رأيته للحظة واحدة راقدا ... ميتا في مكانه، ويمكنك التعرف عليه من صورة فوتوغرافية - ليست جيدة جدا - بعدها بأسابيع.» «أجل. لقد تأثرت بوجهه. فالوجوه هي مجال عملي، ونوعا ما هوايتي. ما أثار اهتمامي هو الطريقة التي أضفى بها انحراف الحاجب تعبير جموح على وجهه حتى ... حتى حين كان وجهه لا يحمل أي تعبيرات حقيقية بأي شكل. وقد زاد اهتمامي بطريقة عرضية إلى حد كبير.» «لماذا؟» إذ لم يكن كولين يترك له أي مساحة. «حين كنت أتناول طعام الإفطار في فندق المحطة في بلدة سكون، وجدت أنني كنت قد أخذت عن طريق الصدفة صحيفة كانت قد سقطت من على السرير حين كان المضيف يحاول إيقاظه، وفي المكان المخصص للأخبار العاجلة - تلك المساحة الفارغة من الصحيفة، كما تعلم - كان أحد ما قد كتب بقلم رصاص بضعة أبيات من الشعر. «الوحوش المتكلمة، والأنهار الراكدة، والأحجار السائرة، والرمال المغنية ...» ثم كان مكانان شاغران لبيتين آخرين، ثم: «التي تحرس الطريق إلى الفردوس».»
فقال كولين وقد ازداد تجهم وجهه في لحظة: «كان ذلك هو ما أعلنت عنه. ما السبب الذي حملك على نشر إعلان عن هذا؟» «أردت أن أعرف مصدر تلك الأبيات إن كان مصدرها كتابا. وإن كانت أبياتا في طريقها لتصبح قصيدة، كنت أريد أن أعرف موضوعها.» «لماذا؟ ما الذي يجعلك تهتم بهذا الأمر؟» «لم يكن بيدي خيار في المسألة. كان الأمر يشغل ذهني كثيرا. أتعرف أحدا يدعى شارل مارتن؟» «لا، لا أعرفه. ولا تغير الموضوع.» «لا أفعل، رغم غرابة الأمر. هلا تفضلت بالتفكير في الأمر بجدية للحظة. هل سمعت من قبل أو عرفت في أي وقت من الأوقات شخصا يدعى شارل مارتن؟» «قلت لك لا! ليس علي أن أفكر. وأنت «بالطبع» تغير الموضوع! ما علاقة شارل مارتن بهذه المسألة؟» «طبقا لما أوردت الشرطة، الرجل الذي وجد ميتا في المقصورة «بي 7» كان ميكانيكيا فرنسيا يدعى شارل مارتن.»
بعد لحظة قال كولين: «اسمع يا سيد جرانت، ربما لا أكون ذكيا للغاية، لكن كلامك لا يبدو منطقيا. إنك تقول إنك رأيت بيل كينريك يرقد ميتا في مقصورة قطار، لكنه لم يكن بيل كينريك على الإطلاق، بل كان رجلا يدعى مارتن.» «لا، ما أقوله هو أن الشرطة تعتقد أنه رجل يدعى شارل مارتن.» «حسنا، أتوقع أن لديهم أسبابا قوية لاعتقادهم هذا؟» «أسباب راسخة. كان يحمل خطابات، وأوراق هوية. بل الأكثر من ذلك أن أهله قد تعرفوا عليه.» «حقا! إذن لماذا كنت تتلاعب بي؟! لا يوجد أي شيء يشير إلى أن هذا الرجل كان بيل! وإذا كانت الشرطة مقتنعة بأن الرجل كان فرنسيا يدعى مارتن، فلماذا ترى، بحق السماء، أن الرجل ليس مارتن وإنما بيل كينريك!» «لأنني الشخص الوحيد في العالم الذي رأى الرجل في المقصورة «بي 7» والذي في الصورة الفوتوغرافية.» أشار جرانت برأسه باتجاه الصورة التي كانت موضوعة على الطاولة.
جعل هذا كولين يتوقف برهة. ثم قال: «لكن تلك صورة رديئة. ولا يمكن أن تحمل الكثير لرجل لم ير بيل مطلقا.» «ربما كانت صورة رديئة من ناحية كونها مجرد لقطة سريعة، لكن التشابه كبير جدا بالفعل.»
فقال كولين ببطء: «أجل، إنه كذلك.» «فكر في ثلاثة أشياء؛ ثلاث حقائق. أولها: أهل شارل مارتن لم يكونوا قد رأوه لسنوات، ثم رأوا وجهه وهو ميت، إن قيل لك إن ابنك قد مات، ولم يشر أحد إلى وجود أي شك حيال هويته، فسترى الوجه الذي توقعت أن تراه. ثانيها: وجد الرجل المعروف باسم شارل مارتن ميتا على متن قطار في اليوم نفسه الذي كان من المقرر أن تتلاقى فيه مع بيل كينريك في باريس. ثالثها: في مقصورته كانت توجد قصيدة مكتوبة بقلم رصاص عن وحوش متكلمة ورمال مغنية، وهو موضوع، بناء على قولك، كان يثير اهتمام بيل كينريك كما أشرت.» «هل أخبرت الشرطة بأمر الصحيفة؟» «حاولت. لكنهم لم يكونوا مهتمين. لم يكن ثمة غموض في الأمر، كما ترى. كانوا يعرفون هوية الرجل، وكيف مات، وذلك كان كل ما يشغلهم.» «ربما كانوا سيهتمون بأنه كان يكتب شعرا بالإنجليزية.» «أوه، لا. لا يوجد دليل على أنه كتب أي شيء، أو على أن الصحيفة كانت تخصه من الأساس. ربما أخذها من مكان ما.»
قال كولين بغضب وحيرة: «الأمر برمته جنوني.» «إنه عجيب. لكن في قلب كل دوامة من العبث يوجد لب ثابت.» «حقا؟» «أجل. توجد مساحة ضئيلة خالية يمكن للمرء أن يقف فيها وهو يفكر في الاحتمالات.» «وما تلك المساحة؟» «صديقك بيل كينريك مفقود. ومن بين مجموعة من الأوجه الغريبة، اخترت بيل كينريك بصفته الرجل الميت الذي رأيته في مقصورة عربة النوم في سكون صباح يوم الرابع من شهر مارس.»
فكر كولين مليا في حديث جرانت. ثم قال في حزن: «أجل. أظن أن ذلك منطقي. أظن أنه لا بد أن يكون بيل. وأظن أنني كنت أعرف طوال الوقت بأن خطبا؛ خطبا مريعا قد حدث. ما كان ليهجرني من دون خبر. كان سيبعث لي بخطاب أو يهاتفني أو شيء من شأنه أن يعطي سببا لعدم مجيئه في الموعد. لكن ما الذي كان يفعله على متن قطار متجه إلى اسكتلندا؟ ماذا كان يفعل على متن قطار أيا كان؟» «كيف: أيا كان؟» «إن أراد بيل أن يذهب إلى مكان ما، كان سيستقل طائرة. ما كان سيستقل قطارا.» «معظم الناس يستقلون قطارا ليلا لأنه يوفر الوقت. فالمرء يسافر وينام في الوقت نفسه. السؤال هو: لماذا استقل القطار بصفته شارل مارتن؟» «أظن أن هذه قضية تخص سكوتلانديارد؟» «لا أظن أن سكوتلانديارد ستشكرنا.»
فرد كولين بنبرة لاذعة: «لا أطلب منهم شكرا. بل أطلب منهم أن يبحثوا فيما حدث لصديقي.» «ما زلت لا أظن أنهم سيهتمون بذلك.» «من الأفضل أن يفعلوا!» «ليس لديك أي دليل على أن بيل كينريك ليس متواريا من تلقاء نفسه، أو أنه لا يقضي وقتا ممتعا بمفرده حتى يأتي وقت عودته إلى أورينتال كوميرشال.»
فقال كولين بصوت كاد يشبه العواء: «لكنه وجد ميتا في مقصورة عربة قطار!» «أوه، لا. ذاك كان شارل مارتن. الذي لا يوجد حوله أي لغز أيا كان.» «لكنك تعرفت على مارتن بصفته كينريك!» «يمكنني القول بالطبع إن من رأيي أن الوجه في الصورة هو الوجه الذي رأيته في المقصورة «بي 7» صباح يوم الرابع من مارس. وستقول سكوتلانديارد إنه يحق لي الإدلاء برأيي، لكنني بلا شك مضلل فيما يتعلق بالشبه بينهما، حيث إن الرجل في المقصورة «بي 7» هو المدعو شارل مارتن، وهو ميكانيكي، وموطنه مارسيليا، في الضواحي التي لا يزال والداه يعيشان فيها.» «أنت تتحدث بهدوء شديد فيما يخص سكوتلانديارد، أليس كذلك! ومع ذلك ...» «ينبغي أن أكون كذلك. لقد عملت هناك لسنوات أكثر مما يمكنني أن أتذكر. وسأعود إلى هناك في غضون أسبوع من يوم الإثنين، بمجرد أن تنتهي إجازتي.» «أتقصد أنك تنتمي إلى سكوتلانديارد؟» «لا أنتمي إليها كلها. بل إلى أحد ركائزها الفرعية. والركائز هنا تعني الدعم. أنا لا أحمل بطاقاتي في ملابس الصيد، لكن إن أتيت معي إلى منزل مضيفي فسيشهد على صدقي.» «أوه. لا. لا، بالطبع أصدقك يا سيد ... آه ...» «محقق. لكننا سنكتفي بكلمة «سيد» لأنني خارج الخدمة مؤقتا.» «آسف أنني حديث العهد بذلك. الأمر فقط أنه لم يخطر لي ... لا تتوقع أن تلتقي بأحد أفراد سكوتلانديارد في الحياة الواقعية. هذا أمر تقرأ عنه فحسب. فالمرء لا يتوقع منهم أن ... أن ...» «أن يذهبوا للصيد.» «لا، أعتقد أنكم لا تفعلون ذلك. فقط في الكتب.» «حسنا، والآن وقد صدقت هويتي، وتعرف أن قولي عن ردة فعل دائرة الشرطة ليس دقيقا فحسب بل من أكثر المصادر وثوقا، ماذا سنفعل؟»
الفصل العاشر
حين سمعت لورا في صباح اليوم التالي أن جرانت كان ينوي الذهاب إلى سكون بدلا من قضاء اليوم عند النهر، شعرت بالسخط.
إذ قالت: «لكنني أعددت للتو وجبة غداء رائعة لك ولزوي.» ظل لدى جرانت انطباع بأن استياء لورا كان منبعه سببا أكثر وجاهة من مجرد سوء تقدير لوجبة غداء، لكن ذهنه كان مشغولا للغاية بأمور أكثر أهمية من تحليل التفاهات. «يوجد شاب أمريكي، يمكث في مويمور، أتى طالبا مساعدتي بشأن شيء ما. رأيت أن بإمكانه أن يأخذ مكاني عند النهر إن لم يكن لدى أي أحد اعتراض على ذلك. لقد مارس الصيد قليلا كما قال لي. ربما يحب بات أن يعلمه كيفية الصيد.»
كان بات قد أتى إلى الإفطار في حالة من التألق الشديد حتى إن وهجه بدا جليا عبر الطاولة. كان اليوم هو اليوم الأول من عطلة عيد الفصح. وقد أبدى اهتماما حين سمع الاقتراح الذي قدمه قريبه. إذ لم يكن يوجد كثير من الأشياء التي يستمتع بها بقدر أن يعلم أحدا ما شيئا.
فسأل: «ما اسمه؟» «تاد كولين.» ««تاد» اختصار لماذا؟» «لا أعرف. ربما اختصار لاسم تيودور.»
همهم بات في ارتياب: «م ... م ... م.» «إنه طيار.»
فقال بات وقد بدأ حاجباه ينفكان: «أوه، ظننت أنه باسم كهذا ربما يكون بروفيسورا.» «لا. إنه يطير إلى شبه الجزيرة العربية جيئة وذهابا.»
فقال بات: «شبه الجزيرة العربية!»، مشددا على حرف الراء، حتى تألقت طاولة الإفطار الاسكتلندية المتواضعة بانعكاسات جواهر الشرق. فبين وسائل النقل الحديثة وبغداد القديمة، بدا أن تاد كولين يتمتع بوثائق اعتماد مرضية. «سيعلمه» بات بكل سرور.
قال بات: «بالطبع ستحصل زوي على أولوية اختيار أماكن الصيد.»
لو كان جرانت قد ظن أن إعجاب بات وافتتانه بزوي سيأخذان شكل الصمت الخجل والهيام العبثي، فقد كان مخطئا. كانت علامة استسلام بات الوحيدة هي الإقحام المستمر لجملة «أنا وزوي» في حديثه، ومع ذلك ينبغي ملاحظة أن ضمير المتكلم كان يجيء أولا.
وهكذا استعار جرانت السيارة بعد الإفطار وذهب إلى مويمور ليخبر تاد كولين أن ولدا صغيرا أصهب الشعر، ويرتدي تنورة اسكتلندية خضراء، سيكون في انتظاره، ومعه كل الأدوات والمعدات اللازمة للصيد، عند الجسر المتأرجح فوق نهر تورلي. وأنه سيعود من سكون لينضم إليهم عند النهر في وقت ما من بعد الظهر، أو هكذا كان يأمل.
قال كولين: «أود أن آتي معك يا سيد جرانت. ألديك خيط تتبعه في هذا الأمر؟ أهذا هو سبب ذهابك إلى سكون هذا الصباح؟» «لا. بل أنا ذاهب لأبحث عن خيط أبدأ به. لا يوجد أي شيء يمكنك فعله في الوقت الحالي؛ لذا يمكنك أن تقضي اليوم عند النهر.» «لا بأس سيد جرانت. أنت القائد. ما اسم صديقك؟»
قال جرانت: «بات رانكن»، ثم انطلق بالسيارة نحو سكون.
كان قد أمضى جل الليلة الماضية مستلقيا وهو مستيقظ وعيناه مثبتتان على السقف، تاركا الأنماط في ذهنه تتشكل وتتداخل بعضها في بعض وكأنها خدع تصويرية في أحد الأفلام. كانت الأنماط تتجسد باستمرار، وتتفكك وتتلاشى ولا تعود أبدا إلى نفس الشكل ولو للحظات قليلة. استلقى وترك الأنماط تتراقص في تداخلها البطيء الذي لا نهاية له، دون أن يتدخل بأي شكل في دورانها والتفافها بعضها حول بعض؛ فكان منفصلا عنها وكأنها عرض لأضواء الشفق القطبي.
بتلك الطريقة كان عقله يعمل على أفضل نحو. وبالطبع كان يمكن لعقله أن يعمل بالطريقة الأخرى. كان سيعمل بصورة جيدة للغاية. على سبيل المثال، في المشكلات التي تشتمل على تسلسل مكاني وزماني. في الأمور التي يفترض فيها أن «أ» كان في النقطة «س» في الساعة الخامسة والنصف من شهر كذا الجاري، كان عقل جرانت يعمل بدقة آلة حاسبة. لكن في مسألة يكون فيها الدافع هو أهم شيء، كان يستلقي ويطلق العنان لعقله في المعضلة. وبعد قليل، لو ترك عقله يعمل كما يحلو له، فسيحصل على النمط الذي كان يلزمه.
كان لا يزال لا يملك أدنى فكرة عن سبب سفر بيل كينريك إلى شمال اسكتلندا، بينما كان ينبغي أن يسافر إلى باريس ليلتقي بصديقه، وكذلك لم يكن يملك أدنى فكرة عن سبب سفره بأوراق رجل آخر. لكنه كان قد بدأ يكون فكرة عن سبب تشكل اهتمام بيل كينريك المفاجئ بشبه الجزيرة العربية. كان كولين قد فكر في ذلك الاهتمام من منطلق مسارات الطيران، متأثرا في ذلك بنظرته إلى العالم من خلال المنظور المحدود لطيار. لكن جرانت كان واثقا من أن هذا الاهتمام كان له منبع آخر. فاستنادا إلى ما قاله كولين، لم يكن كينريك يبدي أيا من الإشارات المعتادة الدالة على «فقدان الشجاعة». كان من المستبعد أن يكون لهوسه بالمسار الذي طار فيه علاقة بالطقس بأي صورة من صوره. ففي مكان ما، وفي وقت ما، أثناء إحدى تلك الرحلات على ذلك المسار «الكئيب الملعون»، وجد كينريك شيئا أثار اهتمامه. وقد بدأ ذلك الاهتمام أثناء إحدى المرات حيث انحرفت به العواصف الترابية، التي كانت تتكرر في المناطق الداخلية لشبه الجزيرة العربية، عن مساره كثيرا. وكان قد عاد من تلك التجربة «مهزوزا». «لم يكن يصغي إلى ما كان يقال له.» «كان لا يزال هناك.»
وهكذا في هذا الصباح كان جرانت ذاهبا إلى سكون ليكتشف ما الذي يمكن أن يكون قد أثار اهتمام بيل كينريك في المناطق الداخلية لتلك المساحات الضخمة الصخرية الكئيبة، في الصحراء وشبه القارة البغيضة التي تشكل شبه الجزيرة العربية. ولهذا السبب بالطبع كان جرانت ذاهبا إلى السيد تاليسكر. كان المرء يذهب إلى السيد تاليسكر، سواء كان سؤاله عن القيمة التقديرية لأحد الأكواخ أو عن تكوين الحمم البركانية.
كانت المكتبة العامة في سكون مهجورة في هذه الساعة من الصباح، ووجد جرانت السيد تاليسكر يتناول كعكة محلاة وكوبا من القهوة. وفكر جرانت في أن الكعكة المحلاة تمثل خيارا طفوليا وواقعيا محببا لرجل بدا أنه يعيش على بسكويت الويفر والشاي الصيني بالليمون. كان السيد تاليسكر مسرورا للقاء جرانت، فسأله عن التقدم الذي يحرزه في دراسته للجزر الغربية، واستمع باهتمام لحديث جرانت المتسم بالهرطقة عن ذلك الفردوس، وكان ذا نفع في بحثه الجديد. شبه الجزيرة العربية؟ أوه، أجل، لديهم في المكتبة رف كتب كامل عن تلك المنطقة. فعدد من كتبوا كتبا عن شبه الجزيرة العربية يساوي تقريبا عدد من كتبوا كتبا عن الجزر الغربية. وإن جاز للسيد تاليسكر قول هذا، فقد كانت توجد أيضا لدى مناصري هذا الموضوع والمتحمسين له نفس النزعة تجاه جعله مثاليا. «لو لخصنا الأمر في حقائق بسيطة، فأنت تظن أن كلا المكانين مجرد صحار عاصفة.»
أوه، لا، ليس بالكامل. كان ذلك تعميما ... بعض الشيء. لقد حظي السيد تاليسكر بكثير من السعادة والجمال من الجزر الغربية. لكن النزعة تجاه جعل شعب بدائي ما مثاليا كانت هي نفسها في كلتا الحالتين. وها هو رف الكتب التي تتناول الموضوع، وسيترك السيد جرانت ليدرسها على مهل.
كانت الكتب في غرفة المراجع، ولم يكن يوجد بها قارئ آخر غيره. أغلق الباب فعم الصمت وبقي مع بحثه. تفقد رف الكتب بنفس الطريقة تقريبا التي تفقد بها رف الكتب التي تتناول الجزر الغربية في غرفة الجلوس في منزل كلون، مستخرجا الموضوعات الرئيسية لكل منها بعين سريعة متمرسة. وكان النطاق هو نفسه تقريبا في الحالة السابقة؛ إذ تراوح بين العاطفيين والعلماء. الفارق الوحيد أن بعض الكتب في هذه الحالة كانت كلاسيكية، بما يتناسب مع موضوع كلاسيكي كهذا.
ولو أنه كان لدى جرانت بقية شكوك في أن الرجل الذي كان في المقصورة «ب 7» كان بيل كينريك، فقد زالت حين عرف أن الجزء الصحراوي من جنوب شرق شبه الجزيرة العربية كان يعرف باسم الربع الخالي.
كان ذلك إذن المقصود ب «سرقة كالي» (إذ كان نطق المقابل الإنجليزي لتلك العبارة قريبا من نطق اسم هذا المكان)!
بعد ذلك كرس جرانت اهتمامه للربع الخالي، فأخذ يمسك بكل كتاب على الرف، ويقلب الصفحات بحثا عن تلك المنطقة بعينها، ثم يعيد الكتاب إلى مكانه ليمسك بالكتاب التالي. وسرعان ما استرعت إحدى العبارات انتباهه. «تسكنها القرود ». قال له عقله، قرود. وحوش متكلمة. ثم رجع للصفحة السابقة ليرى ما الذي كانت تتحدث عنه تلك الفقرة.
كانت تتحدث عن عبار.
بدا أن عبار كانت أطلانطس شبه الجزيرة العربية. مدينة عاد بن كنعاد الأسطورية. في مرحلة ما بين الأسطورة والتاريخ، دمرت هذه المدينة حرقا بسبب آثامها. وذلك لأنها كانت مدينة غنية وآثمة بما يفوق قدرة الكلمات على التعبير. ضمت قصورها أجمل المحظيات، وضمت إسطبلاتها أفضل الجياد في العالم، التي كان جمال أحدها لا يقل البتة عن جمال الآخر. وكانت في بلاد خصبة، حتى إن المرء لم يكن عليه سوى أن يمد يده ليقطف ما تجود به التربة من فواكه. وكان هناك كثير من الفراغ الذي سمح بارتكاب خطايا قديمة وابتكار خطايا جديدة. لذا حل الدمار على المدينة. جاء الدمار ليلا، بنيران مطهرة. والآن صارت عبار، هذه المدينة الأسطورية، عبارة عن ركام وحطام، تحرسها الرمال المتحركة، ومنحدرات صخرية تتغير أشكالها وأماكنها باستمرار، وتسكنها سلالة من القرود وجن رجيم. لم يكن بمقدور أحد أن يقترب من ذلك المكان؛ لأن الجن كانوا ينفخون عواصف ترابية في وجه الساعين إلى الوصول إليها.
كانت تلك هي عبار.
ويبدو أن أحدا لم يجد أطلال تلك المدينة قط رغم أن كل مستكشف عربي بحث عنها سرا أو علنا. ومن المؤكد أنه لم يتفق اثنان من المستكشفين على أي مكان من شبه الجزيرة العربية كانت تشير إليه الأسطورة. فعاد جرانت يطالع المجلدات المختلفة، مستخدما الكلمة السحرية، كلمة عبار، ووجد أن كل كاتب خرج بنظرية خاصة به، وأن المواقع التي عليها جدال كانت بعيدة بعضها عن بعض كبعد عمان عن اليمن. ولاحظ أن أيا من الكتاب لم يحاول أن يستخف بالأسطورة أو يقلل من شأنها كوسيلة تخفيف من وطأة فشله؛ كانت قصة هذه المدينة منتشرة في شبه الجزيرة العربية وثابتة في شكلها، واعتقد العاطفيون والعلماء على حد سواء أن للأسطورة أساسا في الواقع. كان حلم كل مستكشف أن يصبح هو مكتشف عبار، لكن الرمال والجن والسراب كانوا يحرسونها جيدا.
كتب أحد أعظم الكتاب: «من المحتمل أن اكتشاف المدينة الأسطورية في نهاية المطاف لن يكون نتاجا لبحث أو لحسابات أجريت، وإنما سيكون من قبيل الصدفة.»
من قبيل الصدفة.
على يد طيار ابتعد كثيرا عن مساره بسبب عاصفة ترابية؟
أكان ذلك ما رآه بيل كينريك حين خرج من تلك السحابة البنية الرملية التي أعمته وقارعته؟ قصور فارغة وسط الرمال؟ أكان ذلك هو ما خرج عن مساره ليبحث عنه - أو ربما ليشاهده - حين «بدأ يعتاد على الوصول بالطائرة متأخرا»؟
لم يقل شيئا بعد تلك التجربة الأولى. وذلك أمر يمكن تفهمه إن كان ما رآه هو مدينة في الرمال. كان من حوله سيضايقونه بسبب هذا؛ كانوا سيضايقونه قائلين إنه يتبع سرابا ويفرط في الشراب وما إلى ذلك. وحتى إن كان أحد الطيارين في شركة أورينتال كوميرشال قد سمع بالأسطورة من قبل - وهو ما كان غير مرجح في مجموعة تتسم بالتغير المستمر واللامبالاة - فإنهم كانوا سيضايقونه لأنه تبع أفكارا نابعة من آماله ورغباته. لذا فإن بيل - الذي كتب حروف
m
و
n
الملاصقة بعضها لبضع في إحكام، وكان «فقط حذرا بعض الشيء» - لم يقل شيئا وعاد ليلقي نظرة أخرى. عاد مرة تلو الأخرى. إما لأنه أراد أن يجد المكان الذي رآه أو لينظر إلى مكان كان قد حدد موضعه بالفعل.
أخذ يدرس الخرائط. ويقرأ الكتب عن شبه الجزيرة العربية. ثم ...؟
ثم قرر المجيء إلى إنجلترا.
كان قد رتب للذهاب إلى باريس برفقة تاد كولين. لكنه بدلا من ذلك أراد أن يقضي بعض الوقت بمفرده في إنجلترا. لم يكن لديه أحد في إنجلترا. ولم يأت إلى إنجلترا لسنوات طويلة، وطبقا لما ذكر كولين فإنه لم يبد عليه قط أنه شعر بحنين إلى إنجلترا، ولا كتب لأحد هناك بأي شكل من أشكال المراسلات المنتظمة. كان قد تربى على يد عمة له عندما قتل والداه، وحاليا هي الأخرى متوفاة. حتى هذا الوقت لم يكن لديه رغبة مطلقا في العودة إلى إنجلترا.
أسند جرانت ظهره للخلف وسمح للسكون من حوله أن يلفه. كان بإمكانه تقريبا سماع الغبار وهو يحط على الأرض. طوال سنوات وسنوات أخذ الغبار يتساقط في هدوء. مثل مدينة عبار.
أتى بيل كينريك إلى إنجلترا. وبعد ثلاثة أسابيع تقريبا، حين كان من المقرر أن يلتقي بصديقه في باريس، ظهر في اسكتلندا باسم شارل مارتن.
كان بإمكان جرانت أن يتوقع سبب رغبته في المجيء إلى إنجلترا، لكن لماذا كان متخفيا؟ ولماذا هذه الزيارة السريعة إلى الشمال؟
من الذي كان سيزوره بصفته شارل مارتن؟
كان بإمكانه أن ينجز تلك الزيارة السريعة ويعود ليلتقي بصديقه في الموعد المحدد في باريس لولا حادثة سقوطه؛ لأنه كان مخمورا. كان بإمكانه أن يلتقي بشخص ما في منطقة المرتفعات، ثم يطير من بلدة سكون ليلتقي بصديقه في فندق سان جاك على العشاء.
لكن لماذا كان سيفعل ذلك بصفته شارل مارتن؟
أعاد جرانت وضع الكتب على رفها بتربيتة استحسان لم يضيعها قط على مجموعة كتب الجزر الغربية، وذهب لزيارة السيد تاليسكر في مكتبه الصغير. كان أخيرا قد عرف شيئا عن كينريك. عرف كيف يتتبع أثره.
سأل جرانت السيد تاليسكر: «في رأيك، من كان أعظم من كتب عن شبه الجزيرة العربية في إنجلترا؟»
لوح السيد تاليسكر بنظارته الأنفية ذات الشريط وابتسم باستنكار. وقال إنه يوجد ما قد يطلق عليه أنه حشد من خلفاء توماس وفيلبي والأسماء العظيمة الأخرى، لكنه يظن أن هيرون لويد وحده هو من يصنف بأنه خبير عظيم بحق. من المحتمل أن السيد تاليسكر كان متحيزا لصالح لويد لأنه كان الوحيد في ذلك الحشد الذي كان يكتب بإنجليزية أدبية، ولكن كان صحيحا أنه، بعيدا عن مواهبه في الكتابة، كان يتمتع بمنزلة رفيعة ونزاهة وسمعة كبيرة. لقد أتم رحلات مذهلة في إطار رحلاته الاستكشافية العديدة، وكانت له مكانة مهمة بين العرب.
شكر جرانت السيد تاليسكر وذهب ليلقي نظرة على «دليل الشخصيات البارزة». كان يريد عنوان هيرون لويد.
ثم بعد ذلك ذهب ليتناول الطعام، وبدلا من أن يذهب إلى فندق كاليدونيان، الذي كان ملائما ويحمل عددا كافيا من النجوم، أطاع دافعا خفيا بداخله وسار إلى الطرف الآخر من البلدة ليتسنى له أن يتناول الطعام في المكان الذي كان قد تناول فيه إفطاره مع شبح راكب المقصورة «بي 7» في ذلك الصباح الكئيب من بضعة أسابيع فحسب.
لم يكن المكان شبه معتم اليوم؛ إذ كان مضيئا ومتألقا بالفضة والزجاج والمفارش الكتانية. بل إنه كان يوجد نادل رئيس يتجول بالمطعم. لكن أيضا كانت ماري هناك؛ هادئة ورصينة وبدينة كما كانت في ذلك الصباح. تذكر جرانت كم كان في حاجة إلى من يهدئ من روعه ويطمئنه، ولم يكد يصدق أن ذلك المخلوق المعذب والمنهك كان يمكن أن يكون هو.
جلس جرانت إلى الطاولة نفسها بجوار الستائر أمام باب الخدمة، فأتت ماري لتأخذ طلبه وتسأله عن أحوال الصيد في نهر تورلي في هذه الآونة. «كيف عرفت أنني كنت أصطاد في نهر تورلي؟» «كنت مع السيد رانكن حين أتيت لتناول الإفطار، حين نزلت من القطار.»
حين نزل من القطار. كان قد نزل من القطار بعد تلك الليلة المليئة بالمعاناة والصراع؛ تلك الليلة البغيضة. قد نزل من على متن القطار تاركا راكب المقصورة «بي 7» ميتا بعد أن نظر إليه نظرة عابرة ومر به شعور عابر من مشاعر الأسى. لكن راكب المقصورة «بي 7» كان قد سدد مقابل تلك اللحظة من التعاطف البسيط بمئات الأضعاف. كان راكب المقصورة «بي 7» قد رافقه، وفي النهاية أنقذ حياته. كان راكب المقصورة «بي 7» هو من أرسله إلى الجزر الغربية، في ذلك البحث المجنون وسط الرياح والصقيع عن العدم. في ذلك المكان الغريب العبثي فعل جرانت كل تلك الأشياء التي ما كان سيفعلها في أي مكان آخر؛ لقد ضحك حتى سالت دموعه، ورقص، وترك نفسه حرا كورقة شجر تطير من أفق فارغ إلى آخر، وغنى، وجلس جامدا يراقب وينظر. وعاد إنسانا مكتملا. كان مدينا لراكب المقصورة «بي 7» بأكثر مما يمكن له أن يسدد في أي يوم من الأيام.
وأخذ يفكر في بيل كينريك وهو يتناول غداءه؛ ذلك الشاب الذي كان بلا جذور. هل كان وحيدا في حياته المتحررة، أم كان حرا فحسب؟ وإن كان حرا، أفكانت حريته كحرية طائر السنونو، أم كالنسر؟ أكانت سعيا إلى العلا، أم تعاليا وتغطرسا؟
على الأقل كان يتحلى بصفة كانت نادرة ومحببة في كل العصور والأزمنة؛ كان رجل أفعال كما كان شاعرا بالفطرة. هذا ما يميزه عن حشود موظفي أورينتال كوميرشال التافهين الذين كانوا يطيرون بطائراتهم عبر القارات في غفلة كالبعوض. هذا ما يميزه عن حشود الساعة الخامسة في محطة قطار لندنية، الذين كانت المغامرة عندهم عبارة عن ركوب قطار بنصف كراون في أي من الاتجاهين. ولو لم يكن الشاب المتوفى في المقصورة «بي 7» مثل سيدني ولا جرينفل، فعلى الأقل كان واحدا من نوعيتهم.
ومن أجل ذلك كان جرانت يحبه.
قال الصوت في داخله: «أتعرف، إن لم تأخذ حذرك فستتحرك «مشاعرك» تجاه بيل كينريك.»
فقال جرانت مبتهجا: «لقد تحركت بالفعل»، فتراجع الصوت في صمت منهزم.
منح ماري بقشيشا مضاعفا، وغادر ليحجز تذكرتين في طائرة الصباح إلى لندن. كان لا يزال أمامه أكثر من أسبوع في إجازته، وكان نهر تورلي لا يزال يعج بالأسماك؛ الأسماك الفضية المقاتلة الانسيابية الجميلة، لكن كان أمامه مهمة أخرى. منذ ظهر يوم أمس لم يكن أمامه سوى مهمة واحدة؛ بيل كينريك.
كان لديه شكوك وهواجس عن تلك الرحلة الجوية إلى لندن، لكنها لم تكن جادة أو خطيرة جدا. حين نظر إلى حاله قبلئذ، لم يكد يستطع أن يتعرف على ذلك المخلوق المرتاع الذي تملك منه شيطانه، والذي نزل على رصيف محطة بلدة سكون من قطار بريد لندن قبل أقل من شهر. كل ما تبقى من ذلك الكائن البائس كان خوفا طفيفا من أن يكون خائفا. أما شعور الارتياع نفسه فلم يعد موجودا.
ابتاع حلوى من أجل باتريك ما يكفي لإبقائه مريضا لثلاثة شهور متواصلة، وقاد السيارة عائدا إلى التلال. وكان يخشى من أن تغليف الحلوى كان أكثر أناقة من أن تعجب باتريك أصلا - ربما كانت «مخنثة» بعض الشيء؟ - لأن حلوى بات المفضلة التي أعلن عنها كانت شيئا في نافذة السيدة مير يسمى «أعين أوجو بوجو». لكن لا شك في أن لورا ستوزع حلوى سكون بمقادير ضئيلة على أي حال.
أوقف السيارة فوق النهر في منتصف الطريق بين مويمور وسكون، ونزل يسير عبر الأرض الفسيحة ليبحث عن تاد كولين. كان الوقت لا يزال في أول فترة ما بعد الظهيرة، ومن غير المحتمل أن يكون كولين قد انتهى بعد من استراحة ما بعد الغداء على النهر.
لم يكن قد بدأها بعد. وعندما وصل جرانت إلى حافة الأرض السبخة ونظر إلى الأسفل إلى غور النهر تحته مباشرة، رأى تحته في منتصف المسافة مجموعة صغيرة من ثلاثة أشخاص، ساكنين مسترخين على ضفة النهر. كانت زوي مستندة في وضعيتها المفضلة على صخرة، وعلى جانبيها عند مستوى ساقيها المتقاطعتين كان تابعاها، بات رانكن وتاد كولين، ينظران إليها بانتباه لا يتزعزع. وحين نظر إليهما جرانت، وهما مستمتعان ومستغرقان، أدرك أن بيل كينريك كان قد قدم له خدمة أخيرة لم ينل التقدير عليها بعد. لقد أنقذه بيل كينريك من الوقوع في حب زوي كينتالين.
كانت بضع ساعات أخرى معها ستؤدي به إلى ذلك. بعد بضع ساعات أخرى برفقتها المستمرة، كان جرانت سيتورط في حبها بما لا يدع له مجالا للتعافي منه. لقد تدخل بيل كينريك في الوقت المناسب تماما.
كان بات هو من رآه أولا، وأتى ليقابله ويصحبه إلى الجلسة كما يفعل الأطفال والكلاب مع من يحبونهم. وأمالت زوي رأسها للخلف لتشاهده وهو قادم وقالت: «لم تفوت على نفسك شيئا يا ألان جرانت. لم يصطد أحد شيئا طوال اليوم ولو سمكة صغيرة. أتحب أن تأخذ صنارتي قليلا؟ ربما من شأن تغيير في الوتيرة أن يجلب الأسماك.»
قال جرانت إنه يود ذلك كثيرا؛ فوقته الذي سيقضيه في الصيد كان ينفد.
قالت زوي: «ما يزال أمامك أسبوع لتصطاد كل ما في النهر.»
تساءل جرانت كيف عرفت ذلك. ثم قال: «لا، سأعود إلى لندن صباح الغد»، وللمرة الأولى رأى زوي تستجيب إلى أحد المؤثرات كما يفعل البالغون. كانت أمارات الأسف الفورية التي بدت على وجهها واضحة بنفس القدر الذي كانت واضحة به على وجه بات، لكن على عكس بات، سيطرت زوي على انفعالها وأزالته. وعبرت بصوتها الهادئ اللطيف عن مدى أسفها، لكن وجهها لم يعد يظهر أي انفعال. اكتسى وجهها ثانية بتعبير قصص الجنيات الخرافية؛ كرسومات هانس أندرسن.
وقبل أن يستطيع التفكير فيما حدث، قال تاد كولين: «أيمكنني أن آتي معك يا سيد جرانت؟ إلى لندن.» «كنت أنوي أن تأتي معي. لقد حجزت تذكرتين على طائرة الصباح.»
في النهاية أخذ جرانت الصنارة التي كان تاد كولين يستخدمها - والتي كانت احتياطية من منزل كلون - حتى يتسنى لهم السير معا مع تيار النهر وتجاذب أطراف الحديث. لكن زوي لم تبد أي استعداد للاستمرار في الصيد.
فقالت وهو تحل صنارتها: «لقد اكتفيت. أظن أنه ينبغي أن أعود إلى كلون لأكتب بعض الخطابات.»
وقف بات متحيرا، ككلب ودود بين اثنين يدين لهما بالولاء، ثم قال: «سأعود مع زوي.»
فكر جرانت أن بات قالها وكأنه كان يناصرها وليس مجرد رغبة في مرافقتها، وكأنه انضم للتو إلى حركة مناوئة لإساءة معاملة زوي. لكن حيث إن أحدا لم يفكر مطلقا في أن يسيء معاملة زوي، كان سلوكه هذا غير ضروري بكل تأكيد.
ومن الصخرة التي جلس عليها جرانت مع تاد كولين ليطلعه على المستجدات، راح يراقب الجسدين يتضاءلان شيئا فشيئا عبر الأرض السبخة، وتعجب قليلا من ذلك الانسحاب المفاجئ، وجو الإحباط الذي كان يغشى مسيرها. بدت مثل طفلة يائسة متعبة تجرجر قدميها نحو المنزل في غير توقع. ربما غمرتها فجأة أفكار عن زوجها ديفيد. ذلك هو حال الحزن؛ يتركك وشأنك شهورا حتى تظن أنك شفيت، وفجأة ومن دون سابق إنذار يطمس نور الشمس.
كان تاد كولين يقول: «لكن ذلك لا يثير الحماسة كثيرا، أليس كذلك؟» «ماذا تقصد؟» «تلك المدينة التي تتحدث عنها. هل يمكن لأي أحد أن يتحمس تجاهها كل هذه الحماسة؟ أقصد تجاه حفنة من الأطلال. الأطلال لا تساوي شيئا في هذا الزمان.»
قال جرانت، وقد نسي أمر زوي: «ليس هذه الأطلال، ليست كذلك. الرجل الذي سوف يعثر على مدينة عبار سيدخل التاريخ.» «حين قلت إنه وجد شيئا مهما ظننت أنك ستقول إنه وجد مصانع ذخيرة في الصحراء أو شيئا من هذا القبيل.» «ذلك شيء لا قيمة له حقا هذه الأيام.» «ماذا؟» «مصانع سرية للذخيرة. من يكتشف أيا منها لن يصبح مشهورا.»
انتصبت أذنا تاد. وقال: «مشهورا؟ تقصد أن الرجل الذي سيكتشف هذا المكان يمكن أن يصبح مشهورا؟» «لقد قلت ذلك بالفعل.» «لا. قلت فقط إنه سيدخل التاريخ.» «صحيح. صحيح جدا. لم يعد هذان التعبيران مترادفين. أجل، سيصبح مشهورا. إن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون سيكون بلا قيمة مقارنة بهذا.» «وتظن أن بيل ذهب لمقابلة ذلك الرجل، الذي يدعى لويد؟» «إن لم يكن قد ذهب إليه، فقد ذهب إلى شخص آخر في ذلك السياق. أراد أن يتحدث إلى شخص سيأخذ ما يقوله على محمل الجد؛ أقصد شخصا لن يضايقه ويزعجه حيال رؤيته لهذه الأشياء. كما كان يريد أن يلتقي بشخص لديه اهتمام شخصي بأخباره ومتحمس لها. سيفعل ما فعلته أنا بالضبط. سيذهب إلى متحف أو مكتبة أو ربما حتى إلى أحد أقسام المعلومات في أحد المتاجر الكبرى، ويكتشف من هو أفضل كاتب ومستكشف إنجليزي لشبه الجزيرة العربية. وعلى الأرجح أنه سيجد نفسه أمام خيارات عدة؛ فأمناء المكتبات متحذلقون، وأقسام المعلومات تخضع لقانون التشهير، لكن لويد خارج المنافسة مع الآخرين؛ لأن براعته في الكتابة تضاهي براعته في الاستكشاف. إنه الاسم المألوف وسط أقرانه، إن جاز التعبير. لذا فإن الاحتمال الأرجح للغاية هو في صالح أن بيل سيختار لويد.» «إذن علينا أن نكتشف متى وأين التقى لويد ونتتبع أثره من تلك النقطة.» «أجل. علينا أيضا أن نعرف إن كان قد ذهب للقاء لويد بصفته شارل مارتن أم باسمه الحقيقي.» «ولماذا قد يلتقي به باسم شارل مارتن؟» «من يدري؟ قلت إنه كان حذرا بعض الشيء. ربما كان يريد أن يخفي صلته بشركة أورينتال كوميرشال. أهذه الشركة صارمة بشأن مساراتها وجداول رحلاتها؟ ربما كان الأمر بهذه البساطة.»
جلس كولين في صمت قليلا، وكان في أثناء ذلك يرسم نمطا على العشب بعقب صنارة الصيد. ثم قال: «لا تظن يا سيد جرانت أنني أميل إلى المأساوية أو ... أو الحساسية أو السذاجة، لكنك لا تظن أن بيل قتل، أليس كذلك؟» «يمكن أن يكون قد قتل بالطبع. فجرائم القتل تحدث. حتى جرائم القتل العبقرية. لكن احتمالات ذلك بعيدة جدا.» «لماذا؟» «مبدئيا لأن الأمر اجتاز تحقيقا شرطيا. وعلى عكس كل الروايات البوليسية التي تقول بغير ذلك، تتمتع إدارة التحقيقات الجنائية بكفاءة عالية حقا. وهي إلى حد بعيد - إن كنت ستتقبل رأيا متحيزا بعض الشيء - أكثر المؤسسات كفاءة في هذا البلد في وقتنا الحالي، أو في أي بلد آخر، في أي وقت من الأوقات.» «لكن الشرطة كانت مخطئة بالفعل بشأن أحد الأمور.» «تقصد بشأن هويته. أجل، لكن لا يمكن لومها على ذلك.» «تقصد لأن الحبكة كانت مثالية. إذن ما الذي سيقوض الحبكة الأخرى؛ إذ إنها مثالية كحبكة هوية شارل مارتن؟» «لا شيء بالطبع. فكما قلت، جرائم القتل العبقرية تحدث. لكن تزوير هوية أسهل بكثير من ارتكاب جريمة قتل دون عقاب. كيف حدث الأمر برأيك؟ هل دخل عليه أحد وقتله بعد أن غادر القطار محطة يوستن، ودبر أن يبدو الأمر وكأنه سقط؟» «أجل.» «لكن لم يزر أحد المقصورة «بي 7» بعد أن غادر القطار يوستن. لقد سمعته راكبة المقصورة «بي 8» يعود بعد أن أتم المضيف جولته، وأغلق بابه. ولم تجر أي محادثة بعد ذلك.» «لا يستلزم ضرب رجل على مؤخرة رأسه محادثة.» «لا، لكنه يستلزم فرصة. فاحتمالات أن يفتح القاتل الباب ويجد شاغل المقصورة في الوضعية المناسبة لأن يضربه على مؤخرة رأسه تكاد تكون منعدمة. فالمقصورة ليست مكانا يسهل فيه أن تضرب فيه شخصا، ولا حتى اختيار التوقيت المناسب؛ فهي مقصورة للنوم. سيتعين على أي أحد يبيت سوء النية أن يدخل إلى المقصورة؛ فلا يمكن توجيه الضربة من الممر . ولا يمكن توجيه الضربة والضحية في السرير. وكذلك لا يمكن توجيهها والضحية مواجه لك، كما أنه سيلتفت بمجرد أن يدرك أن أحدهم موجود معه في المقصورة. وتقول راكبة المقصورة «بي 8» إنه لم تحدث أي محادثة أو زيارة. وراكبة المقصورة «بي 8» من النوع الذي «لا يستطيع أن ينام في قطار». إنها تقرر ذلك مسبقا، وكل صوت وصرير وقعقعة، ولو كان ضئيلا، يسبب لها معاناة كبيرة. ومن عادتها أنها تغط في النوم بحلول الثانية والنصف، لكن بيل كينريك كان قد مات قبل ذلك بوقت طويل.» «هل سمعته يسقط؟» «يبدو أنها سمعت صوت «ارتطام»، وظنت أنه كان ينزل إحدى حقائبه. لكنه بالطبع لم يكن معه حقائب من شأنها أن تصدر صوت ارتطام وهو يتعامل معها. بالمناسبة، هل كان بيل يتحدث الفرنسية؟» «بما يكفي لأن يتدبر أمره.»
فقال جرانت بالفرنسية: «معي.» «أجل. شيء كهذا. لكن لماذا؟» «مجرد تساؤل. يبدو أنه كان ينوي أن يقضي ليلة في مكان ما.» «تقصد في اسكتلندا؟» «أجل. الكتاب المقدس والرواية الفرنسية. ومع ذلك لم يكن يتحدث الفرنسية.» «ربما كان الرجل الاسكتلندي الذي كان سيلتقيه لا يتحدثها أيضا.» «لا. فالاسكتلنديون لا يتحدثونها عادة. لكن إن كان قد خطط لقضاء ليلة في مكان ما لما كان سيتمكن من لقائك في ذلك اليوم في باريس.» «أوه، ما كان بيل سيعبأ بأن يتأخر يوما. كان سيرسل لي برقية في الرابع من الشهر.» «أجل ... أتمنى أن أستطيع أن أجد سبب تخفيه.» «تخفيه؟» «أجل. أن يتلبس الشخصية بهذه المثالية. لماذا كان يريد أن يظن أحدهم أنه كان فرنسيا؟»
فقال السيد كولين: «لا يمكنني أن أفكر في سبب يجعل شخصا ما يريد أن يظن شخص آخر أنه فرنسي. ما الذي تأمل أن تحصل عليه من ذلك الرجل المدعو لويد؟» «آمل أن يكون لويد هو آخر من رآه في يوستن. لا تنس أنهما كانا يتحدثان عن الربع الخالي. ما بدا لمسامع يوجورت العجوز مشابها تماما لكلمة «سرقة كالي».» «هل يعيش لويد في لندن؟» «أجل. في تشيلسي.» «آمل أن يكون في المنزل.» «آمل ذلك حقا. والآن سأذهب لأقضي ساعة أخيرة عند نهر تورلي، وإن كنت تطيق الجلوس والتفكير في المسألة لبعض الوقت، فربما يمكنك أن تأتي إلى منزل كلون لتناول العشاء ومقابلة أسرة رانكن؟»
فقال تاد: «لا بأس بهذا. فأنا لم أودع الكونتيسة. لقد غيرت رأيي فيما يتعلق بالكونتيسات. أيمكن أن تقول إن الكونتيسة مثال نموذجي على طبقتكم الأرستقراطية، يا سيد جرانت؟»
رد جرانت وهو يسير بحذر نزولا من الضفة إلى الماء: «إن كان المقصود امتلاكها لكل الصفات التي تؤهلها للانتماء إلى هذه النوعية، فهي بالفعل نموذجية.»
وطفق يصطاد حتى نبهه خفوت الضوء إلى أن المساء قد حل، لكنه لم يصطد شيئا. كانت تلك نتيجة لم تفاجئه ولم تصبه بخيبة الأمل كذلك. إذ كان شاردا بأفكاره في مكان آخر. لم يعد يرى وجه بيل كينريك الميت في الماء المتدفق، لكن شخصية بيل كينريك كانت تحيط به من كل جانب. لقد استولى بيل كينريك على عقله.
ألقى جرانت بخيط صنارته في الماء للمرة الأخيرة وهو يطلق تنهيدة، ليس بسبب حقيبته الفارغة من السمك أو وداعا لنهر تورلي، وإنما لأنه لم يقترب من التوصل إلى سبب تخفي بيل كينريك تماما بهذا الشكل.
قال تاد بينما كانا يسيران نحو منزل كلون: «أنا مسرور لأنني حظيت بهذه الفرصة لرؤية هذه الجزيرة. إنها ليست بالشكل الذي تخيلته على الإطلاق.»
استنتج جرانت من نبرته أنه تخيلها تشبه عبار؛ مسكونة بالقرود والجن.
فقال: «أتمنى لو كانت مناسبة رؤيتك لها أسعد. لا بد أن تعود يوما ما وتصطاد في سلام.»
افتر ثغر تاد عن ابتسامة صغيرة علت وجها كساه الخجل وداعب شعره المبعثر. وقال: «أوه، أظن أن باريس ستكون دائما وجهتي. أو ربما فيينا. فحين تمضي أيامك في البلدات الصغيرة النائية تتطلع إلى الأضواء الساطعة.» «لدينا أضواء ساطعة في لندن.» «أجل. ربما سأشعر في لندن بمذاق آخر. لا بأس بلندن.»
أقبلت لورا على الباب حين وصلا وقالت: «ألان، ما هذا الذي سمعته عن ...» ثم لاحظت وجود رفيقه . «أوه، لا بد أنك تاد. يقول بات إنك لا تصدق أنه توجد أسماك في نهر تورلي. تشرفت بلقائك. سررت كثيرا بمجيئك. ادخل وسيريك بات أين تتحمم، بعدها تعال وانضم إلينا لتناول شراب قبل العشاء.» ثم استدعت بات، الذي كان يحوم في الجوار، وسلمت الزائر إلى عهدته، معترضة بصرامة أي محاولة تقدم من قريبها. وحين تخلصت من السيد كولين عادت مرة أخرى إلى هجومها. «ألان، «لن» تعود إلى المدينة غدا، أليس كذلك؟»
فقال جرانت: «لكنني شفيت يا لالا»، ظنا منه أن ذلك ما كان يزعجها. «وماذا في ذلك؟ ما زال لديك أكثر من أسبوع في إجازتك، ونهر تورلي الآن أفضل ما كان عليه طيلة عدة مواسم مضت. لا يمكنك أن تتخلى عن كل هذا من أجل أن تخرج شابا من مأزق وضع نفسه فيه.» «تاد كولين ليس في مأزق على الإطلاق. أنا لست شهما دونكيخوتيا، إن كان هذا ما تظنين. سأذهب غدا لأن هذا هو ما أريد أن أفعل.» وكان سيضيف: «لا أطيق صبرا على الذهاب»، لكن هذا كان سيؤدي إلى سوء فهم حتى مع شخص مقرب مثل لورا. «لكننا جميعا سعداء، والأمور كانت ...» ثم صمتت. وتابعت: «أوه، لا بأس. لا شيء مما يمكن أن أقول سيثنيك عن قرارك. لا بد أن أعرف هذا. لم ينجح أي شيء قط في جعلك تتحول قيد أنملة عن مسار تريده بمجرد أن تقرر ذلك. لطالما كنت مثل قوة ساحقة لعينة لا يمكن إيقافها.»
قال جرانت: «يا له من تشبيه مريع! ألم يكن بوسعك أن تجعليها رصاصة أو خطا مستقيما أو شيئا مماثلا من حيث الثبات لكنه أقل تدميرا؟»
فتأبطت ذراعه بود وبعض المرح. وقالت: «لكنك مدمر يا عزيزي.» وعندما بدأ يحتج على ذلك، استطردت: «بألطف الطرق التي يمكن تخيلها وأكثرها إبادة. تعال لتتناول شرابا. يبدو عليك أنك في حاجة إليه.»
الفصل الحادي عشر
حتى جرانت الذي لا يعرف التردد كان يمر بالطبع بلحظات من عدم اليقين.
إذ قال له صوته الداخلي، وهو يصعد على متن طائرة لندن في بلدة سكون: «أيها الأحمق! تفرط في يوم من أيام إجازتك الثمينة من أجل مطاردة سراب.» «لا أطارد سرابا. أريد فقط أن أعرف ما حل ببيل كينريك.» «وماذا يمثل بيل كينريك لك حتى تتخلى من أجله عن ساعة حتى من وقت فراغك؟» «أنا مهتم به. إن كنت تريد أن تعرف، فأنا معجب به.» «أنت لا تعرف عنه شيئا. لقد صنعت لنفسك إلها على صورتك، وأنت مشغول بعبادته.» «أعرف كثيرا عنه. لقد استمعت إلى تاد كولين.» «شاهد متحيز.» «شاب لطيف، وهذا أهم. كانت لديه مجموعة واسعة من الأصدقاء ليختار من بينهم في مؤسسة مثل أورينتال كوميرشال، واختار بيل كينريك.» «كثير من الشبان اللطفاء اختاروا أصدقاء مجرمين.» «على ذكر هذا، لقد عرفت أنا نفسي بعض المجرمين اللطفاء.» «حقا؟ كم عددهم؟ وكم عدد الدقائق التي أنت على استعداد للتخلي عنها من إجازتك من أجل أحد أصدقائك من فئة المجرمين؟» «ولا حتى ثلاثين ثانية. لكن كينريك ليس مجرما.» «ليس التزاما كبيرا للقانون أن تتجول بمجموعة كاملة من أوراق رجل آخر، أليس كذلك؟» «سأبحث في هذا الشأن قريبا. أما الآن فاخرس ودعني وشأني.» «هاه! ارتبكت، صحيح!» «اغرب عني.» «تعرض نفسك للخطر من أجل شاب لا تعرفه وأنت في سنك هذه!» «من الذي يعرض نفسه للخطر؟» «لم يكن يتعين عليك السفر في هذه الرحلة بالطائرة على الإطلاق. كان بإمكانك العودة على متن القطار أو بالسيارة. لكن لا، كان عليك أن تتدبر أن توضع في صندوق مغلق. صندوق لا فيه نافذة ولا باب يفتح. صندوق لا تستطيع أن تهرب منه. صندوق ضيق صامت مغلق موصد ...» «اخرس!» «هاه! أنفاسك تتلاحق بالفعل! ستصيبك الأزمة في غضون عشر دقائق. ينبغي عليك أن تفحص دماغك يا ألان جرانت، بالتأكيد عليك أن تفحص دماغك.» «يوجد جزء واحد من أجهزة جمجمتي لا يزال يعمل على نحو رائع.» «وما هو؟» «أسناني.» «أتعتزم أن تمضغ شيئا؟ ليس هذا علاجا.» «لا. أعتزم أن أصر عليها.»
قطع جرانت تلك الرحلة في سلام، سواء كان ذلك بسبب ازدرائه لشيطان نفسه أو بسبب وقوف بيل كينريك بجواره طوال الطريق. أما تاد كولين فقد استرخى على الكرسي إلى جواره وراح في غفوة من فوره. أغلق جرانت عينيه، فجعلت الأنماط تتشكل في ذهنه ثم تتلاشى وتتبدد لتتكون من جديد.
لماذا كان بيل كينريك متخفيا؟
من كان يحاول أن يخدع؟
لماذا كان من الضروري أن يخدع أي أحد؟
وبينما كانت الطائرة تدور لتهبط بهم استيقظ تاد، ومن دون أن ينظر من النافذة بدأ يعدل من ربطة عنقه ويسوي شعره. يبدو أن حاسة سادسة في ذهن الطيار ظلت تحسب السرعة والمسافة والزاوية حتى وهو غير واع.
قال تاد: «عدنا إلى أضواء لندن وويستمرلاند العتيقة.»
فقال جرانت: «لا يلزمك أن تعود إلى فندقك. يمكنني أن أعطيك سريرا.» «هذا لطف بالغ منك يا سيد جرانت، وأقدر لك ذلك. لكن لا يلزم أن أرهق زوجتك ... أو ... أو أيا كان الشخص الذي ...» «مدبرة منزلي.» «لا يلزم أن أرهق مدبرة منزلك.» ثم قال وهو يربت على جيبه: «لدي من المال الكثير.» «حتى بعد - كم كانت المدة؟ - أسبوعين في باريس؟ أهنئك.» «أوه، حسنا. لا أظن أن باريس كما اعتدناها أن تكون. أو ربما الأمر فحسب أنني افتقدت بيل. على أي حال، لا أريد أن أرهق أي أحد بإعداد سرير من أجلي، ومع ذلك شكرا لك. وإن كنت ستغدو منشغلا فلن ترغب في أن أكون في الجوار. لكنك لن تستبعدني من هذا الأمر، أليس كذلك؟ ستبقيني «معك»، كما يقول بيل. أقصد، كما كان يقول.» «سأفعل بالتأكيد يا تاد، سأفعل بالتأكيد. لقد ألقيت طعما في فندق في أوبان، واصطادك من بين جميع الناس في هذا العالم. وبالتأكيد لن أتركك الآن.»
افتر ثغر تاد عن ابتسامة خفيفة. ثم قال: «أظن أنك تعرف ما تتحدث عنه. متى ستلتقي بذلك الرجل لويد؟» «هذا المساء إن كان في بيته. أسوأ ما في المستكشفين أنهم إن لم يكونوا يستكشفون فإنهم يلقون محاضرات؛ لذا قد يكون في أي مكان بين الصين وبيرو. ما الذي أجفلك؟» «كيف عرفت أنني أجفلت؟» «عزيزي تاد، إن محياك البشوش المرح لم يخلق من أجل البوكر ولا الدبلوماسية.» «لا، كل ما في الأمر فقط أنك اخترت مكانين كان بيل يختارهما دائما. كان معتادا على أن يقول: «من الصين إلى بيرو».» «أحقا كان يفعل ذلك؟ يبدو أنه كان يعرف الكاتب الذي يحبه حق المعرفة.» «الكاتب الذي يحبه؟» «أجل. هذا اقتباس. من صامويل جونسون.» «أوه. أوه، فهمت.» بدا تاد خجلا بعض الشيء. «إن كنت لا تزال تشك بأمري يا تاد كولين، فمن الأفضل أن تأتي معي الآن إلى سكوتلانديارد في إمبانكمنت ليشهد بعض زملائي لي.»
استحال شحوب وجه السيد كولين إلى تورد شديد. وقال: «أنا آسف. للحظة ظننت ... بدا الأمر وكأنك كنت على معرفة ببيل. اغفر لي شكوكي يا سيد جرانت. أنا مرتبك تماما، كما تعرف. فأنا لا أعرف أي أحد في هذا البلد. ويتعين علي أن آخذ الناس بما يبدونه لي. أقصد ظاهريا. بالطبع، أنا لست متشككا بشأنك. بل أنا ممتن لك كثيرا حتى إنني أعجز أن أجد الكلمات المناسبة لوصف امتناني. صدقني في ذلك.» «بالطبع أصدق ذلك. كنت فقط أمازحك، ولم يكن من حقي ذلك. سيكون غباء منك ألا تكون متشككا. هاك عنواني ورقم هاتفي. سأهاتفك بمجرد أن ألتقي بلويد.» «ألا تظن أنه ينبغي أن آتي معك؟» «لا. أظن أن وفدا من اثنين سيكون كثيرا بعض الشيء على مناسبة تافهة كهذه. ما الوقت الذي ستتواجد فيه في ويستمرلاند مساء اليوم حتى يمكنك أن تتلقى اتصالا هاتفيا؟» «سيد جرانت، سأجلس ويدي على الهاتف حتى تتصل.» «من الأفضل أن تتناول بعض الطعام. سأهاتفك في الثامنة والنصف.» «حسنا. الثامنة والنصف.»
كانت لندن عبارة عن لون رمادي ضبابي بزركشة قرمزية، فأخذ جرانت يتطلع إليها بكثير من المودة. كانت ممرضات الجيش يرتدين تلك الأزياء الخاصة؛ باللونين الرمادي والقرمزي. وبطرق ما كانت لندن تبث في نفس المرء إحساس الحظوة والقوة نفسه الذي كان يتماشى مع هذا الزي الموحد للممرضات الشبيه بزي الراهبات. أحاسيس الجلال، والعطف الكامن تحت اللامبالاة السطحية، والجدارة بالاحترام التي تعوض عن الافتقار إلى الزخارف الجميلة. أخذ جرانت يشاهد الحافلات الحمراء وهي تجعل اليوم الغائم أكثر جمالا، وباركها. يا له من أمر سعيد أن تكون حافلات لندن حمراء اللون! كانت الحافلات في اسكتلندا مطلية بأكثر الألوان بؤسا؛ اللون الأزرق. لون بائس كثيرا، حتى إنه كان مرادفا للاكتئاب. لكن الإنجليز، باركهم الرب، كان لديهم أفكار أكثر مرحا.
وجد السيدة تينكر تفرغ محتويات غرفة النوم الإضافية من أجل تنظيفها. لم تكن توجد أدنى حاجة لأي أحد أن ينظف غرفة النوم الإضافية، لكن السيدة تينكر كانت تحصل من تنظيف الغرف على المتعة نفسها التي يحصل عليها الناس من كتابة سيمفونية أو الفوز بكأس في لعبة الجولف أو عبور القنال الإنجليزي سباحة. كانت تنتمي لذلك الصنف الغفير الذي وصفته لورا بإيجاز دقيق قائلة: «من نوعية النساء اللواتي ينظفن عتبة المنزل كل يوم وشعرهن كل ستة أسابيع».
أتت السيدة تينكر إلى باب غرفة النوم الإضافية حين سمعت المفتاح يدخل في القفل وقالت: «الآن جئت! ولا يوجد أي طعام في المنزل! لماذا لم تعلمني بأنك ستعود من خارج البلاد قبل أن تأتي؟» «لا بأس يا تينك. لا أريد طعاما الآن على أي حال. لقد عرجت فقط من أجل أن أترك أمتعتي. أعدي شيئا من الطعام واتركيه لي حين تغادرين، حتى يكون هناك شيء أتناوله الليلة.»
كانت السيدة تينكر تعود إلى منزلها كل ليلة؛ من ناحية لأنه كان يتعين عليها إعداد وجبة العشاء لشخص أشارت إليه باسم «تينكر»، ومن ناحية أخرى لأن جرانت كان يحب دوما أن يكون وحده في شقته في المساء. لم يلتق جرانت «تينكر» هذا قط، ويبدو أن صلة السيدة تينكر الوحيدة به كانت تتألف من مسألة إعداد وجبة العشاء وبعض الأمور الزوجية. كانت حياتها الحقيقية في 19 تينبي كورت، المنطقة البريدية الجنوبية الغربية 1.
سألها جرانت وهو يقلب في مفكرة الهاتف: «هل من مكالمات؟» «اتصلت الآنسة هالارد لتطلب منك أن تتصل بها وتتناول معها الطعام بمجرد أن تعود .» «أوه . هل سارت أمور المسرحية الجديدة على ما يرام؟ كيف كانت الملاحظات عليها؟» «رديئة.» «كلها؟» «كل ما رأيت، على أي حال.»
في أيام كانت السيدة تينكر حرة، قبل وجود تينكر، كانت تعمل مساعدة ممثلة في المسرح. وحقا، لولا طقس إعداد وجبة العشاء هذا لكان من المرجح أن تظل تساعد شخصا ما في ارتداء ملابسه كل مساء في المنطقة البريدية الغربية 1 أو الغربية الوسطى 2 بدلا من تنظيف غرف النوم الإضافية في المنطقة البريدية الجنوبية الغربية 1. لذا كان اهتمامها بأمور المسرح يعد اهتمام أحد الخبراء. «هل شاهدت المسرحية؟» «لم أشاهدها. إنها إحدى تلك المسرحيات التي تعني شيئا آخر. أنت تعرف ما أقصد. إنها تبقي كلبا خزفيا على رف الموقد، لكنه ليس كلبا خزفيا على الإطلاق، بل زوجها السابق، وحين ينكسر الكلب، إذ يكسره صديقها الحميم الجديد، تصاب بالجنون. ليس أن تتصرف بجنون كما تعلم، بل إنها تصاب حرفيا بالجنون. لكنني أظن أنها إن كانت تريد أن تصبح سيدة نبيلة فعليها أن تمثل مسرحيات رفيعة المستوى الثقافي. فيم كنت تفكر حين طلبت طعاما للعشاء؟» «لم أكن أفكر في شيء.» «يمكنني أن أعد لك بعض السمك الطيب المسلوق في ماء ساخن.» «لا تعدي سمكا، إن كنت تحبينني. لقد تناولت من السمك في الشهر الماضي ما يكفيني دهرا. لا أمانع تناول أي شيء ما دام ليس سمكا أو لحم ضأن.» «في الواقع، لقد تأخر الوقت الآن على إحضار كلاوي من السيد بريدجز، لكن سأرى ما يمكنني فعله. هل كانت إجازتك جيدة؟» «كانت إجازة رائعة للغاية.» «هذا جيد. لقد امتلأت وزاد وزنك قليلا. وأنا مسرورة لرؤية ذلك. ولست بحاجة أيضا لأن تربت على بطنك بهذا الشكل المريب. فقليل من الوزن لا يضر أحدا. ليس من الجيد أن تكون نحيلا كقضيب حديدي. فليس لديك مخزون كبير من الدهون.»
انتظرت السيدة تينكر بينما كان جرانت يبدل ملابسه ويرتدي أفضل حلة لديه، وأخذت تفشي ببعض القيل والقال الذي تصادف أنه تناهى إلى سمعها. ثم أشار إليها أن تعود إلى لذتها المتمثلة في تنظيف حجرة النوم الإضافية، وتعامل مع أمور صغيرة كانت قد تراكمت أثناء غيابه، وخرج في ساعة مبكرة من أمسيات شهر إبريل الهادئة. انعطف متجها نحو المرأب، وأجاب عن أسئلة عما فعله في صيد السمك، واستمع إلى ثلاث قصص عن صيد السمك كان قد استمع إليها قبل أن ينطلق إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية قبل شهر، واستعاد سيارته الصغيرة ذات المقعدين التي كان يستخدمها في شئونه الخاصة.
تطلب العثور على المنزل الكائن في 5 بريت لين بعض البحث. كانت كافة أنواع التعديل والتهيئة قد أجريت في هذه الجمهرة من المنازل العتيقة. إذ أصبحت الإسطبلات أكواخا، وتحولت أجنحة المطابخ إلى منازل، وأضحت الطوابق الغريبة الشكل من البيوت شققا صغيرة. بدا أن المنزل الكائن في 5 بريت لين مجرد رقم على بوابة. وكانت البوابة في جدار من الطوب، وبدا لجرانت أن أخشاب البلوط المعشقة بالحديد فيها متأثرة بعض الشيء بامتداد بسيط من طوب لندن التقليدي. لكنها كانت متينة وعادية في حد ذاتها، وكانت تفتح بسهولة عند محاولة ذلك. كانت تؤدي إلى ما كان باحة مطبخ حين كان المنزل رقم 5 مجرد جناح خلفي لمنزل في شارع آخر تماما. أما الآن فقد أصبحت تلك الباحة فناء صغيرا مرصوفا به نافورة في المنتصف، وأما ما كان يوما ما جناحا فأصبح منزلا مسطحا صغيرا من الجص يتكون من ثلاثة طوابق، مدهونة بلون أصفر شاحب، وبها نوافذ مؤطرة بأطر خضراء. وبينما كان جرانت يقطع الفناء الصغير نحو الباب لاحظ أنهم استخدموا بلاطات في عملية الرصف، وكان بعضها قديما لكن أكثرها كان جميلا. كما كانت النافورة جميلة أيضا. أثنى جرانت في نفسه على هيرون لويد لأنه لم يستبدل بالجرس الكهربائي اللندني الذي يعمل بالضغط على زر جرسا فاخرا آخر أجمل؛ كان الجرس اللندني يوحي بذوق طيب لم تكن البوابة غير المناسبة قد حسمته.
كان داخل المنزل أيضا يتصف بالعراء والمساحات الخالية التي تتصف بها شبه الجزيرة العربية دون وجود ما يوحي بأن قطعة من الشرق قد نقلت إلى لندن . تمكن جرانت أن يرى، وراء جسد الخادم الذي فتح له الباب، الحوائط النظيفة والسجاد الفاخر؛ إذ كان الطابع العربي طرازا متبعا، وليس ديكورا منقولا. وهنا تعاظم شعوره بالاحترام تجاه هيرون لويد.
بدا الخادم عربيا؛ عربيا من الحضر، ممتلئ الجسد، ذا عينين براقتين وأسلوب مهذب. استمع الرجل إلى استفسار جرانت وسأله بإنجليزية لطيفة صحيحة للغاية إن كان لديه موعد سابق. فأجاب جرانت بالنفي، لكنه لن يأخذ من وقت السيد لويد أكثر من بضع دقائق. إذ يمكن أن يكون السيد لويد عونا في تقديم معلومات ذات صلة بشبه الجزيرة العربية. «هلا دخلت فضلا، وألتمس منك أن تنتظر لحظة.»
أرشد الرجل جرانت إلى حجرة صغيرة في الداخل بجوار الباب الأمامي تماما، وبالنظر إلى مساحتها المحدودة وفرشها القليل قرر جرانت أنها كانت تستخدم لغرض الانتظار فقط. افترض أن شخصا مثل هيرون لويد لا بد أن يكون معتادا على ظهور الغرباء على عتبة منزله طالبين مساعدته أو اهتمامه. أو ربما ليطلبوا توقيعه فحسب. هذا التصور جعل من تطفل جرانت أمرا أقل استهجانا.
بدا أن السيد لويد لم يطل في الجدال بشأن ما إذا كان جرانت مرغوبا فيه؛ إذ عاد الرجل في غضون لحظات. «هلا أتيت من فضلك؟ سيسر السيد لويد كثيرا لرؤيتك.»
كانت تلك العبارة صيغة مكررة، لكنها صيغة لطيفة. بينما كان جرانت يتبع الرجل على الدرج الضيق وإلى الغرفة الكبيرة التي كانت تشغل مساحة الطابق الأول بأسره، فكر في أن الأدب والخصال الحميدة بالفعل يلطفان الحياة.
قال الرجل، وهو يتنحى جانبا من أجل أن يسمح لجرانت بالدخول: «السيد جرانت، «أيها الحاج».» وقعت الكلمة على مسامع جرانت وفكر في نفسه: هذا هو أول مظاهر التصنع: من المؤكد أن الإنجليز لا يحجون إلى مكة.
تساءل جرانت، وهو ينظر إلى هيرون لويد بينما كان يرحب به، عما إن كان لويد قد فكر في البداية في الذهاب إلى صحراء شبه الجزيرة العربية لأنه بدا عربيا بدويا، أم إنه أصبح يبدو عربيا بدويا بعد أن أمضى سنوات في صحراء شبه الجزيرة العربية. كان لويد يبدو رجلا عربيا بدويا إلى أبعد الحدود. فكر جرانت، متندرا، في أنه كان يبدو عربيا كأولئك الذين تجدهم في كتب مكتبات تأجير الكتب. على صهوة خيول عرب مثل هيرون لويد اختطفت ربات بيوت عفيفات من الشوارع الملتوية والطرق والشوارع الصغيرة وحملن إلى مصير أسوأ من الموت. العينان السوداوان، والوجه البني الهزيل، والأسنان البيضاء، والجسد الذي يشبه السوط، واليدان الرقيقتان، والحركات الرشيقة؛ كان كل ذلك موجودا، جليا وواضحا. كان على جرانت أن يذكر نفسه كرها بأنه يجب ألا يصدر أحكاما بناء على المظاهر.
وذلك لأن هذا الرجل قام برحلات تاريخية في عالم الاستكشاف، وكتب عنها بلغة إنجليزية، كانت تعد أدبية حتى ولو كانت مبالغة بعض الشيء في التنميق (كان جرانت قد اشترى نسخة من أحدث كتبه في سكون ظهر يوم أمس). لم يكن هيرون لويد شيخا من شيوخ الصالونات.
كان لويد يرتدي ثيابا لندنية تقليدية وكان أسلوبه يلائم ما يرتدي من ثياب. لو لم يكن المرء قد سمع به من قبل كان سيراه لندنيا ينتمي إلى الطبقات المهنية الميسورة الحال. أو ربما كان سينتمي إلى طبقة أكثر تأنقا بقليل؛ ممثل أو ربما أحد مستشاري هارلي ستريت أو أنه مصور مجتمعي، ولكن، مع أخذ كل شيء في الاعتبار، كان سيراه لندنيا يمتهن مهنة تقليدية.
قال وهو يصافح جرانت: «سيد جرانت، يقول محمود إن بوسعي أن أقدم لك خدمة.»
دهش جرانت من صوته. إذ كان بلا قوام، وكان ذا نبرة متبرمة بعض الشيء لم تكن ذات صلة بفحوى الكلمات ولا بحالته وهو يقولها. أخرج علبة سجائر من طاولة القهوة القصيرة وقدمها له. وقال إنه لم يكن يدخن؛ لأنه كان قد اتبع التقاليد الإسلامية أثناء إقامته الطويلة في الشرق، لكنه سيزكي هذه السجائر لجرانت لو كان يرغب في تجربة شيء طعمه خارج نطاق المألوف.
أخذ جرانت السيجارة بشغف، كما كان يأخذ كل تجربة وإحساس جديدين، واعتذر عن تطفله. كان يريد أن يعرف ما إن كان شاب يافع يدعى شارل مارتن قد أتاه في أي وقت في العام المنصرم أو نحو ذلك طلبا لمعلومات عن شبه الجزيرة العربية. «شارل مارتن؟ لا. لا، لا أظن ذلك. يأتي أناس كثيرون، بالطبع، لمقابلتي بشأن شيء أو آخر. ولا يمكنني دائما تذكر أسمائهم بعدها. لكنني أظن أنني سأتذكر أي شخص يحمل هذا الاسم البسيط. أتحب هذا التبغ؟ أعرف نصف الهكتار الذي زرع فيه. مكان جميل لم يتغير منذ أن مر الإسكندر المقدوني من ذلك الطريق.» ثم ابتسم قليلا وأضاف: «عدا بالطبع أنهم تعلموا كيف يزرعون هذا التبغ. أدرك أن التبغ يتماشى جيدا جدا مع نبيذ الكرز غير المفرط الجفاف. وهذا شيء آخر من الملذات الكبرى التي أتحاشاها، لكنني سأشرب عصير فاكهة لأونسك.»
قال جرانت في نفسه إن عادات الضيافة البدوية تجاه الغرباء فلا بد أن تكون مكلفة بعض الشيء في لندن، حيث كان لويد شهيرا، وكان بوسع الجميع دون استثناء أن يزوروه. ولاحظ جرانت أن الملصق على الزجاجة التي أمسك بها لويد كانت تمثل ضمانة كما كانت تمثل إفادة. بدا أن لويد لم يكن فقيرا ولا بخيلا.
فقال جرانت: «كان شارل مارتن معروفا أيضا باسم بيل كينريك.»
أنزل لويد الكوب الذي كان على وشك أن يملأه وقال: «كينريك! لكنه كان هنا منذ بضعة أيام فحسب. أو بالأحرى، حين أقول منذ بضعة أيام، فإنني أقصد قبل أسبوع أو أسبوعين. مؤخرا على أي حال. ما الداعي لأن يكون له اسم مستعار؟» «لا أعرف سبب ذلك. أنا أسأل عنه نيابة عن صديقه. كان من المقرر أن يلتقي بصديقه في باريس مطلع شهر مارس. يوم الرابع من مارس على وجه التحديد. لكنه لم يأت. وقد اكتشفنا أنه توفي جراء حادث في اليوم نفسه الذي كان مقررا أن يلتقيا فيه في باريس.»
وضع لويد الكوب من يده ببطء على الطاولة.
ثم قال بتلك النبرة المتبرمة التي لم يكن يقصد بها أن يكون متبرما: «ذلك إذن السبب في عدم عودته. يا له من مسكين! مسكين ذلك الفتى.» «أكنت قد اتفقت معه على مقابلته مجددا؟» «أجل. وجدت أنه جذاب وذكي جدا. كان قد صار مهووسا بالصحراء! لكن لعلك تعرف ذلك. كانت لديه أفكار عن الاستكشاف. ما زال يوجد قلة من الشباب ممن لديهم مثل هذه الأفكار. ما زال يوجد مغامرون، حتى في هذا العالم المسيج المزخرف. وهو أمر لا بد أن يكون المرء مسرورا به. ماذا حل بكينريك؟ حادث سيارة؟» «لا. سقط على متن قطار وكسرت جمجمته.» «يا له من بائس مسكين! يا له من بائس مسكين! يا للخسارة! كان يمكن أن أمد الآلهة الغيورة مكانه بدزينة أخرى من الأشخاص الذين يمكن الاستغناء عنهم. يا لها من كلمة فظيعة؛ يمكن الاستغناء عنهم. التعبير عن فكرة ما كانت حتى ستكون قابلة للاستيعاب قبل بضع سنوات. لقد قطعنا شوطا طويلا في الدرب نحو همجيتنا المطلقة. لماذا تريد أن تعرف إن كان كينريك قد أتى لزيارتي؟» «أردنا أن نقتفي أثره. حين مات كان متخفيا تحت اسم شارل مارتن، وكان معه مجموعة كاملة من أوراق ثبوتية باسم شارل مارتن. نريد أن نعرف في أي مرحلة بدأ يكون شارل مارتن. ولأن الصحراء كانت قد صارت هوسا لديه، كنا شبه واثقين من أنه سيأتي ليلتقي ببعض الخبراء في الموضوع في لندن، وبما أنك، يا سيدي، أشهرهم فقد بدأنا بك.» «فهمت. حسنا، من المؤكد أنه أتى لمقابلتي باسم كينريك، بيل كينريك بحسب ما أظن. شاب ذو بشرة داكنة، جذاب جدا. كما كان صلبا، على نحو لطيف. أقصد أن خصاله الحميدة كانت تخفي إمكانات غير معلومة. وجدته مرحا مبهجا.» «هل جاءك بخطط بعينها؟ أقصد، هل أتاك باقتراح محدد؟»
ابتسم لويد قليلا. ثم قال: «لقد جاءني بأحد أكثر الاقتراحات شيوعا من بين ما يعرض علي في العادة. حملة استكشافية إلى موقع مدينة عبار. أتعرف مدينة عبار؟ إنها مدينة شبه الجزيرة العربية الأسطورية. إنها تمثل «مدائن السهول» في شبه الجزيرة العربية. يا لتكرار هذا النمط في الأسطورة! إن الجنس البشري يشعر بذنب أبدي حين يشعر بالسعادة. لا يمكننا حتى أن نعلق على صحتنا الجيدة من دون أن نلمس الخشب أو نجعل أصابعنا متقاطعة أو أي طريقة أخرى تمنع غضب الآلهة من رفاهة البشر الفانين. وهكذا لدى العرب مدينة عبار؛ المدينة التي دمرتها النار بسبب ثرائها وآثامها.» «وقد ظن كينريك أنه اكتشف موقعها.» «كان واثقا من أنه اكتشف موقعها. يا للفتى المسكين، أتمنى أنني لم أكن عصبي المزاج معه.» «أتظن إذن أنه كان مخطئا؟» «يا سيد جرانت، أسطورة عبار موجودة في كل مكان من البحر الأحمر عبر شبه الجزيرة العربية حتى الخليج الفارسي، وتقريبا في كل ميل من تلك المسافة يوجد موقع مزعوم مختلف لهذه المدينة.» «ولا تعتقد أن أحدا ما يمكن أن يعثر عليه مصادفة؟» «مصادفة؟» «كان كينريك طيارا. من المحتمل أن يكون قد رأى المكان حين جرفته الريح بعيدا عن مساره، أليس كذلك؟» «هل تحدث إلى صديقه عن الأمر إذن؟» «لا. لم يتحدث إلى أي أحد أعرفه. كان ذلك استنتاجا من جانبي. ما الذي يمنع أن يجري الاكتشاف بتلك الطريقة؟» «لا شيء، بالطبع، لا شيء؛ إن كان المكان موجودا من الأساس. لقد قلت إنها أسطورة تكاد تكون منتشرة في العالم أجمع. لكن حين تتبع الناس القصص عن الأطلال وصولا إلى مصادرها، كان يتبين دائما أن تلك «الأطلال» شيء آخر. تشكل طبيعي للصخور، أو سراب، أو حتى تشكيلات للسحب. أظن أن ما رآه كينريك المسكين كان فوهة نيزك. لقد رأيت ذلك المكان بنفسي. اكتشفه أحد أسلافي حين كان يبحث عن عبار. بشكل لا يصدق يبدو المكان هناك وكأنه من صنع بشر. فالأرض المنقوضة التي تشكلت جراء سقوط النيزك لها قمم ومرتفعات مدببة تبدو خربة. أظن أن لدي صورة له في مكان ما. ربما ترغب في إلقاء نظرة عليها؛ إنها صورة مميزة.» ثم نهض وسحب للخلف لوحا في الجدار الخشبي المطلي العاري، فظهرت رفوف من الكتب تمتد من الأرض وحتى السقف. تابع يقول: «ربما من رحمة الرب بنا أن النيازك بأحجامها المختلفة لا تسقط على الأرض كل يوم.»
التقط مجموعة صور فوتوغرافية من الأرفف التحتية، وعاد يسير عبر الغرفة وهو يبحث عن المكان في مجموعة الصور. ومن دون سابق إنذار، تملك جرانت إحساس بأنه التقى لويد في مكان ما من قبل.
نظر إلى الصورة التي وضعها لويد أمامه. كانت تبدو غريبة بلا شك. كانت تبدو مثل محاكاة فنية ساخرة لمنجز بشري عظيم. لكن ذهنه كان مشغولا باللحظة الغريبة تلك التي شعر فيها بأنه تعرف على لويد.
أكان الأمر فحسب أنه رأى صورة هيرون لويد في مكان ما؟ لكن لو كان الأمر كذلك، لو كان مجرد أنه كان قد رأى وجه لويد كملحق لوصف ما لرحلاته الاستكشافية، فإن هذا الشعور بأنه تعرف عليه كان سيأتيه عندما دخل الغرفة لأول مرة ورآه. لم يكن الإحساس الذي اعترى جرانت هو إحساسا بالتعرف بقدر ما كان إحساسا بأنه يعرف لويد من مكان آخر. في ظروف محيطة أخرى.
كان لويد يقول: «أترى؟ حتى على الأرض، يتعين على المرء أن يقترب منها قبل أن يتأكد من أن الأمر ليس من صنع البشر. فلا بد أن الأمر أكثر تضليلا من الجو.»
وافقه جرانت قائلا: «أجل»، لكنه لم يصدقه. وذلك لسبب وجيه جدا. من الجو كانت الفوهة ستبدو واضحة تماما. من الجو كانت ستبدو على حقيقتها تماما؛ هالة دائرية تحيط بها أرض منقوضة. لكنه لم يكن سيخبر لويد بذلك. فليدع لويد يتحدث. كان اهتمامه بلويد يتزايد. «ذلك المكان يقع على مقربة شديدة من مسار كينريك عبر الصحراء، كما وصفه هو، وأظن أن ذلك ما رآه.» «أتعرف إن كان قد حدد المكان بدقة؟» «لا أعرف ذلك. لم أسأله. لكنني أظن أنه فعل. الانطباع الذي كونته عنه أنه شاب في غاية الذكاء والكفاءة.» «لم تسأله عن تفاصيل؟» «سيد جرانت، لو أخبرك أحدهم أنه اكتشف شجرة مقدسة تنمو في وسط بيكاديلي في مواجهة نادي إن آند أوت مباشرة، فهل كنت ستبدي اهتماما؟ أم كنت ستظن فحسب أن عليك أن تتحلى بالصبر معه؟ إنني أعرف الربع الخالي مثلما تعرف أنت بيكاديلي.» «أجل، بالطبع. إذن لم تكن أنت من ودعه في المحطة؟» «سيد جرانت، أنا لا أودع «أي أحد» مطلقا. فالوداع هو خليط من المازوخية والسادية لطالما شعرت تجاهه بالأسى. ودعته إلى أين، بالمناسبة؟» «إلى سكون.» «إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية؟ فهمت أنه كان يتوق إلى بعض المرح. لماذا كان ذاهبا إلى هناك؟» «لا نعرف. هذا أحد الأشياء التي نحن في غاية التشوق لمعرفتها. لم يقل لك شيئا يمكن أن يرشدنا إلى دليل؟» «لا. لقد أشار إلى العثور على شخص آخر يدعمه. أقصد، حين تبين له أنني لست بالعون المطلوب. ربما وجد شخصا آخر يدعمه، أو كان يأمل أن يجده، وذلك الشخص يعيش هناك. لا يمكنني أن أتذكر أحدا الآن. يوجد كينزي-هيويت، بالطبع. لديه صلات في اسكتلندا. لكنني أظن أنه في شبه الجزيرة العربية في الوقت الراهن.»
في الواقع، على الأقل، قدم لويد أول تفسير منطقي للزيارة السريعة للشمال التي أخذ فيها كينريك حقيبة سفر صغيرة. لكي يتحدث إلى أحد الداعمين المحتملين. لقد وجد داعما له في اللحظة الأخيرة، تقريبا في نفس الوقت الذي كان من المقرر فيه أن يقابل تاد كولين في باريس، فانطلق شمالا للقائه. كان ذلك التفسير مناسبا جدا. كانوا يحرزون تقدما. لكن لماذا كان ذاهبا بصفته شارل مارتن؟
وكأن الفكرة قد انتقلت، إذ قال لويد: «بالمناسبة، إن كان كينريك يسافر تحت اسم شارل مارتن، فكيف تعرفوا عليه باسم كينريك؟» «لقد سافرت على متن ذلك القطار إلى سكون. ورأيته حين كان ميتا، واسترعى انتباهي عدة أبيات شعرية كان قد كتبها.» «كتبها؟ على ماذا؟»
فقال جرانت، وهو يتساءل ماذا يهم لويد فيما كان كينريك يكتب عليه: «على مساحة فارغة من صحيفة مسائية.» «أوه.» «كنت في إجازة، ولم يكن لدي شيء آخر أفعله؛ لذا سليت نفسي بالأدلة التي قدمت.» «لعبت دور المحقق.» «أجل.» «ما هي مهنتك يا سيد جرانت؟» «أنا موظف حكومي.» «آه، كنت على وشك أن أقترح أنك في الجيش.» ثم ابتسم قليلا وأمسك بكوب جرانت ليعيد ملأه. وأضاف: «برتبة عالية بالطبع.» «ضابط أركان عامة من الدرجة الأولى؟» «لا. ملحق دبلوماسي، على ما أظن. أو في المخابرات.» «لقد عملت قليلا في المخابرات أثناء عملي بالجيش.» «إذن فقد اكتسبت هناك ولعك بهذه الأمور. أو ميلك، إن جاز لي التعبير.» «شكرا لك.» «لم تكن موهبة عادية تلك التي تعرفت بها على أن شارل مارتن هو بيل كينريك. أم إنه كان يحمل أمتعة تخص كينريك مما جعل أمر التعرف على شخصيته ميسورا.» «لا. بل دفن على أنه شارل مارتن.»
توقف لويد للحظة بينما كان يضع الكوب المملوء من يده ثم قال: «ذلك مألوف جدا من تلك الطريقة الاسكتلندية في التعامل مع حالات الوفاة المفاجئة، التي تتسم بالإهمال. إنهم متعجرفون دائما بشأن افتقارهم إلى التحقيقات. أظن شخصيا أن اسكتلندا تمثل مكانا مثاليا للإفلات من عقوبة ارتكاب جريمة قتل. ولو حدث يوما أنني خططت لجريمة قتل، فسأستدرج ضحيتي شمالا إلى ما بعد الحدود.» «ثمة تحقيق أجري. إذ وقعت الحادثة بعد وقت قصير من مغادرة القطار محطة يوستن.» «أوه.» وأخذ لويد يفكر مليا في ذلك ثم قال: «ألا تظن أنه ينبغي تبليغ الشرطة بهذا؟ أعني حقيقة أنهم دفنوا شخصا باسم غير صحيح.»
كان جرانت على وشك أن يقول: «الدليل الوحيد لدينا على أن شارل مارتن المتوفى كان كينريك هو أنني تعرفت عليه في صورة لم تكن ملتقطة جيدا.» لكن شيئا ما أوقفه. وبدلا من ذلك قال: «نود في البداية أن نعرف لماذا كان يحمل أوراقا باسم شارل مارتن.» «أجل. فهمت. بالطبع هذا موضع شك بما فيه الكفاية. فالمرء لا يحصل على أوراق شخص آخر من دون بعض الإجراءات التمهيدية. هل يعرف أحد من هو شارل مارتن ... أو من كان؟» «أجل. لقد ارتضت الشرطة بما توصلت إليه من نتائج حول هذا. لم يكن ثمة غموض في الأمر.» «الغموض الوحيد يتمثل في كيفية حصول كينريك على أوراقه. أفهم سبب إحجامك عن الذهاب إلى المصادر الرسمية. ماذا بشأن ذلك الرجل الذي كان يودعه؟ في يوستن. أيمكن أن يكون هو شارل مارتن؟» «أظن أن ذلك ممكن.» «أو ربما فقط استعار الأوراق. فبطريقة ما لم يبد لي أن كينريك ... لنقل، من النوع الميال إلى الشر.» «لا. استنادا إلى كل الأدلة المتوافرة، لم يكن كذلك.» «الأمر برمته غريب جدا. هذه الحادثة التي تقول إنها وقعت له: أظن أنه لا يوجد أي شك في أنها كانت حادثة، أليس كذلك؟ لم تكن توجد أي دلائل على وقوع شجار؟» «لا، كانت مجرد حادثة عادية. سقطة يمكن أن تحدث لأي شخص.» «هذا أمر مفجع. كما قلت، قلة قليلة جدا من الشباب حاليا لديها مزيج من الشجاعة والذكاء. يأتيني شبان كثيرون جدا، ويسافرون مسافات طويلة حقا لمقابلتي ...»
وتابع الحديث، فيما جلس جرانت يشاهد ويستمع.
أكان من يأتونه كثيرين فعلا؟ بدا لويد مسرورا جدا بالجلوس مع شخص غريب والتحدث إليه. ولم يكن يوجد ما يوحي بأن لديه ارتباطات في المساء أو أنه ينتظر قدوم ضيوف على العشاء. لم يكن يوجد أي من السكتات اللطيفة التي يتركها المضيف في المحادثة حتى يتسنى للزائر العابر من خلالها أن ينصرف. جلس لويد وأخذ يتحدث بصوته الرفيع الحماسي ويطيل النظر في يديه اللتين كانتا على فخذيه. كان يغير من وضعية يديه باستمرار، ليس على هيئة إيماءات تأكيد على عبارة ما، بل كرجل يقوم بعمل ترتيب جديد لديكور ما. وجد جرانت انشغاله شبه النرجسي هذا باهرا. وأخذ يستمع إلى صوت الصمت في ذلك المنزل الصغير، الذي يقع بعيدا عن المدينة وازدحامها. في تلك السيرة الذاتية التي كانت موجودة في «دليل الشخصيات البارزة»، لم يكن يوجد أي ذكر لزوجة أو أطفال لديه؛ وهي أشياء عادة ما يكون من يملكها فخورا بذكرها؛ لذا لا شك أن المنزل كان يتألف من لويد وخادمه. فهل كان لديه من الاهتمامات ما يكفي لتعويض الافتقار إلى رفقة بشرية؟
كان آلان جرانت نفسه يملك منزلا، مثل هذا المنزل، يفتقر إلى الدفء البشري، لكن حياته كانت مليئة بالناس لدرجة أن عودته إلى شقته الفارغة كانت أمرا يمثل رفاهية ولذة نفسية له. فهل كانت حياة هيرون لويد حافلة وهانئة؟
أم إن نرجسيته لم تكن قط في حاجة لأي رفقة عدا ذاته؟
تساءل جرانت عن عمر الرجل. لا شك في أنه أكبر مما كان يبدو عليه، كان عميد مستكشفي شبه الجزيرة العربية. خمسة وخمسون عاما أو أكثر. ربما أقرب إلى الستين. لم يقدم الرجل تاريخ مولده في تلك السيرة الذاتية عنه؛ لذا كانت الاحتمالات تقول إنه يشارف على الستين. لا يمكن أن يكون قد تبقى له كثير من سنوات الحياة الشاقة، حتى بالنظر إلى حالته الجسدية الجيدة وظروف حياته. ماذا سيفعل الرجل في السنوات المتبقية له؟ هل سيقضيها في تأمل يديه والإعجاب بهما؟
كان لويد يقول: «الديمقراطية الحقيقية الوحيدة الموجودة في عالم اليوم، ويجري تدميرها بواسطة الشيء الذي نطلق عليه الحضارة.»
مرة أخرى، راود جرانت ذلك الإحساس بالألفة، بأنه يعرفه. أكان الأمر أن التقى بلويد من قبل؟ أم إن لويد كان يذكره بأحد ما؟
إن كان يذكره بأحد ما، فبمن؟
لا بد أن يبتعد ويفكر في الأمر. على أي حال، كان قد حان الوقت لأن يستأذن في الانصراف.
سأل وهو يستعد للانصراف: «هل أخبرك كينريك أين كان يقيم؟» «لا. كما تفهم، لم نحدد موعدا قاطعا للقاء آخر. طلبت منه أن يأتي لزيارتي ثانية قبل أن يغادر لندن. وحين لم يأت اعتقدت أنه استاء، وربما غضب، من غياب ... تعاطفي، إن كان يجوز قول ذلك؟» «أجل، لا بد أن الأمر مثل صفعة له. وفي واقع الأمر، لقد أخذت كثيرا من وقتك، وكنت معي صبورا حليما. أنا ممتن لك كثيرا.» «سررت كثيرا بأنني كنت عونا لك. وأخشى أن عوني لم يكن ذا قيمة كبيرة جدا. إن كان يوجد أي شيء آخر يمكنني فعله في هذه المسألة، آمل مخلصا ألا تتردد في أن تطلبه مني.» «في الواقع ... يوجد شيء آخر، لكنك كنت لطيفا كثيرا بحيث أكره أن أطلبه منك. خاصة أنه غير ذي صلة بعض الشيء.» «وما ذاك؟» «أيمكنني استعارة الصورة الفوتوغرافية؟» «الصورة؟» «صورة فوهة النيزك. لاحظت أن الصورة مدرجة ضمن ألبوم صورك، وغير ملصوقة فيها. أود كثيرا في أن أريها لصديق كينريك. وأعدك بكل صدق أن أعيدها. وبحالة ممتازة ...» «بالطبع يمكنك الحصول على الصورة. ولا تزعج نفسك بإعادتها. لقد التقطت هذه الصورة بنفسي، وأحتفظ معي بالصورة السالبة منها. يمكنني طبع بديل لهذه الصورة في أي وقت بسهولة.»
أخرج لويد الصورة من مكانها في الألبوم بعناية، وسلمها إلى جرانت. ونزل إلى الطابق السفلي مع جرانت ورافقه إلى الباب، ثم تحدث قليلا عن الفناء الصغير حين أبدى جرانت إعجابه به، وانتظر في كياسة حتى وصل جرانت إلى البوابة ثم أغلق الباب.
فتح جرانت صحيفة المساء التي كانت موضوعة على مسند السيارة، ووضع الصورة بحرص وعناية بين طياتها. ثم قاد سيارته باتجاه النهر وعلى طول منطقة إمبانكمنت.
فكر جرانت في نفسه أن هذا المكان القديم يبدو كالمعتاد؛ كومة شنيعة من الركام غارقة في الغسق. وكذلك كان قسم البصمات حين وصل إليه. كان كاترايت يطفئ سيجارة في صحن كوب شاي بارد كان قد شرب نصفه ويبدي إعجابه بآخر أعماله؛ مجموعة كاملة من بصمات يد يسرى.
وقال وهو يرفع ناظريه عندما سقط عليه ظل جرانت: «رائعة، أليس كذلك؟ ستؤدي هذه البصمات إلى شنق بينكي ماسون.» «ألم يكن بينكي يملك ثمن زوج من القفازات؟» «هاه! كان بإمكان بينكي أن يشتري شركة دينتس للقفازات بأكملها. كل ما في الأمر أنه لم يصدق - بينكي الحاذق - أن الشرطة ستنظر في الواقعة باعتبارها أي شيء آخر إلا حادث انتحار. القفازات لحثالة وصغار المجرمين، كلصوص المنازل ومن على شاكلتهم، وليس لعقول مدبرة مثل بينكي. أكنت مسافرا؟» «أجل. ذهبت لصيد السمك في منطقة المرتفعات الاسكتلندية. إن لم تكن مشغولا للغاية، فهل بإمكانك أن تقوم بشيء غير رسمي من أجلي؟» «الآن؟» «أوه، لا. لا بأس بغد.»
نظر كاترايت إلى الساعة. وقال: «ليس لدي شيء أفعله حتى ألتقي بزوجتي عند المسرح. سنذهب لمشاهدة مسرحية مارتا هالارد الجديدة. لذا يمكنني فعل ذلك الآن إن شئت. أهي مهمة صعبة؟» «لا. بل في غاية السهولة. هاك ، في الزاوية اليمنى السفلية من هذه الصورة الفوتوغرافية، توجد بصمة إبهام جيدة. وأظن أنك ستجد على الوجه الآخر مجموعة لا بأس بها من بصمات الأنامل. أريد أن أتحقق من وجود تلك البصمات في الملفات.» «حسنا. هل ستنتظر؟» «أنا ذاهب إلى المكتبة. وسأعود.»
في المكتبة أخذ جرانت «دليل الشخصيات البارزة» وبحث عن كينزي-هيويت. وكانت الفقرة المكتوبة عنه متواضعة جدا مقارنة بنصف العمود المكتوب عن هيرون لويد. كان كينزي-هيويت يبدو رجلا أصغر في العمر بكثير، وكان متزوجا ولديه طفلان، ويقطن في لندن. بدا أن «الصلة الاسكتلندية» التي كان لويد قد أتى على ذكرها تتألف من حقيقة أنه كان الابن الأصغر لشخص يدعى كينزي-هيويت، والذي كان يملك منزلا في منطقة فايف الاسكتلندية.
في الواقع، الاحتمال قائم دوما بأنه كان حاليا، أو مؤخرا، في اسكتلندا. فتوجه جرانت إلى أحد الهواتف واتصل بعنوانه في لندن. فردت عليه امرأة جميلة الصوت وقالت إن زوجها لم يكن في المنزل. لا، لن يكون في المنزل لبعض الوقت؛ كان في شبه الجزيرة العربية. وهو في شبه الجزيرة العربية منذ شهر نوفمبر، وعودته ليست متوقعة حتى شهر مايو على أقل تقدير. شكرها جرانت ووضع السماعة. لم يكن كينزي-هيويت هو من ذهب إليه بيل كينريك. غدا، سيتعين عليه أن يبحث وسط الخبراء المتعددين في شبه الجزيرة العربية، واحدا تلو الآخر، ويطرح عليهم السؤال نفسه.
وبعد أن أمضى بعض الوقت بصحبة أصدقاء له كان قد التقى بهم مصادفة في تلك الساعة، عاد إلى كاترايت. «هل أحضرت الصورة أم إنني أبكرت في الحضور؟» «لم أحضرها فحسب، بل بحثت عنها في الملفات من أجلك. الإجابة هي لا.» «لا، لم أظن حقا أنه سيكون ثمة شيء. كنت فقط أجري تصفية. لكن شكرا لك على أي حال. سآخذ الصورة معي. ظننت أن عرض هالارد المسرحي الجديد تلقى تعليقات سيئة.» «أحقا؟ لم أقرأ تلك التعليقات قط. ولا بريل. إنها تحب مارتا هالارد فحسب. وأنا أيضا، إن تطلب الأمر ذلك. فهي تملك ساقين طويلتين رائعتين . طاب مساؤك.» «طاب مساؤك، وشكرا مجددا.»
الفصل الثاني عشر
قال تاد كولين، حين انتهى جرانت من إلقاء القصة على مسامعه عبر الهاتف: «لا تبدو معجبا كثيرا بهذا الرجل.» «حقا؟ ربما يكون الأمر فحسب أنه لم يصادف أن يكون ما نطلق عليه نوعيتي المفضلة. اسمع يا تاد، هل أنت واثق تماما من أنه ليس لديك أدنى فكرة، حتى ولو كانت في المنطقة الخلفية في عقلك، عن أين يمكن أن يكون بيل قد أقام؟» «ليس لدي منطقة خلفية في عقلي. لدي فقط مساحة أمامية صغيرة ومحدودة أحتفظ فيها بكل ما هو مفيد لي. بضعة أرقام هواتف وبضع صلوات للرب.» «حسنا، أريد منك غدا أن تذهب في جولة إلى أكثر الأماكن بديهية، إن شئت.» «أجل، بالطبع. سأفعل أي شيء. أي شيء تقوله.» «لا بأس. ألديك قلم؟ ها هي القائمة.»
أعطاه جرانت أسماء عشرين مكانا من الأماكن المحتملة، اعتمادا على افتراض أن شابا يافعا من المساحات المفتوحة الواسعة والبلدات الصغيرة سيبحث عن نزل كبير وكذلك بهيج وليس باهظ الثمن. وفقط لغرض حسن التدبير أضاف بضعة من أشهر الفنادق الباهظة الثمن؛ فالشبان الذين يتلقون رواتبهم بأثر رجعي يصل إلى عدة شهور كانوا يميلون إلى الإسراف.
قال جرانت: «لا أظن أنني سأتطلع إلى أكثر من ذلك.» «وهل يوجد أكثر من ذلك؟» «إن لم يكن قد مكث في واحد من هذه الفنادق، فسنكون قد علقنا؛ لأنه إن لم يكن قد مكث في أحدها فسيتعين علينا البحث في كل فندق من فنادق لندن من أجل أن نجده، ناهيك عن البنسيونات.» «حسنا. سأبدأ بالبحث في الصباح الباكر. سيد جرانت، أود أن أقول لك إنني أقدر جدا ما تفعله لأجلي. أن تخصص وقتك من أجل شيء لا يمكن لأحد آخر فعله؛ أقصد شيئا ما كانت الشرطة تتعرض له. لولا أنت ...» «اسمع يا تاد، لست أفعل هذا من باب الإحسان. بل أفعله انغماسا في لذة فعله وإرضاء لفضولي وإمتاعا لنفسي بأقصى درجة. صدقني، لو لم أكن كذلك، لما كنت في لندن الآن. كنت سأخلد إلى النوم في كلون. لذا طاب مساؤك ولتنم جيدا. سنقسم هذه المهمة بيننا.»
ووضع السماعة ثم ذهب ليرى ما تركته السيدة تينكر على الموقد من طعام. بدا نوعا ما من فطيرة الراعي. فحملها إلى غرفة المعيشة وأكلها في شرود؛ إذ كانت أفكاره لا تزال معلقة بلويد.
ما الذي كان مألوفا بشأن لويد؟
راجع في ذهنه اللحظات القليلة التي سبقت إحساسه بأنه يعرفه. ماذا كان لويد يفعل؟ كان يفتح دولاب الكتب. كان يفتحه بإيماءة تنم عن الكياسة والشعور بالذات، وعن شيء من حب الظهور. ما الذي ينطوي عليه هذا الأمر ليبث في نفسه إحساسا بالألفة؟
وكان ثمة شيء أغرب.
لماذا قال لويد: «على ماذا؟» حين ذكر ما كتبه كينريك؟
لا شك أن ردة الفعل تلك لم تكن طبيعية بالمرة.
ما الذي قاله للويد بالضبط؟ لقد قال إن كينريك استرعى اهتمامه بسبب بعض أبيات شعرية كان يكتبها. والإجابة الطبيعية على هذا ستكون: «أبيات شعر؟» كانت العبارة المؤثرة ونافذة المفعول في هذه الجملة هي أبياتا شعرية. أما فعل الكتابة فهو تابع وإضافي.
وحين يكون رد فعل أحدهم على تلك المعلومة هو: «على ماذا؟» فيتعذر تفسير ذلك أو تبريره.
عدا أن ردود الفعل البشرية تتسم بتعذر التبرير والتفسير.
كان جرانت يدرك بناء على خبرته أن الكلمات غير ذات الصلة وغير المدروسة في أي قول هي الكلمات المهمة. فالاكتشافات المدهشة والمرضية تكمن في الفجوة بين المجزوم به والمتضارب.
لماذا قال لويد: «على ماذا؟»
دخل إلى فراشه وهو يفكر في المعضلة، وراح في النوم وهو لا يزال يفكر فيها.
في الصباح بدأ بحثه بين الخبراء في شبه الجزيرة العربية، وانتهى من بحثه دون أن يندهش مطلقا من أن بحثه لم يسفر عن شيء. فمن يستكشفون شبه الجزيرة العربية كهواية لهم نادرا ما يملكون المال ليدعموا به أي شيء. بل على النقيض، كان هؤلاء في العادة يبحثون عن دعم لأنفسهم. وكانت الفرصة الوحيدة تتمثل في أن يتبين أن أحدهم مهتم إلى الحد الذي يجعله على استعداد ليشارك شخصا آخر فيما يتلقاه من دعم. لكن لم يسمع أي منهم من قبل بشارل مارتن أو بيل كينريك.
كان وقت الغداء قد حل قبل أن ينتهي مما كان يفعله، فوقف قرب النافذة ينتظر مكالمة تاد، ويفكر هل يخرج لتناول الغداء أم يجعل السيدة تينكر تعد له عجة بيض. كان الجو اليوم رماديا، لكن كانت توجد نسمة خفيفة ورائحة تراب ندي أثار فيه إحساسا غريبا بأنه في الريف. علق في نفسه قائلا إنه يوم مناسب لصيد السمك. وتمنى للحظة لو أنه كان الآن يسير على الأرض السبخة نحو النهر بدلا من نضاله مع منظومة الهواتف في لندن. لا يتحتم حتى أن يذهب إلى النهر. كان سيقنع بقضاء فترة بعد الظهيرة على بحيرة لوخان دهو في قارب مثقوب بصحبة بات.
استدار إلى مكتبه، وبدأ يرتب الفوضى التي تخلفت من فتحه بريد هذا الصباح. فشرع يلقي بالمظاريف الفارغة والأوراق الممزقة في سلة المهملات، لكنه توقف في أثناء ذلك.
لقد واتاه الإلهام.
عرف الآن من الشخص الذي كان هيرون لويد يذكره به.
كان وي آرتشي.
وكان هذا الأمر مفاجئا كثيرا ومثيرا للسخرية حتى إنه جلس على الكرسي إلى جوار مكتبه وأخذ يضحك.
ما الشيء المشترك بين وي آرتشي وذلك المخلوق الأنيق الرفيع الثقافة الذي يدعى هيرون لويد؟
الفشل والإحباط؟ لا بكل تأكيد. إنه كان أجنبيا في البلد الذي يحبه كثيرا؟ لا، هذا احتمال مستبعد جدا. كان الشيء المشترك بينهما أعمق من ذلك.
ذلك أن لويد هو الذي ذكره بوي آرتشي. لم يكن لديه شك في هذا الآن. وكان جرانت يشعر بتلك الراحة التي لا تضاهى، والتي تتأتى حين يتذكر المرء اسما استعصى عليه أن يتذكره.
أجل، كان يذكره بوي آرتشي.
لكن لماذا؟
ما الذي كانت تتشارك فيه هاتان الشخصيتان المتناقضتان؟
إيماءاتهما؟ لا. بنيتهما الجسدية؟ لا. صوتهما؟ أكان ذلك هو المشترك بينهما؟
فقال له صوته الداخلي: «غرورهما، أيها الأحمق!»
أجل، هذا صحيح. غرورهما. غرورهما المرضي.
جلس وكأن على رأسه الطير، يفكر في هذا، ولم يعد يضحك.
الغرور. الصفة الأساسية في الأفعال المشينة. والعامل الثابت في العقل الإجرامي.
فقط بافتراض أن ...
تصاعد فجأة أزيز الهاتف الموضوع عند مرفقه.
كان المتصل هو تاد. قال إنه وصل إلى الرقم ثمانية عشر في القائمة، وإنه أصبح خائر القوى، لكن دماء الرواد كانت تجري في عروقه، وإنه سيكمل البحث. «دعك من البحث قليلا وتعال نتناول الطعام معا في مكان ما.» «أوه، لقد تناولت غدائي. تناولت موزتين ومخفوق الحليب في ليستر سكوير.»
قال جرانت: «أيها الرب الرحيم!» «ما المشكلة في ذلك؟» «النشويات؛ تلك هي المشكلة في ذلك.» «لا بأس بالقليل من النشويات حين يكون المرء منهكا. ألم يحالفك الحظ من جهتك؟» «لا. إن كان ذاهبا شمالا للقاء شخص يدعمه، فإن هذا الداعم كان مجرد هاو يملك المال، وليس أي من الأشخاص المنخرطين بفعالية في الاستكشاف في شبه الجزيرة العربية.» «أوه. حسنا. سأمضي في طريقي. متى أتصل بك ثانية؟» «بمجرد أن تصل إلى نهاية القائمة. سأنتظر مكالمتك هنا.»
قرر جرانت أن يتناول عجة البيض، وبينما كانت السيدة تينكر تحضرها أخذ يسير في أرجاء غرفة المعيشة تاركا عقله يحلق في سماء التفكير والتكهن ثم يجذبه في الحال إلى أرض الواقع والمنطق، بحيث كان عقله يشبه في مسلكه خطوط التلغراف خارج مقصورة عربة قطار؛ ترتفع باستمرار وتهبط باستمرار.
ليتهما كانت لديهما نقطة بداية. ماذا لو وصل تاد إلى نهاية قائمة الفنادق المحتملة ولم يصل لأي نتيجة؟ كانت مسألة أيام فقط قبل أن يتحتم عليه أن يعود إلى العمل. توقف عن التفكير في الغرور واحتمالاته، وبدأ يفكر في المدة التي قد تستغرقها تغطية الفنادق الأربعة المتبقية من جانب تاد.
لكن قبل أن تنتهي السيدة تينكر من إعداد عجة البيض، كان تاد قد حضر بشخصه. كان يبدو محمر الوجنتين ومظفرا.
وقال: «لا أعرف كيف واتتك فكرة الصلة بين ذلك المكان الضئيل الكئيب المهمل وبيل، لكنك كنت محقا. لقد مكث هناك بالفعل.» «وما هو ذلك المكان الضئيل الكئيب المهمل؟» «فندق بينتلاند. كيف فكرت فيه ؟» «يتمتع بسمعة عالمية.» ««ذلك» الفندق يتمتع بسمعة عالمية؟» «ويستمر الإنجليز في الذهاب إليه جيلا بعد جيل.» «ذلك ما يبدو عليه الأمر!» «إذن بيل كينريك مكث هناك. إنه يروق لي الآن أكثر من أي وقت مضى.»
فقال تاد بنبرة أكثر هدوءا: «أجل.» وتلاشت حمرة بهجته بالظفر عن وجنتيه. ثم أضاف: «أتمنى لو أنك كنت تعرف بيل. أتمنى ذلك حقا. لا أحد أفضل من بيل.» «اجلس وتناول بعضا من القهوة لتعادل ما تناولت من مخفوق الحليب. أم ترغب في شراب؟»
فأضاف بدهشة: «لا، شكرا، سأتناول القهوة. لقد سجل بيل خروجه في اليوم الثالث من الشهر. الثالث من شهر مارس.» «هل سألت عما كان يحمل من أمتعة؟» «بالتأكيد. لم يكونوا مهتمين بالأمر في الفندق في البداية. لكنهم في النهاية أخرجوا دفترا بحجم دفتر الأحكام القضائية، وقالوا إن السيد كينريك لم يترك شيئا في غرفة المخزن ولا في الخزانة.» «يعني ذلك أنه أخذ أمتعته إلى غرفة حفظ أمتعة - إلى غرفة أمانات - لتكون في متناوله حين يعود من اسكتلندا. ولو أنه كان ينوي العودة بالطائرة، فأظن أنه كان سيتركها في يوستن ليأخذها في طريقه إلى المطار. ولو أنه كان ينوي الذهاب بحرا، فقد يكون أخذها إلى محطة فيكتوريا قبل أن يذهب إلى يوستن. أكان يحب البحر؟» «بين بين. لم يكن مولعا به. لكنه كان مهووسا بالعبارات.» «العبارات؟» «أجل. يبدو أن الأمر بدأ حين كان طفلا في مكان يدعى بومبي! أتعرف أين ذلك المكان؟» فأومأ جرانت بالإيجاب. «وكان يقضي كل وقته على عبارة أجرتها بنس.» «كانت أجرتها نصف بنس.» «حسنا، أيا كان.» «إذن تظن أن عبارة القطارات ربما كانت ستثير اهتمامه. حسنا، لا يسعنا سوى أن نحاول. لكن إن كان سيتأخر على لقائك، فأظن أنه كان سيستقل الطائرة أثناء عودته. أيمكنك أن تتعرف على الحقائب لو رأيتها؟» «أوه، أجل. كنت أتشارك أنا وبيل في جناح صغير تابع للشركة. وساعدته في حزم حقائبه. في الواقع واحدة منها تخصني. لم يأخذ معه سوى حقيبتين. وقال إن اشترينا كثيرا من الأشياء فيمكننا أن نشتري حقيبة ...» ثم تلاشى صوت تاد فجأة ودفن وجهه في كوب قهوته. كان الكوب مسطحا جدا، وعليه أنماط صفصاف بلون وردي، كانت مارتا هالارد قد أحضرته من السويد لأجل جرانت لأنه كان يحب تناول قهوته في أكواب كبيرة، فأصبح هذا الكوب حائلا جيدا يحجب انفعالات تاد. «ليس لدينا أي إيصال لاستعادة تلك الأمتعة. ولا يمكنني استخدام وسائلي الرسمية. لكنني أعرف معظم العاملين في صالات الوصول الكبرى، وربما يمكننا أن نتحسس طريقنا دون علم أحد. وستكون مهمتك التعرف على الحقائب. في رأيك، أكان بيل بطبيعته يفضل وضع الملصقات؟» «أتوقع أنه كان سيضع ملصقات على الأشياء التي كان سيتركها هكذا. لماذا، في رأيك، لم يضع إيصال الأمتعة المتروكة في محفظته؟» «فكرت في أنه ربما يكون أحد ما قد أودع تلك الحقائب نيابة عنه. الشخص الذي قابله في يوستن، على سبيل المثال.» «الرجل الذي يدعى مارتن؟» «ربما. إن كان قد استعار الأوراق التعريفية من أجل تخفيه الغريب، كان سيتعين عليه أن يعيدها. ربما كان مارتن سيلتقي به في المطار، أو في محطة فيكتوريا، أو في المكان الذي خطط أن يغادر إنجلترا منه أيا كان، ومعه الحقائب ليأخذ منه أوراقه.» «أجل. يبدو ذلك منطقيا. أظن أننا لا نستطيع طرح نوبة مفاجئة من الإعلانات عن ذلك المدعو مارتن؟» «لا أظن أن ذلك المدعو مارتن سيرغب في أن يجيب، بعدما أعار أوراقه الخاصة من أجل عملية احتيال وكونه الآن من دون هوية.» «لا. ربما تكون محقا. لم يكن من بين نزلاء ذلك الفندق على أي حال.»
فسأله جرانت مندهشا: «كيف عرفت ذلك؟» «اطلعت على السجل؛ دفتر التسجيل. حين كنت أتعرف على توقيع بيل.» «أنت تضيع مهاراتك في أورينتال كوميرشال يا تاد. ينبغي أن تأتي للعمل معنا.»
لكن تاد لم يكن مصغيا. وقال: «ليس لديك أدنى فكرة عن الشعور الغريب الذي انتابني حين رأيت خط بيل فجأة وبهذا الشكل، من بين كل تلك الأسماء الغريبة. نوعا ما أفقدني ذلك القدرة على التنفس .»
أخذ جرانت صورة لويد الملتقطة للفوهة ووضعها على الطاولة. «هذا ما يظن هيرون لويد أن بيل قد رآه.»
نظر تاد إلى الصورة باهتمام. «هذا غريب فعلا، أليس كذلك؟ تبدو تماما كناطحات سحاب مدمرة. كنت أظن أن الولايات المتحدة هي من ابتكر ناطحات السحاب حتى رأيت شبه الجزيرة العربية. لكن بعض تلك البلدات العربية القديمة هي مجرد مبان مشابهة لمبنى إمباير ستيت لكن على نطاق أصغر. لكنك تقول إن ما رآه بيل لا يمكن أن يكون هذا.» «لا. من الجو لا بد أن تكون ماهيته واضحة تماما.» «هل أخبرت لويد بذلك؟» «لا. تركته يتحدث فحسب.» «لماذا تبغض ذلك الرجل بهذا الشكل؟» «لم أقل إنني أبغضته.» «لا يتعين عليك أن تقولها.»
تردد جرانت، فكان مشغولا كالعادة بتحليل ما كان يشعر به بالضبط. «أجد الغرور بغيضا ومنفرا. إنني أمقته بصفتي إنسانا، وأرتاب منه بصفتي رجل شرطة.»
فقال تاد بإيماءة خفيفة من كتفه تدل على التساهل: «إنها نقطة ضعف غير ضارة.» «هذا بالضبط ما أنت مخطئ فيه. إنه الصفة المدمرة تماما. حين تقول الغرور، فإنك تفكر في النوعية التي تزهو بنفسها أمام المرآة وتشتري الأشياء لتتأنق بها. لكن هذا مجرد خيلاء شخصي. الغرور الحقيقي شيء مختلف تماما. مسألة تتعلق بالشخصية وليس بالشخص. يقول الغرور: «لا بد لي أن أحصل على هذا لأنني أنا من أنا.» وهذا أمر مخيف لأنه غير قابل للعلاج. لا يمكنك أن تقنع المغرور أبدا بأنه يوجد أحد آخر له أدنى درجة من الأهمية، إنه لا يفهم ما تتحدث بشأنه. قد يقتل المغرور شخصا من أجل أن يوفر على نفسه قضاء عقوبة مدتها ستة شهور في السجن.» «لكن هذا جنون.» «ليس طبقا لطريقة تفكير المغرور. وليس بالمعنى الطبي بكل تأكيد. الأمر كله يتلخص في أن المغرور يكون منطقيا. إن الغرور صفة مفزعة كما ذكرت، وهي أساس كل الشخصيات الإجرامية. فالمجرمون - المجرمون الحقيقيون، على النقيض من الرجل الضئيل الذي يغش في الحسابات في حالة طارئة، أو رجل يقتل زوجته حين يجدها في الفراش مع رجل غريب - المجرمون الحقيقيون يتباينون في مظهرهم وأذواقهم وذكائهم وطريقتهم تباينا واسعا بقدر تباين بقية العالم، لكن لديهم سمة مميزة واحدة لا تتغير، وهي غرورهم المرضي.»
بدا تاد وكأنه لا يستمع بانتباه لأنه كان يطبق هذه المعلومات على شخص يعرفه شخصيا. فقال: «اسمع يا سيد جرانت، أتقول إننا لا ينبغي أن نثق بذلك المدعو لويد؟»
فكر جرانت في ذلك مليا.
ثم قال أخيرا: «ليتني كنت أعرف. ليتني كنت أعرف.»
فقال تاد في تردد: «هذا يضفي بالتأكيد طابعا مختلفا على الأمور.» «لقد أمضيت وقتا طويلا جدا صباح اليوم أتساءل عما إذا كنت قد رأيت كثيرا من الغرور في المجرمين لدرجة أنني بدأت أطور «حاسة» بشأنه، بحيث أصبحت أرتاب منه بلا داع. في ظاهر الأمر لا عيب في هيرون لويد. بل يتحلى بالكثير، إنه مثير للإعجاب. ولديه سجل حافل، ويعيش حياة بسيطة، ويتمتع بذوق ممتاز؛ الأمر الذي يعني إحساسه الطبيعي بعلو قدره، وقد أنجز الرجل ما يكفي فعلا ليشبع روحا أنانية.» «لكن في رأيك، هل هناك خطب ما في مكان ما؟» «أتذكر رجلا ضئيل الحجم في فندق مويمور أتاك للتبشير؟» «اسكتلندا المضطهدة! الرجل الضئيل ذو التنانير الاسكتلندية.»
فقال جرانت بصورة تلقائية: «التنورة الاسكتلندية. لسبب ما أشعر تجاه لويد بنفس الشعور الذي أشعر به تجاه أرتشي براون. هذا مناف للعقل، لكنه شعور قوي. لديهما نفس ...» ثم أخذ يبحث عن كلمة مناسبة.
قال تاد: «الرائحة.» «أجل. تقريبا. لهما الرائحة نفسها.»
وبعد صمت طويل قال تاد: «يا سيد جرانت، هل ما زلت تؤيد الرأي القائل بأن ما وقع لبيل كان حادثة؟» «أجل؛ لعدم وجود دليل مناف لذلك. لكنني على استعداد لأن أعتقد أنها لم تكن حادثة، إن رأيت سببا لذلك. أيمكنك أن تنظف النوافذ؟» «أيمكنني ماذا؟» «أن تنظف النوافذ.»
قال تاد محدقا بذهول: «أظن أنني أستطيع أن أجرب إن ضغط علي بشدة لفعل ذلك. لماذا؟» «ربما سيتعين عليك ذلك قبل أن ينتهي هذا الأمر. لنذهب ونحصل على تلك الحقائب. يحدوني أمل أن تكون كل المعلومات التي نحتاجها فيها. لقد تذكرت للتو أن بيل حجز مقصورة النوم تلك إلى سكون قبل أسبوع من سفره.» «ربما لم يكن بوسع داعمه في اسكتلندا أن يقابله قبل الرابع من الشهر.» «ربما. على أي حال، كل أوراقه الثبوتية وأغراضه الشخصية ستكون في واحدة من الحقائب، وآمل أن تشتمل على مفكرة يومية.» «ما كان بيل ليدون يوميات!» «ليس ذلك النوع. أعني المفكرة التي تستخدم لتدوين المواعيد والملاحظات.» «أوه، أجل، تلك النوعية. أتوقع أنه كانت ستكون لديه واحدة من مفكرات المواعيد تلك إن كان سيطوف في أرجاء لندن بحثا عن داعم له. قد تكون تلك هي كل ما نحتاجه، يا أخي!» ««ستكون» كل ما نحتاجه. إن كانت موجودة.»
لكن لم يكن يوجد أي شيء.
لا شيء على الإطلاق.
في بادئ الأمر، شرعا في تفاؤل كبير في البحث في الأماكن البديهية؛ يوستن، المطار، محطة فيكتوريا؛ مسرورين بالأسلوب الذي أجدى نفعا كبيرا. «مرحبا أيها المفتش. كيف يمكنني أن أساعدك اليوم؟» «ربما يمكنك أن تساعد صديقي الشاب من أمريكا.» «أجل؟ أتريد تذكرة لقطار الساعة الثالثة والنصف؟» «لدينا تذكرة لقطار الساعة الثالثة والنصف. يريد أن يعرف إن كان صديقه ترك حقيبتين هنا. أتمانع في أن يلقي نظرة بالأرجاء؟ لا نريد نقل أي شيء. نريد فقط أن نلقي نظرة.» «حسنا، ذاك شيء لا يزال مسموحا به في هذا البلد أيها المفتش، صدق هذا أو لا تصدق. هلا تبعتماني؟»
وهكذا تبعاه. في كل مرة كانا يتبعانهم. وفي كل مرة كانت الأمتعة المتراصة تبادلهما النظر في ازدراء وانطوائية. بتجرد كما من شأن أغراض الآخرين أن تنظر.
ومن الأماكن المرجحة انتقلا في قلق وترقب إلى الأماكن التي كانت تشكل مجرد احتمال. كانا يأملان أن يجدا مفكرة يومية أو أوراقا شخصية. لكنهما الآن على استعداد لأن يكتفيا بمجرد إلقاء نظرة واحدة على تلك الحقائب.
لكن لم يكن هناك حقائب مألوفة على أي من الأرفف.
ذهل تاد كثيرا من هذا حتى إن جرانت وجد صعوبة في اقتياده بعيدا عن النقاط التي توقفا فيها لاحقا. أخذ تاد يتجول في ذهول واندهاش مرة تلو أخرى حول الأرفف المملوءة بالأمتعة.
وظل يقول: «لا بد أن تكون هنا. لا بد أن تكون هنا.»
لكنها لم تكن موجودة.
وحين خرجا إلى الشارع، في حيرة من أمرهما، وبعد أن ذهب رهانهما الأخير أدراج الرياح، قال تاد: «أيها المفتش، أقصد يا سيد جرانت، في أي مكان آخر كنت ستترك فيه أمتعتك بعد أن تغادر أحد الفنادق؟ هل لديكم خزانات شخصية هنا؟» «خزائن محدودة المدة فحسب. لمن يريد أن يترك حقيبته ساعة أو ساعتين بينما ينجز أمرا ما.» «إذن أين هي أغراض بيل، ولماذا ليست موجودة في أي من الأماكن البديهية؟» «لا أعرف. ربما تكون مع فتاته.» «أي فتاة؟» «لا أعرف. كان شابا ووسيما وعزبا؛ سيكون أمامه مجموعة واسعة من الخيارات.» «أجل، بالطبع. ربما كان ذلك ما فعله بأغراضه. وهو ما يذكرني بشأن ما.» ثم اختفت أمارات السخط والوجوم عن وجهه. وألقى نظرة سريعة على ساعته. كانت قد قاربت على وقت العشاء. واستطرد: «لدي موعد مع فتاة في حانة الحليب.» ثم نظر في عين جرانت وبدا خجلا بعض الشيء. وأضاف: «لكن يمكنني أن أؤجل الموعد إن كنت تظن أنني يمكن أن أعاونك.»
فصرفه جرانت ليلتقي بفتاته في حانة الحليب وقد اعتراه شعور طفيف بالارتياح. كان الأمر أشبه بمرافقة جرو مفجوع هنا وهناك. وقد قرر جرانت نفسه أن يؤجل العشاء قليلا، وأن يذهب ليلتقي ببعض أصدقائه اللندنيين.
توجه إلى داخل قسم شرطة أستويك ستريت، فقوبل بالعبارة نفسها التي كان يسمعها طيلة فترتي ما بعد الظهيرة والمساء: «مرحبا أيها المفتش، كيف يمكننا مساعدتك؟»
قال جرانت إنه بوسعهم أن يخبروه بمن يتولى دورية بريت لين الآن.
كان الرجل الذي يتولى الدورية هو بي سي بيثيل، وإن أراد المفتش رؤيته فإنه في هذه اللحظة في المقصف يتناول النقانق والبطاطا المهروسة. ورقمه هو 30.
وجد جرانت الرقم ثلاثين يجلس عند طاولة بمفرده في الطرف الأقصى من المكان. وعلى دعامة أمامه كان يوجد كتاب عن قواعد اللغة الفرنسية. نظر إليه جرانت وهو يجلس منهمكا، وفكر في أن رجال شرطة لندن قد تغيروا من ناحية نوعيتهم في فترة زمنية قصيرة بلغت خمسة وعشرين عاما. كان جرانت يعلم أنه هو نفسه يعد خروجا عن هذا النوع، وهي حقيقة كانت ذات نفع كبير له في العديد من المناسبات. كان بي سي بيثيل فتى نحيلا داكن البشرة من مقاطعة داون، ذا جلد شاحب غير أملس، يتحدث ببطء بحديث ودي مطمئن. وبين لسانه البطيء وقواعد اللغة الفرنسية، شعر جرانت أن بي سي بيثيل يتجه صوب أشياء عظيمة.
بدأ الفتى ينهض بعدما قدم جرانت نفسه، لكن جرانت جلس وقال: «ثمة خدمة صغيرة أود أن تقوم بها من أجلي. أريد أن أعرف من ينظف نوافذ المنزل الكائن في 5 بريت لين. يمكن أن تجري بعض التحريات حين ...»
قال الفتى: «منزل السيد لويد؟ ريتشاردز يتولى ذلك.»
أجل، بالطبع، وبالطبع كان أمام بيثيل مستقبل حافل ينتظره، ينبغي أن يبقي انتباهه على بي سي بيثيل. «كيف تعرف ذلك؟» «أمضي وقت اليوم معه هنا وهناك أثناء دوريتي. إنه يضع عربته وأشياء أخرى في ذلك المنزل الصغير الذي يوجد في أقصى بريت لين.»
شكر جرانت مشرف الشرطة الواعد وذهب يبحث عن ريتشاردز. بدا أن ريتشاردز كان يعيش فوق حظيرته. كان جنديا سابقا عزبا، ذا ساق قصيرة، ولديه قطة، ومجموعة أكواب خزفية، وولع بلعبة رمي السهام. لم يكن هناك شيء في نطاق دوريته في لندن لا يعرفه بي سي بيثيل؛ الذي أتى من مقاطعة داون من فترة ليست ببعيدة.
عند زاوية بريت لين كانت توجد حانة صن، حيث يلعب ريتشاردز لعبة رمي السهام، فتوجه جرانت إلى هناك. كان هذا الترتيب غير رسمي بالمرة؛ لذا كان يتطلب إجراء غير رسمي للشروع فيه. لم يكن جرانت يعرف حانة صن ولا مالكها، لكن لم يكن عليه سوى أن يجلس ساكنا ويحسن التصرف، وسرعان ما سيدعى ليلعب رمي السهام، ولم يفصل هذا عن التحدث مع ريتشاردز في خصوصية سوى خطوة واحدة.
استغرقت تلك الخطوة ساعتين، كما تبين لاحقا، لكن في نهاية المطاف كان ريتشاردز طوعه في زاوية ومعه مشروب. كان جرانت في أخذ ورد بينه وبين نفسه حول ما إذا كان ينبغي عليه إخراج بطاقته التعريفية واستخدام إثبات شخصيته الرسمي من أجل عمل غير رسمي، أو أن يجعل الأمر عبارة عن خدمة يقدمها أحد الجنود السابقين إلى جندي سابق زميل له لقاء مبلغ مالي صغير، حين قال ريتشاردز: «لا يبدو عليك أن وزنك زاد بمرور السنوات يا سيدي.»
فسأله جرانت منزعجا بعض الشيء لأنه نسي وجهه: «هل التقينا من قبل؟» «كامبرلي. منذ سنوات أطول مما أود أن أفكر. ولا تقلق بشأن نسيانك لي. لأنني أشك في أنك رأيتني من قبل. كنت طباخا. هل ما زلت في الجيش؟» «لا، أنا شرطي.» «كفى مزاحا! مرحى مرحى. كنت سأقول إنك بكل تأكيد تعمل مع رئاسة هيئة الأركان العامة للإمبراطورية. أرى الآن لم كنت تتوق لأن تنفرد بي في زاوية. وأنا الذي كنت أظن أن طريقة رميي للأسهم هي ما لفت انتباهك!»
فضحك جرانت. وقال: «أجل، يمكنك أن تنجز شيئا ما لأجلي، لكنه ليس رسميا. هلا أخذت معك غدا تابعا لقاء مبلغ مالي صغير؟»
سأله ريتشاردز بعد أن فكر لحظة: «ليمسح نافذة بعينها؟» «المنزل الكائن في 5 بريت لين.»
قال ريتشاردز باندهاش: «هه! سأدفع له من أجل أن ينظفها؟» «لماذا؟» «ذلك الوغد لا يرضى أبدا. لا شيء مشبوه حيال هذا الأمر، أليس كذلك؟» «لا شيء البتة. لن يؤخذ أي شيء من المنزل، ولن يعبث بأي شيء. أضمن لك ذلك. وسأصوغ اتفاقا مكتوبا، إن كان هذا سيرضيك أكثر.» «كلمتك تكفيني يا سيدي. ويمكن لرجلك أن يحظى بتنظيف نوافذ السيد لويد اللعين دون مقابل.» ثم رفع كوبه الخزفي. وأضاف: «نخب أيام الجيش الخوالي! في أي ساعة سيأتي فيها تابعك غدا؟» «هل الساعة العاشرة مناسبة؟» «اجعلها العاشرة والنصف. فصاحبنا يخرج من بيته قرب الحادية عشرة معظم الأيام.» «هذا تفكير مدروس من جانبك.» «سأنهي نوافذي وألقاه في منزلي - الكائن في 3 بريت ميوز - في العاشرة والنصف.»
لم يكن من المجدي محاولة الاتصال بتاد كولين مرة أخرى هذه الليلة؛ لذا ترك له جرانت رسالة في فندق ويستمرلاند يطلب منه فيها أن يأتي إلى الشقة بمجرد أن ينتهي من تناول إفطاره في الصباح.
ثم أخيرا تناول جرانت عشاءه، وخلد قانعا إلى الفراش.
وبينما كان يغفو قال له صوت في رأسه: «لأنه كان يعرف أنه لم يكن يوجد شيء يكتب عليه.»
فقال وهو ينتبه: «ماذا؟ من الذي كان يعرف؟»
فقال الصوت: «لويد. لقد قال: «على ماذا؟»» «حسنا. وبعد؟» «قال ذلك لأنه كان مندهشا.» «بدا متفاجئا بكل تأكيد.» «لقد فوجئ لأنه كان يعرف أنه لم يكن يوجد شيء ليكتب عليه.»
رقد جرانت يفكر في هذا حتى راح في النوم.
الفصل الثالث عشر
وصل تاد، نظيفا ومشرقا جدا، قبل أن ينتهي جرانت من تناول إفطاره. لكن نفسه كانت مضطربة، وكان من المحتم أن يلاطفه جرانت ليخرجه من حالة مزاجية متسمة بالندم («لا يسعني سوى الشعور بأنني غادرت وتخليت عنك يا سيد جرانت») قبل أن يكون ذا عون لأي أحد. وابتهج تاد أخيرا حين عرف أنه توجد خطط محددة سيضطلعان بها اليوم. «تقصد أنك كنت جادا حيال تنظيف النوافذ؟ ظننت أنه ربما كان مجرد كلام مجازي. كما تعرف، من قبيل: «سأبيع علب الثقاب لأكسب لقمة عيشي إن استمر الحال هكذا». لماذا سأنظف نوافذ منزل لويد؟» «لأن هذه هي الطريقة النزيهة الوحيدة لدخول المنزل. يمكن لزملائي أن يثبتوا أنك لا تملك أي حق في قراءة عداد الغاز، أو اختبار الكهرباء، أو الهاتف. لكن لا يمكنهم أن ينكروا أنك منظف نوافذ، وأنك تقوم بعملك على نحو قانوني ومهني. ريتشاردز - رب عملك اليوم - يقول إن لويد يخرج من منزله قرب الحادية عشرة كل يوم، وسيأخذك إلى هناك حين يكون لويد قد غادر. سيبقى معك ويعمل معك بالطبع حتى يتسنى له تقديمك بصفتك مساعده الذي يتعلم المهنة. بهذه الطريقة ستقبل دون شكوك وتترك وشأنك.» «إذن سأترك وشأني.» «على المكتب في الغرفة الكبيرة التي تشغل معظم الطابق الأول يوجد سجل مواعيد. سجل كبير غالي الثمن ذو غلاف جلدي أحمر. المكتب عبارة عن طاولة - أقصد أنه لا يوصد - ويقع في مواجهة النافذة الوسطى.» «وبعد؟» «أريد أن أعرف مواعيد لويد يومي الثالث والرابع من شهر مارس.» «أتظن أنه ربما سافر على متن ذلك القطار؟» «أريد أن أتأكد من أنه لم يفعل، على أي حال. إن عرفت ماذا كانت مواعيده، يمكنني أن أكتشف بسهولة إن كان قد التزم بها أم لم يفعل.» «حسنا. ذلك سهل جدا. إنني أتطلع إلى مهمة تنظيف النوافذ تلك. لطالما تساءلت عما يمكنني فعله حين أصبح أكبر في العمر من أن أتمكن من الطيران. يمكنني أيضا البحث في مهنة تنظيف النوافذ. ناهيك عن النظر من بعض النوافذ.»
وغادر تاد مبتهجا وقد نسي أن معنوياته قبل نصف ساعة كانت «في الحضيض»، وراح جرانت يفتش في ذهنه عن أي معارف ربما يكونون مشتركين بينه وبين هيرون لويد. ثم تذكر أنه لم يتصل بعد بمارتا هالارد ليبلغها بعودته إلى المدينة. ربما كان من المبكر قليلا أن يقطع نوم مارتا، لكنه سيجازف.
قالت مارتا: «أوه، لا، لم توقظني. كدت أنتهي من تناول الإفطار وقراءة جرعتي اليومية من الأخبار. كل يوم أقسم أنني لن أقرأ الصحيفة اليومية، وكل صباح أجد ذلك الشيء اللعين ينتظرني أن أفتحه، وبالفعل أفتحه كل صباح. إن قراءة الأخبار تضر عصارتي الهضمية، وتصيب شراييني بالتصلب، وتقضي على نعومة بشرتي، وتهدر ما قيمته خمسة جنيهات من خدمات عائشة في خمس دقائق، لكن لا بد أن أتعاطى جرعتي اليومية من السم. كيف حالك يا عزيزي؟ هل أنت أفضل حالا؟»
استمعت لإجابته دون أن تقاطعه. كانت إحدى صفات مارتا الساحرة هي قدرتها على الاستماع. في حالة معظم صديقاته الأخريات كان الصمت يعني أنهن عاكفات على تحضير حديثهن التالي، وينتظرن فقط اللحظة المناسبة التالية كي يفصحن عنه.
حين سمعت بأمر كلون وتعافيه، قالت مارتا: «تناول العشاء معي الليلة. سأكون بمفردي.» «لنجعلها في بداية الأسبوع القادم؟ كيف تسير المسرحية ؟» «في الواقع يا عزيزي، ستسير على نحو أفضل كثيرا إن صعد روني على المسرح بين الحين والآخر وحدثني بدلا من أن يتحدث إلى الجمهور. يقول إن الوقوف عند أنوار المسرح والسماح للصفوف الأولى من الجمهور بالشعور بدنوه الشديد منهم يؤكد على انفصاله عن الشخصية، لكنني أظن أن هذا من أثر أيام عمله في قاعات الموسيقى.»
وأخذ جرانت ومارتا يتناقشان بشأن روني والمسرحية قليلا، ثم قال جرانت: «بالمناسبة، أتعرفين هيرون لويد؟» «رجل شبه الجزيرة العربية؟ لا، ما كنت لأقول إنني أعرفه. لكنني أعرف أنه أناني مثل روني.» «كيف ذلك؟» «كان روري، ابن أخي، مهووسا حد الجنون بالسفر لاستكشاف شبه الجزيرة العربية - رغم أنني لا أستطيع أن أتخيل سببا يجعل أي أحد يرغب في الذهاب للاستكشاف في شبه الجزيرة العربية؛ فلا يوجد هناك سوى التمر والرمل! على أي حال، رغب روري في الذهاب رفقة هيرون لويد، لكن يبدو أن لويد لا يسافر إلا بصحبة عرب. ويقول روري، وهو طفل لطيف، إن هذا يرجع إلى أن لويد أصبح عربيا جدا لدرجة أنه صار «ملكيا أكثر من الملك»، لكنني أظن - لكونه شخصا منحط التفكير ومارقا ومتشردا - أنه يعاني وحسب من المشكلة التي يعاني منها روني، ويرغب في المسرح كله لنفسه.»
فسألها جرانت، وهو ينسل من الحديث عن هيرون لويد: «ماذا يفعل روري الآن؟» «أوه، إنه في شبه الجزيرة العربية. لقد أخذه الرجل الآخر. كينزي-هيويت. أوه، أجل، ما كان روري يحبط من شيء تافه كازدراء أحدهم له. أيمكنك أن تجعله يوم الثلاثاء؛ أقصد العشاء؟»
أجل، سيجعله يوم الثلاثاء. فقبل يوم الثلاثاء سيكون قد عاد إلى العمل، ولا بد أنه سيكون قد تناسى مسألة بيل كينريك، الذي أتى إلى إنجلترا تملؤه الحماسة عن شبه الجزيرة العربية، ومات بصفته شارل مارتن على متن قطار متجه نحو منطقة المرتفعات الاسكتلندية. لم يكن أمامه سوى يوم أو يومين آخرين.
خرج ليقص شعره، ويفكر في مثل هذا الجو المريح الباعث على الاسترخاء في أي شيء تركاه دون أن ينتهيا منه . وكان تاد كولين يتناول الغداء مع قائده. كان جرانت قد قال لتاد: «لن يقبل ريتشاردز بأي شيء مقابل هذا؛ لذا اصطحبه إلى الغداء واطلب له وجبة رائعة، وسأدفع لك ثمنها.»
فقال تاد: «سأصطحبه إلى الغداء بكل سرور، ولكن فلتحل علي اللعنة إن تركتك تدفع لقاء ذلك. بيل كينريك كان صديقي أنا وليس صديقك.»
وهكذا جلس جرانت في صالون الحلاقة ذي الجو الدافئ العطر، مسترخيا هانئا، وحاول أن يفكر في شيء لا يزال بوسعهما فعله ليجدا حقائب بيل كينريك. لكن تاد الذي عاد من الخارج كان هو من قدم الاقتراح.
اقترح تاد نشر إعلان شخصي عن هذه الفتاة. «أي فتاة؟» «الفتاة التي معها أمتعته. ليس لديها أي سبب يجعلها تتوارى، إلا إذا استولت على محتوياتها، الأمر الذي لن يكون مجهولا. لكن بيل يتصف ... كان يتصف بأنه يحسن الاختيار أفضل من ذلك. لماذا لا نكتب بأحرف كبيرة «بيل كينريك» - لكي نلفت النظر، أفهمتني؟ - وبعدها نقول: «أي صديق له يتواصل عن طريق هذا الرقم»؟ هل يوجد ما يمنع ذلك؟»
لا، لم يستطع جرانت أن يفكر في أي شيء يمنع ذلك، لكن عينه كانت على الورقة التي كان تاد يخرجها من جيبه. «هل وجدت السجل؟» «أوه، أجل. لم يكن علي سوى أن أنحني لأجده. إن ذلك الرجل لا يبذل أي جهد للتحضير ودراسة الموقف، على ما يبدو. قائمة المواعيد هذه هي الأكثر مدعاة للملل خارج أي من السجون. ولا يوجد بها أي شيء مبهج من بدايتها إلى نهايتها. ولا نفع يرجى منها لنا على أي حال.» «لا نفع منها؟» «يبدو أنه كان مشغولا. هل أكتب ذلك الإعلان للصحف؟» «أجل، اكتبه. يوجد ورق للكتابة في مكتبي.» «إلى أي الصحف سنرسل هذا الإعلان؟» «اكتب ستة إعلانات، ويمكننا أن نكتب العناوين المرسل إليها لاحقا.»
نظر إلى نسخة المدخلات التي كتبها تاد بخط يد طفولي لمواعيد لويد. مدخلات مواعيد يومي الثالث والرابع من شهر مارس. وبينما كان يقرؤها اتضحت له عبثية شكوكه بأسرها. ما الذي كان يفكر فيه ؟ هل كان عقله لا يزال عقل رجل مريض شديد التأثر؟ كيف له أن يتخيل بأي شكل أن هيرون لويد يمكن أن يكون قد ارتكب جريمة قتل؟ لأن ذلك هو ما كان يفكر فيه، أليس كذلك؟ أن لويد، بطريقة ما لم يتمكنا من تخمينها أو التفكير فيها، كان مسئولا عن موت بيل كينريك.
نظر إلى المدخلات المهمة، وفكر أنه لو تمكن من إثبات أن لويد لم يلتزم بتلك المواعيد بعينها، فسيكون من غير المألوف أن يستنتج من ذلك الغياب أي شيء أكثر من التفسير الطبيعي؛ أن لويد كان متوعكا أو غير رأيه. من الواضح أنه كان قد حضر عشاء في ليلة الثالث من الشهر. كان نص المدخل كالتالي: «جمعية الرواد، نورماندي، السابعة والربع.» وفي التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي كان من المقرر أن تصل وحدة تصوير من مجلة «باثيه» إلى منزله الكائن في 5 بريت لين لوضعه على قائمة مشاهير المجلة في سلسلتها الوطنية. يبدو أن هيرون لويد كان لديه شواغل يفكر فيها أهم من طيار مجهول ادعى أنه رأى أطلالا في رمال شبه الجزيرة العربية.
قال الصوت الذي بداخله: «لكنه قال: «على ماذا؟»» «حسنا، قال: «على ماذا؟»! يا له من عالم ذلك الذي سيوضع فيه المرء موضع الشبهات، أو ستصدر أحكام عليه، بناء على كل ملاحظة غير مدروسة منه.»
كان رئيس الشرطة قد قال له ذات مرة: «أنت تتمتع بأثمن سمة من سمات وظيفتك، وهي الموهبة الفطرية. لكن لا تدعها تسوقك يا جرانت. لا تسمح لمخيلتك أن تتلاعب بك. اجعلها دائما في خدمتك.»
كان معرضا لخطر أن يسمح لموهبته بأن تشرد به. ينبغي له أن يتحكم في زمام نفسه.
سيعود إلى حيث كان قبل أن يلتقي بلويد. سيعود إلى رفقة بيل كينريك. سيعود من التخيلات الجامحة إلى الحقائق. الحقائق الواقعية المجردة القاطعة.
نظر نحو تاد، الذي كان منكبا على الورق وأنفه يتبع قلمه عبر الصفحة كأنه كلب صيد يتبع عنكبوتا على الأرض. «كيف وجدت الفتاة التي التقيتها في حانة الحليب ؟»
فقال تاد في شرود، ودون أن يرفع عينيه عن عمله: «أوه، لا بأس بها، لا بأس بها.» «هل ستخرج برفقتها ثانية؟» «آه. سألتقي بها الليلة.» «أتظن أنها جديرة بأن تكون صديقة دائمة؟»
قال تاد: «ربما تكون كذلك»، ثم حين أدرك اهتمام جرانت غير المعتاد رفع ناظريه وقال: «ما فائدة هذا؟» «أفكر في أن أهجرك ليوم أو يومين، وأود أن أطمئن إلى أنك لن تشعر بالسأم إن تركتك تفعل ما يحلو لك.» «أوه. أوه، لا، سأكون على ما يرام. أظن أن الوقت قد حان لتأخذ استراحة وتهتم بشئونك. ففي نهاية المطاف، هذه ليست مشكلتك. لقد فعلت الكثير بالفعل.» «لن آخذ استراحة. أخطط للسفر لزيارة أهل شارل مارتن.» «أهله؟» «عائلته. إنهم يعيشون على مشارف مرسيليا.»
عادت الحيوية إلى وجه تاد، الذي كان قد بدا للحظة مثل وجه طفل تائه. «علام تتوقع أن تجني منهم؟» «لا أتوقع شيئا. إنما أحاول الإمساك بطرف خيط آخر. لقد وصلنا إلى طريق مسدود فيما يخص بيل كينريك - إلا إذا استجابت فتاته المفترضة لذلك الإعلان، وذلك لن يكون قبل يومين على أقل تقدير - لذا سنحاول العمل على الطرف الخاص بشارل مارتن، ونرى إلى أين سنصل من هناك.» «لا بأس. ما رأيك في أن آتي معك؟» «لا أظن ذلك يا تاد. أظن أن من الأفضل أن تبقى هنا وتشرف على أمر الإعلان في الصحف. احرص على أن تنشر كل هذه الإعلانات وتسلم أي ردود عليها.»
فقال تاد في استسلام: «أنت الرئيس. لكنني أرغب فعلا في رؤية مارسيليا.»
فقال جرانت مبتسما: «ليست كما تتصورها على الإطلاق.» «وكيف تعرف كيف أتصورها؟» «يمكنني أن أتخيل ذلك.» «أوه، حسنا، أظن أن بإمكاني الجلوس على كرسي الحانة والتطلع إلى دافني. يا لها من أسماء طريفة تلك التي تسمى بها الفتيات في هذه المنطقة! إنه أمر مرعب بعض الشيء، ولكن يمكنني أن أحصي المرات القليلة جدا التي يعرب فيها الناس عن شكرهم للآخرين على تقديم خدمة.» «إن كنت تبحث عن الإثم فما ستجده منه على أرصفة ليستر سكوير بقدر ما ستجده في كانيبير ستريت.» «ربما، لكنني أحب آثامي بنكهة فرنسية.» «ألا تتحلى دافني بنكهة فرنسية؟» «لا. دافني مصطنعة جدا. ولدي شك فظيع في أنها ترتدي ثيابا تحتية من الصوف.» «إنها في حاجة لذلك في حانة حليب في ليستر سكوير في شهر أبريل. تبدو فتاة لطيفة.» «أوه، إنها لا بأس بها. لكن لا تطل مقامك بعيدا، وإلا فسيتبين أن الذئب بداخلي قوي جدا، وسأستقل أول طائرة متوجهة إلى مارسيليا لأنضم إليك. متى تخطط للسفر؟» «صباح الغد، إن تمكنت من الحصول على مقعد. تحرك لكي أتمكن من الوصول إلى الهاتف. فإن تمكنت من حجز رحلة مبكرة فيمكنني بقليل من الحظ أن أعود في اليوم التالي. وإن لم يحدث، فسأعود يوم الجمعة على أقصى تقدير. كيف سارت الأمور مع ريتشاردز؟» «أوه، نحن الآن صديقان رائعان. لكنني أشعر بشيء من خيبة الأمل.» «بشأن ماذا؟» «بشأن إمكانيات تلك الصنعة.» «أليست مربحة؟» «أتوقع أنها تؤتي ثمارها بعملات معدنية، لكن ليس بأي طريقة أخرى، صدقني. وصدق أو لا تصدق، كل ما يمكنك رؤيته من خارج النافذة هو انعكاسك أنت في الزجاج. ما أسماء تلك الصحف التي تريد مني أن أرسل هذه الأشياء إليها؟»
أعطاه جرانت أسماء الصحف الست صاحبة أكبر نطاق توزيع، وأرسله في بركة ورعاية الرب ليقضي وقته كيفما يحلو له حتى يلتقيا مجددا.
قال تاد مرة أخرى، بينما كان يغادر: «أتمنى حقا لو أنني أتيت معك»، وتساءل جرانت في نفسه إن كانت رؤية جنوب فرنسا باعتباره مكانا تجتمع فيه وسائل الترفيه الرخيصة أكثر عبثا من رؤيته على أنه شجرة ميموزا مزهرة. وهو ما كانت تمثله مارسيليا له.
قالت السيدة تينكر: «فرنسا! وقد عدت لتوك من خارج البلاد!» «ربما تكون منطقة المرتفعات الاسكتلندية في بلد آخر، لكن جنوب فرنسا ما هو إلا امتداد لإنجلترا.» «إنه امتداد مكلف جدا، كما سمعت. «مدمر». متى تتوقع أن تعود؟ لقد أحضرت لأجلك دجاجة رائعة من قرية كار.» «آمل أن أعود بعد غد. أو الجمعة على أقصى تقدير.» «أوه، إذن ستبقى الدجاجة. أتريدني أن آتيك في وقت أبكر صباح الغد، إذن؟» «أظن أنني سأكون قد غادرت قبل أن تأتي. لذا يمكنك أن تأتي في وقت متأخر صباح الغد.» «المجيء في وقت متأخر من الصباح لن يناسب تينكر، لن يناسبه. لكن سأنتهي من التسوق قبل أن آتي. والآن توخ الحذر واعتن بنفسك. لا تحمل نفسك ما لا طاقة لها به، فتعود وقد ساءت حالتك عما كانت عليه حين سافرت إلى اسكتلندا في البداية. آمل أن تسير أمورك على ما يرام!»
فكر جرانت في نفسه، وهو يشرف إلى أسفل على خريطة فرنسا في صباح اليوم التالي، أن الأمور على ما يرام بالفعل. من ذلك الارتفاع في هذا الصباح النقي الصافي لم تكن فرنسا مجرد أرض وماء ومزروعات. بل كانت جوهرة صغيرة في بحر لازوردي، وكأنها أحد إبداعات فابرجيه. لا عجب في أن الطيارين، من ناحية كونهم نوعا من البشر، كانوا ينتهجون موقفا متجردا تجاه العالم. ما أهمية العالم - بأدبه وموسيقاه وفلسفته وتاريخه - بالنسبة لرجل كان يراه دائما على حقيقته؛ بعضا من هراء فابرجيه؟
لم تبد مارسيليا، من كثب، من إبداع صائغ مجوهرات. بل كانت ذلك المكان المزدحم المألوف الذي يعج بضوضاء أبواق سائقي سيارات الأجرة النافدي الصبر ورائحة القهوة القديمة؛ نفس تلك الرائحة الفرنسية التي تسكن منازلها بأشباح عشرة ملايين طريقة لتحضير القهوة. لكن الشمس سطعت، وراحت المظلات المخططة ترفرف قليلا بفعل النسيم الذي كان يهب من جهة البحر المتوسط، فأخذت شجرة الميموزا تعرض زهورها الصفراء الشاحبة الباهظة الثمن بأعداد كبيرة. وفكر جرانت في نفسه في أن مارسيليا، باعتبارها صورة مرافقة للصورة الرمادية والقرمزية للندن، كانت مثالية. وإن صار ثريا يوما ما، فسيكلف أحد أفضل الرسامين في العالم بأن يضم الصورتين في لوحة واحدة له؛ التدرج بين الضوء والظلام في لندن وتوهج مارسيليا الساطع المفعم بالإيجابية. أو ربما سيكلف رسامين مختلفين بذلك. فقد كان من المستبعد أن يتمكن الرجل الذي سينقل صورة لندن في يوم مكفهر من أيام شهر أبريل من أن يرسم روح مارسيليا ظهيرة يوم ربيعي.
توقف عن التفكير في الرسامين، ولم يعد يرى مارسيليا متألقة ولا إيجابية حين عرف أن عائلة مارتن غادرت الضاحية قبل أسبوع واحد فقط إلى مكان غير معلوم. كان المكان الذي اتجهوا إليه غير معلوم لجيرانهم. وبحلول الوقت الذي اكتشف فيه بمساعدة السلطات المحلية أن ذلك «المكان غير المعلوم» كان مدينة تولون، كان قد أضاع وقتا ثمينا، كما أضاع المزيد من الوقت الثمين أثناء الانتقال إلى تولون والبحث عن آل مارتن بين سكانها الذين تعج بهم المدينة.
لكن في النهاية وجدهم واستمع إلى ما قالوه، وما قالوا إلا القليل. قالوا إن شارل كان «ولدا سيئا»، بكل عداء الفرنسيين تجاه شخص ارتد عن عبادة ذلك الإله الأسمى الذي يقدسه الفرنسيون، وهو العائلة. لطالما كان جامحا عنيدا وكسولا (والكسل هو كبرى الجرائم عند الفرنسيين). كان كسولا للغاية. كان قد رحل عن أسرته قبل خمس سنوات بعد مشكلة صغيرة بسبب فتاة - لا، لا، كان قد طعنها فحسب - ولم يكلف نفسه عناء مراسلتهم. ولم يصلهم أي أخبار عنه طوال كل تلك السنوات عدا أن صديقا قابله مصادفة في بورسعيد قبل نحو ثلاث سنوات. قال الصديق إنه كان يعقد صفقات لشراء سيارات مستعملة. فكان يشتري السيارات المتعطلة ويبيعها بعد أن يعبث فيها قليلا. كان ميكانيكيا ماهرا للغاية، وكان من الممكن أن يصبح رجلا ناجحا جدا، وأن يمتلك ورشة الإصلاح الخاصة به، وأن يكون لديه أناس يعملون لحسابه، لو لم يكن كسولا جدا. في غاية الكسل. كان كسله مستفحلا وهائلا. كان كسله مرضا. ولم يبلغ أسماعهم المزيد عن أخباره حتى طلب منهم أن يتعرفوا على جثته.
وسألهم جرانت إن كان لديهم صورة لشارل.
أجل، كانت لديهم عدة صور، لكن بالطبع كانت لشارل حين كان أصغر في العمر بكثير.
أروه الصور، وأدرك جرانت السبب في أن بيل كينريك، وهو ميت، لم يكن بعيد الشبه كثيرا بشارل مارتن كما كانت أسرته تذكره. رجل نحيل داكن البشرة، ذو حاجبين مميزين وخدين مجوفين وشعر أسود مسترسل، كان يبدو قريب الشبه جدا من أي شاب يمتلك صفات مشابهة حين تنطفئ فيه جذوة الحياة. لم يكن يتحتم حتى أن يكون لهما نفس لون العينين. يتسلم أحد الآباء رسالة تقول: توفي ابنك جراء حادث مؤسف، فضلا تعرف عليه وحدد أنه ابنك ورتب إجراءات دفنه. وتقدم أوراق ابن الرجل المكلوم الثبوتية ومتعلقاته إليه، ويطلب منه أن يحدد إن كان صاحبها هو ابنه. لا يتطرق الشك إلى عقله المتهيئ، فيتقبل ما يرى، وما يرى هو ما توقع أن يراه، لن يخطر على باله أن يقول: هل عينا ذلك الرجل زرقاوان أم بنيتان؟
في نهاية المطاف، كان جرانت بالطبع هو من خضع للاستجواب. لماذا كان مهتما بشارل؟ وأيا كان الأمر، هل ترك شارل شيئا من المال؟ هل كان الأمر وما فيه أن جرانت كان يبحث عن الورثة الشرعيين؟
لا، لقد قطع جرانت وعدا بأن يبحث عن شارل نيابة عن صديق له كان يعرفه على ساحل الخليج الفارسي. لا، لم يكن يعرف ما الذي كان الصديق يريده من شارل. ما فهمه هو أنه كانت توجد إشارة إلى شراكة مستقبلية.
بحسب رأي عائلة مارتن كان الصديق محظوظا.
قدموا له شراب آرمنياك وقهوة وبعض البسكويت المغطى بسكر باث بن، وطلبوا منه أن يزورهم مجددا إن أتى إلى تولون يوما ما.
وعلى عتبة الباب سأل إن كانوا يمتلكون أوراق ولدهم. فقالوا إنهم لا يملكون سوى أوراقه الشخصية؛ خطاباته. أما أوراقه الرسمية فلم يكلفوا أنفسهم عناء الحصول عليها ولم يفكروا في أمرها. ولم يكن يوجد شك في أنها كانت لا تزال في حوزة شرطة مارسيليا، التي كانت قد تواصلت معهم لأول مرة حين وقع الحادث.
وهكذا أهدر جرانت مزيدا من الوقت أيضا في عقد صداقات مع المسئولين في مارسيليا، لكن هذه المرة لم يستنفد جهده في الأساليب غير الرسمية التي يمليها عليه ضميره. بل قدم أوراق اعتماده وطلب استعارة الأوراق. تناول عصير فاكهة مركزا، ووقع على إيصال. ولحق بطائرة عصر يوم الجمعة المتجهة إلى لندن.
كان لا يزال أمامه يومان آخران. أو يوم واحد، ويوم أحد على وجه الدقة.
كانت فرنسا لا تزال تتخذ شكل جوهرة حين طار فوقها في طريق عودته، لكن بدا أن بريطانيا كانت قد اختفت تماما. إذ لم يكن يوجد شيء سوى محيط من الضباب بعد خط ساحل غرب أوروبا المألوف. بدت الخريطة في غاية الغرابة وغير مكتملة من دون الشكل المألوف لتلك الجزيرة المتفردة. وبافتراض أن تلك الجزيرة لم تكن موجودة من قبل قط، كيف كان سيختلف تاريخ العالم؟ كانت تلك فكرة مذهلة. يفترض أن أمريكا بأكملها كانت ستصبح إسبانية. والهند كانت ستصبح فرنسية، كانت الهند ستصبح هي الهند من دون تمييز عنصري، وسيحدث تزاوج بين أعراقها المختلفة حتى إنها كانت ستفقد هويتها. وكانت جنوب أفريقيا ستصبح هولندية، وستحكمها كنيسة متعصبة. ماذا عن أستراليا؟ من الذي كان سيكتشف أستراليا ويستعمرها؟ رأى جرانت أن هذا لم يكن مهما؛ فأي عرق كان سيصبح، في غضون جيل واحد، طويلا ونحيلا وصلبا، وحاد الصوت، ويتشدق في الكلام، ومتشككا، ولا يقهر. مثلما بدأ الأمريكيون جميعهم في نهاية المطاف يبدون مثل الهنود الحمر، حتى وإن كانوا قد دخلوا البلاد بصفتهم يتحدرون من عرق ساكسوني يتسم بضخامة الجثة.
ثم هبطت الطائرة إلى خضم السحب، وظهرت بريطانيا مجددا. كانت مكانا عاديا وموحلا ومملا للغاية بحيث كان من المتعذر تصديق أن قد يكون قد غير تاريخ عالم بأسره. كان رذاذ مستمر يغمر الأرض وما عليها. كانت لندن عبارة عن انعكاسات رمادية على لوحة مائية تتخللها بقع زيتية قرمزية، حيث كانت الحافلات تقطر عبر الضباب.
كانت جميع الأنوار في قسم البصمات مضاءة مع أن ضوء النهار كان لا يزال موجودا، وكان كاترايت جالسا مثلما رآه جرانت آخر مرة - كما كان يراه دائما - وبجواره نصف كوب من الشاي عند مرفقه، ومنفضة السجائر ممتلئة بأعقاب السجائر.
قال كاترايت: «هل ثمة شيء يمكنني فعله من أجلك في هذه الظهيرة الربيعية الجميلة؟» «أجل. يوجد أمر واحد أرغب بشدة في أن أعرفه . هل سبق لك أن شربت نصف الكوب الآخر؟»
أخذ كاترايت يفكر في هذا. ثم قال: «بعدما فكرت في الأمر، لا أعرف إن كنت قد فعلت من قبل. عادة ما تأتي بيريل وتأخذ كوبي وتعيد ملأه بمشروب جديد. ألديك تعليق مرتجل آخر؟ أم إن هذه مجرد زيارة اجتماعية؟» «أجل، يوجد شيء آخر. لكنك «ستعمل» لأجلي يوم الإثنين؛ لذا لا تدع سخاءك يخرج عن السيطرة.» ثم وضع أوراق شارل مارتن على الطاولة. وقال: «متى يمكنك الانتهاء من هذه لأجلي؟» «ما هذا؟ أوراق هوية فرنسية. ما الذي تحاول الوصول إليه؟ أم إنك تريد أن تحتفظ بهذا لنفسك؟» «إنما أضع رهانا أخيرا على جواد يدعى «الفطنة». إن آتى الأمر ثماره فسأخبرك. سآتي لأخذ البصمات صباح الغد.»
نظر إلى الساعة ورأى أنه إن كان تاد «يواعد» دافني، أو أي امرأة أخرى، الليلة، فلا بد أنه في هذه اللحظة يتأنق في غرفة فندقه. ترك جرانت كاترايت، ومضى إلى هاتف يتسنى له أن يتحدث إلى من يهاتفه دون أن يسمعه أحد آخر.
قال تاد بنبرة فرحة حين سمع صوت جرانت: «مرحى! من أين تتكلم؟ هل عدت؟» «أجل، عدت. أنا في لندن. اسمع يا تاد، تقول إنك لم تعرف من قبل أحدا يدعى شارل مارتن. لكن هل من الممكن أنك كنت تعرفه باسم آخر؟ هل كنت تعرف من قبل ميكانيكيا ماهرا وبارعا جدا مع السيارات، كان فرنسيا، ويشبه بيل قليلا؟»
أخذ تاد يفكر في هذا. «لا أظن أني عرفت من قبل ميكانيكيا فرنسيا. لقد عرفت ميكانيكيا سويديا وآخر يونانيا، ولكن لم يكن أي منهم يشبه بيل على الإطلاق. لماذا؟» «لأن مارتن عمل في الشرق الأوسط. ومن المحتمل أن يكون بيل قد حصل على تلك الأوراق منه قبل أن يأتي إلى بريطانيا أصلا. ربما يكون مارتن قد باعه إياها. لقد كان مارتن - أو ما زال؛ فثمة احتمال أن يكون على قيد الحياة - إنسانا كسولا، وربما كان يعاني الفاقة على فترات متقطعة. هناك، حيث لا يعبأ أحد كثيرا بشأن الأوراق الثبوتية، ربما يكون قد حاول بيعها مقابل المال.» «أجل، ربما يكون قد فعل. فأوراق هوية شخص آخر عادة ما تكون أقيم من أوراقك هناك. أقصد أن يسير بها المرء هنا وهناك. ولكن لماذا قد يبتاعها «بيل»؟ لم ينتهج بيل طرقا مشبوهة قط.» «ربما لأنه كان يشبه مارتن قليلا. لا أعرف. على أي حال، ألم يصادف أن قابلت أحدا يشبه مارتن في الشرق الأوسط؟» «ولا في أي مكان، حسبما أتذكر. علام حصلت؟ من آل مارتن. أهو شيء ذو قيمة؟» «يؤسفني أن أقول إنه ليس كذلك. لقد أروني صورا له؛ الأمر الذي أوضح لي كثيرا كم كان مارتن يشبه بيل إن لم يكن على قيد الحياة. وهو شيء كنا نعرفه بالفعل. وبالطبع إنه سافر إلى الشرق من أجل العمل. هل وردت أي ردود على الإعلان؟» «خمسة.» «خمسة؟» «كلها من أشخاص يدعون بيل كينريك.» «أوه. يسألون ما الفائدة التي سيجنونها من الأمر؟» «أصبت.» «لم يردك أي شيء من أي شخص كان يعرفه؟» «مطلقا. ويبدو أنه لا توجد نتائج من ناحية شارل مارتن أيضا. لقد غرقنا، أليس كذلك؟» «في الواقع، حتى آذاننا، إن جاز القول. لدينا شيء نافع واحد.» «حقا؟ ما هو؟» «الوقت. لا يزال لدينا ثمان وأربعون ساعة.» «أنت متفائل يا سيد جرانت.»
قال جرانت: «حري بك أن تكون في مهنتي»، لكنه لم يكن يشعر بتفاؤل كبير. بل كان يشعر بالتعب والخواء. كان على وشك أن يتمنى لو أنه لم يكن قد سمع ببيل كينريك من قبل. كان على وشك أن يتمنى لو أنه كان قد مشى في ذلك الممر في القطار عند بلدة سكون متأخرا عشر ثوان فقط. ففي غضون عشر ثوان إضافية، كان يوجورت سيدرك أن الرجل كان ميتا، وكان سيغلق الباب وسيذهب طالبا العون، وكان جرانت سيسير في ذلك الممر الخالي، وسيترجل إلى الرصيف دون أن يعي مطلقا بوجود شاب يدعى شارل مارتن. ما كان سيعرف قط أن أحدا ما قد مات على متن القطار. كان سيستقل السيارة مع تومي نحو التلال، وما كانت أي كلمات عن الرمال المغنية ستعكر عليه إجازته. كان سيصطاد السمك في هناءة، وسينتهي من إجازته في سكينة.
في سكينة أكثر من اللازم ... ربما؟ بالإضافة إلى قدر مفرط من الوقت يتيح له أن يفكر في نفسه وفي استرقاق الجنون له.
لا، بالطبع لم يكن نادما على أنه سمع ببيل كينريك. سيظل مدينا لبيل كينريك ما دام حيا، وإن استغرق الأمر منه حتى نهاية حياته كان سيكتشف ما تسبب في تغيير بيل كينريك إلى شارل مارتن. لكن ليت بوسعه أن يستجلي هذا الأمر قبل أن تطوقه تلك الحياة الكثيرة المتطلبات التي كانت في انتظاره يوم الإثنين.
سأل عن دافني، وقال تاد إنها كانت تمتلك ميزة واحدة هائلة تميزها عن جميع من عرفهن من قبل، وهي أنها تسعد بالقليل. إن أعطيتها باقة من زهور البنفسج فإنها تسعد بها بقدر ما تسعد معظم الفتيات بزهور الأوركيد. وكان الرأي الذي توصل إليه تاد بعد تفكير أنها لم تسمع من قبل بزهور الأوركيد، وأنه شخصيا لم يكن يعتزم لفت انتباهها إليه. «تبدو من النوع المحب للبيت والأسرة. خذ حذرك يا تيد، وإلا فستصحبها معك إلى الشرق الأوسط.»
فقال تاد: «ليس وأنا بكامل وعيي. لن تعود أي أنثى معي إلى الشرق الأوسط. لن أسمح لأي امرأة بأن تحدث الفوضى في «منزلنا». أقصد منزلي ... أقصد ...» وهنا تلاشى صوته.
أصبحت المحادثة متبلدة فجأة، وأغلق جرانت السماعة بعد أن قطع وعدا بأن يهاتفه بمجرد أن يجد شيئا يبلغه به أو أي فكرة يشاركه إياها.
خرج جرانت إلى الضباب الندي، وابتاع صحيفة مسائية، واستقل سيارة أجرة إلى المنزل. كانت الصحيفة هي «سيجنال»، وأعاده مرأى الاسم المألوف إلى ذلك الإفطار الذي تناوله في بلدة سكون قبل أربعة أسابيع. وفكر مجددا في أن العناوين ثابتة من ناحية نوعها. الخلاف الحاد في مجلس الوزراء، جثة الفتاة الشقراء في حي مايدا فيل، مقاضاة الجمارك، عملية السطو، وصول ممثل أمريكي، حادثة الشارع. حتى عنوان «تحطم طائرة في جبال الألب» كان شائعا بما يكفي ليصنف باعتباره من العناوين الثابتة. «شهد سكان الوديان المرتفعة لبلدة شاموني مساء أمس كتلة من اللهب تندلع على قمة جبل مون بلان الجليدية ...»
كان أسلوب صحيفة «سيجنال» ثابتا أيضا.
الشيء الوحيد الذي ينتظره في المنزل الكائن في 19 تينبي كورت كان خطابا من بات، يقول فيه:
عزيزي ألان، يقولون إنه لا بد أنك تمتلك فراشات صيد من نوعية مارجون لكنني أظن أنها ليست ذات جدوى. التوفير يجنبك الحاجة. هذه فراشة صيد صنعتها من أجلك. لم أكن قد انتهيت منها وقت رحيلك. قد لا تكون ذات نفع في تلك الأنهار الإنجليزية، لكن من الأفضل أن تحصل عليها على أي حال، قريبك المحب باتريك.
أسعد هذا الصنيع جرانت كثيرا، وبينما كان يتناول عشاءه راح يتنقل بأفكاره بالتناوب بين الاقتصاد، من حيث رءوس الأموال، وكذلك الحدود السعرية، والطعم الذي بداخل الخطاب. لقد تخطت هذه الفراشة الاصطناعية في أصالتها حتى تلك الفراشة المدهشة التي كان قد استعارها في كلون. قرر أن يستخدمها ذات يوم في نهر سيفرن حين «يأخذون» قربة ماء ساخن من المطاط الأحمر، بحيث يمكنه أن يكتب لبات بصدق ويخبره أن فراشة آل رانكن تمكنت من اصطياد سمكة كبيرة.
جعله التعصب الاسكتلندي التقليدي في جملة «تلك الأنهار الإنجليزية» يأمل ألا تطيل لورا في انتظارها وتسارع بإرسال بات إلى مدرسته الإنجليزية. إذ كان انتماؤه إلى اسكتلندا مفرطا للغاية، وينبغي تخفيفه. باعتباره أحد مكونات شخصيته، كان مثيرا للإعجاب، ومع أنه كان نقيا فقد كان منفرا كالنشادر.
ثبت جرانت الفراشة الاصطناعية فوق التقويم على مكتبه، حتى يتسنى له استكمال التأمل في شموليتها ويسعد بتفاني قريبه الصغير، وارتدى مسرورا منامته وفوقها روبا. كان يوجد على الأقل عزاء وحيد في كونه الآن في المدينة وليس في الريف، وهو أن بإمكانه ارتداء روبه ووضع قدميه على رف المدفأة وهو متأكد ومتيقن من أنه لن يتلقى اتصالا هاتفيا من سكوتلانديارد ليزعجه في وقت فراغه وراحته.
لكنه لم يكن قد مضى عليه أكثر من عشرين دقيقة على هذه الحال حين جاءه اتصال من سكوتلانديارد.
كان كاترايت هو المتصل.
أتاه صوت كاترايت يقول: «هل فهمتك على نحو صحيح حين قلت إنك راهنت على الفطنة؟» «أجل. لماذا؟»
فقال كاترايت: «لا أعرف أي شيء عن الأمر، لكنني أظن أن جوادك قد ربح.» ثم أضاف بنبرة عذبة رقيقة جدا مثل مذيعة في الراديو: «طاب مساؤك يا سيدي»، ثم أغلق الهاتف.
فقال جرانت: «مهلا!» وراح يهزهز زر الهاتف. «مهلا!»
لكن كاترايت قد أنهى المكالمة. ولن يكون من المجدي محاولة معاودة الاتصال به ثانية الليلة. كانت هذه الممازحة اللطيفة هي رد كاترايت؛ كانت ثمن قيامه بمهمتين دون مقابل.
عاد جرانت إلى كتاب رانيون الذي كان يقرؤه، لكنه لم يعد يستطيع أن يركز انتباهه على تلك الشخصية القانونية الصارمة، شخصية القاضي هنري جي بليك. سحقا لكاترايت ولمزحاته الصغيرة! سيتعين الآن عليه أن يذهب باكرا إلى سكوتلانديارد.
لكنه في الصباح كان قد نسي أمر كاترايت تماما.
فبحلول الثامنة صباحا كان كاترايت قد غاص مجددا في بحر خضم من الحوادث العرضية التي تحملنا من يوم إلى الذي يليه، والتي تكون عادية في احتشاد عوالقها.
بدأ الصباح، كما يبدأ دائما، بصوت قعقعة الخزف وصوت السيدة تينكر وهي تضع شاي الصباح الباكر. كان هذا الحدث هو التمهيد لأربع دقائق يرقد جرانت خلالها ساكنا، ويكون فيها ناعسا أكثر منه مستيقظا، ويترك الشاي يبرد قليلا، وكان صوت السيدة تينكر يأتيه من طرف نفق طويل يؤدي إلى الحياة وضوء النهار، لكن لا حاجة لاجتيازه بعد.
جاء صوت السيدة تينكر يقول: «فقط استمع إلى هذا»، مشيرة فيما يبدو إلى وقع المطر المنتظم. «قضبان تثبيت سجاد الدرج، مطر غزير، مستودعات. شلالات نياجرا تنهمر أيضا. يبدو أنهم عثروا على شانجريلا. يمكنني الاستفادة من موضع في شانجريلا هذا الصباح.»
أخذت الكلمة تطوف في ذهنه الناعس وكأنها عشبة في ماء ساكن. شانجريلا. كلمة تبعث على النعاس. تبعث على النعاس جدا. شانجريلا. مكان في أحد الأفلام. أو في رواية. فردوس لم تعبث به يد بشر. منعزل عن العالم . «حسبما يرد في هذه الصحف الصباحية، لا تمطر هناك أبدا.»
فقال: «أين؟» ليريها أنه مستيقظ. «في شبه الجزيرة العربية، على ما يبدو.»
سمع الباب وهو يغلق، فغاص أكثر قليلا تحت سطح الأشياء لينعم بتلك الدقائق الأربع. شبه الجزيرة العربية. شبه الجزيرة العربية. كلمة أخرى تبعث على النعاس. لقد وجدوا شانجريلا في شبه الجزيرة العربية. إنهم ... «شبه الجزيرة العربية!»
وبتدويرة واحدة كبيرة لأغطيته كان جرانت قد ذهب عنه النعاس، ومد يده ليلتقط الصحف. كانت توجد صحيفتان، لكن صحيفة «كلاريون» هي التي وصلت إليها يده أولا؛ لأن عناوينها الرئيسية كانت تمثل جرعة السيدة تينكر اليومية من القراءة.
لم يتعين عليه أن يفتش عن مبتغاه. إذ كان في الصفحة الأولى. كان أفضل مادة صحفية نشرتها أي صحيفة منذ قضية كريبن. «شانجريلا موجودة بالفعل. اكتشاف مثير. كشف تاريخي في شبه الجزيرة العربية.»
سريعا تصفح جرانت الفقرات المفعمة بالإثارة المبالغ فيها، ونحى الصحيفة جانبا في نفاد صبر لكي يمسك بصحيفة «مورنينج نيوز» الأجدر بالثقة. لكن صحيفة «مورنينج نيوز» كادت أن تكون مفعمة بالإثارة بقدر صحيفة «كلاريون». إذ ورد فيها: «كشف كينزي-هيويت العظيم. أخبار مذهلة من شبه الجزيرة العربية.»
قالت صحيفة «مورنينج نيوز»: «بفخر عظيم ننشر برقية بول كينزي-هيويت. كما سيرى قراؤنا، تبرهنت صحة اكتشافه بواسطة ثلاث طائرات تابعة لسلاح الجو الملكي، كانت قد أرسلت لتحديد المكان بعد وصول السيد كينزي-هيويت إلى مكلة.» كانت صحيفة «مورنينج نيوز» قد أبرمت عقدا مع كينزي-هيويت لنشر سلسلة مقالات عن رحلته الحالية، حين تنتهي تلك الرحلة، وكانت الآن في حالة نشوة هائلة لما صادفته من توفيق غير متوقع.
تجاوز جرانت حديث الصحيفة عما أحرزته من نصر، وانتقل إلى الكتابة الأكثر رزانة للمستكشف الظافر نفسه. «كنا في الربع الخالي في مهمات علمية ... لم يكن في أذهاننا أي تصور عن التاريخ البشري سواء الواقعي منه أو الخرافي ... بلاد جرت فيها استكشافات كثيرة ... جبال عارية لم يفكر أحد من قبل قط في تسلقها ... وقت مهدر بين أحد الآبار، والذي يليه ... في أرض الماء فيها هو الحياة لا يشرد أحد ليتسلق مرتفعات شديدة الانحدار ... استرعت الانتباه طائرة جاءت مرتين في غضون خمسة أيام، وأمضت بعض الوقت تحوم في دوائر على ارتفاع منخفض فوق الجبال ... ظننا أن طائرة قد تحطمت ... عملية إنقاذ محتملة ... مؤتمر ... ذهبنا أنا وروري هالارد للبحث، بينما ذهب داوود للبئر في زاروبا وأحضر حملا من الماء وعاد ليلقانا ... لا يوجد مدخل ظاهر ... جدران تشبه جارب كوير على جبل بريرياك ... استسلمنا ... روري ... مسار كانت حتى العنزات ستخفق في عبوره ... ساعتان حتى قمة الجبل ... واد رائع الجمال ... خضرة تكاد تكون صادمة ... نوع من شجيرات الأثل ... طراز معماري يذكرك باليونان أكثر مما يذكر بشبه الجزيرة العربية ... الأروقة ... صنف فارسي ذو بشرة فاتحة وعينين جميلتين ... جمال وعظام صغيرة لعرق ناتج عن زواج القربى ... ودودون جدا ... متحمسون كثيرا لظهور الطائرة، التي يبدو أنهم ظنوها طائرا من نوع ما ... ميادين وشوارع مرصوفة ... حضرية بصورة غريبة ... انعزال ليس بسبب صعوبات المسار الجبلي، بل بسبب الافتقار إلى الدواب من الحيوانات لحمل الماء ... من الصعب عبور الصحراء من دون ذلك ... في وضعية جزيرة صغيرة في بحر من الرمال ... كنا غير مدركين لما يقبع خلف تلك الصحراء، أو إلى أي مدى يمكن أن تمتد كما كان حال القدماء فيما يتعلق بما يقبع خلف المحيط الأطلنطي ... تقليد كارثي، لكن بسبب الصعوبات اللغوية فهذا تخمين؛ لكونه ترجمة للغة الإشارة وليس من ... الزراعة الشريطية ... إله على شكل قرد مصنوع من الحجر ... عبار ... اضطراب بركاني ... عبار ... عبار ...»
كانت صحيفة «مورنينج نيوز» قد أدرجت مخططا تفصيليا متقنا لشبه الجزيرة العربية مع وضع علامات بخطوط متقاطعة هكذا «+» في المكان المناسب.
استلقى جرانت وراح يحدق فيها.
كان «ذلك» إذن ما رآه بيل كينريك.
لقد خرج من قلب عاصفة هوجاء، من بين تيارات الرمال والظلام، وأطل من طائرته على ذلك الوادي الأخضر المتحضر القابع بين الصخور. لا عجب كثيرا في أنه عاد من هناك «مشوشا» وكأن عقله كان «لا يزال هناك». لم يصدق هو نفسه ما رآه . فعاد ليبحث؛ ليفتش عن هذا المكان الذي لم يظهر على أي خريطة، وينظر إليه. هذا - ذاك - كان فردوسه.
كان هذا هو ما كتب عنه في المساحة الفارغة في إحدى الصحف المسائية.
كان هذا هو ما أتى إلى إنجلترا من أجله ...
أتى إلى هيرون لويد من أجل ...
أتى إلى «هيرون لويد» ...!
ألقى بالصحيفة وقفز من السرير.
ونادى قائلا: «تينك!» وهو يفتح صنبور حوض الاستحمام. «تينك، دعك من أمر الإفطار. أحضري لي بعض القهوة.» «لكن لا يمكنك الخروج في صباح كهذا ولم تتناول غير كوب من ...» ««لا تجادليني!» أحضري لي بعض القهوة!»
نزل الماء يهدر في حوض الاستحمام. ذلك الكذاب. ذلك الجبان اللعين المتملق الأناني الكذاب. المغرور الشرير القاتل الكذاب. كيف فعلها؟
أقسم جرانت بحق الرب أنه سيعمل على أن يشنق جراء هذا.
قال صوته الداخلي بنبرة مهذبة شريرة: «استنادا على أي دليل؟» «اخرس! سأتوصل إلى الدليل حتى وإن تعين علي أن أكتشف قارة جديدة بأكملها في سبيل ذلك! لقد قال عنه، وهو يهز رأسه أسفا على مصيره المحزن جدا: «يا للفتى المسكين! يا للفتى المسكين!» بحق المسيح، سأشنقه بنفسي إن لم أتمكن من قتله بأي طريقة أخرى!» «اهدأ، اهدأ. ليست هذه حالة مزاجية تسمح لك باستجواب مشتبه به.» «لست أستجوب مشتبها به، سحقا لعقليتك البوليسية! سأخبر هيرون لويد برأيي فيه. لن أعود شرطيا إلا بعد أن أتعامل مع لويد بصفة شخصية.» «لا يمكنك أن تلطم رجلا في الستين من عمره.» «لن ألطمه. سأضربه ضربا يكاد يفضي إلى الموت. إن أخلاقيات ضربه أو عدم ضربه لا تندرج ضمن هذا الأمر مطلقا.» «ربما يستحق الشنق لكنه لا يستحق أن يطلب منك أن تستقيل بسببه.» «لقد قال بنبرة فيها لطف وتعال: «وجدته مرحا مبهجا.» ذلك اللعين. ذلك الحقير القاتل المتكبر المتملق. ذلك ...»
من آبار خبرته استخرج جرانت ما يلبي حاجته من كلمات. لكن غضبه ظل مستعرا بداخله كموقد مشتعل.
ثم انطلق من المنزل بعد أن تناول قضمتين ملء فيه من الخبز المحمص وثلاث رشفات كبيرة من القهوة، وانعطف إلى المرأب بسرعة مضاعفة. كان الوقت أبكر بكثير من أن يأمل في أن يجد سيارة أجرة؛ لذا كانت أسرع طريقة هي أن يستخدم سيارته.
هل من الممكن أن يكون لويد قد قرأ الصحف بعد؟
إن لم يكن من عادته أن يغادر المنزل قبل الساعة الحادية عشرة، فمن المؤكد أنه لا يتناول الإفطار حتى الساعة التاسعة. ود جرانت كثيرا أن يصل إلى المنزل الكائن في 5 بريت لين قبل أن يفتح لويد صحيفته الصباحية. سيكون لطيفا، لطيفا ومعزيا، لطيفا ومرضيا، أن يشاهده جرانت وهو يتلقى الأخبار. لقد قتل من أجل أن يبقي ذلك السر ملكا له، ليضمن أن يكون المجد من نصيبه، والآن أصبح السر خبرا على الصفحات الأولى في الصحف ونال غريمه كل المجد. أدعوك أيها الرب ألا يكون قد قرأ الخبر بعد.
دق جرانت جرس باب المنزل الكائن في 5 بريت لين مرتين قبل أن يجيب أحد، ولم يكن من أجابه هو محمود الودود، بل امرأة ضخمة ترتدي خفين من اللباد.
سألها: «أين السيد لويد؟» «أوه، السيد لويد ذهب إلى كمبرلاند ليوم أو يومين.» «كمبرلاند! متى ذهب إلى كمبرلاند؟» «عصر يوم الخميس.» «متى تتوقعين عودته؟» «أوه، سيغيبان ليوم أو يومين.» «سيغيبان؟ أنت تقصدين أن محمود ذهب معه.» «بالطبع محمود ذهب معه. لا يذهب السيد لويد إلى أي مكان دون أن يذهب محمود معه.» «فهمت. أيمكنك أن تعطيني عنوانه؟» «لو كنت أعرفه لأعطيتك إياه. لكنهما لا يزعجان أنفسهما بأمر تغيير العنوان حين يغيبان ليوم أو يومين فقط. هل ستترك له رسالة؟ أم لعلك ستعرج مرة أخرى؟ من المرجح أنهما لن يعودا عصر اليوم.»
لا، لن يترك رسالة. سيعرج مرة أخرى. لم يكن مهما أن يخبرها باسمه.
شعر جرانت بصدمة وكأنه شخص ضغط على مكابح سيارته فجأة واصطدم بالزجاج الأمامي. وتذكر وهو في طريق خروجه إلى سيارته أن تاد كولين سيقرأ ذلك الخبر في غضون بضع دقائق، إن لم يكن قد قرأه بالفعل. فعاد إلى شقته حيث التقى في الردهة بالسيدة تينكر التي شعرت بارتياح لرؤيته. «حمدا للرب على عودتك. ذلك الفتى الأمريكي اتصل هاتفيا وهو يمر بأمر مريع. لا يمكنني أن أفهم أيا مما يظن أنه يتحدث عنه. إنه غاضب إلى حد الجنون. قلت له: سيتصل السيد جرانت بك لحظة وصوله، لكنه لم يستطع أن يترك الهاتف. فما إن يضع السماعة من يده حتى يتصل مرة أخرى. كنت أهرع جيئة وذهابا بين الحوض والهاتف مثل ...» ثم رن جرس الهاتف. «تفضل! ها هو ذا يتصل مجددا!»
رفع جرانت السماعة. كان تاد بالفعل هو المتصل، وكان كما قالت السيدة تينكر تماما. كان كلامه مفككا من شدة الغضب.
ظل يقول: «لكنه كذب! لقد كذب ذلك الرجل. «بالطبع» أخبره بيل بكل ذلك!» «أجل، بالطبع فعل. اسمع يا تاد ... اسمع ... لا، لا يمكنك أن تذهب وتبرحه ضربا ... أجل، بالطبع يمكنك أن تعثر على منزله بنفسك، لا شك عندي في هذا، لكن ... «اسمع» يا تاد! ... لقد «ذهبت» إلى منزله ... أوه، أجل، في «هذه» الساعة من الصباح حتى. فأنا أقرأ الصحف في وقت أبكر منك ... لا، لم أضربه. لم أستطع ... لا، ليس لأنني خائف، ولكن لأنه في كمبرلاند ... أجل. منذ يوم الخميس ... لا أعرف. سيتعين علي أن أفكر في الأمر. أمهلني حتى وقت الغداء. هل تثق في حكمي على الأمور عموما؟ ... حسنا، سيتعين عليك أن تثق بحكمي في هذا الشأن. لا بد أن أحظى ببعض الوقت لأفكر. لأتوصل إلى دليل بالطبع ... إنه إجراء معتاد ... سأقص قصتي على شرطة سكوتلانديارد بالطبع، وبالطبع سيصدقونني. أقصد قصتي عن زيارة بيل إلى لويد، وعما قاله لي لويد من أكاذيب. لكن إثبات أن شارل مارتن كان بيل كينريك هو أمر مختلف تماما. حتى موعد الغداء سأكتب بيانا لسكوتلانديارد وأرسله. تعال حوالي الواحدة ظهرا، ويمكننا أن نتناول الغداء معا. لا بد أن أرفع الأمر برمته إلى السلطات عصر اليوم.»
كره جرانت الفكرة. كانت هذه معركته وحده. كانت معركته وحده منذ البداية. منذ تلك اللحظة التي نظر فيها عبر باب المقصورة المفتوحة إلى وجه فتى ميت مجهول. وصارت معركته وحده ألف مرة أكثر منذ لقائه بلويد.
كان قد بدأ يكتب حين تذكر أنه لم يأخذ بعد الأوراق التي تركها مع كاترايت. فرفع سماعة الهاتف واتصل بالرقم، وطلب امتداد خط هاتف كاترايت. هل يمكن أن يجد كاترايت مبعوثا يرسل معه تلك الأوراق؟ إذ كان جرانت مشغولا للغاية. كان اليوم هو يوم سبت، وكان ينهي كل أموره العالقة قبل العودة إلى العمل يوم الإثنين. سيكون شاكرا لذلك كثيرا.
عاد إلى ما كان يكتبه، وأضحى منهمكا جدا حتى إنه لم ينتبه إلا قليلا جدا إلى أن السيدة تينكر كانت قد أحضرت الصحيفة الثانية؛ صحيفة الظهيرة. وعندما رفع ناظريه عن الورقة ليفتش في ذهنه عن كلمة يكتبها، وقعت عينه على الظرف الذي كانت قد وضعته إلى جواره على المكتب. كان ظرف فولسكاب، متينا وغالي الثمن، وممتلئا بما في داخله، ومعنونا بخط يد رفيع مزوي متشنج، تمكن صاحبه أن يجعله دقيقا ومزخرفا في الوقت نفسه.
لم يكن جرانت قد رأى خط يد هيرون لويد من قبل. فتعرف عليه من فوره.
وضع قلمه بحذر، وكأن الخطاب الغريب كان قنبلة وستنفجر عند أدنى اهتزاز لا داعي له.
مسح راحتي يديه بموضع الفخذ من بنطاله في حركة لم يفعلها منذ كان طفلا، حركة صبي صغير يواجه ما لا ليس في حسبانه، ومد يده نحو الظرف.
كان قد أرسل من لندن.
الفصل الرابع عشر
كان الخطاب مؤرخا في صباح يوم الخميس.
عزيزي السيد جرانت
أم ينبغي أن أقول المفتش؟ أوه، أجل، أعرف ذلك. لم يتطلب مني اكتشاف ذلك وقتا طويلا. فمحمود الرائع هذا هو محقق أفضل من أولئك الهواة السذج الذين لديكم في مقر قيادة الشرطة في إمبانكمنت. لكنني لن أخاطبك برتبتك؛ لأن خطابي هذا تواصل اجتماعي. أكتب إليك بصفتي إنسانا مميزا يراسل إنسانا مميزا آخر جديرا بأن يحظى باهتمامه. أضع بين يديك هذه الوقائع إليك وليس للصحافة؛ لأنك بالفعل الإنجليزي الوحيد الذي حرك بداخلي مشاعر إعجاب حتى ولو كانت لحظية .
وبالطبع لأنني متأكد من اهتمامك بالأمر.
تلقيت هذا الصباح خطابا من تلميذي بول كينزي-هيويت، يعلن فيه عما حققه من اكتشاف في شبه الجزيرة العربية. وكان الخطاب مرسلا من مكتب صحيفة «مورنينج نيوز» بناء على طلب منه، ليستبق بذلك نشر الخبر صباح غد. وهي مجاملة أشعر بالامتنان تجاهه من أجلها. مما يبعث على السخرية أن كينريك الشاب كان هو الذي قدم إليه، هو الآخر، المعلومات التي تشير إلى وجود الوادي. لقد عرفت الكثير عن كينريك الشاب حين كان في لندن، ولم أجد فيه شيئا يجعله مستحقا لمصير عظيم هكذا. كان شابا عاديا للغاية. لقد أمضى أيامه يطير في عدم اكتراث بآلة ميكانيكية معقدة عبر صحاري اكتشفها الرجال بعد معاناة وإصرار. كان مقتنعا تمام الاقتناع بخطة تقتضي أن أوفر له فيها وسيلة الانتقال، وأن يقودني إلى اكتشافه. لكن ذلك كان عبثيا بالطبع. لم أعش حياتي وأصنع لنفسي اسما عظيما في الصحراء حتى ينتهي بي الحال إلى أن يقودني مراقب على آلة يتحدر من أزقة بورتسموث إلى أحد الاكتشافات، أو أن أكون متعهد نقل، أو مؤجر جمال، من أجل رجل آخر. لم يكن من الممكن تصور أن شابا تصادف، من خلال حادثة مناخية ومصادفة جغرافية، أن عثر على أحد أعظم الاكتشافات في العالم، أن يسمح له بأن يستفيد من هذا على حساب رجال وهبوا حياتهم للاستكشاف.
وبقدر ما يسعني التقدير، كانت فضيلة الشاب الوحيدة (لماذا تبدد شغفك على شخص ممل يوجد كثير من البشر مثله؟) هي قدرته على كبح شهوته. في الحديث بالطبع، لا تسئ فهمي من فضلك. ومن وجهة نظري كان من المهم ألا يتحرك ذلك اللسان، الذي كبح جماحه بقدرة نادرة، بالقيل والقال.
كان قد رتب للقاء واحد آخر ممن هم على شاكلته في باريس في الرابع من الشهر (لوتيتيا الجميلة البائسة، التي لطالما اغتصبها الهمج)؛ ومن ثم كان أمامي أقل من أسبوعين لأخطط لهذا. في الواقع لم أكن بحاجة إلى الأسبوعين. كان بوسعي تحقيق غايتي في يومين إن لزم الأمر.
في إحدى المرات، أثناء سفري إلى اسكتلندا ليلا، ظللت مستيقظا لأكتب بعض الخطابات وأرسلها إلى مدينة كرو حين يصل القطار إلى محطته الأولى. فكرت حينها، بينما كنت جالسا أنظر إلى الرصيف بعد أن تخلصت من خطاباتي، أنه من السهل للغاية أن أغادر القطار من دون أن يلاحظ أحد ذلك. كان المضيف قد نزل من القطار ليستقبل ركابا متأخرين، ثم ذهب بعدها ليقضي أمورا تخصه. كان الانتظار طويلا على ذلك الرصيف المهجور الهادئ، بينما كان يجري تحميل الأمتعة في العربات البعيدة. إن كنت قد تمكنت من السفر دون أن يتعرف علي أحد كل هذه المسافة، فيمكنني أن أغادر القطار دون أن يعرف أحد أبدا أنني كنت على متنه.
كانت تلك الخاطرة هي أولى ركيزتين لإلهام خطتي.
أما الثانية فكانت وجود أوراق شارل مارتن في حوزتي.
كان شارل مارتن هو الميكانيكي الخاص بي. كان الأوروبي الوحيد والفني الوحيد (يا لها من كلمة باعثة على الأسى بحق!) الذي عينته. استخدمته في أقل حملاتي الاستكشافية نجاحا، الحملة التي كانت شبه ميكانيكية؛ لأن العرب الذين كانوا يعملون معي لم يكونوا مهرة في التعامل مع الآلات (رغم أنهم كانوا يتعلمون بسرعة، مع الأسف!). كان مخلوقا منفرا، ولم يكن يهمه شيء سوى الاحتراق الداخلي للمحركات وتجنب أداء حصته من مهام المخيم، ولم أكن أشعر بالأسف حياله حين مات وسط الصحراء. بحلول ذلك الوقت كنا قد اكتشفنا أن المركبات كانت تمثل عبئا وليس عونا، وكنا قد قررنا التخلي عنها، وهكذا كان مارتن قد عاش أكثر مما يرجى منه من منفعة. (لا، لم يكن لي يد في موته؛ فهذه المرة تخلص الرب منه بالطريقة الطبيعية.) لم يطلب أحد أوراقه، وحيث إن الرحلة قطعت شبه الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فلم نعد قط إلى المدينة التي كنت قد استأجرته فيها. كانت أوراقه في أمتعتي، وهو أمر لم يشغلني أو يشغل أي أحد آخر، وعدت إلى إنجلترا وهي معي.
وتذكرت تلك الأوراق حين كان من الضروري إسكات الشاب كينريك . بدا كينريك قريب الشبه بشارل مارتن.
كانت خطة كينريك أن يعود إلى عمله في شركة كارتر-باترسون في الشرق حتى يأتي وقت انضمامي إليه هناك، بعدها ننطلق في رحلتنا الاستكشافية معا. وكان يأتي لزيارتي كثيرا في منزلي في بريت لين ليناقشني في أمر المسارات التي سنسلكها، ويمني نفسه بالمستقبل الذي ينتظره، وكنت أستمتع برؤيته وهو جالس يثرثر بهرائه حين حضرت له طريقة الموت الغريبة جدا.
كان قد رتب أن يذهب إلى باريس في الثالث من الشهر على متن العبارة الليلية. يبدو أنه كان «مولعا» بالعبارات. كان من شأنه أن يحيد أميالا كثيرة عن طريقه من أجل أن يعبر مسطحا مائيا على متن قارب صغير، في حين أنه كان بإمكانه أن يعبر جسرا على بعد بضع ياردات من موضعه. أظن أن عبارة دوفر كانت ستصبح العبارة رقم مائتين التي يركب على متنها. وحين أبلغني أنه حجز مقصورة نوم على متن عبارة القطارات، وما إن غادر حتى اتصلت لأحجز مقصورة نوم إلى بلدة سكون باسم شارل مارتن في الليلة نفسها.
وحين رأيته في المرة التالية اقترحت عليه، بما أنني كنت ذاهبا إلى اسكتلندا في نفس الأمسية التي سيغادر فيها إلى باريس، أنه ينبغي أن يترك أمتعته (لم يكن معه سوى حقيبتين) في غرفة حفظ الأمتعة في محطة فيكتوريا، وأن يتناول معي عشاء مبكرا في منزلي في بريت لين، وأن يودعني في محطة يوستن.
كان يسره دائما أن ينفذ أي اقتراح أطرحه عليه باندفاع، فوافق على ذلك، وكنت أعلم أنه سيفعل. تناولنا العشاء، الذي كان طبق أرز وشرائح لحم ضلع ومشمشا كان محمود قد علم السيدة لوكاس أن تعده (يتطلب هذا الطبق طهيا طويلا حتى يتشرب بنكهة المشمش)، وقاد محمود السيارة بنا إلى يوستن. وفي يوستن، أرسلت كينريك ليستلم تذكرة مقصورتي للنوم بينما مضيت قدما. وبحلول الوقت الذي عاود فيه كينريك الانضمام إلي كنت قد وجدت مقصورتي، وأنتظر عودته على الرصيف. وإن حدث وتساءل عن سبب سفري باسم شارل مارتن كان مسوغي هو شهرتي، وأنني أريد السفر متخفيا. لكنه لم يدل بأي تعليق.
شعرت بأن الآلهة كانت تساندني حين رأيت أن المضيف كان العجوز يوجورت. أنت لا تعرف العجوز يوجورت. لم يعرف عنه مطلقا طوال حياته المهنية أنه يبدي اهتماما بأي راكب أيا كان؛ إذ كان هدفه الرئيسي حين يكون في مناوبته أن يعود إلى مقصورته البغيضة في أبكر وقت ممكن لينام.
كان أمامنا أقل من خمس دقائق قبل الموعد المحدد لمغادرة القطار. فوقفنا نتحدث قليلا، وكان الباب مواربا، وكينريك يقف مواجها الممر. بعد قليل قال كينريك إن من الأفضل أن ينزل من القطار، وإلا فقد يذهب إلى منطقة المرتفعات الاسكتلندية. فأشرت إلى حقيبتي الصغيرة التي كانت موضوعة على السرير إلى جواره وقلت: «إذا فتحت حقيبتي فستجد فيها شيئا لك. تذكار حتى نلتقي مجددا.»
انحنى في حماسة شبه طفولية ليفتح القفلين. كانت وضعيته ممتازة. فأخرجت من جيبي أفضل سلاح ابتكره الإنسان للقضاء على عدوه وهو غافل. لم يكن الإنسان البدائي في البلاد الصحراوية يمتلك سكينا ولا بندقية، لكنه جعل الرمال تؤدي الغرض. خرقة وبضع حفنات من الرمال، وستنكسر الجمجمة مثل قشرة بيضة، ستنكسر بدقة كبيرة من دون دماء أو فوضى. نخر كينريك نخرة صغيرة ووقع على وجهه فوق الحقيبة. أغلقت الباب وأوصدته بالمزلاج، ونظرت لأرى إن كان أنفه ينزف. لكنه لم يكن ينزف. فجررته من على السرير وكومته تحته. كان هذا هو التقدير الخاطئ الوحيد الذي ارتكبته. كان عائقا دائما يشغل نصف المساحة تحت السرير، ومع نحافة كينريك وخفة وزنه لم أتمكن من دفع ركبتيه تحت السرير بعيدا عن الأنظار. خلعت معطفي وألقيت به على السرير بحيث صار متدليا وأخفى ساقيه. وبينما كنت أرتب الأغطية بحيث تخفي كل ذلك، وفي نفس الوقت تبدو عفوية كما ينبغي، انطلقت الصافرة. وضعت تذكرة الذهاب إلى سكون مع تذكرة مقصورة النوم على الرف الصغير تحت المرآة حيث يمكن ليوجورت رؤيتها، وسرت في الممر إلى المرحاض. لم يهتم أحد بأي شيء سوى لحظة المغادرة. أغلقت المرحاض على نفسي وانتظرت.
بعد حوالي عشرين دقيقة سمعت إغلاقا متتابعا للأبواب، وهو ما كان يعني أن يوجورت كان يقوم بجولاته. وحين سمعته في المقصورة المجاورة بدأت أغتسل، في صخب. فطرق الباب بعد بضع لحظات، وسأل إن كنت أنا راكب المقصورة «بي 7». فرددت بالإيجاب. فقال إنه وجد تذكرتي وأخذهما. وسمعته يمضي إلى العربة التالية ويبدأ في صفق الأبواب، وسرت عائدا إلى المقصورة «بي 7»، وأوصدت الباب على نفسي.
بعد ذلك كان أمامي ثلاث ساعات دون مقاطعة لجعل كل شيء مثاليا.
إن أردت يوما ما أن تضمن أن تبقى في سلام دون مقاطعة يا عزيزي السيد جرانت، فابتع لنفسك تذكرة نوم إلى شمال اسكتلندا. لا يوجد في هذا العالم مكان يكون فيه المرء آمنا من المقاطعة مثل أن يكون في مقصورة للنوم بمجرد أن يكون المضيف قد انتهى من جولته. ولا حتى في الصحراء.
أخرجت كينريك من تحت السرير، وحككت رأسه بحافة حوض غسل اليدين وأرقدته على السرير. ووجدت من فحصي لملابسه أنها كانت تبدو عالمية النزعة، وهو ما كان مفرحا. وبدت ملابسه التحتية مغسولة على يد عامل غسيل هندي، وكانت بدلته مصنوعة في هونج كونج، وحذاؤه في كراتشي. أما ساعته فكانت ساعة معدنية رخيصة، ولم يكن عليها اسم ولا أحرف أولى.
أفرغت محتويات جيوبه وأبدلتها بمحفظة شارل مارتن ومحتوياتها.
كان لا يزال على قيد الحياة، لكنه توقف عن التنفس بينما كنا نمر عبر مراعي مدينة رجبي.
ومنذ تلك اللحظة فصاعدا أعددت المشهد كما يقولون في المسرح. ولا أظن أنني أغفلت أي شيء، أليس كذلك يا سيد جرانت؟ كانت التفاصيل مثالية، حتى الشعر المسحوق في حوض غسل اليدين وراحتي يديه المتربتين. وفي الحقيبة التي تركتها كانت توجد ملابس قديمة تخصني، ارتديتها كثيرا، وكانت مغسولة، ومن نوع كان معتادا على ارتدائه، وأعطيت الأشياء طابعا فرنسيا بقدر ما تمكنت من أشيائي؛ رواية وكتاب مقدس بالفرنسية. وبالطبع كانت الحقيبة تحتوي أيضا على الزجاجة الأهم.
كان رأس كينريك صلبا للغاية. وأقصد بذلك مسألة الشراب، بالطبع، وليس عواقب ضربه بكيس الرمل. كنت قد أغريته بالويسكي على العشاء، وقدمت له كأس وداع بحجم كان أي رجل آخر سيصفر لونه من مجرد رؤيته. نظر بالفعل إلى نصف كوب الويسكي النقي بقليل من الارتياب، ولكن، كما قلت، كان يتلهف دائما إلى إرضائي فتجرعه دون اعتراض. وظل منتبها، أو هكذا بدا. لكن دمه ومعدته سيكونان مشبعين بالويسكي حين يموت.
وكذلك كان حال مقصورته حين كنت قد انتهيت منها. فبينما بدأت أنوار مدينة كرو تمر بنا كنت أضع اللمسة الأخيرة. إذ وضعت الزجاجة نصف الممتلئة على الأرض ودحرجتها جيئة وذهابا على السجادة. وبينما كانت سرعة القطار تتباطأ فتحت قفل الباب وخرجت وأغلقته خلفي، وسرت في القطار مبتعدا حتى أصبح بيني وبين المقصورة «بي 7» عدة عربات، فوقفت أنظر بطريقة عفوية واهتمام إلى الازدحام على الرصيف، ثم ترجلت إلى الرصيف بطريقة عفوية أيضا وسرت عليه. في قبعتي ومعطفي لم تبد هيئتي كهيئة المسافرين، ولم يلاحظني أحد.
عدت إلى لندن على متن قطار منتصف الليل، ووصلت إلى محطة يوستن في الثالثة والنصف، وكنت مبتهجا كثيرا حتى إنني سرت حتى المنزل. كنت أسير وكأنني أطير في الهواء. فتحت باب المنزل ودخلت، وكنت نائما في هناءة حين أتى محمود في السابعة والنصف ليوقظني ويذكرني بأن لدي موعدا لاستقبال ممثلي مجلة «باثيه» في التاسعة والنصف.
ولم أعرف بأمر الكلمات التي كتبت على الصحيفة التي كانت في جيب معطفه حتى أتيت لمقابلتي. أعترف بأنني للحظة شعرت بالهلع من أن أكون قد أغفلت أي شيء، لكن تلك الزلة كانت طفيفة؛ مما أشعرني بالارتياح في الحال. إذ لم تنتقص بأي طريقة من إنجازي المميز ولم تعرضه للخطر. كنت قد تركته يحتفظ بمعطفه البائس البالي كجزء من إعداد المشهد. أما مسألة أنه ثبت أن الكلمات المكتوبة على الصحيفة كانت بخط يد كينريك، فلم تكن أمرا يهم السلطات التي قبلت بأن الشاب هو شارل مارتن.
وفي المساء التالي، في ساعة الذروة، قدت السيارة إلى فيكتوريا، واستعدت حقيبتي كينريك من غرفة حفظ الأمتعة. وأخذتهما إلى المنزل ، وأزلت منهما كل علامات الصانع وكل الأشياء التي يمكن التعرف عليها بسهولة، وحكتهما في قماش، وأرسلتهما بمحتوياتهما إلى منظمة لاجئين في الشرق الأدنى. إن أردت يوما ما أن تتخلص من أي شيء يا عزيزي السيد جرانت، فلا تحرقه. بل أرسله بالبريد إلى جزيرة نائية في البحار الجنوبية.
وبعد أن تأكدت من استمرار لسان كينريك الكتوم بصورة مثيرة للإعجاب في كونه كتوما، كنت أتطلع للاستمتاع بثمار عملي. وبالفعل تلقيت أمس تأكيدات بالدعم الكافي لحملتي الاستكشافية الجديدة، وكنت قد خططت للسفر بالطائرة الأسبوع المقبل. بالطبع غير خطاب كينزي-هيويت هذا الصباح كل ذلك. لقد حرمت من ثمار إنجازي. لكن لا أحد يمكنه أن يحرمني الإنجاز نفسه. إن لم يكن من الممكن أن أعرف بأنني مكتشف عبار، فسأشتهر بأنني منفذ جريمة القتل المثالية الوحيدة التي ارتكبت على الإطلاق.
لا يمكنني أن أبقى هنا لأكون شمعدانا يحمل شموع انتصار كينزي-هيويت. كما أنني أصبحت أكبر سنا من أن أحظى بالمزيد من الانتصارات الخاصة بي. ولكن «يمكنني» أن أشعل نارا ستجعل الشموع على مذبح كينزي-هيويت تبدو صغيرة وخافتة وغير مهمة. ستكون محرقتي الجنائزية منارة تنير أوروبا كلها، وسيكون ما حققته من إنجاز في عملية الاغتيال موجة مد عارمة ستكتسح كينزي-هيويت وعبار، وتلقي بهما في صناديق قمامة الصحافة العالمية.
هذا المساء، عند الغسق، سأشعل محرقتي، على أعلى منحدر في أعلى جبل في أوروبا. لا يعرف محمود بهذا. يظن أننا ذاهبان بالطائرة إلى أثينا. لكنه كان معي طيلة سنوات كثيرة، وسيكون حزينا كثيرا من دوني. لذا سآخذه معي.
عزيزي السيد جرانت، وداعا. يحزنني أن يضيع أحد في ذكائك مواهبه في مؤسسة غبية كتلك الكائنة في إمبانكمنت. كانت مهارة منك أن تكتشف أن شارل مارتن لم يكن شارل مارتن، وأنه كان شخصا يدعى كينريك، وأحييك على ذلك. أما ما لم تكن ماهرا بما يكفي لأن تكتشفه فهو أنه لم يمت جراء حادثة. الأمر الذي لن يكون أي أحد ماهرا بما يكفي لأن يكتشفه هو أنني من قتله .
رجاء، اعتبر خطابي هذا تعبيرا عن تقديري ورسالة وداع. ستنشر السيدة لوكاس هذا صباح يوم الجمعة.
إتش سي هيرون لويد
أدرك جرانت أن السيدة تينكر كانت تقود تاد كولين إلى داخل الحجرة، وأنه لا بد أنها سبق أن دخلت عليه دون أن يلاحظ؛ لأن المظروف الذي أتى من سكوتلانديارد كان بجواره على المكتب.
قال تاد، والغضب البالغ لا يزال باديا على وجهه: «والآن؟ ما الخطوة التالية؟»
دفع جرانت بصفحات خطاب لويد إليه ليقرأها. «ما كل هذا؟» «اقرأه.»
رفع تاد الصفحات في تردد، وأخذ يبحث عن توقيع، ثم انغمس في قراءة الخطاب. أما جرانت فثبت المظروف الذي أرسله كاترايت بإبهامه وفتحه.
حين انتهى تاد من القراءة رفع ناظريه والصدمة بادية على وجهه، وأخذ يحدق في جرانت. وحين تحدث أخيرا كان ما قاله: «أشعر بالتقزز.» «أجل. إنه شيء خبيث.» «الغرور.» «أجل.» «كان ذلك هو حادث السقوط الذي ورد في الصحف المسائية ليلة أمس. الطائرة التي اشتعلت على جبل مون بلان.» «أجل.» «إذن نجا بفعلته في النهاية.» «لا.» «لا؟ لقد فكر في كل شيء، أليس كذلك؟» «لا يفكرون في كل شيء أبدا.» «من؟» «القتلة. لقد نسي لويد أمرا غاية في الوضوح؛ هو بصمات الإصبع.» «تقصد أنه فعل فعلته دون أن يضع قفازات؟ لا أصدق ذلك!» «بالطبع كان يضع قفازات. لا شيء من الأشياء التي مسها في تلك المقصورة سيحمل بصمته. الأمر الذي نسيه هو أنه كان يوجد في تلك المقصورة شيء كان قد أمسك به من قبل.» «وما هو ذلك؟» «أوراق شارل مارتن.» نقر جرانت عليها بأنامله حيث كانت موضوعة على المكتب. «إنها مغطاة ببصمات لويد. لا يفكرون في كل شيء أبدا.»
الفصل الخامس عشر
قال الرقيب ويليامز بارتياح بالغ وهو يصافح جرانت بحرارة صباح يوم الإثنين: «تبدو وكأنك عريس.» «إذن، أظن أنه من الأفضل أن أذهب لكي يلقي الناس بالأرز علي. كيف هو حال التهاب مفاصل الرجل العجوز هذا الصباح؟» «أوه، لا بأس على ما أظن.» «ماذا يدخن؟ غليونا؟ أم سجائر ؟» «أوه ، إنه غليون.» «إذن من الأفضل أن أدخل عليه فيما لا يزال مؤشر الضغط عاليا.»
وفي الممر التقى جرانت بتيد هانا.
سأله هانا بعدما حياه: «كيف تصادف أن قابلت آرتشي براون؟» «إنه يكتب قصيدة ملحمية باللغة الغيلية في الفندق الذي يقع في المكان الذي كنت أمكث فيه. بالمناسبة، «غربانه» هي قوارب صيد أجنبية.»
قال هانا وقد جمد في مكانه من الاهتمام: «حقا؟ كيف عرفت ذلك؟» «اجتمعوا في حفلة. كانوا يستخدمون فيما بينهم الحيلة القديمة «خذ سيجارة، لا لا، أبق علبة السجائر معك».» «هل أنت واثق من أنها «لم تكن» سجائر؟» «تمام الثقة. تمكنت من نشله أثناء إحدى جولات رقصة شعبية، ثم أعدت ما نشلت في الجولة التالية.» «لا تخبرني أنك كنت ترقص «الرقص الشعبي الريفي»!» «ستندهش من الأشياء التي كنت أفعلها. أنا نفسي مندهش قليلا.» «كيف كان «الخبز»؟» «رزمة كاملة من أجمل الأوراق المالية «الكبيرة» التي رأيتها من قبل.»
فقال هانا وهو يفكر بتمعن: «حقا؟» ثم تزايدت أمارات الاستمتاع على وجهه حتى صارت ابتسامة عريضة. وتابع يقول: «أحدهم يبدد قدرا هائلا من المال.»
فقال جرانت: «أجل. حمل في ثوب ذئب. وينبغي أن ترى ثيابه!» ثم تابع مسيره نحو باب مكتب رئيسه في العمل.
قال هانا: «يبدو أن إجازتك كانت مفيدة لك. لم أرك بمثل هذه السعادة البالغة من قبل. أنت تقرقر كالقطط من السرور.»
فقال جرانت: «كما يقولون في أقصى الشمال، أنا في قمة السعادة»، وكان يعني ذلك حقا.
كان سعيدا، ليس بسبب التقرير الذي كان سيقدمه إلى برايس، ولا حتى لأنه استعاد زمام نفسه مجددا، وإنما كان سعيدا بسبب شيء قاله له كولين الشاب في المطار ذلك الصباح.
كان تاد قد قال له، وهو يقف منتصبا وفي غاية الجدية ويدلي بخطاب وداع رسمي صغير كما يفعل الأمريكان المهذبون: «سيد جرانت، أريدك أن تعرف أنني لن أنسى ما حييت ما فعلته من أجلي ومن أجل بيل. لم يكن بوسعك أن تعيد لي بيل، لكنك فعلت شيئا أروع بكثير: لقد جعلته خالدا .»
وبالفعل كان ذلك بالضبط ما فعله. فما دامت توجد كتب تكتب، وتاريخ يقرأ، فسيظل بيل كينريك حيا؛ كان ألان جرانت هو من فعل ذلك. لقد دفنوا بيل سحيقا في غياهب النسيان، لكن ألان جرانت نبش قبره ووضعه في مكانته المستحقة باعتباره مكتشف عبار.
لقد سدد الدين الذي كان يدين به لذلك الشاب الميت الذي كان في المقصورة «بي 7».
حياه برايس بود، وقال إنه يبدو بخير حال (وهو ما لم يكن ليؤخذ في الحسبان؛ لأنه كان قد قال ذلك في آخر لقاء بينهما)، واقترح عليه أن يذهب إلى هامبشاير استجابة لطلب من شرطة هامبشاير قد وصل لتوه. «إن كان الأمر متساويا لديك يا سيدي، فأريد أن أزيح أمر جريمة قتل كينريك عن صدري أولا.» «جريمة ماذا؟»
قال جرانت، وهو يضع أمام برايس حزمة منمقة من أربع ورقات كانت هي نتاج قضائه يوم الأحد البهيج في منزله: «هذا هو تقريري المكتوب عن المسألة.»
وبينما كان يضع حزمة الأوراق تذكر على نحو مبهم وباندهاش أن ما كان قد خطط لأن يضعه أمام برايس هو استقالته.
يا للأفكار الغريبة التي تواتي المرء في الإجازة!
كان سيستقيل، ويصبح مربي خراف أو شيئا من هذا القبيل، ويتزوج.
يا لها من فكرة مدهشة! يا لها من فكرة غاية في الإدهاش!
Unknown page