Rihla Fi Zaman Nuba
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Genres
بتنا ما تبقى من الليل في القارب، وفي الصباح غير الباكر تمشينا في الحقول نشاهد كد المرأة والأطفال في جمع المحصول أو العشب والعناية بالبقر والغنم، ثم ذهبنا إلى مضيفة النجع.
وبناء على ما صادفناه في رحلتنا من متاعب أعادتنا إلى توشكى، رأى أهل النجع أننا نحتاج إلى عمل «كرامة» لصرف الحظ السيئ، ورأيناها فكرة تستحق التنفيذ؛ لنلاحظ عمليا تنفيذ مثل هذه الممارسات المعتقدية، وقد بلغت تكلفة الكرامة سبعة جنيهات ونصف دفعناها لخروف كبير وتكلفة باقي الأكل من خضار وطهي، وقدمت لنا الكبدة والرأس وفخذة مع بطاطس ورجلة وأرز على طاولة جلسنا إليها مع العمدة وكبار القوم، وجلس بقية الرجال في صفين متقابلين على أبراش على الأرض، ومر عليهم إبريق ماء وطشت صغير ليغسلوا أيديهم، ثم قدمت لهم أطباق خوص كبيرة بها فتة ولحم مسلوق وخضار من الرجلة والبطاطس، وقدم بطيخ كثير بعد الأكل لكل الموجودين، أما الشيخ مختار فكان يخدم على الكل.
وبعد ذلك بدأ أحد الرجال ينشد بردة البوصيري والكل يرد وراءه: «صلى الله عليه وسلم»، وما أن انتهى من الإنشاد حتى بدأ في الدعاء لنا بالطيب والخير والجميع يرد: آمين. ثم ختم بقراءة ما تيسر له من آيات القرآن الكريم، والدعاء لنا أن نعود سالمين إلى أهلنا، وأخيرا قرأنا الفاتحة على رجاء قبول الكرامة.
بعد الكرامة تناولنا الشاي في منزل السيد علاء الدين حمزة، الذي كان يعمل بالسفارة السويسرية بالقاهرة، وهو بيت كبير له مضيفة خارجية، جزء منها سقيفة مع أعمدة مربعة، والجزء الآخر غرفة بالداخل، ثم زرنا بيت العمدة السيد فتحي سيف الدين للتحية، وهو بيت كبير مبني على ما يشبه ربوة غير عالية، قدم لنا الشاي في أقداح روزنتال - صيني فاخر صناعة ألمانية - وبسكويتا أيضا في أطباق روزنتال، وعجوة وأنواعا من البلح، وأثناء الجلسة أخذ السيد عبد الرحيم يحكي نوادره أيام كان يعمل على تاكسي بالقاهرة، وتطرق الحاضرون إلى الحديث عن العمل في القاهرة والإسكندرية عند الأثرياء من المصريين، وعند الأجانب، وأجمعوا أن العمل عند الإنجليز هو الأحسن، وأسوؤهم السويسريون لبخلهم الشديد، أما أغنياء الجريك - اليونانيين - فهم مريحون في العمل بصفة عامة.
وأصر العمدة على تقديم عشاء نوبي خفيف يسمى «الحلو مر»؛ عبارة عن خبز الدوكة مقطع في طاجن وعليه لبن زبادي محلى بالسكر، ثم يسكب عليه بعض الزبد، وهو لذيذ الطعم، ويقال إنه ملطف ضد الحر، والحقيقة أن الخبز الخمريت ملطف فعلا فضلا عن أنه دائما طازج لذيذ، كذلك أصر العمدة أن نبيت عنده بدلا من البيات في القارب، وأعطونا مندرة جميلة الصنع سقفها مكون من طبقتين: إحداهما من الجريد وفلق النخل، والثانية ألواح خشبية؛ وذلك لتكييف جو المندرة بتقليل حرارة السقف، ومن اللطائف أنه كان بأحد جدران المندرة حنفية ماء، وخلفها ارتداد في الجدار بمثابة حمام به دش مياه، وخارج المندرة حوش به مرحاض مبني على ارتفاع بضع درجات، وبطبيعة الحال فإن هذه الاستحداثات لا توجد في كل مكان، والغالب أن العمدة كان من القادرين المحبين للراحة ومباهج الحياة.
ويذكر النوبيون أنهم يطبقون الاشتراكية منذ القدم، فكل شيء يتم تعاونيا؛ كالأفراح والمناسبات الدينية والوفاة واستضافة الغرباء ... إلخ، وعندهم فراسة وحكمة التصرف في المواقف المختلفة، ربما نتيجة تعاملهم لفترات طويلة مع غيرهم من المصريين والأجانب في البيوت والقصور والفنادق.
الفصل الحادي عشر
رحلة العودة
صبيحة اليوم التالي كان الثلاثاء 25 سبتمبر 1962، لم يعد عندنا وقت للإبحار جنوبا، وذلك وفاء منا بأن نعيد القارب إلى مرساه في نجع قناوي قبل أول أكتوبر، كذلك كنا نعرف أن آخر حجر من أحجار معبد كلابشة سوف ينقل يوم 29 سبتمبر إلى موقع المعبد الجديد غرب أسوان، وكان علينا أن نستقل الصندل الذي ينقل الحجر لنؤمن وسيلة انتقال إلى أسوان بدلا من الذهاب إلى نجع قناوي أو دهميت والبحث عن طريقة للعودة إلى أسوان. اتخذنا قرار العودة ونحن آسفين أننا لم نتمكن من إتمام الرحلة جنوبا حتى بلانة وأدندان.
كانت هناك مركب شراعي كبير متجه من توشكى إلى عنيبة، فاتفقنا أن نربط القارب إلى المركب في جزء من الرحلة لنستمتع بالسفر، ولو قليلا، بالمراكب الشراعية. وفي نحو التاسعة والنصف صباحا ودعنا بعض أهالي توشكى للمرة الثانية، وانساب المركب الشراعي شمالا في هدوء تام مع التيار وبعض الريح عكس ضجيج موتورات قاربنا «لندا»، وفي هذا الهدوء أخذ المراكبي يدندن ويغني بصوت خفيض أغاني النوبة المعروفة، وبين كل كوبليه وآخر يطلق ما يمكن أن نسميه «آهة» نوبية؛ هي «يا سلام» مطولة مرسلة بلا نهاية كأنها «يا ليل» في أغاني التخت الشرقي، كل ذلك بمصاحبة دق خفيف على صفيحة خالية، وكورس صغير من مساعد المراكبي والريس محمد علي شاجة.
Unknown page