Richard Feynmann
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Genres
واصل فاينمان العمل مع جيلمان في موضوع التفاعل الضعيف وواصل إزعاجه في الندوات (إلا أن المناوشات ربما صارت محددة أكثر مع مرور الوقت)، غير أنه لم يبد مستريحا في هذا العمل. كانت لدى الاثنين فكرة وهي أنه ربما كان هناك نوعان مختلفان من النيوترينوات وبهذا يمكن تفسير النتائج التجريبية المحيرة، غير أن فاينمان فقد اهتمامه بها ورفض كتابة الفكرة. ولاحقا فاز ليون ليدرمان، وميلفن شفارتز، وجاك شتاينبرجر بجائزة نوبل بعد أن تمكنوا من إثبات هذه الحقيقة من خلال التجارب. وفي بحث آخر، بالاشتراك مع جيلمان وعدة زملاء آخرين، وافق فاينمان على التعاون، وبعدها وعقب إرسال نسخة مسودة الطباعة، توسل إليهم - وقبل توسله - أن يحذفوا اسمه قبل النشر.
في عام 1961، سنحت لفاينمان فرصة غير عادية فتحت طاقته الإبداعية بأسلوب جديد تماما وساعدت على وضعه في مرتبة جديدة في مجتمع الفيزياء وغيره من المجتمعات. لم تكن تلك الفرصة مرتبطة باكتشاف قانون جديد للطبيعة، وإنما باكتشاف طرق جديدة لتدريس الفيزياء.
كان الطلاب الجامعيون في كالتك مطالبين باجتياز عامين من مناهج التعريف بعلم الفيزياء، ومثل معظم المناهج من هذا النوع كانت تلك تمثل إحباطا لهم، لا سيما لألمع الطلاب وأكثرهم ذكاء الذين كان علم الفيزياء مشوقا لهم خلال دراستهم له في المدرسة الثانوية، وكانوا يرغبون في تحصيل المعرفة عن نظرية النسبية والعجائب الحديثة، ولم يكونوا راغبين في العودة لتكرار استذكار دروس الكرات التي تتدحرج فوق الأسطح المائلة. وبتحفيز من ماثيو ساندز، الذي كان يناقش الفكرة مع فاينمان لبعض الوقت، قرر قسم الفيزياء - وفي نهاية المطاف، رئيس القسم، روبرت باشر، وهو نفسه الذي فرض عملية الاقتران القسري بين فاينمان وجيلمان - إعادة صياغة المنهج التعليمي. ومن جديد، واستجابة لاقتراح من ساندز، اتفق على أن يعهد إلى فاينمان بفصل دراسي تمهيدي يدرسه طيلة فترة المنهج الافتتاحي بأكمله. وعلى الرغم من أن فاينمان لم يكن يحظى بسمعة كبيرة في مجال التدريس للطلبة، فإن التقارير التي صدرت عنه من حيث قدراته التدريسية في كورنيل كانت طيبة للغاية، وكان يحظى بشهرة كبيرة في المجتمع باعتباره عارضا موهوبا وفريدا من نوعه للأفكار عندما يركز في هذا الأمر. كان نشاطه الملحوظ، وأسلوبه الارتجالي، وحدسه الفيزيائي الرفيع، ولكنة أهل لونج أيلاند التي ينطق بها، وعبقريته الفطرية، كل هذا منحه هالة من الجاذبية تشع كلما وقف على أي منصة.
قبل فاينمان التحدي وزاد عليه. كان فيما مضى قد كرس حياته كلها بلا هوادة لإعادة بناء صرح قانون الفيزياء بأكمله داخل ذهنه. وكانت مغامرة الفهم على المستوى الشخصي هي التي تدفعه وتوجهه منذ سنوات طفولته. والآن سنحت له الفرصة كي يخرج تلك الصورة من ذهنه لتصبح متاحة للآخرين. (اكتشفت أثناء تصفحي لمذكرات ماثيو ساندز أنه استعان تقريبا بنفس هذه اللغة في إقناع فاينمان بتدريس هذا المنهج!) كان قادرا على وضع بصمته، ليس فقط في علم الفيزياء عند أرقى مستوياته، وإنما أيضا في الأفكار الأساسية من جذورها الأولى التي تمثل جوهر فهمنا لهذا العلم. وعلى امتداد العامين التاليين، كرس فاينمان المزيد من النشاط والإبداع الأشد كثافة في تطوير محاضراته أكثر مما فعل في أي شيء آخر خلال الفترة التي أعقبت الحرب.
كان التوقيت نموذجيا. كانت هذه المسألة ممكنة في ذلك الحين ويرجع ذلك جزئيا إلى أن مغامراته الماجنة بدأت تخمد. فمع استقرار زواجه وحياته الأسرية، صار قادرا على تقليص اهتمامه باحتياجاته ونزواته الشخصية، وقلت دوافعه نحو البحث عن مغامرات كان مدفوعا لها كي يغطي شعوره بالوحدة، ولكن الأهم من ذلك أنه كان في استطاعته الاستقرار في مكان واحد وتخصيص الوقت اللازم لرسم مخطط لمنهج جديد تماما في مقدمة أساسيات علم الفيزياء. كان في استطاعته أن يبين للآخرين ليس فقط كيف يفهم هو العالم، ولكن أيضا ما جعله متشوقا كي يسعى لمعرفة العالم. كان قادرا على خلق ارتباطات جديدة، هي جوهر العلم برمته، أثناء كشف ألغاز عالم الطبيعة. كان يرغب في اصطحاب الطلاب سريعا نحو الألغاز المهمة المثيرة التي تعج بها أحدث تطورات العلم، ولكن في الوقت نفسه يبين لهم أن فهمها ليس مقصورا فحسب على فئة كبار العلماء، وأن الكثير منها مرتبط بظواهر طبيعية مباشرة نراها بأعيننا مثل غليان وجبة شوفان، أو التنبؤ بالأحوال الجوية، أو سلوك الماء عندما ينساب داخل أنبوب.
كان يصل إلى قاعة المحاضرات كل يوم قبل وصول الطلبة، مبتسما ومتأهبا لإمتاعهم بعرض أصيل وجديد تماما لكل شيء بدءا من الميكانيكا الكلاسيكية، وحتى الكهرومغناطيسية، والجاذبية، والموائع، والغازات، والكيمياء، وحتى ميكانيكا الكم في نهاية المطاف. كان يذرع القاعة جيئة وذهابا خلف منضدة شرح كبيرة وأمام سبورة عملاقة، صارخا وعابسا حينا، ومتلطفا وملقيا النكات حينا آخر. ومع حلول نهاية المحاضرة كان يحرص ليس فقط على امتلاء السبورة بالكامل، ولكن على أن يكمل دائرة الأفكار التي حددها في بداية المحاضرة كمواضيع للمناقشة. وكان يرغب في أن يبين للطلبة أن افتقارهم للمعرفة لا يعني بالضرورة الانتقاص من قدرتهم على الفهم، وأنه مع العمل الجاد يمكن حتى لطالب السنة الأولى أن يتعامل، وبأدق التفاصيل، مع الظواهر المعاصرة.
وأهم شيء أنه كان يرغب في تقديم دليل للفهم، أو كما كان يطلق عليه في الغالب «دليل الحائرين» (لعله استعار المصطلح من عنوان مخطوطة شهيرة لفيلسوف القرن الحادي عشر «موسى بن ميمون»). يقول فاينمان:
فكرت أن أوجهها [المحاضرات] إلى أذكى الطلاب في الفرقة الدراسية وأن أحرص - إن أمكن - على أن يعجز حتى أذكى الطلاب عن الإلمام التام بكل ما قلته في المحاضرة، وذلك بوضع اقتراحات لتطبيقات الأفكار والمفاهيم النظرية في مختلف الاتجاهات خارج الإطار الرئيسي للموضوع. لكن لهذا السبب، حاولت جاهدا أن أجعل جميع العبارات التي أنطق بها دقيقة قدر الإمكان، وأن أحدد في كل حالة الموضع الملائم للمعادلات والأفكار داخل علم الفيزياء ككل، وكيف يمكن تعديل الأمور، كلما زادت معرفتهم. شعرت أيضا أنه بالنسبة لأولئك الطلاب من المهم الإشارة إلى ما يجب عليهم - لو أنهم بارعون بالقدر الكافي - أن يكونوا قادرين على فهمه من خلال الاستنتاج مما قيل سابقا، وما الذي يضاف باعتباره شيئا جديدا.
وفي غمرة ما كان يشعر به من حماس أراد أيضا ربط علم الفيزياء بباقي العلوم، وأن يوضح أنه ليس بجزيرة منعزلة عن بقية العالم. فأدخل في المنهج فسيولوجيا إبصار اللون وتطبيقات الهندسة الميكانيكية التي أثارت هي ذاتها اهتمامه عندما كان طالبا، وبطبيعة الحال شرح اكتشافاته الشخصية أيضا.
أدرك القسم أن شيئا مميزا يحدث، ومنح فاينمان مؤازرة وتشجيعا عظيمين. كان يلتقي أسبوعيا بآخرين من أعضاء هيئة التدريس المكلفين - تحت إشراف ماثيو ساندز وروبرت ليتون - بتصميم جلسات لحل المسائل وتحديد مراجع إضافية لمساعدة الطلبة. ولما كان فاينمان لا يدرس من أي مرجع، فقد كان من الضروري عقد تلك الاجتماعات، وكان على هؤلاء المحاضرين والمساعدين العمل بدوام كامل، سواء لمتابعة ما يحدث أو لتطوير المواد التعليمية الملائمة لإكمال المنهج الدراسي.
Unknown page