اتخذ النهر مسارا منحنيا، وفقدت أنا حس الاتجاه. وجدنا في المصائد مزيدا من الفئران، فأخرجها أبي وهزها وخبأها في الكيس، واستبدل الطعم. ازداد شعوري بالبرودة في وجهي ويدي وقدمي، لكنني لم أخبر أبي بذلك، لم أستطع. وهو لم يخبرني قط بأن أتوخى الحذر، وأن أبتعد عن حافة المياه، فقد افترض جدلا أنني أتمتع بحس كاف يجعلني لا أسقط في المياه. لم أسأله إلى أي مدى سنبتعد، أو ما إذا كان لمجموعة المصائد نهاية ما. بعد برهة كانت هناك شجيرات من خلفنا، واقتربت الظهيرة من نهايتها. لم يطرأ على ذهني، إلا بعد فترة طويلة من ذلك ، أنها الشجيرات نفسها التي يمكن رؤيتها من فناء منزلنا، برزت من بينها تلة على شكل مروحة بأشجار جرداء وقت الشتاء، بدت كأغصان صغيرة هزيلة تتجه نحو السماء.
في ذلك المكان الآن نما على ضفة النهر، بدلا من الصفصاف، شجيرات كثيفة بارتفاع يفوق رأسي. مكثت أنا على الطريق، في منتصف المسافة تقريبا أعلى ضفة النهر، فيما نزل أبي إلى النهر. عندما انحنى فوق المصيدة، لم يعد باستطاعتي رؤيته. نظرت حولي ببطء ورأيت شيئا آخر. بعيدا على امتداد ضفة النهر، ظهر رجل يشق طريقه باتجاهنا. كان يتحرك بخفة ولم يصدر أي صوت أثناء مروره من بين الشجيرات، كما لو أنه يتتبع مسارا لم أتمكن من رؤيته. في بادئ الأمر لم أر سوى رأسه والجزء العلوي من جسده. كان أسمر البشرة، بجبهة صلعاء طويلة، وشعر طويل خلف أذنيه، وتجاعيد عمودية غائرة بوجنتيه، وحيثما قلت كثافة الشجيرات استطعت تبين باقي هيئته: ساقيه الطويلتين الرشيقتين، نحافته، ملابسه المموهة باهتة اللون، وما كان يحمله في يده، كان ما يحمله يلمع تحت أشعة الشمس - فأس صغيرة أو بلطة.
لم أتحرك قيد أنملة لأحذر أبي أو أنادي عليه. اجتاز الرجل الطريق الذي كنت أقف عليه ومضى قدما، وهبط باتجاه النهر. يقول الناس إنهم أصيبوا بالشلل من شدة الخوف، لكنني تسمرت في مكاني، وكأن البرق صعقني، وما انتابني لم يكن شعورا بالخوف بقدر ما كان إدراكا. لم أتفاجأ؛ فهذا المنظر الذي لا يفاجئك، الشيء الذي طالما عرفت أنه موجود ويأتي بصورة طبيعية للغاية، يتحرك برفق ورضى وعلى مهل، وكأنه جاء في المقام الأول لأمنية تمنيتها، أو أمل في شيء ختامي ومرعب. طيلة حياتي عرفت أن هناك رجلا مثل هذا الرجل يقبع خلف الأبواب وفي الزوايا في النهاية المظلمة بالردهة؛ لذا أراه الآن وأترقب فحسب، كطفل في صورة سلبية قديمة، مصعوق تحت سماء الظهيرة القاتمة، بشعر متوهج وعينين مرهقتين كعيني آني اليتيمة. تسلل الرجل بين الشجيرات باتجاه أبي، ولم أتوقع قط - أو أملت حتى - في حدوث أي شيء سوى الأسوأ .
لم يعرف أبي بوجوده. عندما اعتدل واقفا، كان الرجل على بعد ثلاثة أقدام منه وحجبه عني. سمعت صوت أبي بعد لحظة، بهدوء وود: «مرحبا جو. حسنا جو. لم أرك منذ مدة طويلة.»
لم ينبس الرجل ببنت شفة، لكنه تحرك ببطء حول أبي ليدقق النظر فيه. قال أبي: «جو! أنت تعرف من أكون، بن جوردن، كنت بالخارج أتفقد المصائد. هناك الكثير من الفئران السمينة في النهر هذا العام يا جو.»
رمق الرجل المصيدة التي وضع أبي بها الطعم بنظرة سريعة مرتابة. «عليك أن تنصب مصائد لنفسك أيضا.»
لم تأت أية إجابة. أمسك الرجل ببلطته وحركها بخفة في الهواء. «لكن الوقت تأخر هذا العام، فقد بدأت مياه النهر في التراجع بالفعل.»
قال الرجل في دهشة كبيرة، وبجهد جهيد، كشخص يتجاوز تلعثمه: «بن جوردن!» «ظننت أنك ستعرفني يا جو.» «لم أعرف قط أنه أنت يا بن، ظننت أنك أحد السيلاسيس.» «أخبرتك مرارا أنه أنا.» «إنهم يأتون إلى هنا طوال الوقت يقطعون أشجاري ويخلعون سياجي. تعلم أنهم أشعلوا بي النيران يا بن؟ كانوا هم من فعلوا ذلك.»
قال أبي: «سمعت بذلك.» «لم أعلم أنه أنت يا بن، لم أعلم أنه أنت. جئت بهذه الفأس، أحملها معي لأرعبهم قليلا. ما كنت سأحملها معي لو علمت أنه أنت. لتأت معي وتر أين أعيش الآن.»
ناداني أبي. «لقد أحضرت طفلتي الصغيرة معي اليوم.» «حسنا، لتأت أنت وهي وتستدفئا قليلا.»
Unknown page