Rahman Wa Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Genres
اختص الإله حوروس في الأعمال الفنية برمز حيواني واحد هو الصقر، بينما تعددت رموز الإله سيت، فمن رموز سيت الحمار، ومنها الأفعى التي تشير إلى سيت في شكل الوحش الكوني آبيب، ومنها الخنزير البري، والعديد من المفترسات المائية مثل التمساح. كما ساد الاعتقاد لدى المصريين بأن قوة الإله المدمرة تحل في بعض الحيوانات الشرسة مثل الكلاب والقطط البرية والنمور وما إليها، وجرت العادة على تقديم القرابين من هذه الحيوانات، وذلك في الأوقات التي تبلغ فيها قوة الإله سيت ذروتها، مثل نهاية الشهر القمري عندما يكون الإله قد ابتلع نور القمر بأكمله، ومثل الانقلاب الشتوي عندما يكون قد ابتلع ما استطاع من نور الشمس وقصر الأيام المضيئة لصالح الليالي المظلمة. في مثل هذه المناسبات، وعند ذبح الحيوانات الممثلة لقوى سيت يخاطبها القائمون على الطقس بقولهم: سوف نعمل على تقطيعكم وتمزيق أعضائكم. بهذه الطريقة انتصر الإله رع على أعدائه جميعهم، بهذه الطريقة انتصر حيرو (= حوروس) الإله العظيم وسيد السماء على أعدائه جميعهم.
حتى الآن، لا يبدو لنا أن ثنائية سيت-حوروس قد اتخذت مضمونا ثنويا، سواء بالمعنى الجذري أم بالمعنى الأخلاقي. ولم يضع الإله سيت بعد قناع الشيطان الكوني كمجسد لمبدأ الشر، بل هو القوة الكونية السالبة معبرا عنها بلغة الرمز الأسطوري، وليس ما يعزى إليه من سلوك «شرير» إلا ضرورة من ضرورات التعبير الميثولوجي، الذي يترجم حركة الظواهر الكونية والطبيعانية إلى إرادات ما ورائية فاعلة في العالم المتبدي. فإذا ما جاز لنا التحدث عن «شر» متعلق بهذه الشخصية الإلهية الكبرى، فإنه «الشر» الطبيعاني المقابل «للخير» الطبيعاني، وكلاهما مجرد من أية قيمة أخلاقية، ويتبع ذلك بالطبع انعدام الصلة بين «خير» و«شر» الإلهين، وبين مسألة الخير والشر على المستوى الاجتماعي. الإله سيت «شرير» ولكنه ليس مبدأ مجردا للشر، وليس صانعا له في التاريخ وفي النفس الإنسانية والمجتمع، والإله حوروس «خير» ولكنه لا يدخل في التاريخ ولا يحض على فضائل الأعمال أو يستن شرعة أخلاقية. فالأخلاق الاجتماعية عند هذه المرحلة من تطور الفكر الديني لدى المجتمعات القديمة، لم تكن (كما أسلفنا سابقا) شأنا دينيا ناجما عن جدلية العلاقة مع عالم الآلهة، بل شأنا دنيويا ناجما عن جدلية الحياة الاجتماعية ومتطلباتها. كما يترتب على غياب الصلة بين الأخلاق والدين فقدان الصلة بين الآخروية
3
والأخلاق، وخصوصا التصورات الآخروية المتعلقة بمصير الروح وحياة ما بعد الموت. فعند هذه المرحلة، لم يكن الخلود الفردي إلا وقفا على الفرعون الذي هو ابن الإله حوروس وممثله على الأرض، كما أن خلود الفرعون نفسه لم يكن رهنا بسلوكه الأخلاقي، بل بسلسلة معقدة من الطقوس والصلوات والتعاويذ السحرية، وبإعداد مقبرة باهظة التكاليف لمرقده الأخير.
على أن هذه القطبية الطبيعانية قد تحولت تدريجيا إلى نوع من الثنوية الأخلاقية، وأخذت فكرة الشيطان الكوني تتضح بشكلها الجنيني مع ارتباط الأخلاق بالدين، وارتباط الآخروية بالأخلاق. ولسوف نتتبع فيما يأتي مسار هذا التحول في تاريخ الديانة المصرية، وبواعثه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، كانت الحضارة المصرية تنسلخ عن العصر النيوليتي وتدخل العصر المديني،
4
مقتفية بذلك أثر حضارة وادي الرافدين الجنوبي، وهي أول حضارة مدينية في تاريخ الإنسان. فخلال هذه الفترة أخذت القرى النيوليتية التي لم تكن تخضع لسلطة مركزية، بالتجمع في وحدات سياسية أكبر، وذلك من أجل تعزيز وسائل الدفاع، والإدارة الأفضل لأمور الزراعة والري والأمن، وكان لكل وحدة من هذه الوحدات ما يشبه العاصمة، كما كان لها حاكمها القبلي وإلهها المحلي، ثم التقت هذه الوحدات السياسية في وحدات أكبر وكونت الأقاليم المصرية الرئيسية المعروفة لنا من الفترات التاريخية، وعددها اثنان وأربعون إقليما، وأخيرا أدت المركزية المتنامية إلى تكوين مملكتين مستقلتين واحدة في الجنوب وهي مملكة مصر العليا وأخرى في الشمال وهي مملكة مصر السفلى.
حوالي عام 3100ق.م. قام ملك مصر العليا المدعو نارمر بضم مصر السفلى بقوة السلاح، مؤسسا بذلك لأول مملكة كبرى موحدة في تاريخ وادي النيل وفي تاريخ البشرية طرا. فلقد سبقت مملكة مصر الموحدة مملكة وادي الرافدين الموحدة بحوالي ثمانية قرون، وكانت بمثابة النموذج الأسبق والأول لكل الممالك الكبرى اللاحقة. نقل نارمر عاصمته من مدينة زيس بمصر العليا إلى مدينة ممفيس بمصر السفلى، التي تقع إلى الجنوب من موقع القاهرة الحالي بحوالي مائة كيلومتر، ومن هناك عمل هو وخلفاؤه من ملوك الأسرة الأولى على تكوين ملامح البنية السياسية الجديدة لوادي النيل، وهي البنية التي احتوت وطورت البنى القبلية السابقة، وصهرتها تدريجيا في مجتمع مدني موحد. يدعو المؤرخون هذه الفترة التأسيسية بعصر الأسرات الأولى، وقد امتد هذا العصر من عام 3100 إلى حوالي عام 2700ق.م. وحكمت خلاله أسرتان من الملوك حكما استبداديا مطلقا، يقوم على مفهوم الحق الإلهي، فقد كان الملك تجسيدا للإله الأعلى حوروس وتجليا بشريا للصقر السماوي، وكان الملك يدعى أيضا بالاسم حوروس خلال حياته، ثم يسلم الاسم لولي عهده عند مماته.
كانت الكتابة الهيروغليفية في مرحلة تجاربها الأولى خلال هذا العصر، ونحن لا نملك نصوصا كافية تساعدنا على رسم صورة واضحة للحياة والمعتقدات الدينية من تلك الفترة، ولذا فإننا مضطرون إلى الاعتماد على النصوص اللاحقة التي تحتوي في بعضها على إشارات واضحة إلى المعتقدات والطقوس السالفة، وإلى الاعتماد على مكتشفات علم الآثار في المدافن العائدة لملوك ذلك العصر ونبلائه وعامته. ولعل أول ما يواجهنا في بحثنا هذا، هو سيادة معتقد ديني عميق التأثير في المجتمع المصري منذ عصر ما قبل الأسرات، يتعلق بحياة ما بعد الموت وبأن تلك الحياة تشبه إلى حد بعيد الحياة الأولى. فلقد احتوت قبور المصريين في المستويات الآثارية العائدة إلى الألف الرابع قبل الميلاد، سواء في الجنوب أو في الشمال، على هدايا جنائزية تتضمن أدوات ووسائل زينة وطعام، وما إليها.
Unknown page