أويت إلى مخدعي يائسا، وكانت الساعة في عز الظهر، ونمت لأرى في حلمي تلك الذبابة نفسها التي كنت تعقبتها على زجاج النافذة عندما نفثت الطائرة بدخان التطهير، وهو دخان قيل: إنه دخان يبيد الذباب، ولكن الذبابة التي أعنيها صمدت للمبيد، وانتعشت بعد فترة وجيزة من أثر الغاز المميت، غير أن ذبابتي لم تكن في الحلم سائرة على لوح من زجاج، بل رأيتها - هي هي بعينها وقرنيها وسيقانها - تهبط على طبق فيه طعام، وتحلق حوله الطاعمون، فثار الجدل بينهم ماذا يصنعون بالذبابة الساقطة، أو بالطعام؟ فأفتى أحدهم بأن تغمس الذبابة في الطعام ثم تنتزع منه؛ لأن للذبابة جانبا فيه الداء، وجانبا آخر فيه الدواء!
وصحوت بعد تلك الغفوة الخفيفة وما رأيته فيها، وما هو إلا أن أخذتني دهشة الجزع، إذ تذكرت أن هذا الذي حلمت به إنما هو ترديد لعدة مقالات قرأتها في صحفنا عن موضوع الذبابة تسقط في الطعام، فماذا يكون من أمرها أو لا يكون؟ كأنه موضوع يحتمل الأخذ والرد والدفاع والهجوم! ومتى قرأت تلك المقالات؟ متى؟ منذ ألف عام؟ منذ مائة عام؟ منذ عام واحد؟ لا والله، بل منذ أسبوعين، وهذه هي ثقافتنا بعد كل ما صنعه محمد عبده، ولطفي السيد، والعقاد، وطه حسين! وأعجب منه أن يكون هذا نموذجا من ثقافتنا اليوم: أن تراهم يدرجونه في مقولة الإيمان.
الفصل السادس
نظرية في النقد
1
لي في نقد الأدب والفن موقف واضح مؤسس على مبادئ نظرية، ولعله بدأ معي عائما غائما ثم أخذ على مر السنين يتبلور حتى أصبح محدد المعالم - في رأيي على الأقل - ولست أعرف ما عسى أن يكون بينه وبين النظريات النقدية الأخرى من أوجه شبه وأوجه اختلاف؛ لأنني - في هذا الميدان - لست ذلك الباحث الدارس المسئول عن تفصيلات المقارنات بين الفكرة المعينة وأشباهها، بل هو موقف يمكن القول عنه إنه جاء نتيجة طبيعية لميل معين في فطرتي، ولاتجاه اتجهته - بناء على ذلك الميل الفطري - في حياتي الثقافية أخذا وعطاء، وربما كان ذلك الميل هو نفسه الدافع الخفي الذي جذبني جذبا - في ميدان الفلسفة - إلى «التجريبية العلمية» (الوضعية المنطقية)، وبهذا يكون موقفي من نقد الأدب والفن إحدى النتائج التي ترتبت على عقلانية مذهبي في الفلسفة.
والموقف في جملته مرتكز على إطار بسيط ألخصه فيما يلي: ها هو ذا ديوان لشاعر ما أخرجته المطبعة واجتذب رغبة النقاد في معالجته كل على طريقته الخاصة ومن زاويته التي يفضلها على سائر الزوايا، فكم زاوية للنظر يمكن تصورها لهذا الديوان الواحد؟
هنالك (أولا):
تلك الزاوية التي ينظر منها الناقد إلى الديوان المنقود نظرة يحاول بها أن ينفذ ببصره خلال الشعر الذي يقرؤه إلى «نفس» الشاعر الذي أنشأ الديوان؛ ما طبيعتها؟ أهي نفس مرحة متفائلة؟ أم هي مكتئبة متشائمة؟ أم هي كذا أم هي كيت؟ فالناقد في هذه الوقفة يتخذ الشعر «وسيلة» لغاية يهتم بها، وليس الشعر هنا غاية في ذاته بل هو - عند ناقد من هذا الطراز - وسيلة للكشف عن نفسية صاحبه، وبعبارة أجلى وأوضح: المهم عند الناقد هنا هو «علم النفس» لا «الشعر»، ومن أمثلة ذلك وقفة العقاد في كتابه «ابن الرومي» من شعره، فكأنه حين قرأ شعر ابن الرومي فإنما قرأه ليجيب لنفسه عن سؤال كهذا: من هو ابن الرومي؟ وكأن الناقد في مثل هذه الحالة لو عثر على ديوان مجهول الشاعر لما عني به؛ إذ ينعدم «الهدف»؛ لأنه لا شاعر بعينه هناك نريد أن نعرف طبيعته من شعره، وأقصى ما يمكن فعله هو أن نستخرج طبيعة نفسية لشخص مجهول، وقد نسمي هذا الاتجاه في نقد الأدب والفن بالاتجاه «النفسي»، وأستطيع أن أتصور عالم النفس «فرويد» وهو يقرأ مسرحية «أوديب» للشاعر اليوناني سوفوكليز، فيستخرج منها ذلك الطابع النفسي المميز لبطلها أوديب، وهو ارتباطه الجنسي الخبيء بأمه، مما دعا فرويد أن يطلق على مثل تلك «العقدة» النفسية في نظريته العلمية «عقدة أوديب»، أقول: إنني أستطيع أن أتصور فرويد في موقفه ذاك بمثابة ناقد أدبي من الطراز الذي ذكرناه.
وهنالك (ثانيا):
Unknown page