وقال الجراد الخفي: ستبرز أمام أبصارنا أبهاء ذات قباب، وبيوت على السفوح بأسقف من القرميد، وستنشق لنا بحيرة زرقاء مغطاة بالأزهار، وستخترق الوعول المستنقع؛ لكي تعود إلى مأواها.
ثم انظر ... ها هي الغزلان تقفز في الموج، وتتسقط بأذنيها همسات النسيم، ثم أنصت إلى هذه الأغنية العميقة التي تشبه النواقيس الغرقى، والضفادع ذات الظهر التركوازي تظهر في ضوء القمر فوق رعشة الموج.
وعن بعد علا صوت بوق في مكان محاط بجدران صخرية، وطرقات مزدانة بالزهور، وحاول رجل يشد حزاما ذا مفاتيح أن يفتح في رفق الأبواب الحديدية الصامتة، وخطت قدمه فوق الدرجات المخملية، وكنت هناك خالي النفس وسط كتبي كلها، وميلا إلى جواري ساكنة متكئة على الأرفف، وقد توقف لساني كإبرة البندول، وكنت أخشى أن أحركه، وكيف تستطيع ساعة توقفت أن تحدد الزمن وسط الليل، فالإنسان ينظر فيه دون أن يرى، وكان وجه ميلا أبيض كالقماش وباردا، ومددت ذراعي لكي أضيء النور، فاصطدمت يدي بكتفها إلى جواري، بينما امتدت يدها لتتحسس رأسي، وكأنها تبحث عن قبس، وعندما تصبح الألفاظ عبثا تعرف الأيدي كيف تجد الألفاظ والأفكار المناسبة. - وسألت ميلا: لماذا تبكي؟ لماذا؟! - أنا لا أعرف البكاء. - ولكننا نبكي على غير وعي منا كالغرقى فوق جزيرة مظلمة.
ودخل زبون ضعيف البصر يتعثر في خطاه إلى الدكان فأعادنا إلى الواقع، وهو يقول: «عفوا ... هل هنا أحد؟ ... إنني أريد مرجعا حسنا في الفلسفة العامة.» (2) القط
لقد دخل المنزل منذ شهرين في انطلاق وبساطة، وبالرغم من أنها كانت أول مرة يدخل فيها، فقد لاح كأنه يعرف الأماكن، وأنه قد امتلك يوما شيئا في هذا المنزل، بدليل الألفة المتناهية التي كانت تلوح في نظرات عينيه الصفراوين، وثبات خطوته المخملية المنسابة التي أخذ يجوب بها الحجرات وبفروته المخملية، وملكة الملوك نفسها لا يمكن أن يكون لها مثل أقدامه الرقيقة، وخطوه الأرستقراطي الطلق، والمشية العذبة التي يسير بها قطنا الضال.
من أين أتيت أيها القط الأسود كسواد الظلام، واللدن كالبخار المتصاعد من الهوات الداكنة؟ وكيف اخترت مسكننا مأوى؟ وهل كنت عندنا من قبل أثناء غيابنا أو نومنا أو رحلاتنا إلى البحيرات المكسوة بقصب الأعشاب؟ كيف هبطت إلى هنا؟
هل أرسلك أحد لا نعرفه يعنى بنا؟
نياو! هكذا أجاب القط، وقد رفع نظراته المشعة من عينيه القمريتين نحونا واثقا من أنها ستلتقي بنظراتنا، فالله قد منح جميع الكائنات التي خلقها وسيلة للتفاهم، والأعين هدية السماء، وقد خلقت خارج إطار الدم واللحم، وكأن كل عين زهرة تحمل في جوفها فتاتا من نجمة.
ما دمت قد أتيتنا فجأة؛ فأهلا بك يا مينو، انظر إلى هذه الأريكة، سأعطيها لك هدية! وانظر إلى هذه المرآة التي ستتجمد أمامها! وفي هذا الإناء الفخاري المطلي بالميناء، ستجد نبع ماء لفمك الصغير الشبيه بورقة القرنفل الوردية الشاحبة، وسيملؤه لك الأطفال كل يوم بدلوهم البلوري، وها هم الأطفال.
وأجاب القط: مياو مياو!
Unknown page