تردد الصوت في ذهني وأنا أراقب مشدوها: «الآن يبدأ البرنامج.»
للمرة الأولى أرى الدماغ يسكن قليلا، وتبعث منه ومضات أشبه بالصعقات الكهربية عمت سطحه، واختفت معها الحروف الإنجليزية التي كانت تنبعث من بين ثناياه، وعلى الشاشة الغريبة تراصت مئات التكرارات الثنائية العشوائية للرقمين صفر وواحد.
في اللحظة التالية قفزت تلك الكرة النارية للوجود، في لحظة لم تكن، في اللحظة التالية كانت هناك، هكذا بدون مقدمات، نقطة دقيقة مضيئة في الفضاء المظلم، كانت تهتز بتلك الطريقة المنذرة التي تراها قبل انفجار الأشياء في مسلسلات الكرتون.
الغريب أنها كانت تظهر أمامي وخلفي وبجواري وتحتي وفوقي في نفس اللحظة، حيثما التفت أراها أمامي، هذا الشيء ليس مقيدا بحدود المكان، لن أستطيع أن أصف لك هذا مهما استخدمت من حروف اللغة، ما يهم أنها كانت في مكان واحد، وفي كل مكان، في نفس اللحظة، إن كان شيء كهذا قابل للفهم والتصديق.
تردد الصوت في ذهني مجددا: «ثم لحظة الميلاد.»
في اللحظة التالية انفجر الضياء.
موجة ضوئية هائلة انبثقت في المكان، ومعها موجة نارية تناثرت في الفضاء واكتسحت كل شيء حتى تلاشى الظلام دفعة واحدة، ضوء أبيض مبهر لدرجة يصعب وصفها، يبدو أن الألوان شديدة التطرف في هذا المكان، فهي إما ظلام شديد السواد أو ضياء شديد البياض، بدون مراحل وسطى، لحسن الحظ أنني لا أملك جسدا ماديا وإلا دمر هذا الضوء شبكية عيني فورا.
كنت أعرف أنني أشهد عرضا مسرعا لميلاد الكون كما قرأت عنه مرارا، لكنها المرة الأولى التي أرى فيها تلك المعجزة رأي العين ... وجدت نفسي أسبح في ضوء أبيض شفاف وشيء كثيف كالضباب يتراكم في المكان، ثم راح الضباب والضوء يخفان تدريجيا، وبدأت نقاط ضوئية كأنها شهب ضئيلة تتطاير وتتصادم في فضاء المكان بلا هوادة ... سحابة هائلة من الغاز والغبار غطت كل شي، ثم تموجت السحابة كأنما تخللها تيار هواء، وبدأت تتكثف في نقاط بعينها، ظهرت تكتلات صخرية صغيرة بعد ثوان، ثم تفتتت، ثم كرات نارية ضخمة، راحت تتقلص وتنسحق على نفسها بسرعة، ثم تنفجر في مجموعة متسلسلة من الانفجارات الهائلة، ومن الشظايا المتناثرة للانفجارات بدأت الكواكب في الظهور والدوران حول بعضها البعض.
كنت أسبح وسط كل هذا الحطام الكوني مأخوذا، رأيت النجوم تستعر، رأيت الكواكب تولد، ورأيت المجرات تتشكل، ورأيت مجرتنا بشكلها اللولبي المميز الذي رأيته في صور كتاب العلوم في المدرسة، الكتلة النارية الملتهبة التي نسميها شمسنا، وكوكب الأرض يظهر للوجود ككرة نارية ملتهبة ظلت حرارتها تخفت تدريجيا، ثم اختفت النيران وبدأ الكوكب يتغير لتغلب عليه زرقته المميزة.
كانت الثنائيات تتراص بسرعة على الشاشة بجواري، مئات الأسطر العشوائية من الرقمين (01) تتراص بسرعة رهيبة، ومعها صوت الأزيز المنتظم كثلاجة مطبخكم، وجدت نفسي أسبح بسرعة مقتربا من الأرض، لم تكن خارطة اليابسة كما أعرفها، لا توجد قارات، لكنها كتلة واحدة مجتمعة وبعض الجزر المتناثرة يحيطها الماء من كل اتجاه، ثم دوى انفجار ضخم في السماء تصدعت له الأرض، ثم برز القمر من بين الركام ، ومعه سكنت حركة موجات المحيط الهائلة.
Unknown page