Nietzsche Muqaddima Qasira
نيتشه: مقدمة قصيرة جدا
Genres
ويواصل حديثه المروع عن الثرثرة الفارغة الحتمية التي صادفها أسفل الجبل. وكان هذا رد فعل نيتشه المعتاد - وأنا متأكد من ذلك - تجاه البيئة الحضرية المحيطة به. ولكن إقصاء الحياة الإنسانية كلها تقريبا كانت خطوة غريبة بالنسبة إلى المقر غير المؤهل. ويبدو أنه يحاول تجنب ما لمحه بوصفه تضاربا في منظوره بالحديث عن «النسيان وصرف النظر»، تماما مثلما قال في مطلع الكتاب الرابع من «العلم المرح»: «ليكن إنكاري الوحيد هو «صرف النظر».» ولكن ماذا لو كان ما يجب أن تصرف نظرك عنه موجودا في كل مكان لدرجة أنك ستضطر إما أن تعيش في زنزانة أو أن تتخلى عن العالم وتصعد إلى كهفك الجبلي؟ يبين هذا يأسا أشد ضراوة من الاختلاط بالتفاهات وشجبها. وعندما وردت هذه الفكرة في ذهن نيتشه، أو ما يشابهها، قرر بدلا من ذلك أنه بطريقة أو بأخرى سيقر كل شيء ويقبله على علته. ومع ذلك، فلا شيء يسترعي الإعجاب في فلسفة تقوم على إقرارات لا نهائية والتي تبدأ بالحكم على معظم الأشياء بأنها أمور محظور الخوض فيها. هذا ما يدركه زرادشت عندما يقول: إن الاعتراض الأكبر على التكرار الأبدي هو فكرة أن الإنسان الضئيل سوف يتكرر. ويصوغ نيتشه هذا ببصمته الخاصة المحملة بالسخرية اليائسة في كتاب «هذا هو الإنسان»، حيث كتب يقول: «أقر بأن الاعتراض الجوهري على التكرار الأبدي، وهو فكرتي الأساسية في واقع الأمر، يتمثل دائما في أمي وأختي» («هذا هو الإنسان»، «لم أنا على هذا القدر من الحكمة»، 3، أخفت إليزابيث هذه الفقرة ولم تنشر إلا في ستينيات القرن العشرين).
توجد أيضا مشكلة أخرى حول إقرار كل شيء وقبوله على علته. فعلى الرغم من أن نيتشه كانت تجذبه صيغ مثل «حب القدر»، فقد كان أيضا واعيا بفتورها شبه الحتمي. إذ ليس ثمة فارق يسهل رصده بين الإقرار والاستسلام؛ أو بالأصح، يمكن للمرء أن يقول إن وسيلتهما مختلفة ولكن يصعب معرفة نتيجة ذلك على نحو عملي. هل هي مسألة اهتمام في مواجهة اللامبالاة؟ وهل هذا يكفي؟ إن إقرار الحياة وقبولها بكل ثرائها، والذي يتضمن بوجه عام كل فقرها، لا ينطوي - حسبما أرى - على عمل أي شيء محدد بالفعل. وإنما ينطوي في الغالب على تبني موقف يرحب بأي شيء يصادفه ويقبله. ولكن لو كان ما تجده بوفرة هو الضآلة والقذارة الروحية، فسيبدو أنه مطلوب من المقر التدخل وتحسين إيقاع العالم. وهذا هو أساس التهمة في اعتراض أدورنو الذي عبر عنه باقتضاب لنيتشه (أدورنو، 1974: 97-98). كما أن هذا هو ما يعتمل في خلفية صفقة عظيمة تضم نيتشه نفسه، لم يعبر عنها بذكاء في عمل آخر سوى «ما وراء الخير والشر». ويعني هذا أنه مضطر إلى التحرك مرة أخرى، مدفوعا بالتناقض المطروح في أحد الكتب ليتخذ قرارا بشأنه في الكتاب التالي؛ وهي الحركة النمطية التي دفعته من عمل إلى آخر (راجع بيتر هيلر، 1966). ولكن على الرغم من أن كتابه التالي هو الأعظم، فإنه يفشل في تخفيف وطأة الصراع، بسبب صراحة نيتشه العنيدة، بل وفي الواقع يزيد الأمر سوءا، ويترك الكتب التي ألفت في العام السابق (1888) لتتأرجح بين اللعنات غير المسبوقة والتمجيد الجنوني.
الفصل الثامن
مفهوم السادة والعبيد
وضع نيتشه عنوانا فرعيا لكتاب «أصل الأخلاق وفصلها» باسم «مناظرة جدلية»، وفي الصفحة التالية أعلن أنه «تكملة لكتابي السابق، «ما وراء الخير والشر»، تهدف إلى الإضافة والتوضيح.» وهو يتخذ طابعا مختلفا عن أعماله الأخرى، على الأقل من الناحية الظاهرية، من حيث إنه يتكون من ثلاثة مباحث معنونة، ومقسمة إلى أقسام طويلة إلى حد ما في بعض الأحيان. وهو يشبه المقال الأكاديمي، ولكن هدف نيتشه من هذا هو إثارة حفيظتنا. والأفضل النظر إليه بوصفه محاكاة ساخرة للإجراءات الأكاديمية، على الرغم من أنه عمل شديد الجدية، إذا نظرنا إلى محتواه. ويمكن تصنيفه بسهولة بوصفه أكثر النصوص التي ألفها نيتشه تعقيدا، على الأقل فيما يتعلق بالمبحثين الأولين، حيث يعرض تحولات جدلية بمعدل ليس بوسعه إلا أن يمنع المبدع من السقوط في فخ الفوضوية.
جدير بالذكر أن فرويد، بعد أن سمع إدوارد هيتشمان يقرأ مقتبسات من «أصل الأخلاق وفصلها» عام 1908، قال: إن نيتشه «يملك معرفة ثاقبة بذاته أكثر من أي شخص آخر عاش أو سيعيش على الأرض» (جونز، 1955: الجزء الثاني، 385). وبما أن «أصل الأخلاق وفصلها» هي محاولة نيتشه الأعمق والأدوم لفهم المعاناة والكيفية التي يحاول بها الآخرون فهمها، فليس من المستغرب أن يتقد حماس فرويد تجاه هذا الإطراء الرائع، وهو الشخص الذي كرس حياته على نحو مختلف جذريا لنفس الهدف. وتعتبر التداخلات المذهلة في «أصل الأخلاق وفصلها»، التي تتجلى أحيانا بتناقض صارخ، هي نتاج تفكير نيتشه الدائم في الأساليب المتنوعة التي ابتدعها الناس للتأقلم مع المعاناة. وبناء عليه (إذا استبقنا أحد أساليبه في التفكير)، يفرض الزاهد نوعا من المعاناة على نفسه لكي يهرب من العديد من الأنواع الأخرى. ولا يمكن الحكم على هذا الأمر في حد ذاته. ولكنه عندما يبدأ في المبحث الثالث، بعنوان «ماذا تعني المثل الزهدية؟» في فحص أنواع الزهد التي يمارسها الفنانون والفلاسفة والقساوسة وأتباعهم، تكثر التقييمات وتتداخل بحيث يوحي تعقيدها بأن نيتشه قد وصل إلى نقطة الدهاء، المتنكر غالبا وراء قوة التعبير البسيطة، التي تثبت أن الظواهر لم تعد قابلة للترتيب المعقول.
ينتقل الكتاب ككل من بساطة التناقضات التي تدفع - من حيث الشكل والمضمون - إلى الشك، إلى انهيار التصنيفات التي تحوم حول الغموض. تدور الفرضية الأولية؛ «الطيب والخبيث»، في المبحث الأول بعنوان «الخير والشر»، حول «النبلاء»؛ أولئك المخول لهم أن يصبحوا مشرعين للقيم بموجب وضعهم، والذين «اعتبروا أنفسهم طيبين وحكموا على أفعالهم بأنها طيبة؛ أي إنها أفعال من الدرجة الأولى، في مقابل كل ما هو منحط ودنيء ومبتذل وسوقي. وهم إنما انتحلوا لأنفسهم هذا الحق في ابتداع القيم وصياغة أسماء لها، من علياء ذاك «الشعور بالفوارق» بينهم وبين الآخرين؛ إذ ماذا كانت تهمهم المنفعة!» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الأول، 2). هنا يوضح نيتشه تماما قوة أخرى تتسم بها عبارة «ما وراء الخير والشر»؛ إذ يقال عنهم الآن: إنهم مندرجون تحت تصنيف العبيد، الذين ينظرون إلى أسيادهم بوصفهم أشرارا، ويحددون «الطيب» بناء على ما ليس فيهم. على النقيض من هذا، يعرف النبلاء الأصليون أنفسهم أولا، ثم ينعتون كل ما يفتقر إلى صفاتهم ب «الخبيث». من الواضح أن نيتشه يرى أن الإجراء الثاني أفضل من الأول، وهو بالضرورة رد فعل ناتج عن الإنكار. وما يعيب هؤلاء النبلاء البدائيين هو أن بساطة تعاملهم مع الحياة تجعلهم مملين. فبما أنهم موفورو الصحة على نحو مفسد للأخلاق، وغير مبالين بالمعاناة، وغير مهتمين بإدانة أولئك الذين يناقضونهم، يصبحون مبتدعي قيم دون أن يتمتعوا بأي من العناصر المطلوبة لجعل التقييمات أمرا يستحق العناء.
في «ما وراء الخير والشر»، شدد نيتشه مرارا وتكرارا على أهمية التقييم اليقظ؛ فالحياة تعتمد عليه. ولكن كيف يحقق فائدته في نفس الوقت بوجود الإقرار غير المقيد الذي يبدو أحيانا أنه القيمة الإيجابية الوحيدة، والذي اقترب منه النبلاء كثيرا من قبل؟ يعود بنا هذا، حسبما يجب أن يحدث، إلى التناقض في «ما وراء الخير والشر». فالحياة من دون ندم أو حنين، على سبيل المثال، تبدو رائعة بطريقة ما. ومع هذا، كيف لا يندم المرء على الوقت المهدر والفرص الضائعة والفشل، علاوة على السعادة التي لا يمكن للمرء الاستمتاع بها مجددا؟ وكيف يمكن للمرء أن يتجنب، خلال هذا الندم، الخوض في الكثير من المقارنات والتناقضات، التي هي أسس التقييم؟ بصفة عامة، يبدو أن بعضا من أكثر كلمات زرادشت ثراء بالمعاني التي تحسم تلك المسألة:
وتقولون لي أيها الأصدقاء: إنه لا جدال في مسائل الذوق والألوان؟ لكن الحياة بأسرها نضال من أجل الأذواق والألوان. وما الذوق إلا الموزون والميزان والوازن، فويل لكل حي يريد أن يعيش دون نضال من أجل الموزونات والموازين والوازنين! «هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الثاني: «عن ذوي المقام الرفيع»
وهكذا، فمن الواضح أن النبلاء، أو «الأسياد» الأصليين، ليسوا بالنسبة إلى نيتشه موضوعا واضحا للإطراء. وبالمثل، فإن «العبيد»، أولئك الحانقين على الأسياد، من المرجح بدرجة أكبر أن يقدموا إجابات مشوقة خلال استفساراتهم المجدة حول مصادر شقائهم. ولكن الإجابات تزداد تشويقا، وأي احتمالية للبساطة البطولية تضيع. وبما أنه لا يوجد سؤال سوى ذلك السؤال المفقود، بلا عودة، فإننا البشر اللاحقين الفاسدين يجب أن نتحلى بالشجاعة الناتجة عن تأخرنا ونواصل الجدال أينما قادنا. ولكي نختصر على نحو صارم موضوعات نيتشه الأكثر شيوعا (إذ من المتعذر محاولة اختصار «أصل الأخلاق وفصلها») نقول: اكتشف العبيد أنهم باتسامهم بقدر أكبر من التهذيب يفوق أسيادهم (وهو عمل غير صعب)، فإنهم يستطيعون ممارسة إرادة القوة بطرق فعالة، وإن كانت حقيرة من منظور النبلاء، بل وحتى إلى درجة إقناع الأسياد بقيمهم الخاصة، في نهاية المطاف. وكان هذا هو الارتقاء الحتمي من اليهود المستعبدين إلى المسيحية، أعظم انقلاب أخلاقي حدث على الإطلاق. وهذا ما يمكن رصده، من بين العديد من الأمور الأخرى، في المبحث الثاني، ««الذنب»، و«الضمير المتعب»، وما شاكلهما.» عندما أدان المسيحيون القيم الدنيوية مثل الكبرياء والرفاهية والرضا تجاه الذات، واستبدلوا بها الاحتشام والتواضع وغيرهما، نجحوا في جعل حكامهم بنفس ضآلتهم. ولكن لكي يحققوا هذا غرسوا قيما احتوت في داخلها على بذور دمار المسيحية نفسها. ويقتبس نيتشه قرب نهاية «أصل الأخلاق وفصلها» إحدى أكثر الفقرات إقناعا والمأخوذة من الكتاب الخامس من «العلم المرح»:
Unknown page