Nietzsche Muqaddima Qasira
نيتشه: مقدمة قصيرة جدا
Genres
اهتم الفلاسفة، لأسباب مختلفة، خلال الثلاثمائة عام الماضية تقريبا بمساندة المبادئ الأخلاقية التي ورثوها، بينما يحاولون في الوقت نفسه العثور على أسس جديدة لها، بما في ذلك الدافع المحدود لإنكار حاجتها إلى أسس. وبناء عليه، فمن المؤسف أن كراهية نيتشه للإنجليز قد قادته إلى مهاجمة جورج إليوت بينما كان يهدف أصلا إلى مهاجمة فكر تلعب هي فيه دورا غير محوري. ويتجلى هذا الهجوم في «أفول الأصنام»، أحد أواخر كتب نيتشه، ولكنه يلخص - مثلما يفعل في كثير من أعماله الشديدة الذكاء والحدة - ما كان يقوله في هذا الشأن على مدار عقد كامل:
لقد تخلصوا من إله المسيح، ويعتقدون أنه ينبغي عليهم الآن أن يظلوا متمسكين بالأخلاق المسيحية. إنه ثبات إنجليزي، ولا نريد أن نلومهم على الأخلاق الأنثوية على المنوال الإليوتي. ففي إنجلترا، على المرء مقابل كل تحرر صغير من اللاهوت أن يعيد الاعتبار إلى نفسه بتبني تعصب أخلاقي مفزع. إنها الكفارة التي تدفع هناك ثمنا لذلك.
أما عندنا، نحن الآخرين، فالأمور تختلف تماما. عندما نتخلى عن الديانة المسيحية يكون علينا أن نتخلى أيضا عن الحق في الأخلاق المسيحية. غير أن هذا الأمر ليس بديهيا على الإطلاق؛ على المرء أن يظل يعيد طرح هذه المسألة إلى النور، رغم أنف الرءوس المسطحة الإنجليزية. إن المسيحية نظام ورؤية كلية ومتكاملة للعالم، وإن انتزعنا فكرة أساسية منها، ونقصد بذلك الإيمان بالله، فإننا نكون قد حطمنا الكل، ولن يكون بين يدينا بعدها شيء ضروري. تفترض المسيحية أن الإنسان لا يعرف، ولا يمكنه أن يعرف ما هو خير بالنسبة إليه وما هو شر؛ إنما هو يؤمن بالله الذي له وحده العلم بذلك. الأخلاق المسيحية فرض، ومنبعها متعال، وهي تقع فوق كل نقد، وفوق كل حق في النقد، ولا تحتوي إلا على الحقيقة، إذا كان الله هو الحقيقة؛ فهي تستقيم وتنهار مع الإيمان بالله.
إذا كان الإنجليز يعتقدون فعلا أنهم يعرفون «بالفطرة» ما هو خير وما هو شر، وإذا كانوا يعتقدون بناء على ذلك أنهم لم يعودوا بحاجة إلى المسيحية كضمان لقيام الأخلاق، فإن هذا في حد ذاته يمثل نتيجة لسيادة الحكم القيمي المسيحي، وتعبيرا واضحا عن قوة هذه السيادة وعمقها، بما يجعل منبع الأخلاق الإنجليزية يتوارى بين طيات النسيان، وبما يجعل الناس لا يشعرون البتة بضرورة ارتباطها الوثيق بمبررات حقها في الوجود. فالأخلاق بالنسبة إلى الإنجليزي ما زالت لا تمثل أية مشكلة بعد. «أفول الأصنام، تسكعات رجل غير موافق للعصر»، 5
إذا استبدلت «الغرب» ب «الإنجليز»، فستجد هذا الجزء كله مفحما. ومع هذا فمن الواضح أن المسيحيين هم تقريبا الوحيدون الذين يتفقون معه ، ثابتين بوضوح على إيمانهم باعتباره «نظاما» (من ناحية ما). والسند الأكثر إثارة للعجب في حجة نيتشه هنا، والأكثر إثارة للإعجاب نظرا لأنه كتب عن جهل واضح به، ظهر في مقال شهير (في الأوساط الفلسفية) قدمته جي إي إم أنسكومب بعنوان «الفلسفة الأخلاقية العصرية» (طومسون ودوركين، 1968). وبنمط كاثوليكي روماني تقليدي، تكتب قائلة:
مفاهيم الالتزام والواجب - وأقصد بذلك الالتزام الأخلاقي والواجب الأخلاقي - وما هو صواب أو خطأ من الناحية الأخلاقية، وما «يجب» عمله أخلاقيا؛ لا بد من هجرها لو أمكن ذلك من الناحية النفسية؛ لأنها باقية، أو مشتقة مما هو باق، من مفهوم أقدم للأخلاق لم يعد موجودا بصفة عامة، ولهذا تعتبر مجحفة من دونه.
طومسون ودوركين، 1968: 186
من الواضح أن مقترحها لم يثبت أنه «ممكن من الناحية النفسية»، مثلما أدركت بلا شك عندما كتبت تلك الكلمات، ولنفس السبب الذي نظر به إلى ادعاءات نيتشه بوصفها «مستحيلة»، وهو أننا لا نملك أدنى فكرة بماذا نستبدل هذه المصطلحات التي «لا بد من هجرها».
ومع مواصلة المرء قراءة مقال أنسكومب، سيندهش مرارا وتكرارا بالنبرة النيتشية لهذه المريدة الغافلة. فمثلا:
إن النظر إلى الأخلاق بوصفها «قانونا» يعني التمسك بما هو ضروري ... ومطلوب من جانب القانون الإلهي ... ليس من الممكن بطبيعة الحال أن تكون لديك هذه الفكرة ما لم تؤمن بالله مشرعا، مثل اليهود والرواقيين والمسيحيين ... الأمر أشبه باستبقاء فكرة «المجرم» على الرغم من إلغاء القانون الجنائي ومحاكم الجنايات ونسيانهما.
Unknown page