وقد جرت معالجة أفكار مشابهة بقدر أكبر كثيرا من التفصيل في بحث رائع كتب على الأرجح في أوائل سبعينيات القرن السابع عشر. ويعرف هذا البحث بالسطر الأول منه، وهو: «عن قوانين وعمليات الطبيعة الجلية في الإنبات»، وهو واحد ضمن مجموعة من أهم كتابات نيوتن عن أي موضوع. وتظهر العديد من الموضوعات والأفكار - مثل التحول، والتكاثف، والطبيعة باعتبارها «عاملا دورانيا» مستديما - مرارا وتكرارا في مواضع مختلفة من عمله. وقد دون نيوتن - تحت عناوين مرقمة فيما يشبه مخططا تمهيديا لأطروحة - أن نفس القوانين التي تحكم نمو النبات تشمل أيضا نمو الفلزات. فعن طريق الفن الخيميائي، يمكن جعل الفلزات تنبت نتيجة لنشاط «روح خاملة» تقبع بداخلها. وكما هو الحال في الفن، تستطيع الطبيعة بهذا الشكل أن تنمو وتزدهر فقط، ولكنها لا تستطيع تكوين «البروتوبلاست» أو أشكال الأشياء الطبيعية، والتي هي من صنع الله.
شكل 5-1: رسم نيوتن لحجر الفلاسفة؛ وهي مادة يمكنها أن تساعد في إجراء عمليات خيميائية مثل تحويل الفلزات غير النبيلة إلى ذهب ، أو تجديد شباب البشر لمنحهم الخلود.
1
كان هناك عدد من مساحات «الاتفاق» بين مملكة الحيوانات ومملكة الفلزات، وكما رأينا، كان إنبات الفلزات في ظروف معملية - في رأي نيوتن - مناظرا للطريقة التي تقوم بها الطبيعة بعملها. والواقع أن كون الفلزات أشياء حية هو ما يجعل لديها قدرة هائلة على التأثير على الحيوانات سلبا أو إيجابا. وكان هذا واضحا من القوة التي يتمتع بها فصل الربيع على التنشيط وتجديد الشباب، وحقيقة أن التغير في كم ونوعية الجسيمات الفلزية في الهواء تخلق «سنوات صحية وأخرى سقيمة»، وكذا في ملاحظة أن الطبقة الأرضية التي تغطي المناجم غالبا ما تكون جرداء. وتستطيع المعادن أن تتحد مع أجسام الحيوانات وتصبح جزءا منها «وهو ما لا تستطيع فعله إن لم يكن لديها عامل إنبات بداخلها».
أيضا زعم نيوتن أن أفعال الطبيعة إما «نباتية» (أو «منوية»)، أو «ميكانيكية» بحتة، كما فيما يطلق عليه الكيمياء «الشائعة». وفي بعض الأحيان، يمكن إحداث تغيرات في ملمس الأشياء عن طريق «عمليات الاندماج أو الانفصال الميكانيكية» لهذه الجزيئات، ولكن غالبا ما يتحقق ذلك بنبل أرفع عن طريق حركة «المواد النباتية الخاملة». والطبيعة نفسها لها طريقة أكثر «حذقا وسرية ونبلا للعمل» من تلك الموجودة في الكيمياء العادية إلى حد بعيد، وذلك النمط من العمليات هو ما يحاول الخيميائيون محاكاته. وكان الأساس و«العوامل المساعدة» لحركاتها النباتية هي «البذور أو الأوعية المنوية» في قلب المادة (المحاطة بغطاء رطب)، والتي أسماها نيوتن «نار»، و«روح»، و«حياة» الطبيعة. وقد شكلت هذه العناصر «جزءا صغيرا بشكل لا يصدق» من المادة، مما عمل على تنشيط ما كان ليصبح مجرد «مزيج من أرض ميتة وماء عديم الطعم». وفي حين أن جسم المادة الأكبر حجما غالبا ما لا يتأثر بالحرارة الشديدة، يمكن القضاء على «فاعلية» البذور أو إفسادها عن طريق الارتفاع أو الانخفاض الشديد في درجة الحرارة. وقد كان الإنبات جزءا محوريا من هذه العملية، يتألف من حركة البذور «الناضجة» على الأجزاء الأقل نضجا من مادة مختلفة ليجعلها ناضجة قدر الإمكان. وفي موضع آخر من المخطوطة، أشار نيوتن إلى الجزء الدقيق من المادة باسم «الروح النباتية»، والتي كانت واحدة في جميع الأشياء باستثناء ما يتعلق بدرجة «امتصاصها» أو نضجها. وحين امتزجت أرواح نباتية مختلفة معا، «شرعت في العمل»، وتحللت، و«امتزجت معا على نحو تام، ومن ثم تبدأ دورة عمل مستديمة إلى أن تصل للحالة الأقل هضما».
عالج البحث كذلك الطرق التي استطاع بها الخيميائيون الاستفادة من الإنبات، عن طريق محاكاة الطبيعة، لإحداث ظواهر غير عادية. وكان من الشروط اللازمة لتفعيل مهمة الخيميائي و«لكي تكتسب المادة المتحللة بأكملها القدرة على توليد شيء منها» وجود مرحلة أولية من الاختزال إلى «فوضى متحللة». فالتحلل «يحول» شيئا ما عن الماهية التي كان عليها، وهو شرط حدوث عملية التوليد والتغذية، على الرغم من أن التحلل الكامل يحدث «عفونة كريهة سوداء». وكما في الطبيعة، فإن ذلك يحدث في ظل حرارة «هادئة»، وعلى مواد رطبة، بينما البرودة أو الحرارة الشديدة من شأنهما أن يدمرا المهمة. وقد كان بإمكان الخيمياء أن تعزز تأثير الطبيعة على أي شيء كان، دون أن يكون المنتج أقل «طبيعية» مما لو كانت الطبيعة قد أنتجته بمفردها: «هل يكون الطفل مصطنعا لأن الأم تناولت عقاقير، أو تكون الشجرة التي تزرع في حديقة وتروى بالماء أقل طبيعية من تلك التي تنمو وحدها في الحقل؟» إن شجرة بلوط عمرها مائة عام يمكن جعلها تتكاثر، كما يمكن جعل المعادن «تتعفن وتتحلل» من خلال «ترتيبها ومزجها كما ينبغي مع الرطوبة المعدنية».
الأكوان المعدنية
ذهب نيوتن إلى أن الفلزات حين تتحول إلى «أدخنة رقيقة ومتطايرة» تستطيع تخلل الماء (أو السوائل الأخرى)، و«التشرب» فيه. وهي تفقد قدرتها الإنباتية في الماء البارد، لتتحول إلى حالة مالحة «ثابتة» ومتجمدة، وتصبح عودتها مرة أخرى إلى فلزات بالغة الصعوبة. فملح البحر، على سبيل المثال، كان مزيجا من أنواع مختلفة من الأدخنة المعدنية التي تماسكت جميعا معا، وكان لهذه «الكتل الملحية» قدرة أكبر على الاتحاد معا وتكوين قنوات بلورية طويلة. وقد لوحظ هذا الميل لدى الأبخرة أو الأدخنة للتجمد عن طريق تقطير مياه الأمطار وتحويلها إلى أجزائها المكونة لها، وكذلك عن طريق ملاحظة ميل الماء إلى الالتحام بالمعادن وتكوين نتوءات على الصخور.
ولعل أكثر عمليات التكاثف «حميمية» هي تلك التي تمت عن طريق مزج «الأبخرة غير المرئية» لأنواع مختلفة من الأدخنة، وهو ما نتج عنه تجمعات صلبة ذات «بنية أكثر ظهورا ورقة»، مثل «النترات»، وهو عنصر أطلق عليه نيوتن «روحا» تكونت نتيجة «تخمر النار والدم ... وجميع أنواع النباتات». وعندما تكثفت، قامت الأجزاء الرطبة التي كونت النترات بتكوين ملح أيضا، ولكن برودة ماء البحر أعاقت هذه الأبخرة الأكثر رقة ومن ثم لم يتواجد فيها نترات. وفي حالته النترية الأكثر رقة، كان الملح يتخمر ويتحلل، ولكن جزيئات الملح الخشن في حد ذاتها كانت «ميتة». غير أن الملح يمكن «حثه» على الإنبات، سواء طبيعيا أم اصطناعيا «عن طريق مواد أخرى في حالة حية ومنبتة». والأملاح القاعدية تحفظ اللحوم وتعمل من خلال جزيئاتها الخشنة، ولكن في ظروف معينة يمكن تنشيط «العنصر الخامل» بها للعمل «بنشاط» على عناصر أخرى. واعتبرت النترات في حالتها تلك، بوجه عام، أقوى المعادن لإثراء الأرض، وكذلك مصدر البارود ومصدر أنقى جزء من الهواء. وأشار نيوتن إلى أنه إذا أمكن دفع الأملاح للتحلل، فمن الممكن أن تكون دواء رائعا.
وباسترجاع نظريته السابقة، وصف نيوتن نظاما دوريا رائعا تطلق فيه الأرض أبخرة مائية وأدخنة معدنية متنوعة إلى أعلى. ومع ارتفاع الهواء يدفع الأثير باستمرار إلى أسفل نحو الأرض، «وهناك يتكثف ويندمج تدريجيا مع الأجسام التي يقابلها، ويعزز حركاتها باعتباره عامل تخمير حساس». ولكونه لزجا ومرنا، فإنه يسقط أجساما أثقل عند نزوله، ولكونه أخف كثيرا من الهواء، فإنه يفعل ذلك بسرعة أكبر كثيرا من سرعة ارتفاع الهواء. ومن ثم، كانت الأرض أشبه بحيوان ضخم أو «نبات عديم الحياة»، يتنفس في الأثير من أجل التجديد اليومي لنشاطه وحيويته. وأردف نيوتن أن العناصر الأرضية تألفت من الأثير ممتزجا بروح أكثر نشاطا، والتي كانت «العامل المساعد الكوني للطبيعة ، ونيرانها الخفية، وعامل تخمرها، وأساس الإنبات». وباعتبار الأثير «الروح المادية لكل المادة»، يمكن تنشيطه بواسطة الحرارة الخفيفة، وربما يكون مؤلفا في حقيقته من الضوء أو من نفس مكوناته. فكلاهما له «أساس نشط مذهل»، وكلاهما كان «عاملا مستديما»، وكل الأشياء تبعث ضوءا حين تتعرض للحرارة. ومثل ضوء الشمس كانت الحرارة أساسية لعملية التوليد، و«ما من مادة تتخلل كل الأشياء بذلك القدر من التلقائية، والبراعة، والسرعة مثل الضوء، وما من روح تتخلل الأجسام بهذا الكم من البراعة، والسرعة، والقوة مثل الروح النباتية». لم يكن علم الكونيات - الذي يتسم بقدر رائع من الثراء - موجها لشيء أقل من الكشف عن عناصر الحياة النشطة، والكون بأكمله. وكان نيوتن يعود لنفس الأفكار مرارا وتكرارا، وإن كان بأشكال مختلفة.
Unknown page