ولكسره يوم معدود، ومقام مشهود، ومجتمع غاص، يحضره العام والخاص. وإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات الخلجان ففاض الماء وساح، وعم الغيطان والبطاح، وانضم الناس إلى أعلى مساكنهم من الضياع والمنازل، وهي على آكام وربى لا ينتهي إليها الماء، ولا يتسلط السيل عليها، فتعود عند ذلك أرض مصر بأسرها بحرا غامرا لما بين جبليها المكتنفين لها. وتثبت على هذه الحال ريثما يبلغ الحد المحدود، في مشيئة الرب المعبود. وأكثر ذلك يحوم حول ثمانية عشر ذراعا، ثم يأخذ عائدا في منصبه، إلى مجرى النيل [ومسربه، فينضب أولا عما كان] من الأرض مشرفا عاليا، ويصير فيما كان منها متطامنا، فيترك كل قرارة كالدرهم، ويغادر كل تلعة كالبرد المسهم، وفي هذا الوقت من السنة تكون أرض مصر أحسن شيئا منظرا، ولا سيما متنزهاتها المشهورة، ودياراتها المطروقة، كالجزيرة، وبركة الحبش وما جرى مجراها من المواضع التي يطرقها أهل الخلاعة، وينتابها ذوو الأدب والطرب. واتفق أن خرجنا في مثل هذا الزمان إلى بركة الحبش، فافترشنا من زهرها أحسن بساط، واستظللنا من دوحها بأوفى رواق، وطلعت علينا من زجاجات الأقداح شموس في خلع البدور، ونجوم بالصفاء تنور، إلى أن جرى ذهب الأصيل على لجين الماء، ونشبت نار الشفق بفحمة الظلماء، فقال في ذلك بعضنا لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش
قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نسجها على فرش
ونحن في روضة مفوفة ... دبج بالنور عطفها ووشى
فعاطني الراح، إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش
وسقني بالكبار مترعة ... فهن أروى لشدة العطش
فأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الصبا فلم يطش
وقال أيضا:
علل فؤادك باللذات والطرب ... وباكر الراح بالنايات والنخب
أما ترى البركة الغناء لابسة ... وشيا من النور حاكته يد السحب
وأصبحت في جديد النبت في حلل ... قد أبرز القطر منها كل محتجب
من سوسن شرق بالطل محجره ... وأقحوان شهى الظلم والشنب
وانظر إلى الورد يحكى خد محتشم ... من نرجس ظل يبدي لحظ مرتقب
والياسمين وقد أربى على درر ... والراح من درر تطفو على ذهب
كم مرة قد شفينا فيه غلتنا ... بجاحم من فم الإبريق ملتهب
شمس من الراح حيانا بها قمر ... موف على غصن يهتز في كثب
أرخى ذوائبه، وانهز منعطفا ... كصعدة الرمح، في مسودة العذب
فاطرب ودونكها فاشرب فقد نغبت ... على التصابي دواعي اللهو والطرب
ومما يتعلق بوصف النيل من أبيات له كتبها إلى الأفضل ليلة المهرجان:
Page 21