فأرسلت لها على الفور: آسفة، أعتذر منك مجددا على تطفلي، لكنني أحبك حقا وأحترمك جدا. - وهل محبتك لي تبرر لك النبش في ماض يخصني؟ - أنا لم أنبش، لقد وجدت نفسي متورطة بكما من غير إرادة مني. - ماذا تقصدين؟ من حكى لك ؟
بدأ قلبي يخفق بشدة، لقد اقتربت جدا من قول الحقيقة لها، علي أن أختار كلماتي بعناية، كتبت: إنه الشخص نفسه الذي ظل ينتظرك كل يوم أمام مفترق الطرق المؤدي إلى بيتكم في حي بستان القصر، ثم أخذ ينتظرك كل شهر، ثم كل عام في الثالث عشر من آب. إنه الشخص نفسه الذي يعيش وحيدا إلى الآن على أمل اللقاء بك، إنه «نوار» سيدة رندة «نوار».
نظرت جيدا إلى الرسالة، تعمدت أن أكتب اسمه «نوار» وليس «نور»، عدلتها قليلا ثم ضغطت زر الإرسال، وانتظرت، وطال انتظاري، إنها لا تزال متصلة لكنها لا تكتب، ثم ظهر لي أنها تكتب، حبست أنفاسي، وجاءت رسالتها: احكي لي كل شيء.
7 - هل أنت جاد يا سعيد؟ ماذا تعني بقولك هذا؟ - أنا متفاجئ مثلك تماما، لكن صدقيني ما باليد حيلة. - كيف؟ ألم ترهم عقد الزواج ودفتر العائلة؟ - بلى، فعلت، لكن الأمور باتت معقدة جدا. - ماذا تقصد؟ - لا أدري، ربما قبل عام كانت أمور الاستقدام أفضل. - وما الجديد؟ - لم يعد منح الإقامات أمرا سهلا كما كان سابقا. - لكنني زوجتك. - أعرف، حتى لم الشمل توقف منذ مدة، ابن خالتي هنا أيضا لقد مضى له عام تقريبا وزوجته وأولاده في حلب، لا هو يتمكن من العودة إليهم، ولا هم قادرون على اللحاق به. تصوري لقد ولد له بنت لم يتمكن حتى الآن من رؤيتها. - وما الحل إذن؟ - ما علينا سوى الانتظار. - الانتظار مجددا؟ وانتظار ماذا؟ وهل سيتغير شيء؟ - لست أدري. - لكنني ... - ماذا سلمى؟ - اشتقت إليك ...!
8
المفاجأة صارت مفاجأتين، والفرحة فرحتين، هذه هي المرة الأولى التي أراها فيها، كانت تنتظرني في ساحة النجمة. ارتبكت أول الأمر، لم أدر إن كانت هي على الحقيقة؛ فالسيدة تلك الواقفة على بعد أمتار مني محجبة، ورندة التي أعرفها ليست كذلك. اقتربت أكثر أتفحص ملامحها، قالت: «سما؟» ضحكت ومددت يدي أصافحها، نعم، إنها هي، قلت: أنا فرحة جدا برؤيتك، أشعر أن حلمي يتحقق ، هل أنت رندة الجميلة حقا؟ - هههه، راح الجمال، وبقيت رندة، وأنا ممتنة لك جدا. - أنت جميلة على الدوام.
جلسنا في أحد المقاهي هناك، وتحدثنا طويلا، أخبرتني عن قرارها بالحجاب، ومحبتها الكبيرة له، قالت: «في اللحظة التي ارتديته شعرت أنه جزء مني، وأنه كان ينتظرني منذ زمن، أحمد الله الذي أهداني إياه.» كان وجهها مشرقا بالفرح، وهي بين فترة وأخرى تمسك بيدي وتضغط عليها، شعرت بارتباكها، فقلت لها: متى تنوين السفر؟ - لا أعرف سما، أشعر بقلق العودة. - هل ذلك بسبب الحرب؟ أم بسبب جدو نور؟ - ليس هذا وحسب، إنما أخاف من صدمتي لرؤية حلب التي أحبها قد تغيرت، لقد عشت فيها تسع سنوات. - معك حق فحلب لم تعد كما كانت، كل شيء تغير، قلوب الناس ووجوههم، في عيونهم مزيج رهيب من خوف وقلق ووجع، الأطفال أكثر من يحيرني، لم أعد أرى أطفالا، إنما أرواحا هرمة في أجساد صغيرة! - مؤسف جدا، أنت أيضا تتكلمين كشخص في الستين من عمره. - هههه، أرجو ألا يشمل ذلك شكلي أيضا! آه ليتني أتمكن من السفر معك! كيف سأفوت على نفسي فرصة لقائكما؟ - لا تقلقي، لقد قمت بواجبك وزيادة، لا أعرف كيف أشكرك. - هل تمزحين؟ تشكرينني؟ أنا الآن أعيش حلمي، تعرفت أخيرا إليك وأرجو أن يكتمل الحلم بجمعكما معا. دعيني أسافر معك غدا وهكذا أرحل قبل وصول شادي، سأخبره لاحقا وسيفهمني بالتأكيد. - أنت فتاة مجنونة، لا يمكنني أن أقبل إطلاقا. - أرجوك سيدة رندة. - هذا موضوع غير قابل للنقاش، ثم إنني لست صغيرة لأحتاج مرافقا، فلا تقلقي.
ثم نظرت إلى ساعتها وقالت: هل لك أن تعذريني سما، علي أن أقوم حتى لا تفوتني صلاة العصر. - نعم بالتأكيد، لكن هل لي أن أسألك سؤالا؟ - بالطبع، تفضلي. - هل تحافظين هكذا على الصلاة في كل الأوقات؟ وفي أي مكان؟ - نعم أحاول دائما. - أنا لا أصلي إلا نادرا، ليس تهاونا أو نسيانا. - وإنما؟ - وإنما لأنني أشعر أن صلاتي نفاق وكذب ولا فائدة منها. - كيف ذلك؟ - دائما يقولون لنا إن الصلاة صلة العبد بربه، أنا لا أشعر بهذه الصلة؛ ففي لحظة دخولي في الصلاة تأخذني الأفكار من كل جانب، البيت والأحداث والأصدقاء وكل شيء عدا الصلاة، ما هذا الكذب؟ - أنت لديك أخت صغيرة. صحيح؟ - نعم، فاطمة. - طيب، ماذا تفعل فاطمة إذا طلبت منك شيئا ولم تحصل عليه؟ - يا إلهي! إنها لا تمل أبدا، تكرر الطلب وتحاول بمختلف طرق الاستعطاف والترجي والوساطات والمفاوضات حتى أنفذ لها ما تريده. - هكذا افعلي أمام بابه! يكفي أنك تحاولين.
التقيت برندة مرات عدة في بيروت، كانت أحاديثنا مزيجا من ذكريات ودموع وضحك، لم أخبرها بالطبع عن العقد السماوي، سأترك ذلك لجدو. ومثلما تخيلتها تماما، فهي سيدة قوية واضحة مهذبة، وعلى الرغم من التجاعيد الرفيعة التي تظهر حول فمها حين تضحك، فإنها جميلة وأنيقة بحجابها الجديد الذي قالت لي عنه إنه نعمة.
سألتها مرة عن بحثها عن الحقيقة الذي كانت قد بدأته أيام برلين، أريد أن أستعين بها، وأستوحي منها في علاقتي بالله، وأن أكتشف أسطورتي الشخصية كما قرأت في «الخيميائي»، قالت: لقد استهلك مني ذلك عمرا بأكمله. - وإلى ماذا توصلت؟ - لم أصل إلى الآن. - حقا؟! - لقد حاورت كثيرين من مختلف الاعتقادات الدينية واللادينية، وأجريت أبحاثا كثيرة، وتوصلت إلى حقيقة أن كل واحد منهم ينسب الحقيقة إلى نفسه، ويحارب من يخالفه. - وأيهم كان يملكها؟ - هذا هو السؤال الذي كان يشغلني طوال تلك المدة. - طيب؟ - ثم اكتشفت أن هذا السؤال بالتحديد هو أكبر مغالطة، وأنه يضيعني بدل أن يرشدني. - كيف ذلك؟ - أي طريق سلكت للوصول إلى بيروت؟ الطريق المعتاد نفسه قبل الحرب؟ - بالطبع لا، سلكنا طريقا أطول وأصعب. - وهل وصلت إلى بيروت؟ - ... - أرأيت؟ الطرق كثيرة، يطول بعضها ويقصر بعضها الآخر، يسهل أو يصعب، وتتقاطع كثير منها في بعض النقاط، وتفترق في أخرى، والمهم هو الوصول. - لكن بعضهم لا يصل. - صدقت؛ فبعض الطرق تتوه بسالكيها، إما بسبب كثرة تعرجات الطريق، أو فقدان البوصلة، أو ضياع المرشد، أو تطرف السالك واعتداده بنفسه. - والمهم الوصول. - تماما، والأجمل أن تحملي دائما خارطتك في قلبك ، فلا يكون اعتمادك إلا عليها.
Unknown page