Nashat Huquq Insan
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
Genres
الحربان العالميتان والبحث عن حلول جديدة
حتى فيما استهل البلاشفة تأسيس الحكم الديكتاتوري للبروليتاريا في روسيا، كانت الأعداد الفلكية للقتلى الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى تحث قادة ما سمي بعد ذلك بوقت قصير «الحلفاء» المنتصرين على التوصل إلى آلية جديدة لضمان السلام، وعندما وقع البلاشفة معاهدة سلام مع الألمان في مارس عام 1918، كانت روسيا قد فقدت قرابة مليوني شخص. وبحلول وقت انتهاء الحرب على الجبهة الغربية في نوفمبر عام 1918، كان أربعة عشر مليون شخص قد لقوا مصرعهم، معظمهم من الجنود. وانتهى الحال بثلاثة أرباع الرجال الذين حشدوا للقتال في روسيا وفرنسا ما بين قتيل وجريح. وفي عام 1919، أنشأ الدبلوماسيون الذين حرروا اتفاقيات السلام ما يسمى «عصبة الأمم» من أجل حفظ السلام، ومراقبة نزع الأسلحة، والتحكيم في النزاعات بين الأمم، وكفالة حقوق الأقليات القومية والمرأة والطفل. وأخفقت عصبة الأمم في مهمتها على الرغم من الجهود النبيلة المبذولة. رفض مجلس الشيوخ الأمريكي إقرار المشاركة الأمريكية؛ وحرمت كل من ألمانيا وروسيا العضوية من الأصل؛ وفيما كانت العصبة تعزز حق تقرير المصير القومي في أوروبا، فإنها أشرفت على إدارة المستعمرات الألمانية السابقة والأقاليم التابعة للإمبراطورية العثمانية البائدة من خلال نظام «الانتداب» الذي برر مرة أخرى بالتقدم الأوروبي على الشعوب الأخرى. وعلاوة على ذلك، عجزت عصبة الأمم عن إيقاف الصعود المستمر للفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا، ومن ثم لم تتمكن من الحيلولة دون اندلاع الحرب العالمية الثانية.
سجلت الحرب العالمية الثانية رقما قياسيا في الوحشية بعدد قتلى يصعب تصوره وصل إلى ستين مليون قتيل. وعلاوة على ذلك فإن أغلبية الذين قتلوا هذه المرة من المدنيين، ومنهم ستة ملايين يهودي لم يقتلوا لأي سبب سوى أنهم يهود، وخلفت الفوضى ملايين اللاجئين في نهاية الحرب، كثيرون منهم بالكاد يستطيعون أن يتطلعوا إلى المستقبل ويأملوا في العيش في مخيمات «اللاجئين»، إلا أن آخرين أجبروا على الهجرة لأسباب عرقية (على سبيل المثال، طرد مليونان ونصف المليون ألماني من تشيكوسلوفاكيا عام 1946)، واستهدفت جميع القوى المشاركة في الحرب المدنيين في وقت أو آخر، إلا أنه مع انتهاء الحرب، فزع العامة لدى الكشف عن حجم الفظائع التي ارتكبها الألمان عمدا؛ فقد كشفت الصور التي التقطت عند تحرير معسكرات الموت النازية عن الأهوال المروعة التي ترتبت على معاداة السامية، والتي سوغتها المناداة بالسيادة العرقية للجنس الآري والتطهير القومي. لم يقتصر دور محاكمات نورمبرج في عامي 1945-1946 على لفت أنظار جمهور عريض من الناس إلى مثل هذه الأعمال الوحشية ، لكنها أرست أيضا حادثة غير مسبوقة، هي أن الحكام، ورجال الدولة، والعسكريين، يمكن أن يعاقبوا على ارتكابهم جرائم «ضد الإنسانية».
وحتى قبل أن تنتهي الحرب، عزم الحلفاء - لا سيما الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا العظمى - على تحسين أداء «عصبة الأمم»، وعليه وضعوا في مؤتمر عقد في سان فرانسيسكو في ربيع عام 1945 الهيكل الأساسي لهيئة دولية جديدة هي «الأمم المتحدة»، على أن يكون لهذه الهيئة «مجلس أمن» تهيمن عليه القوى العظمى، و«جمعية عامة» تضم مندوبين من كافة الدول الأعضاء، و«أمانة عامة» يرأسها أمين يقوم بدور الموظف التنفيذي. أسفر المؤتمر أيضا عن إنشاء «محكمة العدل الدولية» في لاهاي بهولندا؛ كي تحل محل محكمة مشابهة كانت قد أسستها عصبة الأمم في عام 1921، ووقعت إحدى وخمسون دولة ميثاق الأمم المتحدة بصفتها الدول المؤسسة في السادس والعشرين من يونيو عام 1945.
وعلى الرغم من الأدلة الدامغة المكتشفة على الجرائم النازية ضد اليهود، والغجر، والسلافيين، وغيرهم، فإنه كانت هناك حاجة لدفع وتحفيز الدبلوماسيين المجتمعين في سان فرانسيسكو كي يضعوا مسألة حقوق الإنسان ضمن بنود جدول الأعمال. في عام 1944، كانت كل من بريطانيا العظمى والاتحاد السوفييتي قد رفضتا اقتراحات تضمين حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة. أما بريطانيا فقد خشيت التشجيع الذي قد يقدمه هذا الإجراء لحركات الاستقلال في مستعمراتها، وأما الاتحاد السوفييتي فلم يرغب في أي تدخل في نطاق تأثيره الآخذ في الاتساع في ذلك الوقت. وبالإضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة عارضت في البداية اقتراحا تقدمت به الصين بأن يتضمن الميثاق بيانا ينص على المساواة بين جميع الأعراق.
جاء الضغط من اتجاهين مختلفين؛ إذ حثت العديد من البلدان صغيرة ومتوسطة الحجم في أمريكا اللاتينية وآسيا على منح المزيد من الاهتمام لحقوق الإنسان، ويرجع هذا جزئيا إلى أنهم استاءوا من الهيمنة الاستبدادية للقوى العظمى على وقائع الجلسات. وعلاوة على ذلك، فقد ضغط عدد غفير من المنظمات الدينية والعمالية والنسائية والمدنية - معظمها كائن في الولايات المتحدة - على مفوضي المؤتمر مباشرة، وساعدت التماسات عاجلة رفعها مندوبو «اللجنة اليهودية الأمريكية»، و«اللجنة المشتركة للحرية الدينية»، و«ملتقى المنظمات الصناعية»، و«الجمعية الوطنية لتحسين حال الملونين»، في تغيير المسئولين بوزارة الخارجية الأمريكية رأيهم، فوافقوا على تضمين حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة، ووافق أيضا كل من الاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى لما ضمن الميثاق عدم تدخل الأمم المتحدة مطلقا في الشئون الداخلية لأي بلد.
24
كان الالتزام بحقوق الإنسان لا يزال غير مضمون على الإطلاق؛ فقد شدد ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 على قضايا الأمن العالمي، ولم يخصص سوى بضعة أسطر ل «الاحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين». غير أن الميثاق أسس «لجنة حقوق الإنسان» التي قررت أن تكون أولى مهامها صياغة ميثاق لحقوق الإنسان. لعبت إلينور رزوفلت، بوصفها رئيس اللجنة، دورا محوريا في صياغة الإعلان، ثم رعايته حتى إتمام العملية المعقدة المتمثلة في الحصول على موافقة الدول الأعضاء عليه. أعد جون هامفري، أستاذ القانون بجامعة ماكجيل بكندا، والبالغ من العمر أربعين عاما، المسودة الأولية للإعلان، وكان لا بد بعدئذ من أن يراجعها كافة أعضاء اللجنة، ثم تمرر إلى كافة الدول الأعضاء، وعندئذ يراجعها المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وفي حال الموافقة عليها ترسل إلى الجمعية العامة؛ حيث لا بد أن تنظرها أولا اللجنة الثالثة للشئون الاجتماعية والإنسانية والثقافية. وكان للجنة الثالثة مفوضون من كافة الدول الأعضاء، وفيما طرحت المسودة للنقاش اقترح الاتحاد السوفييتي إدخال تعديلات على جميع مواد الإعلان تقريبا. وبعد انعقاد ثلاثة وثمانين اجتماعا (للجنة الثالثة وحدها)، وإدخال قرابة مائة وسبعين تعديلا فيما بعد، اعتمدت المسودة للتصويت عليها. وأخيرا في العاشر من ديسمبر عام 1948، أقرت الجمعية العامة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». صوتت ثمان وأربعون دولة بالموافقة، وامتنعت ثماني دول تابعة للكتلة السوفييتية عن التصويت، ولم تعارض أي دولة.
25
وعلى غرار إعلاني القرن الثامن عشر السابقين لإعلان الأمم المتحدة، أوضح الإعلان العالمي في الديباجة الأسباب التي جعلت إصدار مثل هذه الوثيقة الرسمية ضرورة ملحة . أكد الإعلان أن: «تجاهل حقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى أعمال أثارت بربريتها الضمير الإنساني.» وكان الاختلاف الطفيف في لغة هذا الإعلان عن لغة الإعلان الفرنسي الأصلي لعام 1789 معبرا وذا دلالة؛ ففي عام 1789، أكد الإعلان الفرنسي أن: «الجهل والإهمال وعدم احترام حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات.» ولم يعد «الجهل» ولا حتى «الإهمال» البسيط واردا؛ فبحلول عام 1948، كان من المفترض أن الناس جميعا يعرفون ما الذي تعنيه حقوق الإنسان. وعلاوة على ذلك، فإن التعبير الذي استخدم عام 1789، «شقاء المجتمع»، لا يعبر بأي حال عن هول الأحداث التي وقعت مؤخرا. إن التجاهل المتعمد لحقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى أعمال يكاد لا يمكن لإنسان أن يتخيل وحشيتها.
Unknown page