Nashat Huquq Insan
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
Genres
33
لكم كانت الحملات المناهضة للتعذيب والعقوبات القاسية ناجحة، حتى إن اللجنة قدمت جزءا مختصا بالعقوبات قبل الجزء المختص بتعريف الجرائم في قانون العقوبات. تعاني كافة المجتمعات من الجريمة، لكن العقاب يعكس طبيعة الكيان السياسي في الدولة. واقترحت اللجنة عمل إصلاح شامل لنظام العقوبات بغية تجسيد القيم المدنية الجديدة: باسم المساواة، يحاكم كل فرد في نفس المحاكم بموجب نفس القانون ويحتمل أن يتلقى نفس العقوبات. ولسوف يكون الحرمان من الحرية هو العقاب الرئيسي، بمعنى أن يحل السجن والأشغال الشاقة محل الإرسال إلى البحر للتجديف في السفن والنفي. فالمواطنون لن يعرفوا شيئا عن مغزى العقاب إذا أرسل المجرم بكل بساطة إلى مكان آخر بعيدا عن المشهد العام. بل إن اللجنة أيدت إلغاء عقوبة الإعدام، باستثناء في حالة التمرد على الدولة، لكنها أدركت أنها سوف تجابه المقاومة في هذه النقطة. وصوت النواب من أجل إرجاع عقوبة الإعدام لعدد محدود من الجرائم، مع أنهم استبعدوا كافة الجرائم الدينية مثل الهرطقة، وانتهاك حرمة المقدسات، ومزاولة السحر، (أما اللواط الذي كان عقوبته الإعدام فيما مضى، فلم يعد مدرجا بوصفه جريمة.) ولسوف تنفذ عقوبة الإعدام عن طريق قطع الرأس فحسب، وهي الطريقة التي اقتصرت على النبلاء وحدهم فيما مضى. وبدأ العمل باستخدام المقصلة التي اخترعت لجعل قطع الرأس بلا ألم قدر المستطاع في أبريل من عام 1792. أما الكسر على عجلة السحق، والحرق بالشد إلى الخازوق، «هذان الشكلان من أشكال التعذيب اللذان لازما عقوبة الإعدام»، فكان لا بد أن ينتهيا؛ فكما أكد لبلتييه فإن: «الإنسانية والرأي العام تمقت كافة أشكال الرعب القانونية هذه. فهذه المناظر الوحشية تحط من الأخلاقيات العامة، ولا تليق بقرن من الزمان يتسم بالإنسانية والتنوير.»
34
ولما غدت إعادة التأهيل وإدخال المجرم إلى المجتمع من جديد الهدفين الرئيسيين، لم يعد التشويه البدني والوصم محتملين. غير أن لبلتييه تردد بعض الوقت في مسألة الوصم؛ فكيف يمكن للمجتمع أن يصون نفسه من المجرمين المدانين دون أي شكل من أشكال العلامات الثابتة التي تشير إلى وضعهم؟ وخلص إلى أنه يستحيل ألا يلاحظ الناس المتشردين أو المجرمين في ظل النظام الجديد؛ لأن مجالس البلدية ستحتفظ بسجلات دقيقة بأسماء كل سكانها. فوصم أجساد المجرمين إلى الأبد سوف يمنعهم من إعادة الاندماج في المجتمع. وإزاء هذه المسألة - كما الحال أيضا في مسألة الألم بصفة عامة - اضطر النواب أن يتحسسوا الخطى؛ فالعقاب كان المقصود به أن يكون رادعا فوريا، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى إحداث التكيف من جديد بداخل المجتمع. ولا ينبغي أن يكون العقاب مهينا إلى درجة تحول دون اندماج المدانين في المجتمع مرة أخرى. وعليه، فيما قضى قانون العقوبات بفضح المدان على الملأ، أحيانا مكبلا بالسلاسل، فقد حدد هذا الفضح بحرص (ثلاثة أيام على الأكثر) حسب شدة الجريمة.
ابتغى النواب أيضا محو الصبغة الدينية؛ فألغوا قانون التوبة الرسمي (الإصلاح الجدير بالاحترام)، الذي بموجبه يذهب المدان، مرتديا قميصا فحسب، ويلتف حبل حول عنقه، ويمسك مصباحا في يده، إلى باب الكنيسة حيث يترجى الغفران من الله، والملك، والعدالة. واقترحت اللجنة بدلا منه عقابا أساسه الحقوق يسمى «التجريد المدني» الذي قد يكون العقاب الوحيد الذي ينزل بالمتهم أو قد يضاف إلى عقوبة السجن. وقد وضع لبلتييه كافة إجراءاته بالتفصيل: يقاد المدان إلى مكان عام محدد، حيث يقرأ موظف المحكمة الجنائية هذه الكلمات بصوت مرتفع: «لقد أدانك بلدك بارتكاب فعل مشين، وعليه يجردك القانون والمحكمة من مرتبتك كمواطن فرنسي.» وعندئذ يطوق عنق المدان حيث يظل مفضوحا أمام العامة لمدة ساعتين، ويكتب اسمه وجريمته وقرار الحكم على لافتة توضع على صدره. غير أن النساء، والأجانب، وأرباب السوابق مثلوا مشكلة؛ فكيف لهم أن يفقدوا حقوقهم في التصويت أو تقلد منصب وهم لا يملكون مثل هذه الحقوق من الأصل؟ تناولت المادة الثانية والثلاثون هذه النقطة بالتحديد: في حال إصدار حكم ب «التجريد المدني» ضد النساء، أو الأجانب، أو أرباب السوابق سيحكم عليهم بالطوق الحديدي لمدة ساعتين، ويرتدون لافتة مشابهة لتلك المحكوم على الرجال بارتدائها، على أن موظف المحكمة لن يقرأ العبارة المتعلقة بالتجريد من المرتبة المدنية.
35
قد يبدو «التجريد المدني» عبارة عن منظومة من الكلمات، على أنه لم يشر فحسب إلى تغيير مسار قانون العقوبات، وإنما أيضا إلى النظام السياسي بصفة عامة. فلما صار المدان الآن مواطنا، وليس رعية، لم يعد من الممكن تعريض المدان أو المدانة (كانت النساء مواطنات «مذعنات») للتعذيب، أو العقوبات القاسية غير الضرورية، أو العقوبات المهينة أكثر من اللازم. وعندما قدم لبلتييه إصلاح قانون العقوبات، فرق بين نوعين من العقوبات: عقوبات بدنية (السجن والإعدام) وعقوبات مهينة. فمع أن كافة العقوبات تحمل في طياتها عنصري الخزي والإهانة، كما أكد لبلتييه نفسه، فإن النواب أرادوا الحد من استخدام العقوبات المهينة، وقد أبقوا على الفضح على الملأ والطوق الحديدي، لكن أوقفوا قانون التوبة واستخدام فلقة العقاب وعمود التشهير وجر الجثث على نقالة والتوبيخ القضائي، وإعلان أن القضية ضد المتهم مفتوحة إلى أجل غير مسمى (وعليه يتضمن ذلك القرار بالإدانة). قال لبلتييه: «نقترح أن تتبعوا مبدأ [العقوبات المهينة] لكن لا تكثروا من أشكاله، فبتعدد الأشكال تضعف الفكرة النافعة والمروعة في الوقت نفسه القائلة إن المجتمع والقوانين يلعنون الشخص الذي نجس نفسه بالجريمة.» يمكن تطبيق عقوبة إلحاق الخزي بالمجرم باسم المجتمع والقوانين، ولكن ليس باسم الدين والملك.
36
في خطوة أخرى دللت على إصلاح جوهري، قرر النواب أن تطبق العقوبات المهينة على الفرد المجرم فحسب، وليس على أفراد عائلته، ففي ظل الأشكال التقليدية لعقوبات الإهانة، كان أفراد عائلة المدانين يجنون العواقب مباشرة؛ فلم يكن أحد منهم يستطيع أن يشغل وظيفة أو يتقلد المناصب العامة، وكانت تصادر ممتلكاتهم في بعض القضايا، واعتبرهم المجتمع موصومين بالمثل. وفي عام 1784، حاز المحامي الشاب بيير لويس لاكريتل جائزة من أكاديمية ميتز عن مقاله الذي نادى فيه بأنه لا ينبغي أن يمتد خزي العقوبات المهينة إلى أفراد عائلة المجرم. وكانت الجائزة الثانية من نصيب محام شاب ذي مستقبل واعد من مدينة أراس يدعى ماكسميليان روبسبير.
عكس الاهتمام الذي حظت به العقوبات المهينة، تحولا ضئيلا لكن عظيم الأثر في مفهوم الشرف: فمع انتشار فكرة حقوق الإنسان، كان الفهم التقليدي للشرف يتعرض للنقد الشديد. كان الشرف هو أهم سمة شخصية في ظل السلطة الملكية؛ فقد أكد مونتسكيو بالفعل في كتابه «روح القوانين» (1748) على أن الشرف هو العنصر المحرك في نظام الحكم الملكي. اعتبر كثيرون أن الشرف حكر على أبناء الطبقة الأرستقراطية. وكان روبسبير قد أرجع في مقاله الذي يدور حول العقوبات المهينة فعل إلحاق الإهانة بعائلات بكاملها إلى نقائص في فكرة الشرف نفسها:
Unknown page