Nashat Huquq Insan
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
Genres
30
إلغاء التعذيب والعقوبات القاسية
بعد صدور «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» بستة أسابيع، وحتى قبل أن تحدد شروط حق التصويت، ألغى النواب الفرنسيون كافة استخدامات التعذيب القضائي كخطوة على طريق الإصلاح المؤقت للإجراءات الجنائية. وفي العاشر من سبتمبر عام 1789، قدم مجلس مدينة باريس التماسا رسميا إلى الجمعية الوطنية باسم «المنطق والإنسانية» من أجل إصلاحات قضائية فورية من شأنها «إنقاذ الأبرياء»، و«ضمان أفضل لثبوت أدلة الجريمة كي تصبح الإدانة أكثر تأكيدا». يرجع سبب تقديم أعضاء مجلس المدينة لهذا الطلب إلى أن «الحرس القومي» الجديد، المنتشر في باريس تحت قيادة لافاييت، قد ألقى القبض على عدد كبير من الأشخاص خلال أسابيع الاضطرابات التي تلت الرابع عشر من يوليو. هل السرية المعتادة للإجراءات القضائية تعزز التلاعب والاحتيال من جانب أعداء الثورة؟ واستجابة لهذا المطلب كلفت الجمعية الوطنية لجنة مكونة من سبعة أعضاء لصياغة أكثر الإصلاحات إلحاحا، لا من أجل باريس وحدها وإنما من أجل القطر بأكمله. وفي الخامس من أكتوبر، تحت ضغط مسيرة هائلة إلى قصر فرساي، صدق أخيرا الملك لويس السادس عشر تصديقا رسميا على «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، وأجبر المتظاهرون الملك وعائلته على الانتقال من قصر فرساي إلى باريس في السادس من أكتوبر. وفي وسط هذه الاهتياجات المتجددة، وبالتحديد في الثامن والتاسع من نفس الشهر، أجازت الجمعية المرسوم الذي اقترحته لجنتها. وفي الوقت عينه، صوت النواب على الانضمام إلى الملك في باريس.
31
لم يتناول «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» سوى مبادئ عامة للعدالة: الجميع متساوون أمام القانون، لا يجوز السماح بالسجن التعسفي أو تطبيق العقوبات التعسفية بخلاف «العقاب اللازم الضروري»، وينبغي أن يعتبر المتهم بريئا إلى أن تثبت إدانته. بدأ المرسوم الصادر في الثامن والتاسع من أكتوبر عام 1789 باستحضار لروح الإعلان: «لما كانت الجمعية الوطنية تأخذ بعين الاعتبار أن واحدا من الحقوق الأصيلة للإنسان، الذي اعترفت به، هو حق التمتع - عند اتهامه بارتكاب جريمة جنائية - بالحرية والأمان الكاملين في دفاع يتفق مع مصلحة المجتمع الذي يطالب بالعقاب على الجريمة ...» وبعدئذ مضى المرسوم في تحديد الإجراءات، التي وضع معظمها لضمان الشفافية مع العامة. وفي حركة ساعد على ظهورها الارتياب في الهيئة القضائية القائمة، طالب المرسوم بانتخاب مفوضين مخصوصين في كل مقاطعة للمساعدة في كافة القضايا الجنائية، بما في ذلك مراقبة جمع الأدلة والشهادة، مما يكفل إتاحة كافة المعلومات المجمعة للدفاع وعلانية كافة الإجراءات الجنائية، ومن ثم مزاولة واحد من أثمن مبادئ بيكاريا.
كانت أقصر مادة من مواد المرسوم، التي بلغ عددها ثمان وعشرين مادة، المادة الرابعة والعشرين، وهي أكثرها أهمية فيما يتعلق بمناقشتنا هنا، فهي تنص على إلغاء كافة أشكال التعذيب وأيضا استخدام «مقعد الخلع» من أجل الاستجواب النهائي للمتهم أمام قضاته. وكان لويس السادس عشر قد منع من قبل «الاستجواب التحضيري»، وهو استخدام التعذيب لانتزاع الاعتراف بارتكاب الجريمة، غير أنه لم يمنع استخدام «الاستجواب التمهيدي»، أي التعذيب لمعرفة أسماء شركاء الجريمة، منعا باتا وإنما مؤقتا. وقد ألغت حكومة الملك «مقعد الخلع» في مايو عام 1788، لكن لما كان هذا الإجراء حديثا للغاية، شعر النواب بالحاجة إلى توضيح موقفهم. كان مقعد الخلع وسيلة للإذلال ورمزا لنوع من الإهانة للكرامة الإنسانية، حتى إن النواب نظروا إليه في ذلك الحين على أنه غير مقبول. وقد أرجأ النائب المنوط به تقديم المرسوم إلى اللجنة نقاشه لهذه الإجراءات حتى النهاية كي يسلط الضوء على دلالتها الرمزية. وقد أكد لزملائه من البداية أنه: «لا يمكنكم أن تتركوا وصمات القانون الحالية التي تسحق آدمية الإنسان؛ يجب أن تجعلوها تختفي على الفور.» ثم كاد يبكي عندما تناول موضوع التعذيب:
أعتقد أنني أدين للإنسانية بأن أقدم لكم ملاحظة أخيرة؛ لقد حظر الملك بالفعل ... في فرنسا الممارسات الوحشية التي يندى لها الجبين بغية انتزاع اعتراف بارتكاب الجريمة، باستخدام وسائل التعذيب ... غير أنه ترك لكم شرف إتمام هذا العمل العقلاني العادل العظيم. غير أن قانوننا لا يزال يتضمن التعذيب التمهيدي ... [أقصى درجات الوحشية الخالصة التي يعجز اللسان عن وصفها] الذي لا يزال يستخدم لمعرفة أسماء شركاء الجريمة. إذا ثبتم أنظاركم على بقايا هذه البربرية أيها السادة، فستجدون تحريمها ينبع من أفئدتكم. سيكون هذا مشهدا مؤثرا جميلا للكون: أن ترى ملكا وأمة يلتحمان بعرى المحبة المتبادلة التي لا تنفصم، يباري كل منهما حماسة الآخر من أجل الوصول بالقوانين إلى الكمال، ويحاول أن يمتاز كل منهما على الآخر في رفع أنصاب العدالة والحرية والإنسانية.
في أعقاب إعلان الحقوق، ألغي التعذيب أخيرا إلغاء تاما. لم يكن إلغاء التعذيب مدرجا في جدول أعمال حكومة مدينة باريس في العاشر من سبتمبر، غير أن النواب لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم عن اغتنام الفرصة المتاحة أمامهم كي يجعلوا من إلغاء التعذيب تاجا على رأس تعديلهم الأول للقانون الجنائي.
32
وعندما حان الوقت لإتمام تعديل قانون العقوبات بعد مرور أكثر من ثمانية عشر شهرا، أثار النائب المكلف بعرض الإصلاح كافة الأفكار التي باتت مألوفة إبان الحملات المناهضة للتعذيب والعقوبات القاسية. اعتلى المنبر لويس-ميشيل لبلتييه دي سان- فارجو، الذي كان في وقت من الأوقات قاضيا في برلمان باريس، في الثالث والعشرين من مايو عام 1791 كي يعرض أسباب قرارات اللجنة المختصة بالقانون الجنائي (المتابعة لأعمال لجنة السبع التي كونت في سبتمبر عام 1789). ندد ب «أشكال التعذيب الوحشية المفترض وقوعها في القرون البربرية ومع ذلك ظلت مستخدمة في قرون عصر النهضة»، وبانعدام التناسب بين الجرائم والعقوبات (وهو أحد أهم الأمور التي سخط عليها بيكاريا)، وب «ضراوة القوانين السابقة التي يندى لها الجبين» بوجه عام. والآن سوف تشكل «مبادئ الإنسانية» قانون العقوبات، الذي سيستند في المستقبل إلى إعادة التأهيل من خلال العمل وليس العقاب التكفيري من خلال الألم.
Unknown page