Nashat Huquq Insan
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
Genres
2
لما كان التعبد علانية بالمذهب الكالفيني محظورا في فرنسا منذ عام 1685، كان جليا أنه لم يكن من الصعب أن تصدق السلطات أن كالاس قتل ابنه لمنعه من التحول إلى المذهب الكاثوليكي. ففي ليلة من الليال، بعدما التفت العائلة لتناول العشاء، وجدوا مارك-أنطوان يتدلى من العتبة العليا لأحد أبواب مخزن خلفي؛ إنه انتحار واضح، ولتحاشي الفضيحة، ادعوا أنهم عثروا عليه مرميا أرضا وكأنه تعرض للقتل؛ وذلك لأن قانون فرنسا يعاقب على الانتحار؛ فالشخص الذي ينتحر لا يدفن في أرض مقدسة، وإذا ثبتت إدانته في إحدى جلسات الاستماع، تخرج جثته من القبر وتجر في كل أنحاء المدينة ثم تعلق من القدمين ثم تلقى في مقلب النفاية.
استغلت الشرطة نقاط التضارب والاختلاف في أقوال أفراد الأسرة، وقبضت فورا على الأب والأم والأخ، بالإضافة إلى الخادمة وشخص كان في زيارتهم، ووجهت لهم جميعا تهمة القتل، وقضت محكمة محلية بخضوع كل من الأب والأم والأخ للتعذيب؛ بغية انتزاع اعترافات باقتراف الجريمة (فيما يعرف بالاستجواب التمهيدي)، لكن عند الاستئناف نقض برلمان تولوز حكم المحكمة المحلية، إذ رفض استخدام التعذيب قبل ثبوت الإدانة، وأدان الأب فحسب على أمل أن يقر بأسماء الآخرين عندما يخضع للتعذيب قبيل إعدامه مباشرة. أتت الدعاية الحرون التي شنها فولتير حول القضية بثمارها لمصلحة العائلة التي لم تكن قد برئت ساحتها بعد. في بادئ الأمر علق المجلس الملكي الأحكام الصادرة لأسباب فنية طوال عامي 1763 و1764، ثم صوت في عام 1765 من أجل تبرئة ساحة جميع المتورطين في القضية وإعادة الممتلكات المصادرة إلى الأسرة.
أثناء العاصفة التي ثارت حول قضية كالاس، بدأ تركيز فولتير يتحول، وعلى نحو متزايد بدأ نظام العدالة الجنائية نفسه؛ ولا سيما استخدامه للتعذيب والقسوة ، يتعرض للنقد؛ ففي كتابات فولتير الأولى عن قضية كالاس في عامي 1762 و1763، لم يأت فولتير قط على ذكر مصطلح «تعذيب» (واستعاض عنها باللفظة القانونية الأكثر لطفا «الاستجواب»)، واستهجن فولتير التعذيب القضائي للمرة الأولى عام 1766، ومنذ ذلك الحين فصاعدا كثيرا ما بدأ يربط بين كالاس والتعذيب. أكد فولتير على أن مشاعر الشفقة الطبيعية تحمل كل إنسان على النفور من قسوة التعذيب، مع أنه هو نفسه لم يجاهر بهذا من قبل. يقول فولتير: «ألغي التعذيب في بلدان أخرى بنجاح، ومن ثم فالقضية محسومة.» حدث تحول كبير في آراء فولتير، حتى إنه شعر في عام 1769 أنه يتعين عليه إضافة مقال جديد عن «التعذيب» إلى «قاموسه الفلسفي» الذي نشر للمرة الأولى في عام 1764، والذي كان مدرجا بالفعل في «القائمة البابوية للكتب المحظورة». وفي المقال استخدم فولتير أسلوبه المعتاد الذي يبدل فيه بين السخرية والنقد اللاذع كي يستهجن الممارسات الفرنسية الهمجية؛ إذ يشير إلى أن الغرباء يكونون رأيهم عن فرنسا من خلال مسرحياتها، ورواياتها، وأشعارها، وممثلاتها الحسناوات، دون أن يفطنوا إلى أنه ما من أمة تفوقها قسوة، ويخلص فولتير إلى أن الأمة المتحضرة ما كانت لتداوم على اتباع «العادات الوحشية الموغلة في القدم»، وما كان يبدو له ولكثيرين غيره مقبولا منذ أمد بعيد أصبح الآن مشكوكا فيه.
3
كما هي الحال مع حقوق الإنسان بصفة أكثر عمومية، تبلورت توجهات جديدة بشأن كل من التعذيب والعقوبات الآدمية للمرة الأولى في ستينيات القرن الثامن عشر، ليس في فرنسا وحدها، بل أيضا في بقاع أخرى من أوروبا وفي المستعمرات الأمريكية. كان فريدريك الكبير، ملك بروسيا وصديق فولتير، قد ألغى بالفعل التعذيب القضائي في مملكته عام 1754، ثم تبعه آخرون في العقود التالية: السويد في عام 1772، والنمسا وبوهيميا في عام 1776. وفي عام 1780 ألغت الحكومة الملكية الفرنسية استخدام التعذيب بغية انتزاع الاعترافات باقتراف الجريمة قبل صدور الحكم بالإدانة، وفي عام 1788 ألغت إلغاء مؤقتا التعذيب قبل تنفيذ حكم الإعدام مباشرة لمعرفة أسماء شركاء الجريمة، وفي عام 1783 أوقفت الحكومة البريطانية المسيرات العامة إلى منطقة تايبرن في لندن؛ حيث بات تنفيذ حكم الإعدام فيها أحد أهم مصادر التسلية الشعبية ، واستحدثت الاستخدام المألوف ل «هوة المشنقة»، وهي منصة مرتفعة يسقطها الجلاد كي يضمن عمليات شنق أسرع وأكثر آدمية. وفي عام 1789 ألغت الحكومة الثورية الفرنسية أشكال التعذيب القضائي كافة، واستحدثت المقصلة في عام 1792 التي كان الغرض منها جعل تنفيذ عقوبة الإعدام على نفس الدرجة من الألم للجميع وغير مؤلم قدر المستطاع. وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، بدا أن الرأي العام يطالب بوضع حد للتعذيب القضائي وكل أشكال الإذلال المتعددة التي تتعرض لها أجساد المدانين، وكما أكد الطبيب الأمريكي بنجامين راش في عام 1787 فإنه لا يجدر بنا أن نغفل أنه حتى المجرمون «لهم أرواح وأجساد مكونة من نفس العناصر التي تتكون منها أرواح وأجساد أصدقائنا وذوينا. هم أمثالنا».
4
التعذيب والقسوة
بدأ استخدام التعذيب الخاضع للإشراف القضائي بغية انتزاع الاعترافات في معظم البلدان الأوروبية - أو أعيد استخدامه - في القرن الثالث عشر؛ نتيجة لإحياء القانون الروماني ونموذج «محاكم التفتيش الكاثوليكية» لمعاقبة الهرطقة. وفي القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، كرس كثيرون من أبرع رجال القانون في أوروبا أنفسهم من أجل تقنين استخدام التعذيب القضائي وتنظيمه كي يحولوا دون أن يسيء استخدامه القضاة المتعصبون تعصبا أعمى أو الساديون. ويعتقد أن بريطانيا العظمى كانت قد استبدلت هيئات المحلفين بالتعذيب القضائي في القرن الثالث عشر، ومع ذلك ما انفك التعذيب يحدث في القرنين السادس عشر والسابع عشر في قضايا مثل إثارة الفتنة ومزاولة السحر. على سبيل المثال: من ضمن وسائل التعذيب التي استخدمها القضاة الاسكتلنديون الأكثر صرامة مع الساحرات: الثقب، والحرمان من النوم، والتعذيب بالحذاء «عالي الساق» (سحق السيقان)، والكي باستخدام الحديد المحمى، وغيرها من الطرق. أما التعذيب بغية الحصول على اعتراف بأسماء شركاء الجريمة فقد كان مسموحا به بموجب قانون ماساتشوستس الاستعماري، لكن من الواضح أنه لم يطبق قط.
5
Unknown page