لم تقتصر الأصوات الصادرة من السقيفة على السعال فحسب، وإنما كان هناك أيضا حديث وهمهمة متواصلة، سواء تأنيبية أو تشجيعية. وعادة ما كانت هذه الأصوات خفيضة على نحو يحول دون تمييز سوى بضع كلمات منها. وكان إيقاعها يقل عندما كان والدها يعمل على شيء يحتاج بعض التركيز، في حين يزيد هذا الإيقاع على نحو مبهج عندما كان يؤدي عملا على درجة أقل من التركيز المطلوب، مثل الصنفرة أو الطلاء. وبين الحين والآخر، كانت بعض الكلمات التي ينطق بها تخترق مسامعها وتبدو دون معنى وحدها، وعندما كان يدرك ذلك، كان يسرع على الفور بإحداث تشويش ما، إما بالسعال، أو الازدراد، كنوع من الإنذار، أو الصمت غير المألوف. «مكرونة، بيبروني، بوتيتشيلي، حبوب ...»
ما الذي قد يعنيه ذلك؟ اعتادت روز تكرار هذه الكلمات مع نفسها. ولم تتمكن من طرح هذا السؤال على والدها قط؛ فالشخص الذي نطق بهذه الكلمات يختلف عن الشخص الذي كان يتحدث معها كوالدها، مع أنهما يسكنان نفس الجسم. ولم يكن من الحكمة على الإطلاق إدراك وجود ذلك الشخص الذي لم يكن من المفترض وجوده؛ فهذا شيء لا يغتفر. ومن ثم، واصلت روز التسكع حول المكان والإنصات.
وفي إحدى المرات، سمعته يقول: «الأبراج التي تناطح السحاب.» «الأبراج التي تناطح السحاب، القصور العظيمة.»
كان وقع الأمر على روز شديدا، لكنه لم يتسبب في إيلامها، وإنما إبهارها وحبس أنفاسها. شعرت في تلك اللحظة بالرغبة في الركض والهروب بعيدا، فكانت تعلم أن ما سمعته كان كافيا، إلى جانب خشيتها من أن يراها والدها. فإن رآها، سيكون العقاب مروعا.
تشابه ذلك مع الأصوات الصادرة من دورة المياه. كانت فلو قد ادخرت بعض النقود، وأقامت دورة مياه في المنزل، إلا أنها لم يكن لها مكان إلا بأحد أركان المطبخ، حيث الباب لم يكن مثبتا جيدا، والحوائط مصنوعة من ألواح الألياف الخشبية المضغوطة فقط. وكانت النتيجة أن من يعملون أو يتحدثون أو يأكلون في المطبخ كانوا يسمعون أي صوت يصدر من الحمام، مهما كان خفيضا مثل قطع ورق المناديل، أو أية حركة بسيطة. واعتاد الجميع بعضهم أصوات بعض، ليس فقط في دورة المياه، وإنما أيضا في التأوهات الحميمة والدمدمات والالتماسات والعبارات. إلا أنهم جميعا اتسموا بالاحتشام الشديد. فلم يظهر على أحد قط ما يشير إلى سماعه أو استماعه لما يحدث، كما لم يذكر أحد الأمر قط. وكأن الشخص الذي يصدر الأصوات في دورة المياه ليس هو من يخرج منها.
عاشت الأسرة في الجانب الفقير من المدينة؛ فكانت هناك منطقتان: هانراتي وهانراتي الغربية، يفصل بينهما نهر متدفق. والمكان الذي عاشت فيه الأسرة هو هانراتي الغربية. تدرجت البنية الاجتماعية في هانراتي ما بين الأطباء وأطباء الأسنان والمحامين وصولا إلى عمال سبك المعادن والمصانع وسائقي عربات نقل الأحمال. أما هانراتي الغربية، فتدرج سكانها من عمال المصانع وسبك المعادن وصولا إلى العائلات الكبيرة المفككة التي تضم المتهورين، الذين يعملون في تهريب الخمور، والعاهرات واللصوص الفاشلين. نظرت روز لعائلتها على أنها في المنتصف بين هانراتي وهانراتي الغربية، لا تنتمي لأي منهما وكأنها تقطن النهر. لكن ذلك لم يكن صحيحا؛ فالمتجر يقع في منطقة هانراتي الغربية، وهناك عاشت أسرتها أيضا في نهاية الشارع الرئيسي. وعلى الجانب المقابل للمتجر، كان هناك متجر الحداد، الذي غطيت نوافذه وأبوابه بألواح الخشب مع بداية الحرب تقريبا، بالإضافة إلى منزل آخر كان متجرا في السابق. ولم تنزل لافتة «شاي سالادا» من على النافذة الأمامية له قط؛ وإنما ظلت تزين المكان كمصدر للفخر والاهتمام، مع أن المكان بالداخل لم يكن يبيع أي شاي بهذا الاسم. أما الرصيف، فكان ضيقا ومحطما ومائلا على نحو لا يسمح بالتزلج عليه باستخدام الأحذية ذات العجلات. لطالما رغبت روز في اقتناء أحذية تزلج ، وتخيلت نفسها كثيرا وهي تتحرك بخفة وأناقة في تنورتها مربعة النقوش. كان في الشارع، كذلك، مصباح إضاءة واحد، وزهرة مزروعة في علبة من القصدير؛ وبعد ذلك تختفي وسائل الراحة وتظهر الطرق القذرة والمستنقعات، والقمامة الملقاة في الأفنية الأمامية، والمنازل غريبة الشكل. ما جعل المنازل غريبة الشكل هو محاولات قاطنيها الحفاظ عليها من الانهيار التام، لكن ثمة بعض المنازل الأخرى التي لم يحاول أحد الحفاظ عليها قط، وهي المنازل التي بدت رمادية اللون ومائلة للأمام ونال السوس من أخشابها، تقبع في محيط من الحفر المليئة بالأشجار الخفيضة، والبرك التي تعيش فيها الضفادع، والأعشاب السبخية، وأعشاب القراص. لكن أغلب المنازل رقعت بورق القطران، والقليل من الألواح الخشبية الجديدة، وألواح من الصفيح، ومداخن المواقد المطروقة، بل حتى بالورق المقوى أيضا. كان ذلك، بالطبع، قبل الحرب، وهي الأيام التي أصبحت بعد ذلك تعرف بأيام «الفقر الأسطوري». لم تكن روز تتذكر من تلك الأيام سوى المشاهد الكئيبة، مثل درجات السلم الخشبية وكثبان النمل التي تبدو خطرة، والصورة القاتمة والمثيرة والجدلية للعالم. •••
سادت هدنة طويلة بين فلو وروز في البداية. وأخذت شخصية روز تنمو كثمرة الأناناس الشائكة، لكن ببطء وسرية، فتبلورت شخصيتها بحيث صارت تتمتع بدرجة عالية من عزة النفس والنزعة للشك، الأمر الذي جاء مفاجئا، حتى لروز نفسها. وقبل أن تصل إلى سن المدرسة، وبينما كان براين لا يزال في المهد، قضت روز أوقاتها في المتجر مع فلو وبراين، فكانت فلو تجلس على الكرسي المرتفع خلف منضدة الخزينة، وبراين ينام بجوار النافذة؛ بينما تجثو روز على ركبتيها أو تستلقي على ألواح الأرضية العريضة، التي كانت تصدر صريرا، لترسم بالألوان على قطع الورق البني الممزق أو غير المنتظم الذي لا يصلح للتغليف.
كان أغلب من ترددوا على المتجر من المنازل المجاورة، إلى جانب بعض القرويين المارين على المكان في طريق عودتهم من المدينة إلى ديارهم، فضلا عن عدد قليل من سكان هانراتي الذين كانوا يعبرون الجسر. وجد دوما بعض الأفراد في الشارع الرئيسي، داخل المتاجر وخارجها ، كما لو كان من واجبهم الظهور دوما في الشارع، ومن حقهم أن يرحب بهم؛ ومنهم على سبيل المثال، بيكي تايد.
قفزت بيكي تايد لتجلس على منضدة فلو، مفسحة مكانا لنفسها بجوار علبة مفتوحة من البسكويت المحشو بالمربى المتساقط منه بعض الفتات.
سألت بيكي فلو: «هل هذا مذاقه جيد؟» وأخذت تأكل منه بجرأة، واستطردت قائلة: «متى ستمنحينني وظيفة، يا فلو؟»
Unknown page