صعقت روز بهذه المجاهرة، وشعرت بالغضب. إنه يغامر؛ ألم يمر بأي موقف من قبل يعلمه عدم خوض مثل هذه المغامرات؟ لعله لم تبد عليه الرجولة بالفعل. علم باتريك أنها ستقول له شيئا يطمئنه، لكنها لم ترغب في ذلك، وإنما رغبت في أن تقول له بتعقل: «حسنا، أنت محق في ذلك.»
لكن ذلك سيكون منافيا للحقيقة؛ فقد بدا ذكوريا في نظرها. والسبب هو خوضه مثل هذه المغامرات، والرجال وحدهم هم من يتسمون بهذا القدر من التسرع وكثرة المطالب.
قالت له في موقف آخر: «لقد أتينا من عالمين مختلفين؛ فأهلي فقراء، والمكان الذي يعيشون فيه مقلب نفايات في نظرك.» شعرت بقولها ذلك أنها إحدى شخصيات المسرحيات الدرامية.
بهذا الحديث، صارت روز هي المخادعة؛ إذ تتظاهر بذلك لترمي بنفسها تحت رحمته، لأنها بالطبع لم تتوقع منه التخلي عنها وعن طلب زواجها عندما علم بفقر أهلها وأنهم يعيشون في مقلب نفايات.
فكان رد باتريك عليها: «لكنني سعيد بفقرك. أنت جميلة حقا ... جميلة كالفتاة المتسولة.» «من؟» «لوحة الملك كوفيتوا والفتاة المتسولة، ألا تعرفينها؟»
اعتاد باتريك اتباع حيلة، أو بالأحرى أسلوب - ليست حيلة، فباتريك لا علم له بالحيل - للتعبير عن التفاجؤ: ذلك التفاجؤ المشحون بالازدراء عندما يجهل الناس شيئا يعلمه، وازدراء وتفاجؤ مماثلين عندما يحاولون معرفة شيء يجهله. فكانت كل من غطرسته وتواضعه مبالغا فيهما على نحو غريب. أما الغطرسة، فتوصلت روز بمرور الوقت إلى أن سببها هو ثراء باتريك، مع أنه لم يتفاخر أبدا بهذا الأمر في حد ذاته. وعندما التقت بأختيه، اكتشفت أنهما يتسمان بنفس السمات؛ إذ تحتقران أي شخص ليست لديه معلومات عن الخيل أو الإبحار، كما كان لهما نفس الشعور المزدري حيال أي شخص تنصب معرفته في الموسيقى أو السياسة. فما كان يبرع فيه باتريك وأختاه عند وجودهم معا هو إظهار الاحتقار والازدراء للآخرين. لكن أليس بيلي بوب بهذا القدر من السوء أيضا عندما يتعلق الأمر بالغطرسة؟ أليست فلو كذلك؟ ربما. لكن ثمة فارقا، وهو أن بيلي بوب وفلو لم يتمتعا بالحماية؛ فهناك أشياء تثير استفزازهم مثل المهاجر البلجيكي الفذ ومتحدثي الفرنسية في الراديو، والتغيرات المختلفة. أما باتريك وأختاه، فقد كانوا يتصرفون كما لو أنه من المستحيل استفزازهم بأي شيء. أصواتهم عند شجارهم على المائدة كانت طفولية على نحو مدهش؛ وطلباتهم للطعام الذي يحبونه، وحدة طباعهم عند رؤيتهم أي شيء على المائدة لا يحبونه، كلها سلوكيات أشبه بسلوكيات الأطفال. لم يضطر أي منهم أبدا للخضوع لأي شخص، أو التجمل أمام الآخرين، أو انتظار أي استحسان من العالم، ولن يضطروا لذلك أبدا أيضا، وذلك لأنهم أثرياء.
لم تكن لدى روز أية فكرة في البداية عن مدى ثراء باتريك. لم يصدق أحد جهلها بذلك؛ فظن الجميع أنها ذكية وأجرت الحسابات عند الارتباط به، لكنها كانت أبعد ما يكون عن هذا النوع من الذكاء، لذلك لم تهتم في الواقع بظنون الآخرين فيها. واكتشفت فيما بعد أن الفتيات الأخريات كن يحاولن الوصول إليه، لكنهن لم يتمكن من ذلك مثلها. والفتيات الأكبر منها سنا العضوات في نادي الفتيات بالجامعة، اللاتي لم يلاحظنها من قبل قط، بدأن في النظر إليها بنوع من الحيرة والاحترام. حتى الدكتورة هينشو عندما رأت أن الأمور أكثر جدية مما اعتقدت، وجلست مع روز لتتحدث معها في هذا الشأن، افترضت أنها تضع أموال باتريك نصب عينيها.
فقالت لها بنبرة ساخرة وجادة في الوقت نفسه: «إن لفت انتباه وريث إمبراطورية تجارية ليس بالأمر الهين. إنني لا أكره الثروة، بل إنني أتمنى أحيانا لو امتلكت بعضا منها.» (هل افترضت حقا أنها لا تملك ثروة؟) واستطردت قائلة: «إنني موقنة بأنك ستحسنين استخدامها ، لكن ماذا عن طموحاتك يا روز؟ ماذا عن دراساتك وشهادتك؟ هل ستنسين كل ذلك بهذه السرعة؟»
كانت هناك بعض المبالغة في تعبير «إمبراطورية تجارية» الذي استخدمته الدكتورة. امتلكت عائلة باتريك سلسلة من المتاجر الكبيرة في كولومبيا البريطانية، وكل ما قاله باتريك لروز هو أن والده يمتلك بعض المتاجر. وعندما قالت له إنهما ينتميان لعالمين مختلفين، كانت تظن أنه يعيش على الأرجح في منزل كبير مثل منازل الحي الذي تعيش فيه الدكتورة هينشو، وكانت تفكر أيضا في أكثر التجار ثراء في هانراتي، ولم تدرك مدى الانقلاب الذي حققته، لأن الانقلاب في نظرها كان أن يقع ابن الجزار أو ابن الصائغ في حبها؛ وكان الناس سيقولون إنها قد حققت نجاحا إن حدث ذلك.
اطلعت روز على اللوحة بعد أن بحثت عنها في أحد كتب الفن في المكتبة، ودققت النظر في الفتاة المتسولة الوديعة والمثيرة بقدميها البيضاوين الخجولتين، واستسلامها الخنوع وامتنانها. أهكذا رأى باتريك روز؟ أهذا ما يمكن أن تكون عليه؟ سوف تحتاج إلى ذلك الملك بحدته وبشرته الداكنة وما اتسم به من براعة وهمجية، بالرغم من المشاعر الطاغية التي وقع أسيرا لها. سيمكنه أن يشكلها كما يشاء في ظل ما يتمتع به من رغبة عارمة. ولن يكون هناك أي اعتذار معه، أو أي إحجام، أو تشكك مثل ذلك الذي يظهر في جميع التعاملات مع باتريك.
Unknown page