ثم صعد إلى التخت وأخذ يتمم الدور وما لبث أن وصل إلى عبارة «بالطبع أنا أميل يا اللي تلوم دا شيء بالعقل انظر كده واحكم بالعدل» رغبة أن يقفل النغمة بدلاله وتفننه حتى صاح أحد الحضور وقال يا ابن... ال... إيه... فقام العظماء نحوه ليزجروه ويطردوه فقال لهم عبده وهو على التخت «سيبوه دا معذور كمان» ولم يستقروا في مجلسهم إلا بعد أن تحققوا صدق إعجابه بغنائه بعبارته العامية التي لم يقصد بها إساءته واعتبروها مدحا في موضع الذم.
على أني أطلت في الكلام على هذا الباب إلى ما لعله أدى إلى سأم المطالع فأقف منه عند هذا القدر؛ إذ ليس من غرضي في هذا المقام الإحاطة بكل ما ألقاه عبده من أدوار صادرة عنه، ومذاهب ملحنة منه، بل الإشارة إلى أنه كان يلقى من أدوار الملحنين ما كان يستحسنه ويجده مطابقا لذوقه السليم، فضلا عن أنه كان يغيرها في الحال على أحسن طراز ويقلبها جملة ومفترقا حسب إرادته، وقد دعي مرة عبده ومحمد عثمان والمنيلاوي للغناء في عرس عظيم من عظماء البلد على تخت واحد، وقد شهدت بعيني رأسي وليس لأول مرة عبده رئيسا ومحمد عثمان عوادا والمنيلاوي مساعدا بدون أن يجرأ على إتيان أي حركة أو نغمة انفراديا فهو بلا مراء أسبق المطربين الذين لا يشق غباره.
لطيف هزله وخفة روحه
وتطيبا للقلوب أروي من فكاهاته المليحة ومضحكاته المهذبة ما يضحك الحزين، ويذهل الزاهد، فضلا عن أنه يبين جليا أنه كان يمتاز عن سائر المطربين بالجاذبية الشخصية الوليدة فيه والتي تعتبر منحة طبيعية كمنحة الصوت وإليكم البيان:
دعي ليغني في الإسكندرية بدار عين من أعيانها أقيم فيها سرادق فسيح زين بأفخر الرياش، وفرشت أرضه بالأبسطة النفيسة، وكلف حاجب على الباب بأن لا يدخل أحدا من المدعوين إلى السرادق غير حامل تذكرة الدعوة، ولما آن أوان الغناء وكان التخت على أتم استعداد دار البحث عن عبده فلم يوجد في الداخل، وأخيرا عندما وصل صاحب العرس وحاشيته إلى نحو الباب سمعوا لجاجا ولغطا شديدين بين الحاجب وعبده، فشرح لهم الأخير أن سبب تأخره عن مباشرة الغناء نشأ عن أن الحاجب منعه من الدخول بحجة أنه لم يحمل تذكرة دعوة فحملوه على أكتافهم إلى أن جلس على أريكته الموسيقية فارتجل موالا وغناه وهو كما يأتي:
ليه حاجب الظرف يمنعني وأنا مدعي
لري روض المحاسن من دما دمعي
كم أفتكر في احتجابك واشتكي وانعي
سلمت بالروح ورضيت بالملاح والنوح
قول لي بحق المحبة ما سبب منعي
Unknown page