Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
34
فقبل أن نبدأ التفكير المنطقي، توجد بالفعل ملكة فينا تجعلنا نشعر بمعاناة الآخرين مثلما نشعر بالجرح وتدفعنا للاستمتاع بفرحتهم دون أدنى قدر من الفرح بمصيبة الغير. لكن غرس الحس الأخلاقي في طبيعتنا الجوهرية - بمصطلح ماركس - لا يحميه إلا على حساب تفريغه من مضمونه؛ فإن كانت مشاعر النفور والاستحسان لدينا تلقائية فعلا كما الفعل المنعكس - مثل سحب أصابعنا من اللهب - فهي إذن ليست قضية مميزات شخصية. من المؤكد أنها استجابات لأفعال الآخرين الإرادية؛ لكن هناك محمل ما تجعل فيه فلسفة «الحس الأخلاقي» مشاعرنا أقل جدارة بالثناء في نفس الوقت الذي تجعلها أكثر طبيعية؛ إذ يبدو من خلالها أننا لم يعد بإمكاننا الامتناع عن التعاطف مع المكروبين كما لا يمكننا عدم ملاحظة الأشياء الضخمة التي تكون في نطاق نظرنا.
تجعل هذه الفلسفة إبداء التعاطف مع الآخر أكثر استحسانا وإقناعا عما هو الحال إذا تضمن الإرادة، لكن إن كان هذا هو الحال، فلماذا يوجد الكثير من الأشرار من حولنا؟ هذا ما يمكننا تسميته مفارقة فيلدنج؛ فالخير طبيعي، لكن هناك نقصا شديدا فيه على نحو غريب في المجتمع. وإن كان الخير غريزة طبيعية، وكذلك يصعب نسبيا مصادفته في الواقع، فسيجد الفاضلون أنفسهم - كما في روايات فيلدنج - أقلية ترزح تحت حصار مستمر من دون أن يتسلحوا بالمكر واليقظة اللازمين لصد هؤلاء الأشرار.
35
وهذا ما يجعلهم مضحكين بقدر ما يجعلهم محل إعجاب. لكنهم يمثلون خطرا كذلك؛ لأنهم من الممكن أن يكونوا سببا في رذيلة الآخرين. وإن تأهبوا لحماية أنفسهم، فسيصبح من الصعب التوفيق بين هذه الشدة وبراءتهم، فكلما اضطررت إلى الدفاع عن طبيعتك الخيرة، قل نصيبك منها؛ لكن جون ميلتون كان ليصر على أن البراءة التي لم تختبر ليست براءة فاضلة على الإطلاق.
يمكن وضع هذه النقطة في سياق أكثر اتصالا بالسياسة؛ فعندما يشعر المنتمون للطبقات الوسطى بالرضا المعقول عن أنفسهم تبدو الفضيلة وافرة كمداد البحر؛ لكن ليس عليهم سوى أن ينظروا حولهم إلى الحضارة الأنانية المخيفة التي أقاموها ليدركوا أن هذا لا يمكن أن يكون هو الواقع الفعلي؛ فمن المنظور الأيديولوجي يجب أن يكون الحب والإحسان جذريين؛ أما من المنظور التجريبي فمن الواضح أنهما أبعد ما يكون عن ذلك. وكذلك القول إن الحس الأخلاقي بديهي واضح في ذاته كالصفعة على الوجه، ويصعب تحديد كنهه كرائحة القهوة، هو طريقة أخرى لتأكيد هذه المفارقة. وباعتبار هتشسون تجريبيا بارعا، فيبدو أنه كان عليه الاتفاق مع آدم سميث على أن الحواس «لم ولن تأخذنا لأبعد من شخصنا ذاته، والخيال وحده هو ما يمكننا من تكوين أي تصور عن المشاعر (الخاصة بالآخر).»
36
إذ إن ما يحول بيننا وبين وعي الآخرين هو أجسادنا؛ لذا فبفضل النظام الخيالي وحده - من خلال المحاكاة أو التكرار في داخلنا لما نظن أن الآخرين يشعرون به - يمكن تعزيز التعاطف الإنساني. ولا يختلف الحس الأخلاقي عند هتشسون عن الخيال عند سميث؛ إلا أن هتشسون بدعوته لإضافة «الحس» الأخلاقي للحواس الخمس المعروفة فهو يظل داخل حدود المذهب التجريبي بينما يقلبه على عقبيه، فالحديث عن حس أخلاقي يضيف للحواس الخمس في المذهب التجريبي صورة شبحية منها، وهو ما قد يضفي بدوره على المفاهيم الأخلاقية قطعية اللمس أو التذوق التي لا جدال فيها؛ فيؤدي الحديث عن الحواس لإنقاذ القيم الأخلاقية. كذلك - ونظرا لعدم إمكانية الاعتماد على الحواس - يجب أن نلجأ لهذا النوع من البديهة الحسية؛ ففي عالم تجريبي، يمكن دائما للغة والإدراك والعقلانية أن تنحرف عن مسارها، كما تبين رواية «تريسترام شاندي» بشكل كوميدي، وتأتي الاستعانة بالحس الأخلاقي للتعويض جزئيا عن هذا القصور. وبمجرد أن تتعرض النفس البشرية لخطر الوقوع الذاتوي في أسر أحاسيسها الخاصة، سيكتشف هتشسون في هذه الحواس بالتحديد مفتاح التآلف الاجتماعي؛ ليجد في ملكة خاصة الطريق الذي يفتح الباب أمامنا إلى عالم الآخرين.
إلا أن فكرة العاطفيين المنقوصة عن الجسد وحدها هي ما يجعلهم في حاجة لإمداده بهذا الملحقات الخيالية. لقد عرف القرن الثامن عشر طريقة لتجاوز حدود الحواس - بل تمزيقها إربا إربا - هي السمو؛ لكنها لم تكن جيدة في هذا التجاوز لحدود الجسد هذه، الذي هو الجسد ذاته؛ إذ لم تكن تنظر إلى الجسد باعتباره مشروعا للتسامي الذاتي، بل اعتبرته شيئا كالأرائك والمكاتب لا يختلف عنها إلا في حمله لجوهر متحرك اسمه الروح. لكن صمت الجسم البشري ليس كصمت المكتب؛ فحتى عندما لا تفعل أي شيء سوى النظر إلي، فإنك لست حاضرا أمامي كما إبريق الشاي مثلا؛ إذ يعجز التجريبيون عن استيعاب أن الحديث عن الروح ما هو إلا أسلوب تجسيدي في محاولة تعريف ما يميز الأجساد المتحركة الذاتية التنظيم كالدبابير أو كبار موظفي الخدمة المدنية مقارنة بقطع الأثاث. وقد تكون تبعات هذا من بين الأسباب التي تجعلنا عندما نسمع كلمة «جسد» نفكر في الجثة. فالحواس عند لوك وهيوم مستقبلات سلبية وليست وسائل للتواجد والتفاعل مع العالم. والجسد عند سميث وأمثاله شيء مادي في المقام الأول وليس صورة من صور من الممارسة ومركز ينتظم حوله عالم كامل. فهم لا يرون أنه شيء «خارج» أنفسنا لا يمكننا أبدا أن نفهمه، بل شيء نتجسد في نشاطه التعبيري كما يتجسد المعنى في لفظ.
وفي ضوء هذه النظرة للجسد، لا يمكن للذوات الأخرى أن تمنح وجودها الواقعي إلا بما يناظر الذات. وهذه تقريبا هي النقطة التي طرحها إدموند هوسرل الذي يرى أن الذوات الأخرى بالأساس مخفية عن ذاتي لكنها تجسد في سلوكها ما يمكنني أن أعتبره جزءا من تجربتي الذاتية الداخلية، فالآخر ليس حاضرا أمامي بصورة كاملة أبدا، بل يعرف باعتباره انعكاسا لذاتي. ويرى هوسرل في كتابه «تأملات ديكارتية» كل «أنا» من منظور خيالي باعتبارها كائنا أحاديا يعكس ويحتوي كل الذوات الأخرى مع ما يتأتى من ذلك من إمكانية التناغم والتعاطف والمشاركة والمبادلة فيما بينها. فكما يشبه موريس ميرلو-بونتي الوضع: «أرى استخداما محددا من الناس للأدوات المحيطة بي، (و) أفسر سلوكهم بالتناظر مع سلوكي أنا ومن خلال تجربتي الذاتية، التي تعلمني مدلول الإشارات المدركة ومقصدها.»
Unknown page