جعله ذلك يعود بذهنه إلى أيام كان صبيا صغيرا حين يتلو صلواته بلا تمييز عند ركبتي أمه أو أبيه؛ إذ كان أبوه في رقة النساء مع طفله الوحيد. وقد ظل سنوات يجثو بجانب فراشه ليكرر ما تعلمه مع بضع إضافات من عنده. كما ظل سنوات بعدها يذهب إلى الفراش ليتمتم بصلاة مرتجلة. ثم توالت سنوات أخرى، كان خلالها، في خيلائه بقوته واهتماماته المتعددة طوال اليوم، لديه من العافية في بدنه وذهنه ما يغنيه عن الانزعاج بأي حاجة حيث لم يكتف بأنه لم يكن يصلي صلاة سؤال - لأنه كان في أفضل حال من دون أن يسأل أي شيء - بل لم يعد يصلي حتى صلاة شكر. وبينما كان جالسا هناك ذلك العصر، أرسل نظره إلى الحديقة الزرقاء التي هي عبارة عن مجرد جبل صغير منحدر باتجاه البحر، متأملا جمال الزهور والزرع والفاكهة، وبينما يجول ببصره في المساحات البيضاء من الرمل، والزرقاء من المحيط والسماء الممتدة بعيدا حتى آخر العالم، هاجمه شعور حاد بالأسى، شعور بالندم على توقفه عن صلاته الليلية. فحتى لو كان جسده قويا وكان عقله عفيا، ولو لم يكن بحاجة إلى طلب المساعدة البدنية، فربما هو في حاجة إلى طلب حماية عقله من تكرار الشيء نفسه الذي حدث وهو ترك الصلاة، كما أن هناك دائما صلاة الشكر. منذ أن انقشع الضباب في البداية وسطع ضوء الشمس في الأنحاء فاستحث الأرض لتنبت الزروع والفاكهة، وتطورت الحيوانات والإنسان وفقا للنظام المقدر للأشياء، لطالما وجد بقدر ما الجمال الخلاب نفسه الكائن أمامه الآن. ولطالما وجد في صدر كل إنسان يولد ليستمتع به قلب لا بد أن يبتهج ولا بد أن يرفع الشكر على ذلك الإرث. ولطالما وجدت شفاه تجاهر بالقول وتخبر الخالق كم هو رائع غموض الأرض وعظمة البحر ونعمة أشعة الشمس وقدرة ساعات العتمة وقد أضاءها ضوء القمر على أن تبرئ الجراح. ولطالما وجد الواجب الذي التزم به والده بشجاعة، من اعتراف بالتزاماته، بأن يدل على السبيل الرجال الآخرين الأقل وعيا لنداء الرب والطبيعة.
استغرق جيمي في التساؤل كيف سيجعل طريقة الموت التي مرح بها الكشافة الصغير وقبلها وابتهج بها، ورآها جميلة، تصبح واقعا بالنسبة إليه. حين تذكر ما قاله الطفل، شعر جيمي بامتنان بالغ أنه مهما كانت أخطاؤه، ومهما كانت زلاته، ومهما كانت الخطايا التي ارتكبها، فإنه لم يظلم بشرا، ولا لطخ سمعة امرأة بريئة أو ألحق بها الخزي، ولا كذب ولا غش ولا دنس روحه بالاحتيال والصفقات التجارية المجحفة. كان قد انتوى دراسة زراعة الغابات حين غادر الكلية. فقد أراد أن يكون خادما للأشجار. إذ إنه لطالما أحب الغابات والحقول والزهور؛ حيث يرى أن الشجرة كائن حي، كائن له مشاعر، كائن له قدم في الأرض ورأس في السماء وأذرع كريمة ممتدة بشكل متسع لتمنح إما الظل وإما الثمرات وإما بهجة الزهور ليستفيد منها العالم. كان ينوي الذهاب إلى أعظم طبيب أشجار، ويأخذ دورة تدريبية شاملة في جراحة الأشجار، تحت توجيهه وإشرافه، وانتوى عندئذ أن يبدأ مهمة كبرى بإنقاذ كل ما يمكن من أشجار في الوجود.
ومن ثم اعتقد أن العمل مربيا للنحل ليس بالشيء السيئ. فبوسعه دائما أن يفعل ما في إمكانه من أجل الأشجار، وفي الوقت نفسه لا بد من توفر الزهور لتوفير الغذاء الحلو الذي ظل يسعد الإنسان منذ فجر التاريخ، وكان بلسما شافيا. فإن العمل الذي تقوم به الأجنحة الشفافة الطنانة التي عجت بها أنحاء الحديقة أمامه من العناصر المهمة في ثروة العالم. وإن كان مقدرا له العيش، وتوفرت لديه فرصة البقاء لأي مدة في مكان كهذا، واستطاع تعلم الحرفة من دون تعليمات متعبة، ومن دون تدريب طويل، فقد تصبح وسيلة أسرع لكسب العيش، وربما بالمتعة نفسها وأشد تسلية. ومن المحتمل أن تحتوي المجلدات التي على الرفوف أعلى مكتب سيد النحل على معلومات تجعل النحل النشيط، القادر على فعل أشياء قريبة قربا ملحوظا من التفكير والعمل المنسق مسبقا، مثيرا للاهتمام تماما مثل الشجرة الساكنة، التي لا يمكن قطعا أن نخلع عليها ملكة التفكير مهما جمح بنا الخيال.
حين قرر جيمي أنه في حال عودة سيد النحل من المستشفى ضعيفا وعاجزا واستحسن الطريقة التي بها اعتنى بمنزله وروى الحديقة والأشجار ورعى النحل، فقط إذا استطاع أن يجعل نفسه مفيدا ومهما ثم طلب منه البقاء - بالضبط حين قرر أن يكتشف بنفسه إذا ما كان التكهن بأنه «بالمكوث» سوف تروق له حديقة سيد النحل - عندئذ طرأت على ذهنه الفكرة الكئيبة السابقة: كم تبقى لك من وقت حتى تروق لك خلاله؟ حتى متى تظل مثل كفيف يقود كفيفا، وأنت تحاول أن تفعل شيئا لسيد النحل؟ إن لم يستعد هو عافيته، وإن لم تستعد أنت قوتك، وإن أصبح النحل بطنينه وصراصير الليل بصرصرتها والطيور بشدوها والمياه بجريانها، وزرقة الحديقة والبحر والسماء، وكل ذلك في طي الماضي بالنسبة إليه خلال بضعة أشهر، فما الجدوى؟
واستطاع أن يرى بالأسفل كيف أن أبراجا وجبالا من الصخور قد نهشها وأكلها المد المرتفع والأمواج المتلاطمة. وحين يعود سيد النحل وتنتهي الثقة التي كان قد اكتسبها، لماذا عساها الصدفة لا تؤدي به إلى الوقوع من أحد تلك الجروف الناتئة إلى تيار معاكس تحت الماء ربما يحمله إلى الصين دون أن يدري؟
وعندئذ مثلت أمامه في لقطة حية الصورة الذهنية التي استحضرها الكشافة الصغير حين أخبره بفتور شديد بأمر الرجل الغارق والسلاحف؛ غالبا أسماك القرش هي التي ستتجاذب جيفته الهزيلة. كانت الابتسامة التي التوى لها وجهه مروعة بعض الشيء حين تصور أن القروش لن تجد ما تقتات به في عظامه وعضلاته. ثم تمادى في التفكير أكثر قليلا وتخيل أن اللحم سيكون طريا إلى حد ما. من الممكن أن يجد فيه أحد الكائنات ما يملأ فمه.
وبعد ذلك، لاح فجأة أمام عينيه، طاغيا وجليا، ذلك السرد الطفولي لأنواع الموت، ووصف السيدة العجوز الضئيلة التي تمددت على ملاءة ساتان أرجوانية مغطاة بالدانتيلا الرقيقة، السيدة المحبوبة التي خلدت للنوم ليلا في هدوء ورفق من دون حتى أن ترفع يديها المضمومتين، والتي حملت معها إلى القبر نظرة على وجهها وصفها الكشافة الصغير ب «السر الذي يدعو للابتسام». كان في هذا الطفل فطرة الطفولة وصراحتها وقسوتها. (ما الذي قاله لافونتين عن الأطفال؟ إن كلهم صرحاء لحد الغلظة، وقساة قسوة وحشية؟) لقد بدت خصال القسوة واضحة في الكشافة الصغير، لكنها ليست في وضوح الكرم والحنان وحب الأمانة. استطاع جيمي أن يرى ذلك في الكف المتسخة التي تبعثرت فيها الأزرار والخيوط والثقالات والفلين والمشابك بحثا عن العملات المعدنية التي قدمها لشراء طعام شهي للسيد.
كذلك، أيضا، توجد لدى الكشافة الصغير في عقله الباطن بصيرة نافذة أدرك بها النظرة التي لاحت على وجه السيدة النائمة. تصور جيمي أنه إذا ذهب عامدا إلى جروف المحيط الهادئ وألقى بنفسه إلى أسماك القرش، فإنه حين يمثل أمام الله ويقابل أباه وأمه، فلن يتمكن من أن يحمل على وجهه مثل تلك الابتسامة الغامضة. فلن يصبح بذلك قد أخلص الإيمان. إذ سيخالف شرائع الله وقوانين الإنسان. وبذلك سيسمح للنساء الضعاف بالتفوق عليه في الشجاعة والقدرة على التحمل. ومن ثم أغمض عينيه ليتحاشى النظرة التي تخيل أنها قد ترتسم على وجه أمه. وهنا حذف جيمي فكرة إلقاء نفسه في المحيط من مخططه للخلاص، وحلف يمينا مغلظة في قلبه أنه مهما حدث، حتى إن عاد لتقلبات الحظ على الطرق، إلى قسوة الجفاء التي يلقاها الكثير جدا من عابري السبيل، مهما حدث، حتى إن كان أبعد ما قد يخطر على الخيال، فإنه لن يجازف بمواجهة الخالق بروح جبانة. أقسم بكل ما أحبه وأجله طيلة حياته أنه سوف يحاول، يحاول بكل قوته خلال ما قد يتبقى له من وقت قصير، أن يتمكن من السر الذي بعث على الابتسام، وإنه أيا كان المعروف الذي قد يتمكن من فعله لسيد النحل أو أي شخص يلقاه في الوقت المتبقي له، فإنه بقدر ما يستطيع، سينسى نفسه، وينحي جانبا ألمه وكدره وخيبة رجائه، ومشاعره بالانهزام والخيبة، وتوقه للحب والصحبة الذهنية، وسيرى إذا ما كان جسده الذي يربو عن ست أقدام من العظام واللحم بإمكانه أن يسدي أي خدمة صغيرة ربما تصادفه من أجل الله ومن أجل رفيقه سيد النحل قبل أن يرحل. ربما إن استطاع إنجاز شيء صغير، شيء من شأنه أن يخفف ولو ألم قلب واحد ألمه مثل الألم الذي يعتصر قلبه في تلك اللحظة، فربما تكون تلك المعلومة هي السر الذي قد يحمله في صدره، فيطبع على وجهه ابتسامة لا تمحى لدرجة أنه حتى مجرد طفل صغير يمكنه أن يرى عظمة الباعث الذي وراءها، ولا يساوره هو خزي حين تحين النهاية.
وهكذا نهض وبعزيمة، لكن متألما، وهبط وهو يعرج على السلم الجبلي طويل الامتداد ذي المنحنيات والنتوءات حتى وصل إلى البوابة. وهناك جلس وتطلع إلى طول الدرجات المتبقية وفي أنحاء الشاطئ. وعلى يساره، غير بعيد جدا، اكتشف جبلا حجريا صغيرا وجذابا للغاية. انتصب بجسارة وكبرياء، وشموخ أشم على حافة المحيط الهادئ، وبدا أنه ثمة طريق يمكن بسلوكه تسلقه من الخلف. تخيل جيمي أنه في مكان ما على قمته قد يكون هناك بقعة ممهدة حيث يمكن الجلوس والتطلع إلى الشمال والغرب والجنوب، عبر أميال لا حد لها من واجهة البحر، وإلى فضاء عالم السماء اللامتناهي، وإلى بساتين السماء العامرة بالنجوم. وتساءل إن كان أي ملك من الملوك قد حكم من عرش مثل ذلك، ثم خلص إلى أنه لم يحدث قط. هكذا قرر أن يجعل ذلك الموضع هدفا له. لكنه لن يبتعد اليوم أكثر من ذلك؛ لأنه قد تعلم أن نزول الجبل أسهل كثيرا من تسلقه. لكنه سيفتح البوابة غدا، وسيذهب بالتحديد إلى المكان حيث زهور بوق الملاك والأحواض الأرجوانية اللون التي اعترشتها زهرة رقيقة هي رعي الحمام الرملي - لم يكن جيمي قد سمع عن نبات رعي الحمام الرملي قط، لكنه يملك أنفا حساسا جدا، فاستطاع في تلك الساعة من المساء أن يلتقط عبيرا أخاذا، كما أنه شاهد بضع نحلات متأخرة وهي تذهب إلى الأحواض الرقيقة الملونة وتجيء منها - تحديدا عند الخط الذي تتفتح فيه للشمس زهور رعي الحمام بلونها الأرجواني المائل للوردي وزهور الربيع المسائية بلونها الذهبي؛ سيبتعد حتى ذلك الحد اليوم التالي. وفي اليوم الذي يليه سيسير متقدما مباشرة حتى يصل إلى قمة الصخرة الجسور.
وحتى يبلغها لا بد أن يجتاز مسافة طويلة من الأمواج المتكسرة، التي بدت كأن كل واحدة منها تقول له: «أتحداك! أتحداك أن تتقدم!» جلس جيمي هناك وجعل يتأمل قدميه وتفكر في حالتهما من تورم وألم، فاجتاحه توق شديد لدسهما في مياه المحيط المالحة الباردة. وبمجرد أن أوشك على النهوض، راودته الأفكار فتساءل ماذا لو شعر بالبرد وارتجف، ماذا لو أصيب بنزلة برد شديدة، ماذا لو أصابه سعال، فوضع جيمي يده على يسار صدره وجلس ساكنا. من شأن ذلك أن يعجل جدا بالنهاية، وهو قد انتوى إن كان ذلك ممكنا أن يقاوم حتى يأتي سيد النحل ويعفيه من الواجب الذي أخذه على عاتقه حين وافق على البقاء مع النحل. لكن اللهفة، الرغبة في النزول إلى المياه المالحة الباردة كانت قد استيقظت.
Unknown page