وإذ يرى العاشق في أرواح عديدة صفات الجمال الإلهي، ويفصل في كل روح ما هو مقدس عن الدنس الذي اقتبسته في هذه الدنيا، يرقى إلى قنن الجمال، إلى حب الله ومعرفته، على درجات من سلم الأرواح المخلوقة.
بمثل هذا حدثنا الحكماء الصادقون عن الحب في جميع العصور. وليس هذا المذهب بالقديم أو الجديد. وإذا كان أفلاطون وفلوطارخس وأبوليس قد بشروا به، فكذلك بشر به بترارك وأنجلو وملتن. ونود لو اتصف به الزواج في صدق وإخلاص، فنقضي - ونلوم أنفسنا - على تلك الحكم المستورة التي تسود عقود الزواج التي نصوغها في كلمات نستمدها من العالم العلوي، في حين أننا نتطلع بإحدى عينينا إلى مخزن الطعام، فينم أخطر حديث نتحدث به عن رائحة لحم الخنزير وأواني المساحيق. وأسوأ ما يكون الأمر عندما تدخل هذه الحسية في تعليم الفتيات، وتذوي أمل الطبيعة الإنسانية ومحبتها، بتعليمهن أن الزواج معناه اقتصاد منزلي، وأن حياة المرأة لا تهدف إلى شيء آخر.
غير أن حلم الحب هذا، وإن يكن جميلا، إلا أنه منظر واحد من مسرحيتنا؛ فالروح في سيرها من الداخل إلى الخارج تتسع دائرتها دائما، كالحصاة يلقى بها في بركة الماء، أو كالضوء يصدر عن النجم. إن أشعة الروح تقع أولا على أقرب الأشياء، على كل أداة نافعة وكل ألعوبة، على المربيات والخدم، على البيت، والفناء، والمسافرين، وعلى دائرة المعارف المنزلية، وعلى السياسة والجغرافيا والتاريخ. ولكن الأشياء تتجمع دائما وفقا للقوانين العليا أو السفلى. والبيئة، والحجم، والعدد، والعادات، والأشخاص، تفقد تدريجا نفوذها على أنفسنا . وتسود فيما بعد العلة ومعلولها، والعلاقات الحقيقية، والتشوق إلى الانسجام بين الروح وما يتحوطها من ظروف، والميل الطبيعي إلى التقدم وإلى تصوير الأشياء في صورة مثالية. والخطو إلى الوراء من العلاقات العليا إلى العلاقات السفلى يصبح ضربا من المحال. وهكذا ترى أنه حتى الحب، وهو تأليه الأشخاص، لا بد أن يتحول إلى شيء غير شخصي يوما بعد يوم. ولكنه لا يشير إلى ذلك البتة أول الأمر. وقلما يفكر الشاب والفتاة - عندما يتطلع كل منهما إلى الآخر خلال الحجرات المزدحمة بعيون ملؤها الإدراك المتبادل - في الثمرة الغالية التي سوف يؤتيها بعد وقت طويل هذا الباعث الجديد الخارج عن أنفسنا خروجا تاما. إن عملية الاخضرار تبدأ أولا في أطراف القشور وأوراق البراعم. ومن تبادل النظرات يتقدم الشاب والفتاة إلى الملاطفة وإلى الشهامة، ثم إلى العاطفة الملتهبة، ثم إلى العهد القاطع، فالزواج. إن الرغبة الحارة تنظر إلى هدفها كوحدة كاملة، والروح تتجسد تجسدا تاما، والجسد يتحول تحولا تاما إلى روح:
إن دماءها الصافية الفصيحة،
تنطق في وجنتيها، بكلمات مفصلة واضحة،
حتى إن المرء ليوشك أن يقول إن جسمها يفكر.
إن روميو - برغم موته - يجب أن يقطع أنجما صغيرة لكي يجمل السماء. والحياة مع هذين العاشقين ليس لها هدف آخر، غير جوليت، أو روميو. والليل والنهار والدراسات والمواهب والممالك والدين كلها كائنة في هذه الصورة المشبعة بالروح. وفي هذه الروح التي كلها صورة - إن العاشقين يسعدان بإعزاز أحدهما الآخر. وعندما يتعهدان بالحب، وفي الموازنة بين تحية كل منهما للآخر. وعندما يختلي أحدهما يسلي نفسه بصورة حبيبته التي يذكرها. هل يرى حبيبه الآخر نفس النجم، ونفس السحابة الذائبة، ويقرأ نفس الكتاب، ويحس نفس العاطفة، التي يسعد بها الآن؟ يبذل العاشق حبه ويزنه، ويجمع المزايا الثمينة، والأصدقاء، والفرص، والأملاك. ويبتهج عندما يكتشف أنه يود راضيا مسرورا أن يسلم كل هذا فدية للرأس الجميل الحبيب ، دون أن يمس شعرة واحدة منه أذى. ولكن مصير البشرية يتوقف على هؤلاء الأطفال. يتعرضون للخطر والأسى والألم كما يتعرض غيرهم. فيتوسل الحب ويعقد العهود مع «القوة الخالدة» نيابة عن هذا الرفيق العزيز. والاتحاد الذي يتم على هذه الصورة، والذي يضيف قيمة جديدة إلى كل ذرة في الطبيعة؛ لأنه يحول كل خيط في نسيج العلاقات كله إلى أشعة ذهبية، ويغرق الروح في عنصر جديد أحلى من كل عنصر آخر، هذا الاتحاد مع ذلك حالة مؤقتة؛ لأن الزهور واللآلئ والشعر، والنزاع، بل والسكنى في قلب آخر، كل ذلك لا يستطيع دائما أن يشبع الروح التي تسكن الطين. إنها توقظ نفسها في نهاية الأمر من بين هذه الأشياء العزيزة، التي تشبه اللعب، وتعد العدة متجهة صوب أغراض بعيدة عالمية. إن الروح الكامنة في نفس كل فرد، والتي تشتهي السعادة الكاملة، تكتشف المتناقضات والعيوب، واختلال النسب في الفرد الآخر. ومن ثم كانت الدهشة والعتاب والألم. ومع ذلك فإن ما جذب أحدهما إلى الآخر هو دلائل الجمال، ودلائل الفضيلة، وهذه الفضائل موجودة مهما تسترت. إنها تظهر، ثم يعود ظهورها، وتستمر في جاذبيتها، ولكن التقدير يتغير، ويبتعد عن هذه الدلائل ويلتصق بالمادة. فتسترد بذلك المحبة الجريحة كرامتها. وفي نفس الوقت، كلما بليت الحياة أثبتت أنها لعبة فيها تبادل واتحاد لجميع الأوضاع الممكنة للفريقين، يستخدم فيها كل منهما كل موارده، ويعلم فيها بمواطن الضعف والقوة عند الآخر. كل ما في الدنيا، مما هو معروف أو ينبغي أن يعرف، يندمج بمهارة في تكوين الرجل أو المرأة:
حب الفرد للفرد يلائم النفس،
وهو، كالمن، فيه مذاق كل شيء.
ويسير العالم، وتتغير الظروف في كل ساعة. وتطل من النوافذ الملائكة التي تسكن معبد الجسم هذا، وكذلك الشياطين والرذائل، وتوحدها جميع الفضائل. فإن كانت هناك فضيلة، اتصفت بها جميع الرذائل، وأقرت بذلك وانصرفت. وبمرور الزمن تفتر في صدر كل عشيق تلك النظرة الملتهبة، وتفقد من حدتها ما تكسبه في عمقها، وتصبح تفاهما طيبا كاملا. ويسلم كل منهما للآخر - دون شكاة - بالوظائف الطيبة التي يكلف بأدائها مع مرور الزمن كل من الرجل والمرأة على حدة، ويستبدلان بالعاطفة التي كانت من قبل لا تستطيع أن تحول النظر عن هدفها اهتمام كل طرف بأمل الآخر، اهتماما يشوبه السرور والتحرر من الغرض، سواء في حضرته أو غيبته. وأخيرا يكتشفان أن كل ما جذب أحدهما نحو الآخر أولا - تلك الملامح التي كانت مقدسة، وأثر ذلك الفتنة الساحرة - كان مؤقتا إلى حين، وكان له غرض يرمي إليه، كالهياكل الخشبية التي تشيد عليها المنازل. وتطهير العقل والقلب عاما بعد عام، هو الزواج الحق، الذي يتوقعه الطرفان ويتأهبان له من أول الأمر، وهو فوق إدراكهما تماما. وعندما أفكر في هذه الأغراض التي من أجلها ترى شخصين - رجلا وامرأة - على ما بينهما من اختلاف واتفاق في المواهب، يغلقان عليهما بيتا واحدا ينفقان بداخله اختلاطا زوجيا أربعين أو خمسين عاما. عندما أفكر في ذلك قد أعجب من الاهتمام الذي يترقب به القلب هذا الموقف الحرج منذ الحداثة. ولا أعجب من روعة الجمال، التي تزين بها الغرائز سرير الزوجية، ولا أعجب كذلك من أن تتبارى الطبيعة والعقل والفن، في المزايا والألحان التي تضفيها على أناشيد العرس.
Unknown page