Mujtamac Madani Wa Thaqafat Islah
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية للفكر العربي
Genres
ولا يسع المتأمل للساحة العربية إلا أن يتساءل في دهشة عن مضمون الحديث المتواتر في إلحاح فجأة داخل البلدان العربية على لسان القمة والعامة باسم الإصلاح وضروراته، ودور ما يوصف باسم «المجتمع المدني العربي»، ونجد الكلام كله منصبا على السلطة السياسية، وربما على شخص السلطان ذاته ملكا أو رئيسا، ولكن لا حديث عن التطور الحضاري، أو عن تغيير البنية الاجتماعية، أو عن بناء الإنسان، أو إعادة تنظيم البنية الذهنية للإنسان العربي «قوام النهضة»، أو عن الثقافة العربية بوصفها منظومة قيم ومدى ملاءمتها للتقدم أو دورها في التخلف، أو عن رؤية نقدية إلى الذات في موضوعية عقلانية تكشف عن الخطأ فينا الذي جعلنا فريسة سهلة، تضاف إلى رؤية نقدية عن الآخر المهيمن عالميا أو عن إسهامنا الحضاري المعرفي، أو عن دورنا في التعاون على الصعيد العالمي مع قوى النهضة والتغيير، وقد حرصت رءوس الحكم على التواري بعيدا عنهم.
ويدور الحديث بين نثار من التنظيمات حاكمة أو محكومة، ولكن لا حديث أبدا عن جبهة وطنية تلتقي حول برنامج للتطوير متضمنا نقدا للذات، وتحليلا علميا للسياق المحلي والعالمي الذي نتحرك فيه، ورؤية مستقبلية للهدف المنشود: المجتمع والإنسان والعلاقات بين عناصر البنية الاجتماعية، نعم إنجاز الهدف عملية تستمر زمنا طويلا، ولكن النجاح رهن الوعي الصحيح والتشخيص العلمي الدقيق، وتعبئة موارد الأمة عبر مؤسسات مدنية ليصب الجهد في بناء إنسان جديد يتحلى بدينامية الفكر والفعل وروح التعاون الجمعي في مناخ من الحرية والاستقلال الذاتي والقدرة على النقد العقلاني المنهجي لواقعه، والإفادة من تجاربه، والتحرر من الانحيازات ضيقة الأفق، وأن يكون مشاركا بحرية وعن حرية في بناء مجتمعه المدني بمؤسساته؛ لأنه هو مصدر السلطات وليس الحاكم، إنه مواطن وليس رعية، والشعوب مواطنون لا رعايا، شركاء لا أتباع، وهذه هي خصائص المجتمع المدني العام الذي لا وجود له في أي أرض عربية، وإنما المجتمع المدني العام هو الهدف المنشود في إطار من التطوير الحضاري؛ ذلك لأن المجتمع المدني تنظيم لآلية المجتمع وفاء لهدف استراتيجي أكبر، هو التطوير الحضاري وضمان دينامية مطردة للتغيير على أساس من المراجعة والتغذية المتبادلة بين المؤسسات بوصفها مؤسسات مدنية: أي مستقلة عن السلطة السياسية، وكذا الأفراد بوصفهم مواطنين، السلطة السياسية اختيار حر من هؤلاء، وليس العكس، لقد جاء ظهور المجتمع المدني ثمرة للإصلاح الديني والتقدم العلمي والحاجة إلى مجتمع جديد برؤية وثقافة جديدتين وفعالية حضارية جديدة للإنسان المواطن الحر المستقل ذي العقل الناقد وليس الرعية.
وحري بنا أن نتأمل بعقل ناقد حقيقة الفكر العربي، ليس من واقع التهويم النظري، بل في ضوء إجابة عملية على سؤال: كيف نفكر؟ كيف يفكر الإنسان العام؟ وكيف يفكر القادة إزاء تحديات العصر؟ ما هي مرجعياتنا الفكرية في شئوننا الحياتية؟ كيف وبماذا نعبر عن تميزنا عن الآخرين؟ هل نفكر كما فكر السلف في ظواهر لم تكن في حياتهم أم نكون فقهاء عصرنا؟ لا نزال نقول «إجماع العلماء»، والعلماء بشر، ونحن بشر وعالمنا أولى بنا، هل نرى الحضارة إرثا، أم فعلا إبداعيات متجددة؟ استجابة إبداعية متطورة لتحديات متجددة، وإلى أي حد يمثل رصيدنا الثقافي عونا لنا على التفكير السديد؟ وإن لم يكن فكيف يكون التغيير؟ إذ من المسلم به أن الإنسان - المجتمع - يرى أو يدرك العالم من حوله من خلال عدسات ثقافته كإطار حاكم، والتي تحدد معالم الإدراك وشروطه، وصوغ صورة العالم واستجابته.
إذ هناك فارق كبير بين مجتمعات راكدة، حصادها المعرفي الجديد يكاد يكون معدوما، ورصيدها الثقافي جامد متحجر، وفعلها الإنتاجي عاطل، وبين مجتمعات الفعالية الإنتاجية النشطة وحصادها المعرفي المتراكم غني وفير، ورصيدها الثقافي يتصف بالمرونة والدينامية، الأولى عاجزة، بل عازفة عن التغيير؛ أسيرة التعصب للقديم وعدم التسامح مع الإبداع والتجديد ناهيك عن التطوير، والثانية تتصف بالقدرة على الإبداع والتجديد وسرعة التكيف مع المتغيرات، ومن ثم أقدر على قبول التحدي واطراد التقدم، لهذا نرى أن التخلف في جوهره هو تعطل قوى الفعل الإنتاجي للوجود، ومن ثم جمود الفكر بل تراجعه، بينما التقدم هو تقدم الفعل وتقدم في إنتاج الوجود والفكر.
وإذا كنا نتحدث عن التغيير من الداخل دون ضغط خارجي، أي استجابة لتحديات داخلية واستجابة لسياق تحديات عالمية، فإن هذا يوجب نظرة علمية نقدية لواقعنا المحلي وللسياق العالمي ولطبيعة التحديات وأسباب التقاعس والتخلف، ثم بعد هذا - أو معه - صوغ رؤية استراتيجية للنهضة تأسيسا على حوار حر واختلاف في الآراء وتعدد الرؤى وتعبئة الموارد والقوى المادية والبشرية، هكذا نقول إن التغيير - شأن حال كل الأمم الناهضة - وليد الفعل الذاتي الإبداعي الاجتماعي، إن محو وصمة الأمية كمثال لم تكن بحاجة إلى تنبيه من الخارج، وحري ألا ننسى أن مخاض التغيير أليم ومضمار صراع؛ إذ ثمة علاقة توتر بين التغيير ومقتضياته وبين الثقافة ونزوعها إلى الثبات.
ونرى أن الوعي الزائف بالتاريخ عقبة أخرى على طريق التقدم، وسبب لما نسميه ظاهرة اختلال الأنا الوطنية، وإذ ننشد إعادة بناء الإنسان، فإن البناء لا يستقيم بوعي زائف بالتاريخ، إن في تاريخنا فترات صامتة، وفي تاريخنا ما نسميه المنفى الفعال، وتاريخنا تجل للسيد المنتصر، وتاريخنا فارغ تماما من أية دراسات سوسيولوجية تفسر الظاهر نشأة وتكوينا وتطورا وزوالا، وتاريخنا أحداثه تجري أحيانا على غير أرضنا في تناقض ظاهر مخل؛ إذ الجغرافيا هي مسرح التاريخ، وكم من المفاهيم الخاطئة الموروثة تاريخيا سارت مسرى البدهيات، بينما سرعان ما تسقط أمام التحليل العلمي.
وتفاقمت أزمتنا التي يجسدها تعطل الفكر والفعل العربيين بسبب حالة الفراغ الفكري العالمي، إذ حتى عهد قريب كانت سوق الفكر العالمي تغص بالآراء والنظريات التي يتنافس تحت عناوينها الناشطون، ظنا منهم أن في إحداها الخلاص، ولكن سوق الفكر العالمي باتت خاوية الآن من النظريات، بل تعاني من حالة تشعب وتشوش فكري، وطرحت عن كاهلها كل ما يدخل في إطار التقليد؛ إذ تجاوزه الواقع وأصبحنا إزاء واقع جديد بحاجة إلى إطار فكر إرشادي جديد، ومن ثم يلح السؤال: وماذا نحن فاعلون؟ الإجابة تستلزم ابتكارا جمعيا ذاتيا.
والأزمة أشد لأننا نرسف في أغلال التخلف والاستبداد وثقافتهما، ونفكر بعقلية التخلف في عالم آخر جديد مغاير، سقطت الحدود، وبدأت الرياح تهب عاصفة علينا: فكرا وثقافة وسلعا استهلاكية، وقنعنا بسؤال السلطان على الأرض، بينما العصمة بأيدينا بوصفنا مجتمعا مدنيا بالمعنى المحدد لهذا المجتمع، وبفضل فعل التطوير الاجتماعي الحضاري في إطار من تغيير البنية والعلاقات الاجتماعية، وفي إطار ثقافة الفعل الإنتاجي والتغيير، لا ثقافة الكلمة والسكون، ثقافة الانتماء، لا الاغتراب في الزمان أو في المكان، ثقافة مواطنين لا رعايا.
لهذا ضم الكتاب ثلاث رؤى، الأولى: عن «المجتمع المدني وثقافة الإصلاح» رافضا كلمة الإصلاح وإبدالها بالتطوير وشروطه.
والثانية: «الفكر العربي ولغز النهضة» وترى الحاجة إلى دراسة نقدية لثوابت الفكر العربي، وأن القول بالثوابت اتساق مع الثقافة السكونية ورفض للقطيعة المعرفية مع السابق، والثالثة: عن «مصر والغياب الطويل» وهي شهادة من التاريخ عما اعترى الوطن والإنسان، ولا يذهب بي النزق حد الاعتقاد بصوابها جزئيا أو كليا، وإنما هي اجتهاد يحتمل الخطأ والصواب، ولكنه اجتهاد صادق المنطلق، وإسهام مخلص؛ ودعوة للتفكير المشترك.
Unknown page