Mujtamac Madani Wa Thaqafat Islah
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية للفكر العربي
Genres
ولهذا يطالع البعض في تردد مثل هذه الدراسات ويستشعر معها ما يشبه الصدمة، إذ تتكشف لنا أسطورة كبرى ومؤامرة حكمت التاريخ واستبدت بفكر الإنسانية، وهي جزء من سياسة عالمية امتدت قرونا، وإذا كانت الحقيقة هي الطريق والمنطلق إلى الحرية فإن التزييف هو الطريق إلى العبودية، أو الاستعباد والظلال، وإذا كانت الإنسانية عاشت قرونا أسيرة أوهام، إلا أن المعاناة الحقة، والآثار الجنائية، إنما وقعت على كاهل من سلبناهم الحقيقة وزيفنا تاريخهم، فهؤلاء هم الضحية.
والتزييف لا يبدأ دائما من تأويل على نحو يخلق أفقا زائفا لنشاط الإنسان بل إنه قد يبدأ بابتداع النص فيكون كذبة في مبدئه، وضلالا في مسيرته، وسلبا لأفق الفعالية الصحيحة، ويضيع الطريق من صاحبه وقد تلقن أسطورة تضخمت وترسخت مع التاريخ.
وإذا كانت الحضارة الخصبة الولودة المتجددة هي ثمرة حوار بين الإنسان/المجتمع، وبين الواقع/البيئة حاضرا وتاريخا، فإن مثل هذا الحوار لا يقوم على كذبة، وإلا فإنه لن يكون منتجا أبدا، ومن ثم يظل المجتمع عقيما، وإنما شرط خصوبة الحوار هو الصدق، صدق الرؤية أعني التزام الحقيقة على هدي عقلاني نقدي مع الإنسان في تاريخه وحاضره وعلاقاته ومنظوره المستقبلي، ولعل في هذا مؤشرا لجوهر أزمة وعينا بالتاريخ، ومن ثم أزمة الانتماء. (1) تزييف الوعي
إن مصر/أفريقيا، ومصر/العرب، ومصر/المتوسط في غيبة أو مغيبة عن حقيقة تاريخها بعد أن حجبته أقنعة مصطنعة وأساطير لبست ثوب الحقائق وباتت مرجعا يستشهد به، روايات غير محققة أحاطت بها هالة ذات قدسية حينا، أو أكاديمية حينا آخر، وظلت محور صراع بين شعوب المنطقة؛ ولم نسأل أنفسنا عن جوهر هذا الصراع وحقيقته ومبتدأه وفعاليته في التاريخ، وطبيعة القوى المادية والروحية أو الثقافية المحركة للبشر أو ما نسميه دينامية أحداث التاريخ.
اصطلحت قوى عديدة على مناهضة تاريخ مصر/أفريقيا وإدانته وإن لم تتوافق زمنا فقد اتفقت رأيا ورؤية منذ سقوط الحضارة المصرية على أيدي الفرس إلى الغزو الأوروبي، فهي حينا حضارة وثنية ملعونة، وحينا آخر حضارة مجهولة المنشأ والفاعل، أو أقامها أناس بيض أسطوريون اختفوا من الوجود، من أين جاءوا، وإلى أين رحلوا؟ لا أحد يعلم، وتشكل هذه الرؤية في جميع الأحوال، وعلى تباينها، أسطورة فاعلة، أو «حقيقة» اجتماعية شغالة، بل ومقدمة أكاديمية ومنطلقا للفكر والسلوك.
نحكي عن غزوات القوى الخارجية لمصر مع تعاقب الزمن والعهود، ونصوغ الرؤية صياغة محايدة تخفي كل نوازع الحركة ودوافعها ومظاهرها والتناقض أو الصراع بين صفوف قوى المجتمع سواء داخل مصر أو الزاحفة إليها، لماذا سقطت الحضارة المصرية؟ لا نجد إجابة تكشف لنا الأسباب وتاريخيتها وعوامل تحللها، ما هو دور القوى الغازية على تعددها وتعاقبها وتعارضها وحقيقة الصراعات بينها وبين مصر الحضارة، مصر القوة التاريخية الجغرافية العسكرية الاقتصادية، أي الحاكمة للمنطقة؟ نتحدث عن هذه القوى، وكأنها وافدة زائرة، وفدوا ضيوفا على أرض مباحة أو مستباحة لهم أن يدخلوها آمنين، ونقول على سبيل المثال: دخول الفرس أو الرومان أو غيرهم أو فتحهم مصر، ولكن لماذا؟ وماذا حدث؟ ما هي الأطماع والصراعات والتناقضات؟ ما هي الآثار السلبية على مصر وإلى أي مدى امتد تأثيرها وتفاقمت؟ وهل حقا شعب مصر سمته وخصوصيته الترحيب بالوافدين الغزاة؟ أعني الاستكانة والاستسلام كما يشاع؟ أم كيف صاغت أحداث التاريخ وأقنعة الأيديولوجيا والظروف الاجتماعية؟ أعني كيف صاغت عمليات التزييف الروحي، والنهب المادي، والواقع الاستبدادي المأساوي استجابات الإنسان المصري؟ وما هو مدلول الحشود الوافدة الغازية؟ مدلولها الثقافي والجنسي ؟ أعني إلى أي مدى أثرت جحافل الغزاة الذين استوطنوا في الثقافة السائدة التي اغتذى عليها الإنسان المصري؟ وكيف أثرت في التركيب الجنسي للإنسان المصري؟ وكيف انعكس هذا التزييف في حقيقة الانتماء للتاريخ والوعي بالتاريخ ووحدة التاريخ والمواطنة بحيث كان حصاد السنين ما نراه اليوم؟ (2) السقوط والعزل العنصري
إنني أزعم أن مصر واجهت محاولات خصاء ثقافي على أيدي الغزاة جميعا في تعاقبهم وصراعاتهم للاستئثار بالفريسة، وأزعم أن مصر عاشت في معزل عنصري «أبارتهيد» منذ تاريخ سقوط الحضارة المصرية إلى تاريخ انبعاث حركة النهضة الحديثة، أو عودة الروح المصرية على أيدي رفاعة الطهطاوي، أول من تحدث عن مصر الحضارة وطالب بوحدة تاريخها، وأحمد عرابي أول من أطلق صيحة الفلاح المصري مطالبا بحق المشاركة في صنع القرار، وليس محمد علي كما هو شائع رسميا والذي كان مناسبة لا سببا، وحين أقول مصر فأنا أعني مصر الزراعة اقتصادا وجغرافية وثقافة، مصر الفلاح والأرض السوداء، التي عانت من سيطرة الأجنبي الغازي وسطوته وعدائه لثقافتها إلى حد القتل وفرض عليها العزلة.
جميع الغزاة في تعاقبهم ناصبوا الثقافة المصرية العداء القاتل، وجميع الغزاة ابتداء من الفرس عمدوا إلى تدمير ثروات مصر المادية والروحية ونهبها، إنهم لم يستنزفوا خيراتها الاقتصادية فحسب، بل عاثوا في أرضها فسادا، ودمروا بيوت الثقافة ومؤسساتها فيها، نهبوا الكتب، ودمروا المعابد، وأخرسوا الكهنة، لم تكن معابد مصر المنتشرة في ربوعها مجرد أماكن عبادة، يؤمها المصلون لأداء طقوس ثم ينفضوا، بل كانت في المحل الأول المطبخ الثقافي، أو ترسانة الثقافة، للتثقيف، وصناعة الثقافة، وهي خزانة الوعي الثقافي الاجتماعي تصوغ رؤية المجتمع وإطاره الفكري، ولهذا كانت مستهدفة دائما من الغزاة لتدميرها رغبة منهم في تدمير منابع الثقافة المصرية وإحكام السيطرة، ولم يكن الكهنة في مجموعهم مجرد رجال دين يلقون مواعظ للتخويف والترويع، بل كانوا بدرجاتهم وفئاتهم المختلفة رجال علم: علم دنيا وعلم دين وصناعة معرفة، وقد كانت المعرفة بجميع أشكالها قدسية الطابع، إلهية الطبيعة حسب عقيدتهم، والعارف العالم رجل قدسي لما حظي به من علم ومعرفة ، ولهذا كتبوا علومهم للخاصة بلغة مقدسة هي الهيروغليفية، وحري أن نأتي هنا بشهادة مؤرخ قديم غير مصري هو ديودور الصقلي وقد عاش في الإسكندرية في القرن الأول قبل الميلاد ويدلي بشهادته فيقول «إن الفرس بقيادة قمبيز أشعلوا النيران في كل معابد مصر، وحملوا معهم كل الكنوز إلى آسيا، واقتادوا قسرا عمالا مصريين لبناء القصور الشهيرة وبعض المدن في ميديا»
1
وهذا ما فعله كل الغزاة ابتداء من الفرس، انقضوا في تعاقب على الفريسة ينهشون كنوزها ويدمرون ثقافتها ويستنزفون خيراتها، وكان الحدث الأكبر الذي قطع الحبل السري الواصل بين ثقافة المجتمع باعتبارها مؤسسة وبين أبناء المجتمع حين أصدر كل من الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس في القرن الرابع الميلادي ومن بعده جوستنيان في القرن السادس الميلادي مرسوما بإغلاق المعابد المصرية وتحريم تعاليمها، وتجريم العبادة أو تلقي العلم فيها، أي تسريح المؤمنين والقضاء على النظام الثقافي الاجتماعي، وكان هذان القراران المحاولة الرسمية السافرة لإلغاء الذاتية الثقافية المصرية لتبقى مجردة من كل مقومات البقاء والتطور في استقلال ومن الفعالية الاجتماعية المميزة، إن الغزوات والحروب، حتى وإن تخفت وراء أقنعة أيديولوجية تتحدث عن نقل حضارة، أو إبلاغ رسالة وتحقيق مدنية، إنما تهدف أولا وقبل كل شيء إلى الهيمنة على عقول المجتمع الضحية، وقطع موارد الإمداد الثقافي، واستئصال منابع الذاتية الثقافية المعبرة عن وحدة المجتمع وتضامنه وانتمائه، وهذا هو عين ما استهدفته جميع الغزوات المتعاقبة بقوة السيف والسلطان حينا، وقوة التحريم والإدانة حينا آخر ليبقى المجتمع أعزل في حالة خواء، إنه قتل الروح وبقاء الجسد يدر على الغازي عطاء ماديا وقد تحللت عوامل الترابط والتضافر المجتمعي وسقطت أسباب الوعي التاريخي الاجتماعي، وأسباب الوجود المستقل والتفرد في الفكر والثقافة والقدرة على الفعل والتفاعل، ويتحول المجتمع إلى تجمع بشري راكد عاطل من العطاء، مفكك الأواصر، بغير هدف مجتمعي مشترك يسعى إليه، وبغير حافز قوي إلى التغيير، وهكذا نعيش فرادى يضمنا مكان بغير زمان، وننتمي إلى تاريخ لم تجر أحداثه على أرضنا، وهل يستطيع مجتمع أن يتلاحم وتقوى أواصره ويسعى إلى تغيير واقعه نحو هدف واحد وموحد بدون ثقافة مجتمعية وليدة جهده ونشاطه ومعاناته؟ أليس هذا هو عين السقوط الحضاري؟ إن الحضارة هي التصدي على الصعيد الاجتماعي في تلاحم لعوامل التحدي والفناء من أجل البقاء وتغيير المجتمع في اتجاه القدرة على التجديد. (3) واقع ولا تاريخ
Unknown page